سورة هود عليه السلام
...بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى : {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً} " أي في الدنيا. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي ولعنة يوم القيامة ؛ وقد تقدم هذا المعنى. {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ } حكى الكسائي وأبو عبيدة : رفدته أرفده رفدا ؛ أي أعنته وأعطيته. واسم العطية الرفد ؛ أي بئس العطاء والإعانة. والرفد أيضا القدح الضخم ؛ قاله الجوهري ، والتقدير : بئس الرفد رفد المرفود. وذكر الماوردي : أن الرفد بفتح الراء القدح ، والرفد بكسرها ما في القدح من الشراب ؛ حكى ذلك عن الأصمعي ؛ فكأنه ذم بذلك ما يسقونه في النار. وقيل : إن الرفد الزيادة ؛ أي بئس ما يرفدون به بعد الغرق النار ؛ قاله الكلبي.
الآية : 100 {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ}
الآية : 101 {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ}
الآية : 102 {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}
الآية : 103 {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}
الآية : 104 {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَعْدُودٍ}
الآية : 105 {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}
الآية : 106 {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ}
الآية : 107 {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}
الآية : 108 {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}
الآية : 109 {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ}
(9/94)
قوله تعالى : {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} "ذلك" رفع على إضمار مبتدأ ، أي الأمر ذلك. وإن شئت بالابتداء ؛ والمعنى : ذلك النبأ المتقدم من أنباء القرى نقصه عليك. {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} قال قتادة : القائم ما كان خاويا على عروشه ، والحصيد ما لا أثر له. وقيل : القائم العامر ، والحصيد الخراب ؛ قاله ابن عباس : وقال مجاهد : قائم خاوية على عروشها ، وحصيد مستأصل ؛ يعني محصودا كالزرع إذا حصد ؛ قال الشاعر :
والناس في قسم المنية بينهم ... كالزرع منه قائم وحصيد
وقال آخر :
إنما نحن مثل خامة زرع ... فمتى يأن يأت محتصده
قال الأخفش سعيد : حصيد أي محصود ، وجمعه حصدى وحصاد مثل مرضى ومراض ؛ قال : يكون فيمن يعقل حصدى ، مثل قتيل وقتلى. {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} أصل الظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه ، وقد تقدم في "البقرة" مستوفى. {وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بالكفر والمعاصي. وحكى سيبويه أنه يقال : ظلم إياه {فَمَا أَغْنَتْ} أي دفعت. {عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} في الكلام حذف ، أي التي كانوا يعبدون ؛ أي يدعون. {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} أي غير تخسير ؛ قاله مجاهد وقتاده. وقال لبيد :
فلقد بليت وكل صاحب جده ... لبلى يعود وذاكم التتبيب
والتباب الهلال والخسران ؛ وفيه إضمار ؛ أي ما زادتهم عبادة الأصنام ، فحذف المضاف ؛ أي كانت عبادتهم إياها قد خسرتهم ثواب الآخرة.
قوله تعالى : {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} أي كما أخذ هذه القرى التي كانت لنوح وعاد وثمود يأخذ جميع القرى الظالمة. وقرأ عاصم الجحدري وطلحة بن مصرف "وكذلك أخذ ربك إذ أخذ القرى" وعن الجحدري أيضا "وكذلك أخذ ربك" كالجماعة "إذ أخذ
(9/95)
القرى". قال المهدوي من قرأ : "وكذلك أخذ ربك إذ أخذ" فهو إخبار عما جاءت به العادة في إهلاك من تقدم من الأمم ؛ والمعنى : وكذلك أخذ ربك من أخذه من الأمم المهلكة إذ أخذهم. وقراءة الجماعة على أنه مصدر ؛ والمعنى : كذلك أخذ ربك من أراد إهلاكه متى أخذه ؛ فإذ لما مضى ؛ أي حين أخذ القرى ؛ وإذا للمستقبل {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي وأهلها ظالمون ؛ فحذف المضاف مثل : {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف : 82]. {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} أي عقوبته لأهل الشرك موجعة غليظة. وفي صحيح مسلم والترمذي من حديث أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} الآية. قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب.
قوله تعالى : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} أي لعبرة وموعظة. {ذَلِكَ يَوْمٌ} ابتداء وخبر. "مجموع" من نعته.
قوله تعالى : {لَهُ النَّاسُ} اسم ما لم يسم فاعله ؛ ولهذا لم يقل مجموعون ، فإن قدرت ارتفاع "الناس" بالابتداء ، والخبر "مجموع له" فإنما لم يقل : مجموعون على هذا التقدير ؛ لأن "له" يقوم مقام الفاعل. والجمع الحشر ، أي يحشرون لذلك اليوم. {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} أي يشهده البر والفاجر ؛ ويشهده أهل السماء. وقد ذكرنا هذين الاسمين مع غيرهما من أسماء القيامة في كتاب "التذكرة" وبيناهما والحمد الله.
قوله تعالى : {وَمَا نُؤَخِّرُهُ} أي ما نؤخر ذلك اليوم. {إِلاَّ لأَجَلٍ مَعْدُودٍ} أي لأجل سبق به قضاؤنا ، وهو معدود عندنا. {يَوْمَ يَأْتِي} وقرئ "يوم يأت" لأن الياء تحذف إذا كان قبلها كسرة ؛ تقول : لا أدر ؛ ذكره القشيري. قال النحاس : قرأه أهل المدينة وأبو عمرو والكسائي بإثبات الياء في الإدراج ؛ وحذفها في الوقف ، وروي أن أبيا وابن مسعود قرآ "يوم يأتي" بالياء في الوقف والوصل. وقرأ الأعمش وحمزة "يوم يأت" بغير باء في الوقف والوصل ، قال أبو جعفر النحاس : الوجه في هذا ألا يوقف عليه ، وأن يوصل بالياء ، لأن جماعة من النحويين قالوا : لا تحذف الياء ، ولا يجزم الشيء بغير جازم ؛ فأما الوقف بغير ياء ففيه قول للكسائي ؛ قال : لأن الفعل السالم يوقف عليه كالمجزوم ، فحذف الياء ، كما
(9/96)
تحذف الضمة. وأما قراءة حمزة فقد احتج أبو عبيد لحذف الياء في الوصل والوقف بحجتين إحداهما : أنه زعم أنه رآه في الإمام الذي يقال له إنه مصحف عثمان رضي الله عنه بغير ياء. والحجة الأخرى : أنه حكى أنها لغة هذيل ؛ تقول : ما أدر ؛ قال النحاس : أما حجته بمصحف عثمان رضي الله عنه فشيء يرده عليه أكثر العلماء ؛ قال مالك بن أنس رحمه الله : سألت عن مصحف عثمان رضي الله عنه فقيل لي ذهب ؛ وأما حجته بقولهم : "ما أدر" فلا حجة فيه ؛ لأن هذا الحذف قد حكاه النحويون القدماء ، وذكروا علته ، وأنه لا يقاس عليه. وأنشد الفراء في حذف الياء.
كفاك كف ما تليق دوهما ... جودا وأخرى تعط بالسيف الدما
أي تعطي. وقد حكى سيبويه والخليل أن العرب تقول : لا أدر ، فتحذف الياء وتجتزئ بالكسرة ، إلا أنهم يزعمون أن ذلك لكثرة الاستعمال. قال الزجاج : والأجود في النحو إثبات الياء ؛ قال : والذي أراه اتباع المصحف وإجماع القراء ؛ لأن القراءة سنة ؛ وقد جاء مثله في كلام العرب. {لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} الأصل تتكلم ؛ حذفت إحدى التاءين تخفيفا. وفيه إضمار ؛ أي لا تتكلم فيه نفس إلا بالمأذون فيه من حسن الكلام ؛ لأنهم ملجوؤون إلى ترك القبيح. وقيل : المعنى لا تكلم بحجة ولا شفاعة إلا بإذنه. وقيل : إن لهم في الموقف وقتا يمنعون فيه من الكلام إلا بإذنه. وهذه الآية أكثر ما يسأل عنها أهل الإلحاد في الدين. فيقول لم قال : {لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} و {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ. وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات : 36]. وقال في موضع من ذكر القيامة : {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات : 27]. وقال : {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل : 111]. وقال : {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات : 24]. وقال : {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} [الرحمن : 39]. والجواب ما ذكرناه ، وأنهم لا ينطقون بحجة تجب لهم وإنما يتكلمون بالإقرار بذنوبهم ، ولوم بعضهم بعضا ، وطرح بعضهم الذنوب على بعض ؛ فأما التكلم والنطق بحجة لهم فلا ؛ وهذا كما تقول للذي يخاطبك كثيرا ، وخطابه فارغ عن
(9/97)
الحجة : ما تكلمت بشيء ، وما نطقت بشيء ، فسمي من يتكلم بلا حجة فيه له غير متكلم. وقال : قوم : ذلك اليوم طويل ، وله مواطن ومواقف في بعضها يمنعون من الكلام ، وفي بعضها يطلق لهم الكلام ؛ فهذا يدل على أنه لا تتكلم نفس إلا بإذنه. {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} أي من الأنفس ، أو من الناس ؛ وقد ذكرهم قوله : {يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} . والشقي الذي كتبت عليه الشقاوة. والسعيد الذي كتبت عليه السعادة ؛ قال لبيد :
فمنهم سعيد آخذ بنصيبه ... ومنهم شقي بالمعيشة قانع
وروى الترمذي عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب قال لما نزلت هذه الآية "فمنهم شقي وسعيد" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا نبي الله فعلام نعمل ؟ على شيء قد فرغ منه ، أو على شيء لم يفرغ منه ؟ فقال : "بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له" . قال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث عبدالله بن عمر ؛ وقد تقدم في "الأعراف".
قوله تعالى : {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا} ابتداء. {فَفِي النَّارِ} في موضع الخبر ، وكذا {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} قال أبو العالية : الزفير من الصدر. والشهيق من الحلق ؛ وعنه أيضا ضد ذلك. وقال الزجاج : الزفير من شدة الأنين ، والشهيق من الأنين المرتفع جدا ؛ قال : وزعم أهل اللغة من الكوفيين والبصريين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمير في النهيق ، والشهيق بمنزلة آخر صوت الحمار في الشهيق. وقال ابن عباس رضي الله عنه عكسه ؛ قال : الزفير الصوت الشديد ، والشهيق الصوت الضعيف. وقال الضحاك ومقاتل : الزفير مثل أول نهيق الحمار ، والشهيق مثل آخره حين فرغ من صوته ؛ قال الشاعر :
حشرج في الجوف سحيلا أو شهيق ... حتى يقال ناهق وما نهق
وقيل : الزفير إخراج النفس ، وهو أن يمتلئ الجوف غما فيخرج بالنفس ، والشهيق رد النفس وقيل : الزفير ترديد النفس من شدة الحزن ؛ مأخوذ من الزفر وهو الحمل على الظهر لشدته ؛
(9/98)
والشهيق النفس الطويل الممتد ؛ مأخوذ من قولهم : جبل شاهق ؛ أي طويل. والزفير والشهيق من أصوات المحزونين.
قوله تعالى : {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} "ما دامت" في موضع نصب على الظرف ؛ أي دوام السماوات والأرض ، والتقدير : وقت ذلك. واختلف في تأويل هذا ؛ فقالت. طائفة منهم الضحاك : المعنى ما دامت سماوات الجنة والنار وأرضهما والسماء كل ما علاك فأظلك ، والأرض ما استقر عليه قدمك ؛ وفي التنزيل : {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ} [الزمر : 74]. وقيل : أراد به السماء والأرض المعهودتين في الدنيا وأجرى ذلك على عادة العرب في الإخبار. عن دوام الشيء وتأبيده ؛ كقولهم : لا آتيك ما جن ليل ، أو سال سيل ، وما اختلف الليل والنهار ، وما ناح الحمام ، وما دامت السماوات والأرض ، ونحو هذا مما يريدون به. طولا من غير نهاية ؛ فأفهمهم الله تخليد الكفرة بذلك. وإن كان قد أخبر بزوال السماوات. والأرض. وعن ابن عباس أن جميع الأشياء المخلوقة أصلها من نور العرش ، وأن السماوات والأرض في الآخرة تردان إلى النور الذي أخذتا منه ؛ فهما دائمتان أبدا في نور العرش.
قوله تعالى : {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} في موضع نصب ؛ لأنه استثناء ليس من الأول ؛ وقد اختلف فيه على أقوال عشرة : الأولى : أنه استثناء من قوله : {فَفِي النَّارِ} كأنه قال : إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك ؛ وهذا قول رواه أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري وجابر رضي الله عنهما. وإنما لم يقل من شاء ؛ لأن المراد العدد لا الأشخاص ؛ كقوله : {مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء : 3]. وعن أبي نضرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "إلا من شاء ألا يدخلهم وإن شقوا بالمعصية" . الثاني : أن الاستثناء إنما هو للعصاة من المؤمنين في إخراجهم بعد مدة من النار ؛ وعلى هذا يكون قوله : {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا} عاما في الكفرة والعصاة ، ويكون الاستثناء من "خالدين" ؛ قاله قتادة والضحاك وأبو سنان وغيرهم. وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يدخل ناس
(9/99)
جهنم حتى إذا صاروا كالحممة أخرجوا منها ودخلوا الجنة فيقال هؤلاء الجهنميون" وقد تقدم هذا المعنى في "النساء" وغيرها. الثالث : أن الاستثناء من الزفير والشهيق ؛ أي لهم فيها زفير وشهيق إلا ما شاء ربك من أنواع العذاب الذي لم يذكره ، وكذلك لأهل الجنة من النعيم ما ذكر ، وما لم يذكر. حكاه ابن الأنباري. الرابع : قال ابن مسعود : {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} لا يموتون فيها ، ولا يخرجون منها {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} وهو أن يأمر النار فتأكلهم وتفنيهم ، ثم يجدد خلقهم.
قلت : وهذا القول خاص بالكافر والاستثناء له في الأكل ، وتجديد الخلق. الخامس : أن "إلا" بمعنى "سوى" كما تقول في الكلام : ما معي رجل إلا زيد ، ولي عليك ألفا درهم إلا الألف التي لي عليك. قيل : فالمعنى ما دامت السماوات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود. السادس : أنه استثناء من الإخراج ، وهو لا يريد أن يخرجهم منها. كما تقول في الكلام : أردت أن أفعل ذلك إلا أن أشاء غيره ، وأنت مقيم على ذلك الفعل ؛ فالمعنى أنه لو شاء أن يخرجهم لأخرجهم ، ولكنه قد أعلمهم أنهم خالدون فيها ، ذكر هذين القولين الزجاج عن أهل اللغة ، قال : ولأهل المعاني قولان آخران ، فأحد القولين : {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} من مقدار موقفهم على رأس قبورهم ، وللمحاسبة ، وقدر مكثهم في الدنيا ، والبرزخ ، والوقوف للحساب. والقول الآخر : وقوع الاستثناء في الزيادة على النعيم والعذاب ، وتقديره : {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} من زيادة النعيم لأهل النعيم ، وزيادة العذاب لأهل الجحيم.
قلت : فالاستثناء في الزيادة من الخلود على مدة كون السماء والأرض المعهودتين في الدنيا واختاره الترمذي الحكيم أبو عبدالله محمد بن علي ، أي خالدين فيها مقدار دوام السماوات والأرض ، وذلك مدة العالم ، وللسماء والأرض وقت يتغيران فيه ، وهو قوله سبحانه : {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} [إبراهيم : 48] فخلق الله سبحانه الآدميين وعاملهم ، واشترى منهم أنفسهم
(9/100)
وأموالهم بالجنة ، وعلى ذلك بايعهم يوم الميثاق ، فمن وفي بذلك العهد فله الجنة ، ومن ذهب برقبته يخلد في النار بمقدار دوام السماوات والأرض ؛ فإنما دامتا للمعاملة ؛ وكذلك أهل الجنة خلود في الجنة بمقدار ذلك ؛ فإذا تمت هذه المعاملة وقع الجميع في مشيئة الله ؛ قال الله تعالى : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ. مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الدخان : 39] فيخلد أهل الدارين بمقدار دوامهما ، وهو حق الربوبية بذلك المقدار من العظمة ؛ ثم أوجب لهم الأبد في كلتا الدارين لحق الأحدية ؛ فمن لقيه موحدا لأحديته بقي في داوه أبدا ، ومن لقيه مشركا بأحديته إلها بقي في السجن أبدا ؛ فأعلم الله العباد مقدار الخلود ، ثم قال : {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} من زيادة المدة التي تعجز القلوب عن إدراكها لأنه لا غاية لها ؛ فبالاعتقاد دام خلودهم في الدارين أبدا. وقد قيل : إن "إلا" بمعنى الواو ، قاله الفراء وبعض أهل النظر وهو : الثامن : والمعنى : وما شاء ربك من الزيادة في الخلود على مدة دوام السماوات والأرض في الدنيا. وقد قيل في قوله تعالى : {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [البقرة : 150] أي ولا الذين ظلموا. وقال الشاعر :
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
أي والفرقدان. وقال أبو محمد مكي : وهذا قول بعيد عند البصريين أن تكون "إلا" بمعنى الواو ، وقد مضى في "البقرة" بيانه. وقيل : معناه كما شاء ربك ؛ كقوله تعالى : {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء : 22] أي كما قد سلف ، وهو : التاسع ، العاشر : وهو أن قوله تعالى : {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} إنما ذلك على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام ؛ فهو على حد قوله تعالى : {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح : 27] فهو استثناء في واجب ، وهذا الاستثناء في حكم الشرط كذلك ؛ كأنه قال : إن شاء ربك ؛ فليس يوصف بمتصل ولا منقطع ؛ ويؤيده ويقويه قوله تعالى : {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} ونحوه عن أبي عبيد قال : تقدمت عزيمة المشيئة من الله تعالى في خلود
(9/101)
الفريقين في الدارين ؛ فوقع لفظ الاستثناء ، والعزيمة قد تقدمت في الخلود ، قال : وهذا مثل قوله تعالى : {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح : 27] وقد علم أنهم يدخلونه حتما ، فلم يوجب الاستثناء في الموضعين خيارا ؛ إذ المشيئة قد تقدمة ، بالعزيمة في الخلود في الدارين والدخول في المسجد الحرام ؛ ونحوه عن الفراء. وقول : حادي عشر : وهو أن الأشقياء هم السعداء ، والسعداء هم الأشقياء لا غيرهم ، والاستثناء في الموضعين راجع إليهم ؛ وبيانه أن "ما" بمعنى "من" استثنى الله عز وجل من الداخلين في النار المخلدين فيها الذين يخرجون منها من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بما معهم من الإيمان ، واستثنى من الداخلين في الجنة المخلدين فيها الذين يدخلون النار بذنوبهم قبل دخول الجنة ثم يخرجون منها إلى الجنة. وهم الذين وقع عليهم الاستثناء الثاني ؛ كأنه قال تعالى : {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} ألا يخلده فيها ، وهم الخارجون منها من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بإيمانهم وبشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فهم بدخولهم النار يسمون الأشقياء ، وبدخلهم الجنة يسمون السعداء ؛ كما روى الضحاك عن ابن عباس إذ قال : الذين سعدوا شقوا بدخول النار ثم سعدوا بالخروج منها ودخولهم الجنة.
وقرأ الأعمش وحفص وحمزة والكسائي {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} بضم السين. وقال أبو عمرو : والدليل على أنه سعدوا أن الأول شقوا ولم يقل أشقوا. قال النحاس : ورأيت علي بن سليمان يتعجب من قراءة الكسائي "سعدوا" مع علمه بالعربية! إذ كان هذا لحنا لا يجوز ؛ لأنه إنما يقال : سعد فلان وأسعده الله ، وأسعد مثل أمرض ؛ وإنما احتج الكسائي بقولهم : مسعود ولا حجة له فيه ؛ لأنه يقال : مكان مسعود فيه ، ثم يحذف فيه ويسمى به. وقال المهدوي : ومن ضم السين من "سعدوا" فهو محمول على قولهم : مسعود وهو شاذ قليل ؛ لأنه لا يقال : سعده الله ؛ إنما يقال : أسعده الله. وقال الثعلبي : "سعدوا" بضم السين أي رزقوا السعادة ؛ يقال : سعد وأسعد بمعنى واحد وقرأ الباقون "سعدوا" بفتح
(9/102)
السين قياسا على "شقوا" واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وقال الجوهري : والسعادة خلاف الشقاوة ؛ تقول : منه سعد الرجل بالكسر فهو سعيد ، مثل سلم فهو سليم ، وسعد فهو مسعود ؛ ولا يقال فيه : مسعد ، كأنهم استغنوا عنه بمسعود. وقال القشيري أبو نصر عبدالرحيم : وقد ورد سعده الله فهو مسعود ، وأسعده الله فهو مسعد ؛ فهذا يقوي قول الكوفيين وقال سيبويه : لا يقال سعد فلان كما لا يقال شقي فلان ؛ لأنه مما لا يتعدى. "عطاء غير مجذوذ" أي غير مقطوع ؛ من جذه يجذه أي قطعه ؛ قال النابغة :
تجذ السلوقي المضاعف نسجه ... وتوقد بالصفاح نار الحباحب
قوله تعالى : {فَلا تَكُ} جزم بالنهي ؛ وحذفت النون لكثرة الاستعمال. {فِي مِرْيَةٍ} أي في شك. {مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ} من الآلهة أنها باطل. وأحسن من هذا : أي قل يا محمد لكل من شك {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ} أن الله عز وجل ما أمرهم به ، وإنما يعبدونها كما كان آباؤهم يفعلون تقليدا لهم. {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} فيه ثلاثة أقوال : أحدها : نصيبهم من الرزق ؛ قاله أبو العالية. الثاني : نصيبهم من العذاب ؛ قال ابن زيد. الثالث : ما وعدوا به من خير أو شر ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
الآية : 110 {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}
قوله تعالى : {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} الكلمة : أن الله عز وجل حكم أن يؤخرهم إلى يوم القيامة لما علم في ذلك من الصلاح ؛ ولولا ذلك لقضى بينهم أجلهم بأن يثيب المؤمن ويعاقب الكافر. قيل : المراد بين المختلفين في كتاب موسى ؛ فإنهم كانوا بين مصدق به ومكذب. وقيل : بين هؤلاء المختلفين فيك يا محمد بتعجيل العقاب ، ولكن
(9/103)
سبق الحكم بتأخير العقاب عن هذه الأمة إلى يوم القيامة. {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} إن حملت على قوم موسى ؛ أي لفي شك من كتاب موسى فهم في شك من القرآن.
الآية : 111 {وَإِنَّ كُلّاً لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
قوله تعالى : {وَإِنَّ كُلّاً لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} أي إن كلا من الأمم التي عددناهم يرون جزاء أعمالهم ؛ فكذلك قومك يا محمد. واختلف القراء في قراءة {{وَإِنَّ كُلاً لَمَّا} فقرأ أهل الحرمين - نافع وابن كثير وأبو بكر معهم - "وإنْ كلا لَمَا" بالتخفيف ، على أنها "إن" المخففة من الثقيلة معملة ؛ وقد ذكر هذا الخليل وسيبويه ، قال سيبويه : حدثنا من أثق به أنه سمع العرب تقول : إن زيدا لمنطلق ؛ وأنشد قول الشاعر :
كأنْ ظبية تعطو إلى وارق السلم
أراد كأنها ظبية فخفف ونصب ما بعدها ؛ والبصريون يجوزون تخفيف "إن" المشددة مع إعمالها ؛ وأنكر ذلك الكسائي وقال : ما أدري على أي شيء قرئ "وإن كلا"! وزعم الفراء أنه نصب "كلا" في قراءة من خفف بقوله : "ليوفينهم" أي وإن ليوفينهم كلا ؛ وأنكر ذلك جميع النحويين ، وقالوا : هذا من كبير الغلط ؛ لا يجوز عند أحد زيدا لأضربنه. وشدد الباقون "إن" ونصبوا بها "كلا" على أصلها. وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر "لما" بالتشديد. وخففها الباقون على معنى : وإن كلا ليوفينهم ، جعلوا "ما" صلة. وقيل : دخلت لتفصل بين اللامين اللتين تتلقيان القسم ، وكلاهما مفتوح ففصل بينهما بـ "ما". وقال الزجاج : لام "لما" لام "إن" و"ما" زائدة مؤكدة ؛ تقول : إن زيدا لمنطلق ، فإن
(9/104)
تقتضي أن يدخل على خبرها أو اسمها لام كقولك : إن الله لغفور رحيم ، وقوله : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى} . واللام في "ليوفينهم" هي التي يتلقى بها القسم ، وتدخل على الفعل ويلزمها النون المشددة أو المخففة ، ولما اجتمعت اللامان فصل بينهما بـ "ما" و"ما" زائدة مؤكدة ، وقال الفراء : "ما" بمعنى "من" كقوله : {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء : 72] أي وإن كلا لمن ليوفينهم ، واللام في "ليوفينهم" للقسم ؛ وهذا يرجع معناه إلى قول الزجاج ، غير أن "ما" عند الزجاج زائدة وعند الفراء اسم بمعنى "من". وقيل : ليست بزائد ، بل هي اسم دخل عليها لام التأكيد ، وهي خبر "إن" و"ليوفينهم" جواب القسم ، التقدير : وإن كلا خلق ليوفينهم ربك أعمالهم. وقيل : "ما" بمعنى "من" كقوله : {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء : 3] أي من ؛ وهذا كله هو قول الفراء بعينه. وأما من شدد "لما" وقرأ "وإن كلا لما" بالتشديد فيهما - وهو حمزة ومن وافقه - فقيل : إنه لحن ؛ حكي عن محمد بن زيد أن هذا لا يجوز ؛ ولا يقال : إن زيدا إلا لأضربنه ، ولا لما لضربته. وقال الكسائي : الله أعلم بهذه القراءة ؛ وما أعرف لها وجها. وقال هو وأبو علي الفارسي : التشديد فيهما مشكل. قال النحاس وغيره : وللنحويين في ذلك أقوال : الأول : أن أصلها "لمن ما" فقلبت النون ميما ، واجتمعت ثلاث ميمات فحذفت الوسطى فصارت "لما" و"ما" على هذا القول بمعنى "من" تقديره : وإن كلا لمن الذين ؛ كقولهم :
وإني لمَّا أصدر الأمر وجهه ... إذا هو أعيا بالسبيل مصادره
وزيّف الزجاج هذا القول ، وقال : "من" اسم على حرفين فلا يجوز حذفه. الثاني : أن الأصل. لمن ما ، فحذفت الميم المكسورة لاجتماع الميمات ، والتقدير : وإن كلا لمن خلق ليوفينهم. وقيل : "لما" مصدر "لم" وجاءت بغير تنوين حملا للوصل على الوقف ؛ فهي على هذا كقوله : {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً} [الفجر : 19] أي جامعا للمال المأكول ؛ فالتقدير على هذا : وإن كلا ليوفينهم ربك أعمالهم توفية لما ؛ أي جامعة لأعمالهم جمعا ، فهو كقولك : قياما لأقومن. وقد قرأ الزهري "لما" بالتشديد والتنوين على هذا المعنى. الثالث :
(9/105)
أن "لما" بمعنى "إلا" حكى أهل اللغة : سألتك بالله لما فعلت ؛ بمعنى إلا فعلت ؛ ومثله قوله تعالى : {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق : 4] أي إلا عليها ؛ فمعنى الآية : ما كل واحد منهم إلا ليوفينهم ؛ قال القشيري : وزيف الزجاج هذا القول بأنه لا نفي لقوله : "وإن كلا لما" حتى تقدر "إلا" ولا يقال : ذهب الناس لما زيد. الرابع : قال أبو عثمان المازني : الأصل وإن كلا لما بتخفيف "لما" ثم ثقلت كقوله :
لقد خشيت أن أرى جدبا ... في عامنا ذا بعد ما أخصبا
وقال أبو إسحاق الزجاج : هذا خطأ ، إنما يخفف المثقل ؛ ولا يثقل المخفف. الخامس : قال أبو عبيد القاسم بن سلام : يجوز أن يكون التشديد من قولهم : لممت الشيء ألمه لما إذا جمعته ؛ ثم بني منه فعلى ، كما قرئ {ثمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} [المؤمنون : 44] بغير تنوين وبتنوين. فالألف على هذا للتأنيث ، وتمال على هذا القول لأصحاب الإمالة ؛ قال أبو إسحاق : القول الذي لا يجوز غيره عندي أن تكون مخففة من الثقيلة ، وتكون بمعنى "ما" مثل : {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق : 4] وكذا أيضا تشدد على أصلها ، وتكون بمعنى "ما" و"لما" بمعنى "إلا" حكى ذلك الخليل وسيبويه وجميع البصريين ؛ وأن "لما" يستعمل بمعنى "إلا" قلت : هذا القول الذي ارتضاه الزجاج حكاه عنه النحاس وغيره ؛ وقد تقدم مثله وتضعيف الزجاج له ، إلا أن ذلك القول صوابه "إن" فيه نافية ، وهنا مخففة من الثقيلة فافترقا وبقيت قراءتان ؛ قال أبو حاتم : وفي حرف أبي : {وَإِنَّ كُلّاً لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} [هود : 111] وروي عن الأعمش "وإن كل لما" بتخفيف "إن" ورفع "كل" وبتشديد "لما". قال النحاس : وهذه القراءات المخالفة للسواد تكون فيها "إن" بمعنى "ما" لا غير ، وتكون على التفسير ؛ لأنه لا يجوز أن يقرأ بما خالف السواد إلا على هذه الجهة. {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} تهديد ووعيد.
(9/106)
الآية : 112 {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
قوله تعالى : {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره. وقيل : له والمراد أمته ؛ قاله السدى. وقيل : "استقم" اطلب الإقامة على الدين من الله واسأله ذلك. فتكون السين سين السؤال ، كما تقول : استغفر الله أطلب الغفران منه. والاستقامة الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين والشمال ؛ فاستقم على امتثال أمر الله. وفي صحيح مسلم عن سفيان بن عبدالله الثقفي قال : قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك! قال : "قل آمنت بالله ثم استقم" . وروى الدارمي أبو محمد في مسنده عن عثمان بن حاضر الأزدي قال : دخلت على ابن عباس فقلت أوصني! فقال : نعم! عليك بتقوى الله والاستقامة ، اتبع ولا تبتدع. {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} أي استقم أنت وهم ؛ يريد أصحابه الذين تابوا من الشرك ومن بعده ممن اتبعه من أمته. قال ابن عباس ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية عليه ، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له : لقد أسرع إليك الشيب! فقال : "شيبتني هود وأخواتها" . وقد تقدم في أول السورة. وروي عن أبي عبدالرحمن السلمي قال سمعت أبا علي السري يقول : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت : يا رسول الله! روي عنك أنك قلت : "شيبتني هود" . فقال : "نعم" فقلت له : ما الذي شيبك منها ؟ قصص الأنبياء وهلاك الأمم! فقال : "لا ولكن قوله : {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} . {وَلا تَطْغَوْا} نهى عن الطغيان والطغيان مجاوزة الحد ؛ ومنه {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} . وقيل : أي لا تتجبروا على أحد.
الآية : 113 {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ}
(9/107)
فيه أربع مسائل : -
الأولى : - قوله تعالى : {وَلا تَرْكَنُوا} الركون حقيقة الاستناد والاعتماد والسكون إلى ، الشيء والرضا به ، قال قتادة : معناه لا تودوهم ولا تطيعوهم. ابن جريج : لا تميلوا إليهم. أبو العالية : لا ترضوا أعمالهم ؛ وكله متقارب. وقال ابن زيد : الركون هنا الإدهان وذلك ألا ينكر عليهم كفرهم.
الثانية : -قرأ الجمهور : "تركنوا" بفتح الكاف ؛ قال أبو عمرو : هي لغة أهل الحجاز. وقرأ طلحة بن مصرف وقتادة وغيرهما : "تركنوا" بضم الكاف ؛ قال الفراء : وهي لغة تميم وقيس. وجوز قوم ركن يركن مثل منع يمنع."
الثالثة : - قوله تعالى : {إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} قيل : أهل الشرك. وقيل : عامة فيهم وفي العصاة ، على نحو قوله تعالى : {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} [الأنعام : 68] الآية. وقد تقدم. وهذا هو الصحيح في معنى الآية ؛ وأنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم ؛ فإن صحبتهم كفر أو معصية ؛ إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة ؛ وقد قال حكيم :
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارِن يقتدي
فإن كانت الصحبة عن ضرورة وتقية فقد مضى القول فيها في "آل عمران" و"المائدة". وصحبة الظالم على التقية مستثناة من النهي بحال الاضطرار. والله أعلم.
الرابعة : -قوله تعالى : {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} أي تحرقكم. بمخالطتهم ومصاحبتهم وممالأتهم على إعراضهم وموافقتهم في أمورهم.