سورة هود عليه السلام
...بسم الله الرحمن الرحيم
الآية : 62 {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}
الآية : 63 {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ}
الآية : 64 {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ}
الآية : 65 {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}
الآية : 66 {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ}
الآية : 67 {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}
الآية : 68 {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ}
قوله تعالى : {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا} أي كنا نرجو أن تكون فينا سيدا قبل هذا ؛ أي قبل دعوتك النبوة. وقيل : كان صالح يعيب آلهتهم ويشنؤها ، وكانوا يرجون رجوعه إلى دينهم ، فلما دعاهم إلى الله قالوا : انقطع رجاؤنا منك. {أَتَنْهَانَا} استفهام معناه الإنكار. {أَنْ نَعْبُدَ} أي عن أن نعبد. {مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} فأن في محل نصب بإسقاط حرف الجر. {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ} وفي سورة "إبراهيم" و"وإنا" والأصل وإننا ؛ فاستثقل ثلاث نونات فأسقط الثالثة. {مِمَّا تَدْعُونَا} الخطاب لصالح ، وفي سورة إبراهيم {تَدْعُونَا} [إبراهيم : 9] لأن الخطاب للرسل صلوات الله وسلامه عليهم {إِلَيْهِ مُرِيبٍ} من أربته فأنا أريبه إذا فعلت به فعلا يوجب لدية الريبة. قال الهذلي :
كنت إذا أتوته من غيب ... يشم عطفي ويبز ثوبي
كأنما أربته بريب
قوله تعالى : {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} تقدم معناه في قول نوح. {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} استفهام معناه النفي ؛ أي لا ينصرني منه إن عصيته أحد. {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} أي تضليل وإبعاد من الخير ؛ قال الفراء.
(9/59)
والتخسير لهم لا له صلى الله عليه وسلم ؛ كأنه قال : غير تخسير لكم لا لي. وقيل : المعنى ما تزيدونني باحتجاجكم بدين آبائكم غير بصيرة بخسارتكم ؛ عن ابن عباس.
قوله تعالى : {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} ابتداء وخبر. {لَكُمْ آيَةً} نصب على الحال ، والعامل معنى الإشارة أو التنبيه في {هَذِهِ} . وإنما قيل : ناقة الله ؛ لأنه أخرجها لهم من جبل - على ما طلبوا - على أنهم يؤمنون. وقيل : أخرجها من صخرة صماء منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاثبة ، فلما خرجت الناقة - على ما طلبوا - قال لهم نبي الله صالح : {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ} أمر وجوابه ؛ وحذفت النون من {فَذَرُوهَا} لأنه أمر. ولا يقال : وذر ولا واذر إلا شاذا. وللنحويين فيه قولان ؛ قال سيبويه : استغنوا عنه بترك. وقال غيره : لما كانت الواو ثقيلة وكان في الكلام فعل بمعناه لا واو فيه ألغوه ؛ قال أبو إسحاق الزجاج : ويجوز رفع {تَأْكُلْ} على الحال والاستئناف. {وَلا تَمَسُّوهَا} جزم بالنهي. {بِسُوءٍ} قال الفراء : بعقر. {فَيَأْخُذَكُمْ} جواب النهي. {عَذَابٌ قَرِيبٌ} أي قريب من عقرها.
قوله تعالى : {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} فيه مسألتان :
الأولى - قوله تعالى : {فَعَقَرُوهَا} إنما عقرها بعضهم ؛ وأضيف إلى الكل لأنه كان برضا الباقين. وقد تقدم الكلام في عقرها "الأعراف". ويأتي أيضا. {فَقَالَ تَمَتَّعُوا} أي قال لهم صالح تمتعوا ؛ أي بنعم الله عز وجل قبل العذاب. {فِي دَارِكُمْ} أي في بلدكم ، ولو أراد المنزل لقال في دوركم. وقيل : أي يتمتع كل واحد منكم في داره ومسكنه ؛ كقوله : {يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [غافر : 67] أي كل واحد طفلا. وعبر عن التمتع بالحياة لأن الميت لا يتلذذ ولا يتمتع بشيء ؛ فعقرت يوم الأربعاء ، فأقاموا يوم الخميس والجمعة والسبت وأتاهم العذاب يوم الأحد. وإنما أقاموا ثلاثة أيام ؛ لأن الفصيل رغا ثلاثا على ما تقدم في "الأعراف" فاصفرت ألوانهم في اليوم الأول ، ثم احمرت في الثاني ، ثم اسودت في الثالث ، وهلكوا في الرابع ؛ وقد تقدم في "الأعراف".
(9/60)
الثانية : - استدل علماؤنا بإرجاء الله العذاب عن قوم صالح ثلاثة أيام على أن المسافر إذا لم يجمع على إقامة أربع ليال قصر ؛ لأن الثلاثة الأيام خارجة عن حكم الإقامة وقد تقدم في "النساء" ما للعلماء في هذا.
قوله تعالى : {ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} أي غير كذب. وقيل : غير مكذوب فيه.
قوله تعالى : {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} أي عذابنا. {نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} تقدم. {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} أي ونجيناهم من خزي يومئذ ؛ أي من فضيحته وذلته. وقيل : الواو زائدة ؛ أي نجيناهم من خزي يومئذ. ولا يجوز زيادتها عند سيبويه وأهل البصرة ، وعند الكوفيين يجوز زيادتها مع "لما" و"حتى" لا غير. وقرأ نافع والكسائي "يومئذ" بالنصب. الباقون بالكسر على إضافة "يوم" إلى "إذ" وقال أبو حاتم : حدثنا أبو زيد عن أبي عمرو أنه قرأ "ومن خزي يومئذ" أدغم الياء في الياء ، وأضاف ، وكسر الميم في "يومئذ". قال النحاس : الذي يرويه النحويون : مثل سيبويه ومن قاربه عن أبي عمرو في مثل هذا : الإخفاء ؛ فأما الإدغام فلا يجوز ، لأنه يلتقي ساكنان ، ولا يجوز كسر الزاي.
قوله تعالى : {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} أي في اليوم الرابع صيح بهم فماتوا ؛ وذكر لأن الصيحة والصياح واحد. قيل : صيحة جبريل. وقيل : صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة ؛ وصوت كل شيء في الأرض ، فتقطعت قلوبهم وماتوا. وقال هنا : {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} وقال في الأعراف {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} [الأعراف : 78] وقد تقدم بيانه هناك. وفي التفسير : أنهم لما أيقنوا بالعذاب قال بعضهم لبعض ما مقامكم أن يأتيكم الأمر بغتة ؟ ! قالوا : فما نصنع ؟ فأخذوا سيوفهم ورماحهم وعددهم ، وكانوا فيما يقال اثني عشر ألف قبيلة ، في كل قبيلة اثنا عشر ألف مقاتل ، فوقفوا على الطرق والفجاج ، زعموا يلاقون العذاب ؛ فأوحى الله تعالى إلى الملك الموكل بالشمس أن يعذبهم بحرها ؛
(9/61)
فأدناها من رؤوسهم فاشتوت أيديهم ، وتدلت ألسنتهم على صدورهم من العطش ، ومات كل ما كان معهم من البهائم. وجعل الماء يتفور من تلك العيون من غليانه حتى يبلغ السماء ، لا يسقط على شيء إلا أهلكه من شدة حره ، فما زالوا كذلك ، وأوحى الله إلى ملك الموت ألا يقبض أرواحهم تعذيبا لهم إلى أن غربت الشمس ؛ فصيح بهم فأهلكوا. {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أي ساقطين على وجوههم ، قد لصقوا بالتراب كالطير إذا جثمت.
الآية : 69 {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} هذه قصة لوط عليه السلام ؛ وهو ابن عم إبراهيم عليه السلام لحا ، وكانت قوى لوط بنوا حي الشام ، وإبراهيم ببلاد فلسطين ، فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط مروا بإبراهيم ونزلوا عنده ، وكان كل من نزل عنده يحسن قراه ، وكانوا مروا ببشارة إبراهيم ، فظنهم أضيافا. "وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام" ؛ قاله ابن عباس. الضحاك : كانوا تسعة. السدي : أحد عشر ملكا على صورة الغلمان الحسان الوجوه ، ذو وضاءة وجمال بارع. "بالبشري" قيل : بالولد. وقيل : بإهلاك قوم لوط. وقيل : بشروه بأنهم رسل الله عز وجل ، وأنه لا خوف عليه. {قَالُوا سَلاماً} نصب بوقوع الفعل عليه ؛ كما تقول : قالوا خيرا. وهذا اختيار الطبري. وأما قوله : {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ} [الكهف : 22] فالثلاثة اسم غير قول مقول. ولو رفعا جميعا
(9/62)
أو نصبا جميعا "قالوا سلاما قال سلام" جاز في العربية. قيل : انتصب على المصدر. وقيل : "قالوا سلاما" أي فاتحوه بصواب من القول. كما قال : {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان : 63] أي صوابا ؛ فسلاما معنى قولهم لا لفظه ؛ قال ، معناه ابن العربي واختاره. قال : ألا ترى أن الله تعالى لما أراد ذكر اللفظ قاله بعينه فقال ، مخبرا عن الملائكة : {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد : 24] {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} [الزمر : 73] وقيل : دعوا له ؛ والمعنى سلمت سلاما. {قَالَ سَلامٌ} في رفعه وجهان : أحدهما : على إضمار مبتدأ أي هو سلام ، وأمري سلام. والآخر بمعنى سلام عليكم إذا جعل بمعنى التحية ؛ فأضمر الخبر. وجاز سلام على التنكير لكثرة استعماله ، فحذف الألف واللام كما حذفت من لا هم في قولك اللهم. وقرئ "سلم" قال الفراء : السلم والسلام بمعنى ؛ مثل الحل والحلال.
قوله تعالى : {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} فيه أربع عشر مسألة : -
الأولى : -قوله تعالى : {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ} "أن" بمعنى حتى ، قاله كبراء النحويين ؛ حكاه ابن العربي. التقدير : فما لبث حتى جاء. وقيل : "أن" في موضع نصب بسقوط حرف الجر ؛ التقدير : فما لبث عن أن جاء ؛ أي ما أبطأ عن مجيئه بعجل ؛ فلما حذف حرف الجر بقي "أن" في محل النصب. وفي "لبث" ضمير اسم إبراهيم. و"ما" نافية ؛ قال سيبويه. وقال الفراء : فما لبث مجيئه ؛ أي ما أبطأ مجيئه ؛ فأن في موضع رفع ، ولا ضمير في "لبث" ، و"ما" نافية ؛ ويصح أن تكون "ما" بمعنى الذي ، وفي "لبث" ضمير إبراهيم و"أن جاء" خبر "ما" أي فالذي لبث إبراهيم هو مجيئه بعجل حنيذ. و {حَنِيذٍ} مشوي. وقيل : هو المشوي بحر الحجارة من غير أن تمسه النار. يقال : حنذت الشاة أحنذها حنذا أي شويتها ، وجعلت فوقها حجارة محماة لتنضجها فهي حنيذ. وحنذت الفرس أحنذه حنذا ، وهو أن تحضره شوطا أو شوطين ثم تظاهر عليه الجلال في الشمس ليعرق ، فهو محنوذ وحنيذ ؛ فإن لم يعرق قيل : كبا. وحنذ موضع قريب
(9/63)
من المدينة. وقيل : الحنيذ السميط. ابن عباس وغيره : "حنيذ نضيج. وحنيذ بمعنى محنوذ" ؛ وإنما جاء بعجل لأن البقر كانت أكثر أموال.
الثانية : - في هذه الآية من أدب الضيّف أن يعجل قراه ، فيقدم الموجود الميسر في الحال ، ثم يتبعه بغيره إن كان له جدة ، ولا يتكلف ما يضر به. والضيافة من مكارم الأخلاق ، ومن آداب الإسلام ، ومن خلق النبيين والصالحين. وإبراهيم أول من أضاف على ما تقدم في "البقرة" وليست بواجبة عند عامة أهل العلم ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة فما كان وراء ذلك فهو صدقة" . والجائزة العطية والصلة التي أصلها على الندب. وقال صلى الله عليه وسلم : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" . وإكرام الجار ليس بواجب إجماعا ، فالضيافة مثله. والله أعلم. وذهب الليث إلى وجوبها تمسكا بقوله صلى الله عليه وسلم : "ليلة الضيف حق" إلى غير ذلك من الأحاديث. وفيما أشرنا إليه كفاية ، والله الموفق للهداية. قال ابن العربي : وقد قال قوم : إن وجوب الضيافة كان في صدر الإسلام ثم نسخ ، وهذا ضعيف ؛ فإن الوجوب لم يثبت ، والناسخ لم يرد ؛ وذكر حديث أبي سعيد الخدري خرجه الأئمة ، وفيه : "فاستضفناهم فأبوا أن يضيفونا فلدغ سيد ذلك الحي" الحديث. وقال : هذا ظاهر في أن الضيافة لو كانت حقا للام النبي صلى الله عليه وسلم القوم الذين أبوا ، ولبين لهم ذلك.
الثالثة : - اختلف العلماء فيمن يخاطب بها ؛ فذهب الشافعي ومحمد بن عبدالحكم إلى أن المخاطب بها أهل الحضر والبادية. وقال مالك : ليس على أهل الحضر ضيافة. قال سحنون : إنما الضيافة على أهل القرى ، وأما الحضر فالفندق ينزل فيه المسافر حكى اللغتين صاحب العين وغيره. واحتجوا بحديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الضيافة على أهل الوبر وليست على أهل المدر" . وهذا حديث لا يصح ، وإبراهيم ابن أخي
(9/64)
عبدالرزاق متروك الحديث منسوب إلى الكذب ، وهذا مما انفرد به ، ونسب إلى وضعه ؛ قال أبو عمر بن عبدالبر. قال ابن العربي : الضيافة حقيقة فرض على الكفاية ، ومن الناس من قال : إنها واجبة في القرى حيث لا طعام ولا مأوى ، بخلاف الحواضر فإنها مشحونة بالمأواة والأقوات ؛ ولا شك أن الضيف كريم ، والضيافة كرامة ؛ فإن كان غريبا فهي فريضة.
الرابعة : - قال ابن العربي قال بعض علمائنا : كانت ضيافة إبراهيم قليلة فشكرها الحبيب من الحبيب ، وهذا حكم بالظن في موضع القطع ، وبالقياس في موضع النقل ؛ من أين علم أنه قليل ؟ ! بل قد نقل المفسرون أن الملائكة كانوا ثلاثة ؛ جبريل وميكائيل وإسرافيل صلى الله عليهم وسلم ؛ وعجل لثلاثة عظيم ؛ فما هذا التفسير لكتاب الله بالرأي! هذا بأمانة الله هو التفسير المذموم فاجتنبوه فقد علمتموه.
الخامسة : - السنة إذا قدم للضيف الطعام أن يبادر المقدِّم إليه بالأكل ؛ فإن كرامة الضيف تعجيل التقديم ؛ وكرامة صاحب المنزل المبادرة بالقبول ؛ فلما قبضوا أيديهم نكرهم إبراهيم ؛ لأنهم خرجوا عن العادة وخالفوا السنة ، وخاف أن يكون وراءهم مكروه يقصدونه. وروي أنهم كانوا ينكتون بقداح كانت في أيديهم في اللحم ولا تصل أيديهم إلى اللحم ، فلما رأى ذلك منهم {نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} أي أضمر. وقيل : أحس ؛ والوجوس الدخول ؛ قال الشاعر :
جاء البريد بقرطاس يخب به ... فأوجس القلب من قرطاسه جزعا
"خيفة" خوفا ؛ أي فزعا. وكانوا إذا رأوا الضيف لا يأكل ظنوا به شرا ؛ فقالت الملائكة {لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ}
السادسة : - من أدب الطعام أن لصاحب الضيف أن ينظر في ضيفه هل يأكل أم لا ؟ وذلك ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة لا بتحديد النظر. روي أن أعرابيا أكل مع
(9/65)
سليمان بن عبدالملك ، فرأى سليمان في لقمة الأعرابي شعرة فقال له : أزل الشعرة عن لقمتك ؟ فقال له : أتنظر إلي نظر من يرى الشعرة في لقمتي ؟ ! والله لا أكلت معك.
قلت : وقد ذكر أن هذه الحكاية إنما كانت مع هشام بن عبدالملك لا مع سليمان ، وأن الأعرابي خرج من عنده وهو يقول :
وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الأكيل على عمد
الآية : 70 {فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ}
السابعة : -قوله تعالى : {فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} يقول : أنكرهم ؛ تقول : نكرتك وأنكرتك واستنكرتك إذا وجدته على غير ما عهدته ؛ قال الشاعر :
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا
فجمع بين اللغتين. ويقال : نكرت لما تراه بعينك. وأنكرت لما تراه بقلبك.
الآية : 71 {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}
الثامنة : - قوله تعالى : {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ} ابتداء وخبر ، أي قائمة بحيث ترى الملائكة. قيل : كانت من وراء الستر. وقيل : كانت تخدم الملائكة وهو جالس. وقال محمد بن إسحاق : قائمة تصلي. وفي قراءة عبدالله بن مسعود "وامرأته قائمة وهو قاعد".
التاسعة : - {فَضَحِكَتْ} قال مجاهد وعكرمة : حاضت ، وكانت آيسة ؛ تحقيقا للبشارة ؛ وأنشد على ذلك اللغويون :
وإني لآتي العرس عند طهورها ... وأهجرها يوما إذا تك ضاحكا
وقال آخر :
وضحكت الأرانب فوق الصفا ... كمثل دم الجوف يوم اللقا
والعرب تقول : ضحكت الأرنب إذا حاضت ؛ وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة ؛ أخذ من قولهم : "ضحكت الكافورة - وهي قشرة الطلعة - إذا انشقت". وقد أنكر بعض اللغويين أن يكون في كلام العرب ضحكت بمعنى حاضت. وقال الجمهور : هو الضحك المعروف ، واختلفوا فيه ؛ فقيل : هو ضحك التعجب ؛ قال أبو ذؤيب :
(9/66)
فجاء بمزج لم ير الناس مثله ... هو الضحك إلا أنه عمل النحل
وقال مقاتل : ضحكت من خوف إبراهيم ، ورعدته من ثلاثة نفر ، وإبراهيم في حشمه وخدمه ؛ وكان إبراهيم يقوم وحده بمائة رجل. قال : وليس الضحك الحيض في اللغة بمستقيم. وأنكر أبو عبيد والفراء ذلك ؛ قال الفراء : لم أسمعه من ثقة ؛ وإنما هو كناية. وروي أن الملائكة مسحت العجل ، فقام من موضعه فلحق بأمه ، فضحكت سارة عند ذلك فبشروها بإسحاق. ويقال : كان إبراهيم عليه السلام إذا أراد أن يكرم أضيافه أقام سارة تخدمهم ، فذلك قوله : {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ} أي قائمة في خدمتهم. ويقال : "قائمة" لروع إبراهيم "فضحكت" لقولهم : "لا تخف" سرورا بالأمن. وقال الفراء : فيه تقديم وتأخير ؛ المعنى : فبشرناها بإسحاق فضحكت ، أي ضحكت سرورا بالولد ، وقد هرمت ، والله أعلم أي ذلك كان. قال النحاس فيه أقوال : أحسنها - أنهم لما لم يأكلوا أنكرهم وخافهم ؛ فلما قالوا لا تخف ، وأخبروه أنهم رسل الله ، فرح بذلك ، فضحكت امرأته سرورا بفرحه. وقيل : إنها كانت قالت له : أحسب أن هؤلاء القوم سينزل بهم عذاب فضم لوطا إليك ، فلما جاءت الرسل بما قالته سرت به فضحكت ؛ قال النحاس : وهذا إن صح إسناده فهو حسن. والضحك انكشاف الأسنان. ويجوز أن يكون الضحك إشراق الوجه ؛ تقول : رأيت فلانا ضاحكا ؛ أي مشرقا. وأتيت على روضة تضحك ؛ أي مشرقة. وفي الحديث "إن الله سبحانه يبعث السحاب فيضحك أحسن الضحك". جعل انجلاءه عن البرق ضحكا ؛ وهذا كلام مستعار. وروي عن رجل من قراء مكة يقال له محمد بن زياد الأعرابي. "فضحكت" بفتح الحاء ؛ قال المهدوي ؛ وفتح "الحاء" من "فضحكت" غير معروف. وضَحِك يضْحَك ضَحْكا وضِحْكا وضِحِكا وضَحِكا أربع لغات. والضَّحْكة المرة الواحدة ، ومنه قول كثير :
غلقت لضحكته رقاب المال
قاله الجوهري :
(9/67)
العاشرة : - روى مسلم عن سهل بن سعد قال : دعا أبو أسيد الساعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرسه ، فكانت امرأته يومئذ خادمهم وهي العروس. قال سهل : أتدرون ما سقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أنقعت له تمرات من الليل في تور ، فلما أكل سقته إياه. وأخرجه البخاري وترجم له "باب قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس". قال علماؤنا : فيه جواز خدمة العروس زوجها وأصحابه في عرسها. وفيه أنه لا بأس أن يعرض الرجل أهله على صالح إخوانه ، ويستخدمهن لهم. ويحتمل أن يكون هذا قبل نزول الحجاب. والله أعلم.
الحادية عشرة : - الذكر الطبري أن إبراهيم عليه السلام لما قدم العجل قالوا : لا نأكل طعاما إلا بثمن ؛ فقال لهم : "ثمنه أن تذكروا الله في أوله وتحمدوه في آخره" فقال جبريل لأصحابه : بحق اتخذ الله هذا خليلا. قال علماؤنا : ولم يأكلوا لأن الملائكة لا تأكل. وقد كان من الجائز كما يسر الله للملائكة أن يتشكلوا في صفة الآدمي جسدا وهيئة أن ييسر لهم أكل الطعام ؛ إلا أنه في قول العلماء أرسلهم في صفة الآدمي وتكلف إبراهيم عليه السلام الضيافة حتى إذا رأى التوقف وخاف جاءته البشرى فجأة.
الثانية عشرة : - ودل هذا على أن التسمية في أول الطعام ، والحمد في آخره مشروع في الأمم قبلنا ؛ وقد جاء في الإسرائيليات أن إبراهيم عليه السلام كان لا يأكل وحده ؛ فإذا حضر طعامه أرسل يطلب من يأكل معه ؛ فلقي يوما رجلا ، فلما جلس معه على الطعام ، قال له إبراهيم : سم الله ، قال الرجل لا أدري ما الله ؟ فقال له : فاخرج عن طعامي ، فلما خرج نزل إليه جبريل فقال له : يقول الله إنه يرزقه على كفره مدى عمره وأنت بخلت عليه بلقمة ؛ فخرج إبراهيم فزعا يجر رداءه ، وقال : ارجع ، فقال : لا أرجع حتى تخبرني لم تردني لغير معنى ؟ فأخبره بالأمر ؛ فقال : هذا رب كريم ، آمنت ؛ ودخل وسمى الله وأكل مؤمنا.
(9/68)
الثالثة عشرة : - قوله تعالى : {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} لما ولد لإبراهيم إسماعيل من هاجر تمنت سارة أن يكون لها ابن ، وأيست لكبر سنها ، فبشرت بولد يكون نبيا ويلد نبيا ، فكان هذا بشارة لها بأن ترى ولد ولدها.
الرابعة عشرة : - {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} قرأ حمزة وعبدالله بن عامر "يعقوب" بالنصب. ورفع الباقون ؛ فالرفع على معنى : ويحدث لها من وراء إسحاق يعقوب. ويجوز أن يرتفع بالفعل الذي يعمل في "من" كأن المعنى : وثبت لها من وراء إسحاق يعقوب. ويجوز أن يرتفع بالابتداء ، ويكون في موضع الحال ؛ أي بشروها بإسحاق مقابلا له يعقوب. والنصب على معنى : ووهبنا لها من وراء إسحاق يعقوب. وأجاز الكسائي والأخفش وأبو حاتم أن يكون "يعقوب" في موضع جر على معنى : وبشرناها من وراء إسحاق بيعقوب. قال الفراء : ولا يجوز الخفض إلا بإعادة الحرف الخافض ؛ قال سيبويه ولو قلت : مررت بزيد أول من أمس وأمس عمرو كان قبيحا خبيثا ؛ لأنك فرقت بين المجرور وما يشركه وهو الواو ، كما فرقت بين الجار والمجرور ؛ لأن الجار لا يفصل بينه وبين المجرور ، ولا بينه وبين الواو.
الآية : 72 {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ}
فيه مسألتان : -
الأولى : - قوله تعالى : {يَا وَيْلَتَى} قال الزجاج : أصلها يا ويلتي ؛ فأبدل من الياء ألف ، لأنها أخف من الياء والكسرة ؛ ولم ترد الدعاء على نفسها بالويل ، ولكنها كلمة تخف على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يعجبن منه ؛ وعجبت من ولادتها ومن كون بعلها شيخا لخروجه عن العادة ، وما خرج عن العادة مستغرب ومستنكر. و {أَأَلِدُ} استفهام معناه التعجب. {وَأَنَا عَجُوزٌ} أي شيخة. ولقد عجزت تعجز عجزا وعجزت تعجيزا ؛ أي طعنت في السن.
(9/69)
وقد يقال : عجوزة أيضا. وعجزت المرأة بكسر الجيم ؛ عظمت عجيزتها عجزا وعجزا بضم العين وفتحها. قال مجاهد : كانت بنت تسع وتسعين سنة. وقال ابن إسحاق : كانت بنت تسعين سنة. وقيل غير هذا.
الثانية : قوله تعالى : {وَهَذَا بَعْلِي} أي زوجي. {شَيْخاً} نصب على الحال ، والعامل فيه التنبيه أو الإشارة. {وَهَذَا بَعْلِي} ابتداء وخبر. وقال الأخفش : وفي قراءة ابن مسعود وأبي "وهذا بعلي شيخ" قال النحاس : كما تقول هذا زيد قائم ؛ فزيد بدل من هذا ؛ وقائم خبر الابتداء. ويجوز أن يكون "هذا" مبتدأ "وزيد قائم" خبرين ؛ وحكى سيبويه : هذا حلو حامض. وقيل : كان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة. وقيل : ابن مائة فكان يزيد عليها في قول مجاهد سنة. وقيل : إنها عرضت بقولها : {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} أي عن ترك غشيانه لها. وسارة هذه امرأة إبراهيم بنت هاران بن ناحور بن شاروع بن أرغو بن فالغ ، وهي بنت عم إبراهيم. {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} أي الذي بشرتموني به لشيء عجيب.
الآية : 73 {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ}
فيه أربع مسائل : -
الأولى : - قوله تعالى : {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} لما قالت : {وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} وتعجبت ، أنكرت الملائكة عليها تعجبها من أمر الله ، أي من قضائه. وقدره ، أي لا عجب من أن يرزقكما الله الولد ، وهو إسحاق. وبهذه الآية استدل كثير من العلماء على أن الذبيح إسماعيل ، وأنه أسن من إسحاق ؛ لأنها بشرت بأن إسحاق يعيش حتى يولد له يعقوب. وسيأتي الكلام في هذا ؛ وبيانه في "الصافات" إن شاء الله تعالى.
(9/70)
الثانية : - قوله تعالى : {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ} مبتدأ ، والخبر {عَلَيْكُمْ} . وحكى سيبويه "عليكم" بكسر الكاف لمجاورتها الياء. وهل هو خبر أو دعاء ؟ وكونه إخبارا أشرف ؛ لأن ذلك يقتضي حصول الرحمة والبركة لهم ، المعنى : أوصل الله لكم رحمته وبركاته أهل البيت. وكونه دعاء إنما يقتضي أنه أمر يترجى ولم يتحصل به بعد. {أَهْلَ الْبَيْتِ} نصب على الاختصاص ؛ وهذا مذهب سيبويه. وقيل : على النداء.
الثالثة : - هذه الآية تعطي أن زوجة الرجل ، من أهل البيت ؛ فدل ، هذا على أن أزواج الأنبياء من أهل البيت ؛ فعائشة رضي الله عنها وغيرها من جملة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ممن قال الله فيهم : {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب : 33] وسيأتي.
الرابعة : - ودلت الآية أيضا على أن منتهى السلام "وبركاته" كما أخبر الله عن صالحي عباده {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} . والبركة النمو والزيادة ؛ ومن تلك البركات أن جميع الأنبياء والمرسلين كانوا في ولد إبراهيم وسارة. وروى مالك عن وهب بن كيسان أبي نعيم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال : كنت جالسا عند عبدالله بن عباس فدخل عليه رجل من أهل اليمن فقال : السلام عليك ورحمة الله وبركاته ؛ ثم زاد شيئا مع ذلك ؛ فقال ، ابن عباس - وهو يومئذ قد ذهب بصره - من هذا ؟ فقالوا اليماني الذي يغشاك ، فعرفوه إياه ، فقال : "إن السلام انتهى إلى البركة". وروي عن علي رضى الله عنه أنه قال : دخلت المسجد فإذا أنا بالنبي صلى الله عليه وسلم في عصبة من أصحابه ، فقلت : السلام عليكم ؛ فقال : "وعليك السلام ورحمة الله عشرون لي وعشرة لك". قال : ودخلت الثانية ؛ فقلت : السلام عليكم ورحمة الله فقال : "وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ثلاثون لي وعشرون لك". فدخلت الثالثة فقلت : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : فقال : "وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ثلاثون لي وثلاثون لك أنا وأنت في السلام سواء" . {إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} أي محمود ماجد. وقد بيناهما في "الأسماء الحسنى".
(9/71)
الآية : 74 {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}
الآية : 75 {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}
الآية : 76 {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}
قوله تعالى : {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} أي الخوف ؛ يقال : ارتاع من كذا إذا خاف ؛ قال النابغة :
فارتاع من صوت كلاب فبات له ... طوع الشوامت من خوف ومن صرد
{وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى} أي بإسحاق ويعقوب. وقال قتادة : بشروه بأنهم إنما أتوا بالعذاب إلى قوم لوط ، وأنه لا يخاف. {يُجَادِلُنَا} أي يجادل رسلنا ، وأضافه إلى نفسه ، لأنهم نزلوا بأمره. وهذه المجادلة رواها حميد بن هلال عن جندب عن حذيفة ؛ وذلك أنهم لما قالوا : {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العنكبوت : 31] قال لهم : أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونهم ؟ قالوا : لا. قال : فأربعون ؟ قالوا : لا. قال : فثلاثون ؟ قالوا : لا. قال : فعشرون ؟ قالوا : لا. قال : فإن كان فيها عشرة - أو خمسة شك حميد - قالوا : لا. قال قتادة : نحوا منه ؛ قال فقال يعني إبراهيم : قوم ليس فيهم عشرة من المسلمين لا خير فيهم. وقيل إن إبراهيم قال : أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونها ؟ قالوا : لا. فقال إبراهيم عند ذلك : {إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت : 32]. وقال عبدالرحمن ابن سمرة : كانوا أربعمائة ألف. ابن جريج. وكان في قرى قوم لوط أربعة آلاف ألف. ومذهب الأخفش والكسائي أن {يُجَادِلُنَا} في موضع "جادلنا". قال النحاس : لما كان جواب "لما" يجب أن يكون بالماضي جعل المستقبل مكانه ؛ كما أن الشرط يجب أن يكون بالمستقبل فجعل الماضي مكانه. وفيه جواب آخر : أن يكون "يجادلنا" في موضع الحال ؛ أي أقبل يجادلنا ؛ وهذا قول الفراء . {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [التوبة : 114] تقدم في "براءة" معنى "لأواه حليم" والمنيب الراجع ؛ يقال : إذا رجع. وإبراهيم صلى الله عليه وسلم كان راجعا إلى الله تعالى في أمور كلها. وقيل : الأواه المتأوه أسفا على ما قد فات قوم لوط من الإيمان.
(9/72)