الآية : 29 {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ}
قوله تعالى : {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} {شَهِيداً} مفعول ، أي كفى الله شهيدا ، أو تمييز ، أي اكتف به شهيدا بيننا وبينكم إن كنا أمرناكم بهذا أو رضيناه منكم. {إِنْ كُنَّا}أي ما كنا {عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} إلا غافلين لا نسمع ولا نبصر ولا نعقل ؛ لأنا كنا جمادا لا روح فينا.
الآية : 30 {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
قوله تعالى : {هُنَالِكَ} في موضع نصب على الظرف. {تَبْلُو} أي في ذلك الوقت. {تَبْلُو} أي تذوق. وقال الكلبي : تعلم. مجاهد : تختبر. {كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} أي جزاء ما عملت وقدمت. وقيل : تسلم ، أي تسلم ما عليها من الحقوق إلى أربابها بغير اختيارها. وقرأ حمزة والكسائي {تتلو} أي تقرأ كل نفس كتابها الذي كتب عليها. وقيل : {تتلو} تتبع ؛ أي تتبع كل نفس ما قدمت في الدنيا ؛ قاله السدي. ومنه قول الشاعر :
إن المريب يتبع المريبا ... كما رأيت الذيب يتلو الذيبا
قوله تعالى : {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} بالخفض على البدل أو الصفة. ويجوز نصب الحق من ثلاث جهات ؛ يكون التقدير : وردوا حقا ، ثم جيء بالألف واللام. ويجوز أن يكون التقدير : مولاهم حقا لا ما يعبدون من دونه. والوجه الثالث أن يكون مدحا ؛ أي أعني الحق. ويجوز أن يرفع{الْحَقِّ} ، ويكون المعنى مولاهم الحق - على الابتداء والخبر والقطع مما قبل - لا ما يشركون من دونه. ووصف نفسه سبحانه بالحق لأن الحق منه كما وصف نفسه بالعدل لأن العدل منه ؛ أي كل عدل وحق فمن قبله ، وقال ابن عباس : {مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} أي الذي يجازيهم بالحق. {وَضَلَّ عَنْهُمْ} أي بطل. {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} {يَفْتَرُونَ} في موضع رفع وهو بمعنى المصدر ، أي افتراؤهم. فإن قيل : كيف قال : {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} وقد أخبر بأن الكافرين لا مولى لهم. قيل ليس بمولاهم في النصرة والمعونة ، وهو مولى لهم في الرزق وإدرار النعم.
(8/334)
الآية : 31 {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}
المراد بمساق هذا الكلام الرد على المشركين وتقرير الحجة عليهم ؛ فمن اعترف منهم فالحجة ظاهرة عليهم ، ومن لم يعترف فيقرر عليه أن هذه السموات والأرض لا بد لهما من خالق ؛ ولا يتمارى في هذا عاقل. وهذا قريب من مرتبة الضرورة. {مِنَ السَّمَاءِ} أي بالمطر. {وَالْأَرْضِ} بالنبات. {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} أي من جعلهما وخلقهما لكم. {وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} أي النبات من الأرض ، والإنسان من النطفة ، والسنبلة من الحبة ، والطير من البيضة ، والمؤمن من الكافر. {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} أي يقدره ويقضيه. {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} لأنهم كانوا يعتقدون أن الخالق هو الله ؛ أو فسيقولون هو الله إن فكروا وأنصفوا {فَقُلْ} لهم يا محمد. {أَفَلا تَتَّقُونَ} أي أفلا تخافون عقابه ونقمته في الدنيا والآخرة.
الآية : 32 {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}
قوله تعالى : {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ}
فيه ثمان مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} أي هذا الذي يفعل هذه الأشياء هو ربكم الحق ، لا ما أشركتم معه. {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ} {ذَا} صلة أي ما بعد عبادة الإله الحق إذا تركت عبادته إلا الضلال. وقال بعض المتقدمين : ظاهر هذه الآية يدل على أن ما بعد الله هو الضلال ؛ لأن أولها {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} وآخرها {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} فهذا في الإيمان والكفر ، ليس في الأعمال. وقال بعضهم : إن الكفر تغطية الحق ، وكل ما كان غير الحق جرى هذا المجرى ؛ فالحرام ضلال والمباح هدى ؛ فإن الله هو المبيح والمحرم. والصحيح الأول ؛ لأن قبل {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}
(8/335)
ثم قال {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} أي هذا الذي رزقكم ، وهذا كله فعله هو. {رَبُّكُمُ الْحَقُّ} أي الذي تحق له الألوهية ويستوجب العبادة ، وإذا كان ذلك فتشريك غيره ضلال وغير حق.
الثانية : قال علماؤنا : حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والباطل منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله تعالى ، وكذلك هو الأمر في نظائرها ، وهي مسائل الأصول التي الحق فيها في طرف واحد ؛ لأن الكلام فيها إنما هو في تعديد وجود ذات كيف هي ، وذلك بخلاف مسائل الفروع التي قال الله تعالى فيها : {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة : 48] ، وقوله عليه السلام : "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات". والكلام في الفروع إنما هو في أحكام طارئة على وجود ذات متقررة لا يختلف فيها وإنما يختلف في الأحكام المتعلقة بها.
الثالثة : ثبت عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة في جوف الليل قال : "اللهم لك الحمد" الحديث. وفيه "أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق ومحمد حق" الحديث. فقوله : "أنت الحق" أي الواجب الوجود ؛ وأصله من حق الشيء أي ثبت ووجب. وهذا الوصف لله تعالى بالحقيقة إذ وجوده لنفسه لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم ؛ وما عداه مما يقال عليه هذا الاسم مسبوق بعدم ، ويجوز عليه لحاق العدم ، ووجوده من موجده لا من نفسه. وباعتبار هذا المعنى كان أصدق كلمة قالها الشاعر ، كلمة لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وإليه الإشارة بقوله تعالى : {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص : 88].
الرابعة : مقابلة الحق بالضلال عرف لغة وشرعا ، كما في هذه الآية. وكذلك أيضا مقابلة الحق بالباطل عرف لغة وشرعا ؛ قال الله تعالى : {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ
(8/336)
مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [لقمان : 30]. والضلال حقيقته الذهاب عن الحق ؛ أخذ من ضلال الطريق ، وهو العدول عن سمته. قال ابن عرفة : الضلالة عند العرب سلوك غير سبيل القصد ؛ يقال : ضل عن الطريق وأضل الشيء إذا أضاعه. وخص في الشرع بالعبارة في العدول عن السداد في الاعتقاد دون الأعمال ؛ ومن غريب أمره أنه يعبر به عن عدم المعرفة بالحق سبحانه إذا قابله غفلة ولم يقترن بعدمه جهل أو شك ، وعليه حمل العلماء قوله تعالى : {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} [الضحى : 7] أي غافلا ، في أحد التأويلات ، يحققه قوله تعالى : {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ} [الشورى : 52].
الخامسة : روى عبدالله بن عبدالحكم وأشهب عن مالك في قوله تعالى : {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} قال : اللعب بالشطرنج والنرد من الضلال. وروى يونس عن ابن وهب أنه سئل عن الرجل يلعب في بيته مع امرأته بأربع عشرة ؛ فقال مالك : ما يعجبني! وليس من شأن المؤمنين ، يقول الله تعالى : {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} . وروى يونس عن أشهب قال : سئل - يعني مالكا - عن اللعب بالشطرنج فقال : لا خير فيه ، وليس بشيء وهو من الباطل ، واللعب كله من الباطل ، وإنه لينبغي لذي العقل أن تنهاه اللحية والشيب عن الباطل. وقال الزهري لما سئل عن الشطرنج : هي من الباطل ولا أحبها.
السادسة : اختلف العلماء في جواز اللعب بالشطرنج وغيره إذا لم يكن على وجه القمار ؛ فتحصيل مذهب مالك وجمهور الفقهاء في الشطرنج أن من لم يقامر بها ولعب مع أهله في بيته مستترا به مرة في الشهر أو العام ، لا يطلع عليه ولا يعلم به أنه معفو عنه غير محرم عليه ولا مكروه له ، وأنه إن تخلع به واشتهر فيه سقطت مروءته وعدالته وردت شهادته. وأما الشافعي فلا تسقط في مذهب أصحابه شهادة اللاعب بالنرد والشطرنج ، إذا كان عدلا في جميع أصحابه ، ولم يظهر منه سفه ولا ريبة ولا كبيرة إلا أن يلعب به قمارا ،
(8/337)
فإن لعب بها قمارا وكان بذلك معروفا سقطت عدالته وسفه نفسه لأكله المال بالباطل. وقال أبو حنيفة : يكره اللعب بالشطرنج والنرد والأربعة عشر وكل اللهو ؛ فإن لم تظهر من اللاعب بها كبيرة وكانت محاسنه أكثر من مساويه قبلت شهادته عندهم. قال ابن العربي : قالت الشافعية إن الشطرنج يخالف النرد لأن فيه إكداد الفهم واستعمال القريحة. والنرد قمار غرر لا يعلم ما يخرج له فيه كالاستقسام بالأزلام.
السابعة : قال علماؤنا : النرد قطع مملوءة من خشب البقس ومن عظم الفيل ، وكذا هو الشطرنج إذ هو أخوه غذي بلبانه. والنرد هو الذي يعرف بالباطل ، ويعرف بالكعاب ويعرف في الجاهلية أيضا بالأرن ويرف أيضا بالنردشير. وفي صحيح مسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه" . قال علماؤنا : ومعنى هذا أي هو كمن غمس يده في لحم الخنزير يهيئه لأن يأكله ، وهذا الفعل في الخنزير حرام لا يجوز ؛ يبينه قوله تعالى : "من لعب بالنرد فقد. عصى الله ورسوله" رواه مالك وغيره من حديث أبي موسى الأشعري وهو حديث صحيح ، وهو يحرم اللعب بالنرد جملة واحدة ، وكذلك الشطرنج ، لم يستثن وقتا من وقت ولا حالا من حال ، وأخبر. أن فاعل ذلك عاص لله ورسوله ؛ إلا أنه يحتمل أن يكون المراد باللعب بالنرد المنهي عنه أن يكون على وجه القمار ؛ لما روي من إجازة اللعب بالشطرنج عن التابعين على غير قمار. وحمل ذلك على العموم قمارا وغير قمار أولى وأحوط إن شاء الله. قال أبو عبدالله الحليمي في كتاب منهاج الدين : ومما جاء في الشطرنج حديث يروى فيه كما يروى في النرد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من لعب بالشطرنج فقد عصى الله ورسوله" . وعن علي رضي الله عنه أنه مر على مجلس من مجالس بني تميم وهم يلعبون بالشطرنج فوقف عليهم فقال : "أما والله لغير هذا خلقتم! أما والله لولا أن تكون سنة لضربت به وجوهكم". وعنه رضي الله عنه أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؛ لأن يمس أحدكم
(8/338)
جمرا حتى يطفأ خير من أن يمسها. وسئل ابن عمر عن الشطرنج فقال هي شر من النرد. وقال أبو موسى الأشعري : لا يلعب بالشطرنج إلا خاطئ. وسئل أبو جعفر عن الشطرنج فقال : دعونا من هذه المجوسية. وفي حديث طويل عن النبي صلى الله عليه وسلم : "وأن من لعب بالنرد والشطرنج والجوز والكعاب مقته الله ومن جلس إلى من يلعب بالنرد والشطرنج لينظر إليهم محيت عنه حسناته كلها وصار ممن مقته الله" . وهذه الآثار كلها تدل على تحريم اللعب بها بلا قمار ، والله اعلم. وقد ذكرنا في "المائدة" بيان تحريمها وأنها كالخمر في التحريم لاقترانها به ، والله أعلم.
قال ابن العربي في قبسه : وقد جوزه الشافعي ، وانتهى حال بعضهم إلى أن يقول : هو مندوب إليه ، حتى اتخذوه في المدرسة ؛ فإذا أعيا الطالب من القراءة لعب به في المسجد. وأسندوا إلى قوم من الصحابة والتابعين أنهم لعبوا بها ؛ وما كان ذلك قط! وتالله ما مستها يد تقي. ويقولون : إنها تشحذ الذهن ، والعيان يكذبهم ، ما تبحر فيها قط رجل له ذهن. سمعت الإمام أبا الفضل عطاء المقدسي يقول بالمسجد الأقصى في المناظرة : إنها تعلم الحرب. فقال له الطرطوشي : بل تفسد تدبير الحرب ؛ لأن الحرب المقصود منها الملك واغتياله ، وفي الشطرنج تقول : شاه إياك : الملك نحه عن طريقي ؛ فاستضحك الحاضرين. وتارة شدد فيها مالك وحرمها وقال فيها : {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} وتارة استهان بالقليل منها والأهون ، والقول الأول أصح والله أعلم. فإن قال قائل : روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سئل عن الشطرنج فقال : وما الشطرنج ؟ فقيل له : إن امرأة كان لها ابن وكان ملكا فأصيب في حرب دون أصحابه ؛ فقالت : كيف يكون هذا أرونيه عيانا ؛ فعمل لها الشطرنج ، فلما رأته تسلت بذلك. ووصفوا الشطرنج لعمر رضي الله عنه فقال : لا بأس بما كان من آلة الحرب ؛ قيل له : هذا لا حجة فيه لأنه لم يقل لا بأس بالشطرنج وإنما قال لا بأس بما كان من آلة الحرب. وإنما قال هذا لأنه شبه عليه أن اللعب بالشطرنج مما يستعان به على معرفة أسباب الحرب ، فلما قيل له ذلك ولم يحط به علمه قال :
(8/339)
لا بأس بما كان من آلة الحرب ، إن كان كما تقولون فلا بأس به ، وكذلك من روى عنه من الصحابة أنه لم ينه عنه ، فإن ذلك محمول منه على أنه ظن أن ذلك ليس يتلهى به ، وإنما يراد به التسبب إلى علم القتال والمضاربة فيه ، أو على أن الخبر المسند لم يبلغهم. قال الحليمي : وإذا صح الخبر فلا حجة لأحد معه ، وإنما الحجة فيه على الكافة.
الثامنة : ذكر ابن وهب بإسناده أن عبدالله بن عمر مر بغلمان يلعبون بالكجّة ، وهي حفر فيها حصى يلعبون بها ، قال : فسدها ابن عمر ونهاهم عنها. وذكر الهروي في باب (الكاف مع الجيم) في حديث ابن عباس : في كل شيء قمار حتى في لعب الصبيان بالكجة ؛ قال ابن الأعرابي : هو أن يأخذ الصبي خرقة فيدورها كأنها كرة ، ثم يتقامرون بها. وكج إذا لعب بالكجة.
قوله تعالى : {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} أي كيف تصرفون عقولكم إلى عبادة ما لا يرزق ولا يحيي ولا يميت.
الآية : 33 {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}
قوله تعالى : {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} أي حكمه وقضاؤه وعلمه السابق. {عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا} أي خرجوا عن الطاعة وكفروا وكذبوا. {أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي لا يصدقون. وفي هذا أوفى دليل على القدرية. وقرأ نافع وابن عامر هنا وفي آخرها {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} وفي سورة غافر بالجمع في الثلاثة. الباقون بالإفراد و{أَنَّ} في موضع نصب ؛ أي بأنهم أو لأنهم. قال الزجاج : ويجوز أن تكون في موضع رفع على البدل من كلمات. قال الفراء : يجوز {إنهم} بالكسر على الاستئناف.
الآية : 34 {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}
(8/340)
قوله تعالى : {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ} أي آلهتكم ومعبوداتكم. {مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي قل لهم يا محمد ذلك على جهة التوبيخ والتقرير ؛ فإن أجابوك وإلا فـ {قُلِ اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} وليس غيره يفعل ذلك. {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي فكيف تنقلبون وتنصرفون عن الحق إلى الباطل.
الآية : 35 {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}
قوله تعالى : {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} يقال : هداه للطريق وإلى الطريق بمعنى واحد ؛ وقد تقدم. أي هل من شركائكم من يرشد إلى دين الإسلام ؛ فإذا قالوا لا ولا بد منه فـ {قُلْ} لهم {اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} ثم قل لهم موبخا ومقررا. {أَفَمَنْ يَهْدِي} أي يرشد. {إِلَى الْحَقِّ} وهو الله سبحانه وتعالى. {أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} يريد الأصنام التي لا تهدي أحدا ، ولا تمشي إلا أن تحمل ، ولا تنتقل عن مكانها إلا أن تنقل. قال الشاعر :
للفتى عقل يعيش به ... حيث تهدي ساقه قدمه
وقيل : المراد الرؤساء والمضلون الذين لا يرشدون أنفسهم إلى هدى إلا أن يرشدوا.
وفي {يَهِدِّي} قراءات ست :
الأولى : قرأ أهل المدينة إلا ورشا "يَهْدِّي" بفتح الياء وإسكان الهاء وتشديد الدال ؛ فجمعوا في قراءتهم بين ساكنين كما فعلوا في قوله : "لا تعْدُّوا" وفي قوله : "يخْصِّمون". قال النحاس : والجمع بين الساكنين لا يقدر أحد أن ينطق به. قال محمد بن يزيد : لا بد لمن رام مثل هذا أن يحرك حركة خفيفة إلى الكسر ، وسيبويه يسمي هذا اختلاس الحركة.
(8/341)
الثانية : قرأ أبو عمرو وقالون في رواية بين الفتح والإسكان ، على مذهبه في الإخفاء والاختلاس. الثالثة : قرأ ابن عامر وابن كثير وورش وابن محيصن "يَهَدِّي" بفتح الياء والهاء وتشديد الدال ، قال النحاس : هذه القراءة بينة في العربية ، والأصل فيها يهتدى أدغمت التاء في الدال وقلبت حركتها على الهاء.
الرابعة : قرأ حفص ويعقوب والأعمش عن أبي بكر مثل قراءة ابن كثير ، إلا أنهم كسروا الهاء ، قالوا : لأن الجزم إذا اضطر إلى حركته حرك إلى الكسر. قال أبو حاتم : هي لغة سفلى مضر. الخامسة : قرأ أبو بكر عن عاصم يِهِدِّي بكسر الياء والهاء وتشديد الدال ، كل ذلك لاتباع الكسر كما تقدم في البقرة في {يَخْطَفُ} [البقرة : 20] وقيل : هي لغة من قرأ {نِسْتَعِينُ} ، و{لَنْ تمِسَّنَا النَّارُ} ونحوه. وسيبويه لا يجيز "يهِدّي" ويجيز "تهِدّي" و"نهِدّي" و"إهدي" قال : لأن الكسرة في الياء تثقل.
السادسة : قرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى بن وثاب والأعمش {يَهْدِي} بفتح الياء وإسكان الهاء وتخفيف الدال ؛ من هدى يهدي. قال النحاس : وهذه القراءة لها وجهان في العربية وإن كانت بعيدة ، وأحد الوجهين أن الكسائي والفراء قالا : {يهدي} بمعنى يهتدي. قال أبو العباس : لا يعرف هذا ، ولكن التقدير أمن لا يهدي غيره ، ثم الكلام ، ثم قال : {إلاَّ أَنْ يُهْدَى} استأنف من الأول ، أي لكنه يحتاج أن يهدى ؛ فهو استثناء منقطع ، كما تقول : فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع ، أي لكنه يحتاج أن يسمع. وقال أبو إسحاق : {فَمَا لَكُمْ} كلام تام ، والمعنى : فأي شيء لكم في عبادة الأوثان. ثم قيل لهم : {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} أي لأنفسكم وتقضون بهذا الباطل الصراح ، تعبدون آلهة لا تغني عن أنفسها شيئا إلا أن يفعل بها ، والله يفعل ما يشاء فتتركون عبادته ؛ فموضع {كَيْفَ} نصب بـ {تَحْكُمُونَ}.
(8/342)
الآية : 36 {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}
قوله تعالى : {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً} يريد الرؤساء منهم ؛ أي ما يتبعون إلا حدسا وتخريصا في أنها آلهة وأنها تشفع ، ولا حجة معهم. وأما أتباعهم فيتبعونهم تقليدا. {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} أي من عذاب الله ؛ فالحق هو الله. وقيل {الْحَقِّ} هنا اليقين ؛ أي ليس الظن كاليقين. وفي هذه الآية دليل على أنه لا يكتفى بالظن في العقائد. {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} من الكفر والتكذيب ، خرجت مخرج التهديد.
الآية : 37 {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
قوله تعالى : {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} {أَنْ} مع {يُفْتَرَى} مصدر ، والمعنى : وما كان هذا القرآن افتراء ؛ كما تقول : فلان يحب أن يركب ، أي يحب الركوب ، قاله الكسائي. وقال الفراء : المعنى وما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى ؛ كقوله : {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران : 161] {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة : 122]. وقيل : {أَنْ} بمعنى اللام ، تقديره : وما كان هذا القرآن ليفترى. وقيل : بمعنى لا ، أي لا يفترى. وقيل : المعنى ما كان يتهيأ لأحد أن يأتي بمثل هذا القرآن من عند غير الله ثم ينسبه إلى الله تعالى لإعجازه ؛ لوصفه ومعانيه وتأليفه. {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} قال الكسائي والفراء ومحمد بن سعدان : التقدير ولكن كان تصديق ؛ ويجوز عندهم الرفع بمعنى : ولكن هو تصديق. {الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي من التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب ، فإنها قد بشرت به فجاء
(8/343)
مصدقا لها في تلك البشارة ، وفي الدعاء إلى التوحيد والإيمان بالقيامة. وقيل : المعنى ولكن تصديق النبي بين يدي القرآن وهو محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم شاهدوه قبل أن سمعوا منه القرآن. {وَتَفْصِيلَ} بالنصب والرفع على الوجهين المذكورين في تصديق. والتفصيل التبيين ، أي يبين ما في كتب الله المتقدمة. والكتاب اسم الجنس. وقيل : أراد بتفصيل الكتاب ما بين في القرآن من الأحكام. {لا رَيْبَ فِيهِ} الهاء عائدة للقرآن ، أي لا شك فيه أي في نزول من قبل الله تعالى.
الآية : 38 {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
قوله تعالى : {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أم ههنا في موضع ألف الاستفهام لأنها اتصلت بما قبلها. وقيل : هي أم المنقطعة التي تقدر بمعنى بل والهمزة ؛ كقوله تعالى : {الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [السجدة : 1 ، 2 ، 3] أي بل أيقولون افتراه. وقال أبو عبيدة : أم بمعنى الواو ، مجازة : ويقولون افتراه. وقيل : الميم صلة ، والتقدير : أيقولون افتراه ، أي اختلق محمد القرآن من قبل نفسه ، فهو استفهام معناه التقريع. {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} ومعنى الكلام الاحتجاج ، فإن الآية الأولى دلت على كون القرآن من عند الله ؛ لأنه مصدق الذي بين يديه من الكتب وموافق لها من غير أن يتعلم محمد عليه السلام عن أحد. وهذه الآية إلزام بأن يأتوا بسورة مثله إن كان مفترى. وقد مضى القول في إعجاز القرآن ، وأنه معجز في مقدمة الكتاب ، والحمد لله.
الآية : 39 {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}
(8/344)
قوله تعالى : {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} أي كذبوا بالقرآن وهم جاهلون بمعانيه وتفسيره ، وعليهم أن يعلموا ذلك بالسؤال ؛ فهذا يدل على أنه يجب أن ينظر في التأويل. وقوله : {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} أي ولم يأتهم حقيقة عاقبة التكذيب من نزول العذاب بهم. أو كذبوا بما في القرآن من ذكر البعث والجنة والنار ، ولم يأتهم تأويله أي حقيقة ما وعدوا في الكتاب ؛ قاله الضحاك. وقيل للحسين بن الفضل : هل تجد في القرآن (من جهل شيئا عاداه) قال نعم ، في موضعين : {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} وقوله : {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف : 11]. {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يريد الأمم الخالية ، أي كذا كانت سبيلهم. والكاف في موضع نصب. {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} أي أخذهم بالهلاك والعذاب.
الآية : 40 {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ}
قوله تعالى : {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} قيل : المراد أهل مكة ، أي ومنهم من يؤمن به في المستقبل وإن طال تكذيبه ؛ لعلمه تعالى السابق فيهم أنهم من السعداء. و{مَنْ} رفع بالابتداء والخبر في المجرور. وكذا. {وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ} والمعنى ومنهم من يصر على كفره حتى يموت ؛ كأبي طالب وأبي لهب ونحوهما. وقيل : المراد أهل الكتاب. وقيل : هو عام في جميع الكفار ؛ وهو الصحيح. وقيل. إن الضمير في "به" يرجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فأعلم الله سبحانه أنه إنما أخر العقوبة لأن منهم من سيؤمن. {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} أي من يصر على كفره ؛ وهذا تهديد لهم.
الآية : 41 {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}
(8/345)
قوله تعالى : {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي} رفع بالابتداء ، والمعنى : لي ثواب عملي في التبليغ والإنذار والطاعة لله تعالى. {وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} أي جزاؤه من الشرك. {أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} مثله ؛ أي لا يؤاخذ أحد بذنب الآخر. وهذه الآية منسوخة بآية السيف ؛ في قول مجاهد والكلبي ومقاتل وابن زيد.
الآيتان : 42 - 43 {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ}
قوله تعالى : {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} يريد بظواهرهم ، وقلوبهم لا تعي شيئا مما يقوله من الحق ويتلوه من القرآن ؛ ولهذا قال : {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ} أي لا تسمع ؛ فظاهره الاستفهام ومعناه النفي ، وجعلهم كالصم للختم على قلوبهم والطبع عليها ، أي لا تقدر على هداية من أصمه الله عن سماع الهدى. وكذا المعنى في : {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} أخبر تعالى أن أحدا لا يؤمن إلا بتوفيقه وهدايته. وهذا وما كان مثله يرد على القدرية قولهم ؛ كما تقدم في غير موضع. وقال : {يَسْتَمِعُونَ} على معنى {مَنْ} و{يَنْظُرُ}على اللفظ ؛ والمراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ، أي كما لا تقدر أن تسمع من سلب السمع ولا تقدر أن تخلق للأعمى بصرا يهتدي به ، فكذلك لا تقدر أن توفق هؤلاء للإيمان وقد حكم الله عليهم ألا يؤمنوا. ومعنى : {يَنْظُرُ إِلَيْكَ} أي يديم النظر إليك ؛ كما قال : {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب : 19] قيل : إنها نزلت في المستهزئين ، والله أعلم.
الآية : 44 {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
(8/346)
لما ذكر أهل الشقاء ذكر أنه لم يظلمهم ، وأن تقدير الشفاء عليهم وسلب سمع القلب وبصره ليس ظلما منه ؛ لأنه مصرف في ملكه بما شاء ، وهو في جميع أفعاله عادل. {وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالكفر والمعصية ومخالفة أمر خالقهم. وقرأ حمزة والكسائي {ولكِنْ} مخففا {الناس} رفعا. قال النحاس : زعم جماعة من النحويين منهم الفراء أن العرب إذا قالت {ولكن} بالواو آثرت التشديد ، وإذا حذفوا الواو آثرت التخفيف ، واعتل في ذلك فقال : لأنها إذا كانت بغير واو أشبهت بل فخففوها ليكون ما بعدها كما بعد بل ، وإذا جاؤوا بالواو خالفت بل فشددوها ونصبوا بها ، لأنها {إنّ} زيدت عليها لام وكاف وصيرت حرفا واحد ؛ وأنشد :
ولكنني من حبها لعميد
فجاء باللام لأنها {إنّ}.
الآية : 45 {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}
قوله تعالى : {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا} بمعنى كأنهم خففت ، أي كأنهم لم يلبثوا في قبورهم. {إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ} أي قدر ساعة : يعني أنهم استقصروا طول مقامهم في القبور لهول ما يرون من البعث ؛ دليله قولهم : {لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف : 19]. وقيل : إنما قصرت مدة لبثهم في الدنيا من هول ما استقبلوا لا مدة كونهم في القبر. ابن عباس : رأوا أن طول أعمارهم في مقابلة الخلود كساعة. {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} في موضع نصب على الحال من الهاء والميم في {يَحْشُرُهُمْ} . ويجوز أن يكون منقطعا ، فكأنه قال فهم يتعارفون. قال الكلبي : يعرف بعضهم بعضا كمعرفتهم في الدنيا إذا خرجوا من قبورهم ؛ وهذا التعارف تعارف توبيخ وافتضاح ؛ يقول بعضهم لبعض : أنت أضللتني وأغويتني وحملتني على الكفر ؛ وليس
(8/347)
تعارف شفقة ورأفة وعطف. ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال يوم القيامة كما قال : {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} [المعارج : 10]. وقيل : يبقى تعارف التوبيخ ؛ وهو الصحيح لقوله تعالى : {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ} إلى قوله {وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سبأ : 31 - 33] وقوله : {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف : 38] الآية ، وقوله : {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} [الأحزاب : 67] الآية. فأما قوله : {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} وقوله : {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون : 101] فمعناه لا يسأله سؤال رحمة وشفقة ، والله أعلم. وقيل : القيامة مواطن. وقيل : معنى {يَتَعَارَفُونَ} يتساءلون ، أي يتساءلون كم لبثتم ؛ كما قال : {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات : 27] وهذا حسن. وقال الضحاك : ذلك تعارف تعاطف المؤمنين ؛ والكافرون لا تعاطف عليهم ؛ كما قال : {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} . والأول أظهر ، والله أعلم.
قوله تعالى : {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} أي بالعرض على الله. ثم قيل : يجوز أن يكون هذا إخبارا من الله عز وجل بعد أن دل على البعث والنشور ، أي خسروا ثواب الجنة. وقيل : خبروا في حال لقاء الله ؛ لأن الخسران إنما هو في تلك الحالة التي لا يرجى فيها إقالة ولا تنفع توبة. قال النحاس : ويجوز أن يكون المعنى يتعارفون بينهم ، يقولون هذا. {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} بريد في علم الله.
الآية : 46 {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ}
قوله تعالى : {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} شرط. {بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} أي من إظهار دينك في حياتك. وقال المفسرون : كان البعض الذي وعدهم قتل من قتل وأسر من أسر ببدر. {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} عطف على {نُرِيَنَّكَ} أي نتوفينك قبل ذلك. {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} جواب
(8/348)
{إِمَّا}. والمقصود إن لم ننتقم منهم عاجلا انتقمنا منهم آجلا. {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ} أي شاهد لا يحتاج إلى شاهد. {عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} من محاربتك وتكذيبك. ولو قيل : {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ} بمعنى هناك ، جاز.
الآية : 47 {ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون}
قوله تعالى : {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} يكون المعنى : ولكل أمة رسول شاهد عليهم ، فإذا جاء رسولهم يوم القيامة قضي بينهم ؛ مثل. {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء : 41]. وقال ابن عباس : تنكر الكفار غدا مجيء الرسل إليهم ، فيؤتى بالرسول فيقول : قد أبلغتكم الرسالة ؛ فحينئذ يقضى عليهم بالعذاب. دليله قوله : {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} . ويجوز أن يكون المعنى أنهم لا يعذبون في الدنيا حتى يرسل إليهم ؛ فمن آمن فاز ونجا ، ومن لم يؤمن هلك وعذب. دليله قوله تعالى : {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء : 15]. والقسط : العدل. {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي لا يعذبون بغير ذنب ولا يؤاخذون بغير حجة.
الآية : 48 {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
يريد كفار مكة لفرط إنكارهم واستعجالهم العذاب ؛ أي متى العقاب أو متى القيامة التي يعدنا محمد. وقيل : هو عام في كل أمة كذبت رسولها.
الآية : 49 {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}
(8/349)