سورة هود عليه السلام
...بسم الله الرحمن الرحيم
الآية : 38 {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}
الآية : 39 {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ}
الآية : 40 {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ}
قوله تعالى : {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} أي وطفق يصنع. قال زيد بن أسلم : مكث نوح صلى الله عليه وسلم مائة سنة يغرس الشجر ويقطعها وييبسها ، ومائة سنة يعملها. وروى ابن القاسم عن ابن أشرس عن مالك قال : بلغني أن قوم نوح ملؤوا الأرض ، حتى ملؤوا السهل والجبل ، فما يستطيع هؤلاء أن ينزلوا إلى هؤلاء ، ولا هؤلاء أن يصعدوا إلى هؤلاء فمكث نوح يغرس الشجر مائة عام لعمل السفينة ، ثم جمعها ييبسها مائة عام ، وقومه يسخرون ؛ وذلك لما رأوه يصنع من ذلك ، حتى كان من قضاء الله فيهم ما كان. وروي عن عمرو بن الحارث قال : عمل نوح سفينته ببقاع دمشق ، وقطع خشبها من جبل لبنان. وقال ، القاضي أبو بكر بن العربي : لما استنقذ الله سبحانه وتعالى من في الأصلاب والأرحام من المؤمنين أوحى الله إليه. {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ} قال : يا رب ما أنا بنجار ، قال : "بلى فإن ذلك بعيني" فأخذ القدوم فجعله بيده ، وجعلت يده لا تخطئ ، فجعلوا يمرون به ويقولون : هذا الذي يزعم أنه نبي صار نجارا ؛ فعملها في أربعين سنة.
وحكى الثعلبي وأبو نصر القشيري عن ، ابن عباس قال : "اتخذ نوح السفينة في سنتين". زاد الثعلبي : وذلك لأنه لم يعلم كيف صنعة الفلك ، فأوحى الله إليه أن اصنعها كجؤجؤ الطائر. وقال كعب : بناها في ثلاثين سنة ، والله أعلم. المهدوي : وجاء في الخبر أن الملائكة كانت تعلمه كيف يصنعها. واختلفوا في طولها وعرضها ؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما "كان طولها ثلاثمائة ذراع ، وعرضها خمسون ، وسمكها ثلاثون ذراعا ؛ وكانت من خشب الساج". وكذا قال الكلبي وقتادة وعكرمة كان طولها ثلاثمائة ذراع ، والذراع إلى المنكب. قال سلمان الفارسي. وقال الحسن البصري : إن طول السفينة ألف ذراع ومائتا ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع. وحكاه الثعلبي في كتاب العرائس. وروى علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال : "قال الحواريون لعيسى عليه السلام : لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة يحدثنا عنها ، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفا من ذلك التراب ، قال أتدرون ما هذا ؟
(9/31)
قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : هذا كعب حام بن نوح قال فضرب الكثيب بعصاه وقال : قم بإذن الله فإذا هو قائم ينفض التراب من رأسه ، وقد شاب ؛ فقال له عيسى : أهكذا هلكت ؟ قال : لا بل مت وأنا شاب ، ولكنني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت. قال : أخبرنا عن سفينة نوح ؟ قال : كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع ، وكانت ثلاث طبقات ، طبقة فيها الدواب والوحش ، وطبقة فيها الإنس ، وطبقة فيها الطير. وذكر باقي الخير على ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى". وقال الكلبي فيما حكاه النقاش : ودخل الماء فيها أربعة أذرع ، وكان لها ثلاثة أبواب ؛ باب فيه السباع والطير ، وباب فيه الوحش ، وباب فيه الرجال والنساء. ابن عباس جعلها ثلاث بطون ؛ البطن الأسفل للوحوش والسباع والدواب ، والأوسط للطعام والشراب ، وركب هو في البطن الأعلى ، وحمل معه جسد آدم عليه السلام معترضا ببن الرجال والنساء ، ثم دفنه بعد ببيت المقدس ؛ وكان إبليس معهم في الكوثل. وقيل : جاءت الحية والعقرب لدخول السفينة فقال نوح : لا أحملكما ؛ لأنكما سبب الضرر والبلاء ، فقالتا : احملنا فنحن نضمن لك ألا نضر أحدا ذكرك ؛ فمن قرأ حين يخاف مضرتهما {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات : 79] لم تضراه ؛ ذكره القشيري وغيره. وذكر الحافظ ابن عساكر في التاريخ له مرفوعا من حديث أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قال حين يمسي صلى الله على نوح وعلى نوح السلام لم تلدغه عقرب تلك الليلة" . قوله تعالى : {وَكُلَّمَا} ظرف. {مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} قال الأخفش والكسائي يقال : سخرت به ومنه. وفي سخريتهم منه قولان : أحدهما : أنهم كانوا يرونه يبني سفينته في البر ، فيسخرون به ويستهزئون ويقولون : يا نوح صرت بعد النبوة نجارا. الثاني : لما رأوه يبني السفينة ولم يشاهدوا قبلها سفينة بنيت قالوا : يا نوح
(9/32)
ما تصنع ؟ قال : أبني بيتا يمشي على الماء ؛ فعجبوا من قوله وسخروا منه. قال ابن عباس : "ولم يكن في الأرض قبل الطوفان نهر ولا بحر" ؛ فلذلك سخروا منه ؛ ومياه البحار هي بقية الطوفان. {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا} أي من فعلنا اليوم عند بناء السفينة. {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} غدا عند الغرق. والمراد بالسخرية هنا الاستجهال ؛ ومعناه إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلونا.
قوله تعالى : {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} تهديد ، و"من" متصلة بـ {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} و"تعلمون" هنا من باب التعدية إلى مفعول ؛ أي فسوف تعلمون الذي يأتيه العذاب. ويجوز أن تكون "من" استفهامية ؛ أي أينا يأتيه العذاب ؟ . وقيل : "من" في موضع رفع بالابتداء و"يأتيه" الخبر ، و"يخزيه" صفة لـ "عذاب". وحكى الكسائي : أن أناسا من أهل الحجاز يقولون : سو تعلمون ؛ وقال من قال : "ستعلمون" أسقط الواو والفاء جميعا. وحكى الكوفيون : سف تعلمون ؛ ولا يعرف البصريون إلا سوف تفعل ، وستفعل لغتان ليست إحداهما من الأخرى {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ} أي يجب عليه وينزل به. {عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي دائم ، يريد عذاب الآخرة.
قوله تعالى : {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} اختلف في التنور على أقوال سبعة :
الأول : أنه وجه الأرض ، والعرب تسمي وجه الأرض تنورا ؛ قاله ابن عباس وعكرمة والزهري وابن عيينة ؛ وذلك أنه قيل له : إذا رأيت الماء على وجه الأرض فاركب أنت ومن معك.
الثاني : أنه تنور الخبز الذي يخبز فيه ؛ وكان تنورا من حجارة ؛ وكان لحواء حتى صار لنوح ؛ فقيل له : إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك. وأنبع الله الماء من التنور ، فعلمت به امرأته فقالت : يا نوح فار الماء من التنور ؛ فقال : جاء وعد ربي حقا. هذا قول الحسن ؛ وقال مجاهد وعطية عن ابن عباس.
الثالث : أنه
(9/33)
موضع اجتماع الماء في السفينة ؛ عن الحسن أيضاً.
الرابع : أنه طلوع الفجر ، ونور الصبح ؛ من قولهم : نور الفجر تنويرا ؛ قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
الخامس : أنه مسجد الكوفة ؛ قاله علي بن أبي طالب أيضا ؛ وقال مجاهد. قال مجاهد : كان ناحية التنور بالكوفة. وقال : اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة ، وكان التنور على يمين الداخل مما يلي كندة. وكان فوران الماء منه علما لنوح ، ودليلا على هلاك قومه. قال الشاعر وهو أمية :
فار تنورهم وجاش بماء ... صار فوق الجبال حتى علاها
السادس : أنه أعالي الأرض ، والمواضع المرتفعة منها ؛ قاله قتادة.
السابع : أنه العين التي بالجزيرة "عين الوردة" رواه عكرمة. وقال مقاتل : كان ذلك تنور آدم ، وإنما كان بالشام بموضع يقال له : "عين وردة" وقال ابن عباس أيضا : "فار تنور آدم بالهند". قال النحاس : وهذه الأقوال ليست بمتناقضة ؛ لأن الله عز وجل أخبرنا أن الماء جاء من السماء والأرض ؛ قال : {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً} [القمر : 11 - 12]. فهذه الأقوال تجتمع في أن ذلك كان علامة. والفوران الغليان. والتنور اسم أعجمي عربته العرب ، وهو على بناء فعل ؛ لأن أصل بنائه تنر ، وليس في كلام العرب نون قبل راء. وقيل : معنى "فار التنور" التمثيل لحضور العذاب ؛ كقولهم : حمي الوطيس إذا اشتدت الحرب. والوطيس التنور. ويقال : فارت قدر القوم إذا اشتد حربهم ؛ قال شاعرهم :
تركتم قدركم لا شيء فيها ... وقدر القوم حامية تفور
قوله تعالى : {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} يعني ذكرا وأنثى ؛ لبقاء أصل النسل بعد الطوفان. وقرأ حفص {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} بتنوين "كل" أي من كل شيء زوجين. والقراءتان ترجعان إلى معنى واحد : شيء معه آخر لا يستغني عنه. ويقال للاثنين : هما زوجان ، في كل اثنين لا يستغني أحدهما عن صاحبه ؛ فإن العرب تسمي كل واحد منهما زوجا يقال : له زوجا نعل إذا كان له نعلان. وكذلك عنده زوجا حمام ، وعليه زوجا
(9/34)
قيود ؛ قال الله تعالى : {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} . [النجم : 45]. ويقال للمرأة هي زوج الرجل ، وللرجل هو زوجها. وقد يقال للاثنين هما زوج ، وقد يكون الزوجان بمعنى الضربين ، والصنفين ، وكل ضرب يدعى زوجا ؛ قال الله تعالى : {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج : 5] أي من كل لون وصنف. وقال الأعشى :
وكل زوج من الديباج يلبسه ... أبو قدامة محبو بذاك معا
أراد كل ضرب ولون. و {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ} في موضع نصب بـ {احْمِلْ} . {اثْنَيْنِ} تأكيد. {وَأَهْلَكَ} أي وأحمل أهلك. {إِلاَّ مَنْ} "من" في موضع نصب بالاستثناء. {عَلَيْهِ الْقَوْلُ} منهم أي بالهلاك ؛ وهو ابنه كنعان وامرأته واعلة كانا كافرين. {وَمَنْ آمَنَ} قال الضحاك وابن جريج : أي احمل من آمن بي ، أي من صدقك ؛ فـ "من" في موضع نصب بـ {احْمِلْ} . {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} قال ابن عباس رضي الله عنهما : "آمن من قومه ثمانون إنسانا ، منهم ثلاثة من بنيه ؛ سام وحام ويافث ، وثلاث كنائن له. ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية وهي اليوم تدعى قرية الثمانين بناحية الموصل". وورد في الخبر أنه كان في السفينة ثمانية أنفس ؛ نوح وزوجته غير التي عوقبت ، وبنوه الثلاثة وزوجاتهم ؛ وهو قول قتادة والحكم بن عتيبة وابن جريج ومحمد بن كعب ؛ فأصاب حام امرأته في السفينة ، فدعا نوح الله أن يغير نطفته فجاء بالسودان. قال عطاء : ودعا نوح على حام ألا يعدو شعر أولاده آذانهم ، وأنهم حيثما كان ولده يكونون عبيدا لولد سام ويافث. وقال الأعمش : كانوا سبعة ؛ نوح وثلاث كنائن وثلاثة بنين ؛ وأسقط امرأة نوح. وقال ابن إسحاق : كانوا عشرة سوى نسائهم ؛ نوح وبنوه سام وحام ويافث ، وستة أناس ممن كان آمن به ، وأزواجهم جميعا. و"قليل" رفع بآمن ، ولا يجوز نصبه على الاستثناء ، لأن الكلام قبله لم يتم ، إلا أن الفائدة في دخول "إلا" و"ما" لأنك لو قلت : آمن معه فلان وفلان جاز أن يكون غيرهم قد أمن ؛ فإذا جئت بما وإلا ، أوجبت لما بعد إلا ونفيت عن غيرهم.
(9/35)
الآية : 41 {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}
الآية : 42 {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ}
الآية : 43 {قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}
الآية : 44 {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
قوله تعالى : {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا} أمر بالركوب ؛ ويحتمل أن يكون من الله تعالى ، ويحتمل أن يكون من نوح لقومه. والركوب العلو على ظهر الشيء. ويقال : ركبه الدين. وفي الكلام حذف ؛ أي اركبوا الماء في السفينة. وقيل : المعنى اركبوها. و"في" للتأكيد كقوله تعالى : {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} [يوسف : 43] وفائدة "في" أنهم أمروا أن يكونوا في جوفها لا على ظهرها. قال عكرمة : ركب نوح عليه السلام في الفلك لعشر خلون من رجب ، واستوت على الجودي لعشر خلون من المحرم ؛ فذلك ستة أشهر ؛ وقال قتادة وزاد ؛ وهو يوم عاشوراء ؛ فقال لمن كان معه : من كان صائما فليتم صومه ، ومن لم يكن صائما فليصمه. وذكر الطبري في هذا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن نوحا ركب في السفينة أول يوم من رجب ، وصام الشهر أجمع ، وجرت بهم السفينة إلى يوم عاشوراء ، ففيه أرست على الجودي ، فصامه نوح ومن معه". وذكر الطبري عن ابن إسحاق ما يقتضي أنه أقام على الماء نحو السنة ، ومرت بالبيت فطافت به سبعا ، وقد رفعه الله عن الغرق فلم ينله غرق ، ثم مضت إلى اليمن ورجعت إلى الجودي فاستوت عليه.
قوله تعالى : {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة بضم الميم فيهما إلا من شذ ، على معنى بسم الله إجراؤها وإرساؤها ؛ فمجراها ومرساها في موضع رفع
(9/36)
بالابتداء ؛ ويجوز أن تكون في موضع نصب ، ويكون التقدير : بسم الله وقت إجرائها ثم حذف وقت ، وأقيم "مجراها" مقامه. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي : "بسم الله مَجريها" بفتح الميم و"مُرساها" بضم الميم. وروى يحيى بن عيسى عن الأعمش عن يحيى بن وثاب "بسم الله مَجراها ومَرساها" بفتح الميم فيهما ؛ على المصدر من جرت تجري جريا ومجرى ، ورست رسوا ومرسى إذا ثبتت. وقرأ مجاهد وسليمان بن جندب وعاصم الجحدري وأبو رجاء العطاردي : "بسم الله مُجريها ومُرسيها" نعت لله عز وجل في موضع جر. ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ ؛ أي هو مجريها ومرسيها. ويجوز النصب على الحال. وقال الضحاك. كان نوح عليه السلام إذا قال بسم الله مجراها جرت ، وإذا قال بسم الله مرساها رست. وروى مروان بن سالم عن طلحة بن عبدالله بن كريز عن الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا في الفلك بسم الله الرحمن الرحيم {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر : 67] {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} . وفي هذه الآية دليل ، على ذكر البسملة عند ابتداء كل فعل ؛ كما بيناه في البسملة ؛ والحمد لله.
قوله تعالى : {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أي لأهل السفينة. وروي عن ابن عباس قال : "لما كثرت الأرواث والأقذار أوحى الله إلى نوح اغمز ذنب الفيل ، فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث ؛ فقال نوح : لو غمزت ذنب هذا الخنزير! ففعل ، فخرج منه فأر وفأرة فلما وقعا أقبلا على السفينة وحبالها تقرضها ، وتقرض الأمتعة والأزواد حتى خافوا عل حبال السفينة ؛ فأوحى الله إلى نوح أن امسح جبهة الأسد فمسحها ، فخرج منها سنوران فأكلا الفئرة. ولما حمل الأسد في السفينة قال : يا رب من أين أطعمه ؟ قال : سوف أشغله ؛ فأخذته الحمى ؛ فهو الدهر محموم. قال ابن عباس : "وأول ما حمل نوح من البهائم في الفلك حمل الإوزة ، وآخر ما حمل حمل الحمار" ؛ قال : وتعلق إبليس بذنبه ، ويداه قد دخلتا في السفينة ، ورجلاه خارجة بعد فجعل الحمار يضطرب
(9/37)
ولا يستطيع أن يدخل ، فصاح به نوح : ادخل ويلك فجعل يضطرب ؛ فقال : ادخل ويلك وإن كان معك الشيطان ، كلمة زلت على لسانه ، فدخل ووثب الشيطان فدخل. ثم إن نوحا رآه يغني في السفينة ، فقال له : يا لعين ما أدخلك بيتي ؟ قال : أنت أذنت لي ؛ فذكر له ؛ فقال له : قم فأخرج. قال : مالك بد في أن تحملني معك ، فكان فيما يزعمون في ظهر الفلك. وكان مع نوح عليه السلام خرزتان مضيئتان ، واحدة مكان الشمس ، والأخرى مكان القمر. ابن عباس : "إحداهما بيضاء كبياض النهار ، والأخرى سوداء كسواد الليل" ؛ فكان يعرف بهما مواقيت الصلاة ؛ فإذا أمسوا غلب سواد هذه بياض هذه ، وإذا أصبحوا غلب بياض هذه سواد هذه ؛ على قدر الساعات.
قوله تعالى : {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} الموج جمع موجة ؛ وهي ما ارتفع من جملة الماء الكثير عند اشتداد الريح. والكاف للتشبيه ، وهي في موضع خفض نعت للموج. وجاء في التفسير أن الماء جاوز كل شيء بخمسة عشر ذراعا. {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} قيل : كان كافرا واسمه كنعان. وقيل : يام. ويجوز على قول سيبويه : "ونادى نوح ابنهُ" بحذف الواو من "ابنه" في اللفظ ، وأنشد :
له زجل كأنه صوت حاد
فأما "ونادى نوح ابْنَهَ وَكان" فقراءة شاذة ، وهي مروية عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وعروة بن الزبير. وزعم أبو حاتم أنها تجوز على أنه يريد "ابنها" فحذف الألف كما تقول : "ابنه" ؛ فتحذف الواو. وقال النحاس : وهذا الذي قال أبو حاتم لا يجوز على مذهب سيبويه ؛ لأن الألف خفيفة فلا يجوز حذفها ، والواو ثقيلة يجوز حذفها {وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} أي من دين أبيه. وقيل : عن السفينة. وقيل : إن نوحا لم يعلم أن ابنه كان كافرا ، وأنه
(9/38)
ظن أنه مؤمن ؛ ولذلك قال له : {وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} وسيأتي. وكان هذا النداء من قبل أن يستيقن القوم الغرق ؛ وقبل رؤية اليأس ، بل كان في أول ما فار التنور ، وظهرت العلامة لنوح. وقرأ عاصم : "يا بني اركب معنا" بفتح الياء ، والباقون بكسرها. وأصل "يا بني" أن تكون بثلاث ياءات ؛ ياء التصغير ، وياء الفعل ، وياء الإضافة ؛ فأدغمت ياء التصغير في لام الفعل ، وكسرت لام الفعل من أجل ياء الإضافة ، وحذفت ياء الإضافة لوقوعها موقع التنوين ، أو لسكونها وسكون الراء في هذا الموضع ؛ هذا أصل قراءة من كسر الياء ، وهو أيضا أصل قراءة من فتح ؛ لأنه قلب ياء الإضافة ألفا لخفة الألف ، ثم حذف الألف لكونها عوضا من حرف يحذف ، أو لسكونها وسكون الراء. قال النحاس : أما قراءة عاصم فمشكلة ؛ قال أبو حاتم : يريد يا بنياه ثم يحذف ؛ قال النحاس : رأيت علي بن سليمان يذهب إلى أن هذا لا يجوز ؛ لأن الألف خفيفة. قال أبو جعفر النحاس : ما علمت أن أحدا من النحويين جوز الكلام في هذا إلا أبا إسحاق ؛ فإنه زعم أن الفتح من جهتين ، والكسر من جهتين ؛ فالفتح على أنه يبدل من الياء ألفا ؛ قال الله عز وجل إخبارا : {يَا وَيْلَتَا} [هود : 72] وكما قال الشاعر :
فيا عجبا من رحلها المتحمل
فيريد يا بنيا ، ثم تحذف الألف ، لالتقاء الساكنين ، كما تقول : جاءني عبدا الله في التثنية. والجهة الأخرى أن تحذف الألف ؛ لأن النداء موضع حذف. والكسر على أن تحذف الياء للنداء. والجهة الأخرى على أن تحذفها لالتقاء الساكنين.
قوله تعالى : {قَالَ سَآوي} أي ارجع وانضم. {إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي} أي يمنعني {مِنَ الْمَاءِ} فلا أغرق. {قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي لا مانع ؛ فإنه يوم حق فيه العذاب على الكفار. وانتصب {عَاصِمَ} على التبرئة. ويجوز {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ} تكون لا بمعني ليس. {إِلاَّ مَنْ رَحِمَ} في موضع نصب استثناء ليس من الأول ؛ أي لكن من رحمه الله فهو يعصمه ، قال الزجاج. ويجوز أن يكون في موضع رفع ، على أن عاصما بمعنى معصوم ؛ مثل : {مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق : 6] أي مدفوق ؛ فالاستثناء. على هذا متصل ؛ قال الشاعر :
(9/39)
بطيء القيام رخيم الكلا ... م أمسى فؤادي به فاتنا
أي مفتونا. وقال آخر :
دع المكارم لا تنهض لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
أي المطعوم المكسو. قال النحاس : ومن أحسن ما قيل فيه أن تكون "من" في موضع رفع ؛ بمعنى لا يعصم اليوم من أمر الله إلا الراحم ؛ أي إلا الله. وهذا اختيار الطبري. ويحسن هذا أنك لم تجعل عاصما بمعنى معصوم فتخرجه من بابه ، ولا "إنه" بمعنى "لكن" {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ } يعني بين نوح وابنه. {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} قيل : إنه كان راكبا على فرس قد بطر بنفسه ، وأعجب بها ؛ فلما رأى الماء جاء قال : يا أبت فار التنور ، فقال له أبوه : "يا بني اركب معنا" فما استتم المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة فالتقمته هو وفرسه ، وحيل بينه وبين نوح فغرق. وقيل : إنه اتخذ لنفسه بيتا من زجاج يتحصن فيه من الماء ، فلما فار التنور دخل فيه وأقفله عليه من داخل ، فلم يزل يتغوط فيه ويبول حتى غرق بذلك. وقيل : إن الجبل الذي أوى إليه "طور سيناء".
قوله تعالى : {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} هذا مجاز لأنها موات. وقيل : جعل فيها ما تميز به. والذي قال إنه مجاز قال : لو فتش كلام العرب والعجم ما وجد فيه مثل هذه الآية على حسن نظمها ، وبلاغة رصفها ، واشتمال المعاني فيها. وفي الأثر : إن الله تعالى لا يخلي الأرض من مطر عام أو عامين ، وأنه ما نزل من السماء ماء قط إلا بحفظ ملك موكل به إلا ما كان من ماء الطوفان ؛ فإنه خرج منه ما لا يحفظه الملك. وذلك قوله تعالى : {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة : 11] فجرت بهم السفينة إلى أن تناهى الأمر ؛ فأمر الله الماء المنهمر من السماء بالإمساك ، وأمر الله الأرض بالابتلاع. ويقال : بلع الماء يبلعه مثل منع يمنع وبلع يبلع مثل حمد ويحمد ؛ لغتان حكاهما الكسائي والفراء. والبالوعة
(9/40)
الموضع الذي يشرب الماء. قال ابن العربي : التقى الماءان على أمر قد قدر ، ما كان في الأرض وما نزل من السماء ؛ فأمر الله ما نزل من السماء بالإقلاع ، فلم تمتص الأرض منه قطرة ، وأمر الأرض بابتلاع ما خرج منها فقط. وذلك قوله تعالى : {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ} وقيل : ميز الله بين الماءين ، فما كان من ماء الأرض أمرها فبلعته ، وصار ماء السماء بحارا.
قوله تعالى : {وَغِيضَ الْمَاءُ} أي نقص ؛ يقال : غاض الشيء وغضته أنا ؛ كما يقال : نقص بنفسه ونقصه غيره ، ويجوز "غيض" بضم الغين. {وَقُضِيَ الأَمْرُ} أي أحكم وفرغ منه ؛ يعني أهلك قوم نوح على تمام وإحكام. ويقال : إن الله تعالى أعقم أرحامهم أي أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة ، فلم يكن فيمن هلك صغير. والصحيح أنه أهلك الولدان بالطوفان ، كما هلكت الطير والسباع. ولم يكن الغرق عقوبة للصبيان والبهائم والطير ، بل ماتوا بآجالهم. وحكي أنه لما كثر الماء في السكك خشيت أم صبي عليه ؛ وكانت تحبه حبا شديدا ، فخرجت به إلى الجبل ، حتى بلغت ثلثه ، فلما بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثيه ، فلما بلغها الماء استوت على الجبل ؛ فلما بلغ الماء رقبتها رفعت يديها بابنها حتى ذهب بها الماء ؛ فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي.
قوله تعالى : {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي هلاكا لهم. الجودي جبل بقرب الموصل ؛ استوت عليه في العاشر من المحرم يوم عاشوراء ؛ فصامه نوح وأمر جميع من معه من الناس والوحش والطير والدواب وغيرها فصاموه ، شكرا لله تعالى ؛ وقد تقدم هذا المعنى. وقيل : كان ذلك يوم الجمعة. وروي أن الله تعالى أوحى إلى الجبال أن السفينة ترسي على واحد منها فتطاولت ، وبقي الجودي لم يتطاول تواضعا لله ، فاستوت السفينة عليه : وبقيت عليه أعوادها. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لقد بقي منها شيء أدركه أوائل هذه الأمة". وقال مجاهد : تشامخت الجبال وتطاولت لئلا ينالها
(9/41)
الغرق ؛ فعلا الماء فوقها خمسة عشر ذراعا ، وتطامن الجودي ، وتواضع لأمر الله تعالى فلم يغرق ، ورست السفينة عليه. وقد قيل : إن الجودي اسم لكل جبل ، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل :
سبحانه ثم سبحانا يعود له ... وقبلنا سبح الجودي والجمد
ويقال : إن الجودي من جبال الجنة ؛ فلهذا استوت عليه. ويقال : أكرم الله ثلاثة جبال بثلاثة نفر : الجودي بنوح ، وطور سيناء بموسى ، وحراء بمحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
مسألة : لما تواضع الجودي وخضع عز ، ولما ارتفع غيره واستعلى ذل ، وهذه سنة الله في خلقه ، يرفع من تخشع ، ويضع من ترفع ؛ ولقد أحسن القائل :
وإذا تذللت الرقاب تخشعا ... منا إليك فعزها في ذلها
وفي صحيح البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال : كانت ناقة للنبي صلى الله عليه وسلم تسمى العضباء ؛ وكانت لا تسبق ؛ فجاء أعرابي على قعود فسبقها ، فاشتد ذلك على المسلمين ؛ وقالوا : سبقت العضباء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن حقا على الله ألا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه" . وخرج مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله" . وقال صلى الله عليه وسلم : "إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد" . خرجه البخاري.
مسألة : نذكر فيها من قصة نوح مع قومه وبعض ذكر السفينة. ذكر الحافظ ابن عساكر في التاريخ له عن الحسن : أن نوحا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض ؛ فذلك قوله تعالى : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت : 14] وكان قد كثرت فيهم المعاصي ، وكثرت الجبابرة وعتوا عتوا كبيرا ، وكان نوح يدعوهم ليلا ونهارا ، سرا وعلانية ، وكان صبورا حليما ، ولم يلق أحد من الأنبياء أشد مما لقي نوح ، فكانوا يدخلون عليه
(9/42)
فيخنقونه حتى يترك وقيذا ، ويضربونه في المجالس ويطرد ، وكان لا يدعو على من يصنع به بل يدعوهم ويقول : "رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" فكان لا يزيدهم ذلك إلا فرارا منه ، حتى أنه ليكلم الرجل منهم فيلف رأسه بثوبه ، ويجعل أصبعيه في أذنيه لكيلا يسمع شيئا من كلامه ، فذلك قوله تعالى : {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} [نوح : 7]. وقال مجاهد وعبيد بن عمير : كانوا يضربونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال : "رب اغفر لقومي فأنهم لا يعلمون". وقال ابن عباس : "إن نوحا كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته يرون أنه قد مات ، ثم يخرج فيدعوهم ؛ حتى إذا يئس من إيمان قومه جاءه رجل معه ابنه وهو يتوكأ على عصا ؛ فقال : يا بني أنظر هذا الشيخ لا يغرنك ، قال : يا أبت أمكني من العصا ، فأمكنه فأخذ العصا ثم قال : ضعني في الأرض فوضعه ، فمشى إليه بالعصا فضربه فشجه شجة موضحة في رأسه ، وسالت الدماء ؛ فقال نوح : "رب قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن يك لك في عبادك خيرية فاهدهم وإن يك غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين" فأوحى الله إليه وآيسه من إيمان قومه ، وأخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن" ؛
قال : {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ؛ أي لا تحزن عليهم. {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} قال : يا رب وأين الخشب ؟ قال : اغرس الشجر. قال : فغرس الساج عشرين سنه ، وكف عن الدعاء ، وكفوا عن الاستهزاء. وكانوا يسخرون منه ؛ فلما أدرك الشجر أمره ربه فقطعها وجففها : فقال : يا رب كيف أتخذ هذا البيت ؟ قال : اجعله على ثلاثة صور ؛ رأسه كرأس الديك ، وجؤجؤه كجؤجؤ الطير ، وذنبه كذنب الديك ؛ واجعلها مطبقة واجعل لها أبوابا في جنبها ، وشدها بدسر ، يعني مسامير الحديد. وبعث الله جبريل فعلمه صنعة السفينة ، وجعلت يده لا تخطئ. قال ابن عباس : "كانت دار نوح عليه السلام دمشق ، وأنشأ سفينته من خشب لبنان بين زمزم وبين الركن والمقام" ، فلما كملت حمل فيها السباع والدواب في الباب الأول ، وجعل الوحش والطير في الباب الثاني ، وأطبق عليهما
(9/43)
وجعل أولاد آدم أربعين رجلا وأربعين امرأة في الباب الأعلى وأطبق عليهم ، وجعل الذر معه في الباب الأعلى لضعفها ألا تطأها الدواب.
قال الزهري : إن الله عز وجل بعث ريحا فحمل إليه من كل زوجين اثنين ؛ من السباع والطير والوحش والبهائم. وقال جعفر بن محمد : بعث الله جبريل فحشرهم ، فجعل يضرب بيديه على الزوجين فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى ، فيدخله السفينة وقال زيد بن ثابت : استصعبت على نوح الماعزة أن تدخل السفينة ، فدفعها بيده في ذنبها ؛ فمن ثم انكسر ذنبها فصار معقوفا وبدا حياؤها. ومضت النعجة حتى دخلت فمسح على ، ذنبها فستر حياؤها ؛ قال إسحاق : أخبرنا رجل من أهل العلم أن نوحا حمل أهل السفينة ، وجعل فيها من كل زوجين اثنين ، وحمل من الهدهد زوجين ، فماتت الهدهدة في السفينة قبل أن تظهر الأرض. فحملها الهدهد فطاف بها الدنيا ليصيب لها مكانا ، فلم يجد طينا ولا ترابا ، فرحمه ربه فحفر لها في قفاه قبرا فدفنها فيه ، فذلك الريش الناتئ في قفا الهدهد موضع القبر ؛ فلذلك نتأت أقفية الهداهد. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كان حمل نوح معه في السفينة من جميع الشجر وكانت العجوة من الجنة مع نوح في السفينة" . وذكر صاحب كتاب "العروس" وغيره : أن نوحا عليه السلام لما أراد أن يبعث من يأتيه بخبر الأرض قال الدجاج : أنا ؛ فأخذها وختم على جناحها وقال لها : أنت مختومة بخاتمي لا تطيري أبدا ، أنت ينتفع بك أمتي ؛ فبعث الغراب فأصاب جيفة فوقع عليها فاحتبس فلعنه ، ولذلك يقتل في الحل والحرم ودعا عليه بالخوف ؛ فلذلك لا يألف البيوت. وبعث الحمامة فلم تجد قرارا فوقعت على شجرة بأرض سيناء فحملت ورقة زيتونة ، ورجعت إلى نوح فعلم أنها لم تستمكن من الأرض ، ثم بعثها بعد ذلك فطارت حتى وقعت بوادي الحرم ، فإذا الماء قد نضب من مواضع الكعبة ، وكانت طينتها حمراء ، فاختضبت رجلاها ، ثم جاءت إلى نوح عليه السلام فقالت : بشراي منك أن تهب لي الطوق في عنقي ، والخضاب في رجلي ، وأسكن الحرم ؛ فمسح يده على عنقها وطوقها ، ووهب لها الحمرة في رجليها ، ودعا لها ولذريتها بالبركة. وذكر الثعلبي أنه بعث بعد الغراب التدرج وكان من جنس الدجاج ؛ وقال : إياك أن تعتذر ، فأصاب الخضرة والفرجة فلم يرجع ، وأخذ أولاده عنده رهنا إلى يوم القيامة.
(9/44)