المجلد الثامنتابع سورة الأنفال
الآية : 91 {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
الآية : 92 {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}
فيه ست مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} الآية. أصل في سقوط التكليف عن العاجز ؛ فكل من عجز عن شيء سقط عنه ، فتارة إلى بدل هو فعل ، وتارة إلى بدل هو غرم ، ولا فرق بين العجز من جهة القوة أو العجز من جهة المال ؛ ونظير هذه الآية قوله تعالى : {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة : 286] وقوله : {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور : 61]. وروى أبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه" . قالوا : يا رسول الله ، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة ؟ قال : "حبسهم العذر" . فبينت هذه الآية مع ما ذكرنا من نظائرها أنه لا حرج على المعذورين ، وهم قوم عرف عذرهم كأرباب الزمانة والهرم والعمى والعرج ، وأقوام لم يجدوا ما ينفقون ؛ فقال : ليس على هؤلاء حرج. {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} إذا عرفوا الحق وأحبوا أولياءه وأبغضوا أعداءه قال العلماء : فعذر الحق سبحانه أصحاب الأعذار ، وما صبرت القلوب ؛ فخرج ابن أم مكتوم إلى أحد وطلب أن يعطي اللواء فأخذه مصعب بن عمير ، فجاء رجل من الكفار فضرب يده التي فيها اللواء فقطعها ، فأمسكه باليد الأخرى فضرب اليد الأخرى فأمسكه بصدره وقرأ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران : 144]. هذه عزائم القوم. والحق يقول : {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} [النور : 61] وهو في الأول. {وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} [النور : 61] وعمرو بن الجموح من نقباء الأنصار أعرج وهو في أول الجيش. قال له الرسول عليه السلام : "إن الله قد عذرك" فقال : والله لأحفرن بعرجتي هذه في الجنة ؛ إلى أمثالهم حسب ما تقدم في هذه السورة من ذكرهم رضي الله عنهم. وقال عبدالله بن مسعود : ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف.
(8/226)
الثانية : قوله تعالى : {إِذَا نَصَحُوا} النصح إخلاص العمل من الغش. ومنه التوبة النصوح. قال نفطويه : نصح الشيء إذا خلص. ونصح له القول أي أخلصه له. وفي صحيح مسلم عن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الدين النصيحة" ثلاثا. قلنا لمن ؟ قال : "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" . قال العلماء : النصيحة لله إخلاص الاعتقاد في الوحدانية ، ووصفه بصفات الألوهية ، وتنزيهه عن النقائص والرغبة في محابّه والبعد من مساخطه. والنصيحة لرسوله : التصديق بنبوته ، والتزام طاعته في أمره ونهيه ، وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه ، وتوقيره ، ومحبته ومحبة آل بيته ، وتعظيمه وتعظيم سنته ، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها ، والتفقه فيها والذب عنها ونشرها والدعاء إليها ، والتخلق بأخلاقه الكريمة صلى الله عليه وسلم. وكذا النصح لكتاب الله : قراءته والتفقه فيه ، والذب عنه وتعليمه وإكرامه والتخلق به. والنصح لأئمة المسلمين : ترك الخروج عليهم ، إرشادهم إلى الحق وتنبيههم فيما أغفلوه من أمور المسلمين ، ولزوم طاعتهم والقيام بواجب حقهم. والنصح للعامة : ترك معاداتهم ، وإرشادهم وحب الصالحين منهم ، والدعاء لجميعهم وإرادة الخير لكافتهم. وفي الحديث الصحيح "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" .
الثالثة : قوله تعالى : {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} {مِنْ سَبِيلٍ} في موضع رفع اسم {مَا} أي من طريق إلى العقوبة. وهذه الآية أصل في رفع العقاب عن كل محسن. ولهذا قال علماؤنا في الذي يقتص من قاطع يده فيفضي ذلك في السراية إلى إتلاف نفسه : إنه لا دية له ؛ لأنه محسن في اقتصاصه من المعتدي عليه. وقال أبو حنيفة : تلزمه الدية. وكذلك إذا صال فحل على رجل فقتله في دفعه عن نفسه فلا ضمان عليه ؛ وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة : تلزمه لمالكه القيمة. قال ابن العربي : وكذلك القول في مسائل الشريعة كلها.
(8/227)
الرابعة : قوله تعالى : {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} روي أن الآية نزلت في عرباض بن سارية. وقيل : نزلت في عائذ بن عمرو. وقيل : نزلت في بني مقرن - وعلى هذا جمهور المفسرين - وكانوا سبعة إخوة ، كلهم صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس في الصحابة سبعة إخوة غيرهم ، وهم النعمان ومعقل وعقيل وسويد وسنان وسابع لم يسم. بنو مقرن المزنيون سبعة إخوة هاجروا وصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشاركهم - فيما ذكره ابن عبدالبر وجماعة - في هذه المكرمة غيرهم. وقد قيل : إنهم شهدوا الخندق كلهم. وقيل : نزلت في سبعة نفر من بطون شتى ، وهم البكاؤون أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ليحملهم ، فلم يجد ما يحملهم عليه ؛ فـ {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} فسموا البكائين. وهم سالم بن عمير من بني عمرو بن عوف وعلبة بن زيد أخو بني حارثة. وأبو ليلى عبدالرحمن بن كعب من بني مازن بن النجار. وعمرو بن الحمام من بني سلمة. وعبدالله بن المغفل المزني ، وقيل : بل هو عبدالله بن عمرو المزني. وهرمي بن عبدالله أخو بني واقف ، وعرباض بن سارية الفزاري ، هكذا سماهم أبو عمر في كتاب الدرر له. وفيهم اختلاف. قال القشيري : معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبدالله بن كعب الأنصاري ، وسالم بن عمير ، وثعلبة بن غنمة ، وعبدالله بن مغفل وآخر. قالوا : يا نبي الله ، قد ندبتنا للخروج معك ، فاحملنا على الخفاف المرفوعة والنعال المخصوفة نغز معك. فقال : {لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} فتولوا وهم يبكون. وقال ابن عباس : سألوه أن يحملهم على الدواب ، وكان الرجل يحتاج إلى بعيرين ، بعير يركبه وبعير يحمل ماءه وزاده لبعد الطريق. وقال الحسن : نزلت في أبي موسى وأصحابه أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ليستحملوه ، ووافق ذلك منه غضبا فقال : "والله لا أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه" فتولوا يبكون ؛ فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاهم ذودا. فقال أبو موسى
(8/228)
ألست حلفت يا رسول الله ؟ فقال : "إني إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني" .
قلت : وهذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم بلفظه ومعناه. وفي مسلم : فدعا بنا فأمر لنا بخمس ذود غر الذرى... الحديث. وفي آخره : "فانطلقوا فإنما حملكم الله" . وقال الحسن أيضا وبكر بن عبدالله : نزلت في عبدالله بن مغفل المزني ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستحمله. قال الجرجاني : التقدير أي ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم وقلت لا أجد. فهو مبتدأ معطوف على ما قبله بغير واو ، والجواب {تَوَلَّوْا}. {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} الجملة في موضع نصب على الحال. {حَزَناً} مصدر. {أَلّا يَجِدُوا} نصب بأن. وقال النحاس : قال الفراء يجوز أن لا يجدون ؛ يجعل لا بمعنى ليس. وهو عند البصريين بمعنى أنهم لا يجدون.
الخامسة : والجمهور من العلماء على أن من لا يجد ما ينفقه في غزوه أنه لا يجب عليه. وقال علماؤنا : إذا كانت عادته المسألة لزمه كالحج وخرج على العادة لأن حاله إذا لم تتغير يتوجه الفرض عليه كتوجهه على الواجد. والله أعلم.
السادسة : قوله تعالى : {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} ما يستدل به على قرائن الأحوال. ثم منها ما يفيد العلم الضروري ، ومنها ما يحتمل الترديد. فالأول كمن يمر على دار قد علا فيها النعي وخمشت الخدود وحلقت الشعور وسلقت الأصوات وخرقت الجيوب ونادوا على صاحب الدار بالثبور ؛ فيعلم أنه قد مات. وأما الثاني فكدموع الأيتام على أبواب الحكام ؛ قال الله تعالى مخبرا عن إخوة يوسف عليه السلام : {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [يوسف : 16]. وهم الكاذبون ؛ قال الله تعالى مخبرا عنهم : {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف : 18].
(8/229)
ومع هذا فإنها قرائن يستدل بها في الغالب فتبني عليها الشهادات بناء على ظواهر الأحوال وغالبها. وقال الشاعر :
إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبين من بكى ممن تباكي
وسيأتي هذا المعنى في "يوسف" مستوفى إن شاء الله تعالى.
الآية : 93 {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}
قوله تعالى : {إِنَّمَا السَّبِيلُ} أي العقوبة والمأثم. {عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} والمراد المنافقون. كرر ذكرهم للتأكيد في التحذير من سوء أفعالهم.
الآية : 94 {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
قوله تعالى : {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ} يعني المنافقين. {لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} أي لن نصدقكم. {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} أي أخبرنا بسرائركم. {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} فيما تستأنفون. {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي يجازيكم بعملكم. وقد مضى هذا كله مستوفى.
الآية : 95 {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
قوله تعالى : {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ} أي من تبوك. والمحلوف عليه محذوف ؛ أي يحلفون أنهم ما قدروا على الخروج. {لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} أي لتصفحوا عن
(8/230)
لومهم. وقال ابن عباس : أي لا تكلموهم. وفي الخبر أنه قال عليه السلام لما قدم من تبوك : "ولا تجالسوهم ولا تكلموهم" . {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} أي عملهم رجس ؛ والتقدير : إنهم ذوو رجس ؛ أي عملهم قبيح. {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي منزلهم ومكانهم. قال الجوهري : المأوى كل مكان يأوي إليه شيء ليلا أو نهارا. وقد أوى فلان إلى منزله يأوي أويا ، على فعول ، وإواء. ومنه قوله تعالى : {سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود : 43]. وآويته أنا إيواء. وأويته إذا أنزلته بك ؛ فعلت وأفعلت ، بمعنى ؛ عن أبى زيد. ومأوي الإبل "بكسر الواو" لغة في مأوى الإبل خاصة ، وهو شاذ.
الآية : 96 {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}
حلف عبدالله بن أبي ألا يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وطلب أن يرضى عنه.
الآية : 97 {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
قوله تعالى : { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً}
فيه مسألتان : -
الأولى : لما ذكر جل وعز أحوال المنافقين بالمدينة ذكر من كان خارجا منها ونائيا من الأعراب ؛ فقال كفرهم أشد. قال قتادة : لأنهم أبعد عن معرفة السنن. وقيل : لأنهم أقسى قلبا وأجفى قولا وأغلظ طبعا وأبعد عن سماع التنزيل ؛ ولذلك قال الله تعالى في حقهم : {وَأَجْدَرُ} أي أخلق. {أَلّا يَعْلَمُوا} {أن} في موضع نصب بحذف الباء ؛ تقول : أنت جدير بأن تفعل وأن تفعل ؛ فإذا حذفت الباء لم يصلح إلا بـ {أن} وإن أتيت بالباء صلح بـ {أن} وغيره ؛ تقول : أنت جدير أن تقوم ، وجدير بالقيام. ولو قلت :
(8/231)
أنت جدير القيام كان خطأ. وإنما صلح مع {أن} لأن أن يدل على الاستقبال فكأنها عوض من المحذوف. {حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} أي فرائض الشرع. وقيل : حجج الله في الربوبية وبعثة الرسل لقلة نظرهم.
الثانية : ولما كان ذلك ودل على نقصهم وحطهم عن المرتبة الكاملة عن سواهم ترتبت على ذلك أحكام ثلاثة :
أولها : لا حق لهم في الفيء والغنيمة ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث بريدة ، وفيه : "ثم أدعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا عنها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين" .
وثانيها : إسقاط شهادة أهل البادية عن الحاضرة ؛ لما في ذلك من تحقق التهمة. وأجازها أبو حنيفة قال : لأنها لا تراعي كل تهمة ، والمسلمون كلهم عنده على العدالة. وأجازها الشافعي إذا كان عدلا مرضيا ؛ وهو الصحيح لما بيناه في "البقرة". وقد وصف الله تعالى الأعراب هنا
أوصافا ثلاثة :
أحدها : بالكفر والنفاق.
والثاني : بأنه يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر.
والثالث : بالإيمان بالله وباليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ؛ فمن كانت هذه صفته فبعيد ألا تقبل شهادته فيلحق بالثاني والأول ، وذلك باطل. وقد مضى الكلام في هذا في "النساء".
وثالثها : أن إمامتهم بأهل الحاضرة ممنوعة لجهلهم بالسنة وتركهم الجمعة. وكره أبو مجلز إمامة الأعرابي. وقال مالك : لا يؤم وإن كان أقرأهم. وقال سفيان الثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي : الصلاة خلف الأعرابي جائزة. واختاره ابن المنذر إذا أقام حدود الصلاة.
(8/232)
قوله تعالى : {أَشَدُّ} أصله أشدد ؛ وقد تقدم. {كُفْراً} نصب على البيان. {وَنِفَاقاً} عطف عليه. {وَأَجْدَرُ} عطف على أشد ، ومعناه أخلق ؛ يقال : فلان جدير بكذا أي خليق به ، وأنت جدير أن تفعل كذا ، والجمع جدراء وجديرون. وأصله من جدر الحائط وهو رفعه بالبناء. فقوله : هو أجدر بكذا أي أقرب إليه وأحق به. {أَلّا يَعْلَمُوا} أي بألا يعلموا. والعرب : جيل من الناس ، والنسبة إليهم عربي بين العروبة ، وهم أهل الأمصار. والأعراب منهم سكان البادية خاصة. وجاء في الشعر الفصيح أعاريب. والنسبة إلى الأعراب أعرابي لأنه لا واحد له ، وليس الأعراب جمعا للعرب كما كان الأنباط جمعا لنبط ؛ وإنما العرب اسم جنس. والعرب العاربة هم الخلص منهم ، وأخذ من لفظه وأكد به ؛ كقولك : ليل لائل. وربما قالوا : العرب العرباء. وتعرب أي تشبه بالعرب. وتعرب بعد هجرته أي صار أعرابيا. والعرب المستعربة هم الذين ليسوا بخلص ، وكذلك المتعربة ، والعربية هي هذه اللغة. ويعرب بن قحطان أول من تكلم بالعربية ، وهو أبو اليمن كلهم. والعُرب والعَرب واحد ؛ مثل العجم والعجم. والعريب تصغير العرب ؛ قال الشاعر :
ومكن الضباب طعام العريب ... ولا تشتهيه نفوس العجم
إنما صغرهم تعظيما ؛ كما قال : أنا جذيلها المحك ، وعذيقها المرجب كله عن الجوهري. وحكى القشيري وجمع العربي العرب ، وجمع الأعرابي أعراب وأعاريب. والأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح ، والعربي إذا قيل له يا أعرابي غضب. والمهاجرون والأنصار عرب لا أعراب. وسميت العرب عربا لأن ولد إسماعيل نشؤوا من عربة وهي من تهامة فنسبوا إليها. وأقامت قريش بعربة وهي مكة ، وانتشر سائر العرب في جزيرتها.
(8/233)
الآية : 98 {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
قوله تعالى : {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ} {مَنْ} في موضع رفع بالابتداء. {مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً} مفعولان ؛ والتقدير ينفقه ، فحذفت الهاء لطول الاسم. {مَغْرَماً} معناه غرما وخسرانا ؛ وأصله لزوم الشيء ؛ ومنه : {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} [الفرقان : 65] أي لازما ، أي يرون ما ينفقونه في جهاد وصدقة غرما ولا يرجون عليه ثوابا. {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} التربص الانتظار ؛ وقد تقدم. والدوائر جمع دائرة ، وهي الحالة المنقلبة عن النعمة إلى البلية ، أي يجمعون إلى الجهل بالإنفاق سوء الدخلة وخبث القلب. {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} قرأه ابن كثير وأبو عمرو بضم السين هنا وفي الفتح ، وفتحها الباقون. وأجمعوا على فتح السين في قوله : {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} [مريم : 28]. والفرق بينهما أن السُوء بالضم المكروه. قال الأخفش : أي عليهم دائرة الهزيمة والشر. وقال الفراء : أي عليهم دائرة العذاب والبلاء. قالا : ولا يجوز امرأ سُوء بالضم ؛ كما لا يقال : هو امرؤ عذاب ولا شر. وحكي عن محمد بن يزيد قال : السَوء بالفتح الرداءة. قال سيبوبه : مررت برجل صدق ، ومعناه برجل صلاح. وليس من صدق اللسان ، ولو كان من صدق اللسان لما قلت : مررت بثوب صدق. ومررت برجل سوء ليس هو من سُؤته ، وإنما معناه مررت برجل فساد. وقال الفراء : السوء بالفتح مصدر سؤته سوءا ومساءة وسوائية. قال غيره : والفعل منه ساء يسوء. والسوء بالضم اسم لا مصدر ؛ وهو كقولك : عليهم دائرة البلاء والمكروه.
الآية : 99 {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(8/234)
قوله تعالى : {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} أي صدق. والمراد بنو مقرن من مزينة ؛ ذكره المهدوي. {قُرُبَاتٍ} جمع قربة ، وهي ما يتقرب به إلى الله تعالى ؛ والجمع قرب وقربات وقربات وقربات ؛ حكاه النحاس. والقربات بالضم ما تقرب به إلى الله تعالى ؛ تقول منه : قربت لله قربانا. والقربة بكسر القاف ما يستقي فيه الماء ؛ والجمع في أدنى العدد قِرْبات وقِرِبات وقِرَبات ، وللكثير قرب. وكذلك جمع كل ما كان على فعلة ؛ مثل سدرة وفقرة ، لك أن تفتح العين وتكسر وتسكن ؛ حكاه الجوهري. وقرأ نافع في رواية ورش {قُرُبة} بضم الراء وهي الأصل. والباقون بسكونها تخفيفا ؛ مثل كتب ورسل ، ولا خلاف في قربات. وحكى ابن سعدان أن يزيد بن القعقاع قرأ {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ}. ومعنى {صَلَوَاتِ الرَّسُولِ} استغفاره ودعاؤه. والصلاة تقع على ضروب ؛ فالصلاة من الله جل وعز الرحمة والخير والبركة ؛ قال الله تعالى : {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} [الأحزاب : 43] والصلاة من الملائكة الدعاء ، وكذلك هي من النبي صلى الله عليه وسلم ؛ كما قال : {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة : 103] أي دعاؤك تثبيت لهم وطمأنينة. {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ} أي تقربهم من رحمة الله ، يعني نفقاتهم.
الآية : 100 {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
فيه سبع مسائل : -
الأولى : لما ذكر جل وعز أصناف الأعراب ذكر المهاجرين والأنصار ، وبين أن منهم السابقين إلى الهجرة وأن منهم التابعين ، وأثنى عليهم. وقد اختلف في عدد طبقاتهم وأصنافهم. ونحن نذكر من ذلك طرفا نبين الغرض فيه إن شاء الله تعالى. وروى عمر بن الخطاب أنه قرأ {والأنصارُ} رفعا عطفا على السابقين. قال الأخفش : الخفض
(8/235)
في الأنصار الوجه ؛ لأن السابقين منهما. والأنصار اسم إسلامي. قيل لأنس بن مالك : أرأيت قول الناس لكم : الأنصار ، اسم سماكم الله به أم كنتم تدعون به في الجاهلية ؟ قال : بل اسم سمانا الله به في القرآن ؛ ذكره أبو عمر في الاستذكار.
الثانية : نص القرآن على تفضيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وهم الذين صلوا إلى القبلتين ؛ في قول سعيد بن المسيب وطائفة. وفي قول أصحاب الشافعي هم الذين شهدوا بيعة الرضوان ، وهي بيعة الحديبية ، وقال الشعبي. وعن محمد بن كعب وعطاء بن يسار : هم أهل بدر. واتفقوا على أن من هاجر قبل تحويل القبلة فهو من المهاجرين الأولين من غير خلاف بينهم وأما أفضلهم وهي.
الثالثة : فقال أبو منصور البغدادي التميمي : أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة ، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة ، ثم البدريون ثم أصحاب أحد ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية.
الرابعة : وأما أولهم إسلاما فروى مجالد عن الشعبي قال : سألت ابن عباس من أول الناس إسلاما ؟ قال أبو بكر ، أو ما سمعت قول حسان :
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها ... بعد النبي وأوفاها بما حملا
الثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس منهم صدق الرسلا
وذكر أبو الفرج الجوزي عن يوسف بن يعقوب بن الماجشون أنه قال : أدركت أبي وشيخنا محمد بن المنكدر وربيعة بن أبي عبدالرحمن وصالح بن كيسان وسعد بن إبراهيم وعثمان بن محمد الأخنسي وهم لا يشكون أن أول القوم إسلاما أبو بكر ؛ وهو قول ابن عباس وحسان وأسماء بنت أبي بكر ، وبه قال إبراهيم النخعي. وقيل : أول من أسلم علي ؛ روي ذلك عن زيد بن أرقم وأبي ذر والمقداد وغيرهم. قال الحاكم أبو عبدالله : لا أعلم خلافا بين أصحاب التواريخ أن عليا أولهم إسلاما. وقيل : أول من أسلم زيد بن حارثة. وذكر معمر نحو
(8/236)
ذلك عن الزهري. وهو قول سليمان بن يسار وعروة بن الزبير وعمران بن أبي أنس. وقيل : أول من أسلم خديجة أم المؤمنين ؛ روي ذلك من وجوه عن الزهري ، وهو قول قتادة ومحمد بن إسحاق بن يسار وجماعة ، وروي أيضا عن ابن عباس. وأدعى الثعلبي المفسر اتفاق العلماء على أن أول من أسلم خديجة ، وأن اختلافهم إنما هو فيمن أسلم بعدها. وكان إسحاق بن إبراهيم بن راهويه الحنظلي يجمع بين هذه الأخبار ، فكان يقول : أول من أسلم من الرجال أبو بكر ، ومن النساء خديجة ، ومن الصبيان علي ، ومن الموالي زيد بن حارثة ، ومن العبيد بلال. والله أعلم. وذكر محمد بن سعد قال : أخبرني مصعب بن ثابت قال حدثني أبو الأسود محمد بن عبدالرحمن بن نوفل قال : كان إسلام الزبير بعد أبي بكر وكان رابعا أو خامسا. قال الليث بن سعد وحدثني أبو الأسود قال : أسلم الزبير وهو ابن ثمان سنين. وروي إن عليا أسلم ابن سبع سنين. وقيل : ابن عشر.
الخامسة : والمعروف عن طريقة أهل الحديث أن كل مسلم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من أصحابه. قال البخاري في صحيحه : من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه. وروي عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد الصحابي إلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين ، وغزا معه غزوة أو غزوتين. وهذا القول إن صح عن سعيد بن المسيب يوجب ألا يعد من الصحابة جرير بن عبدالله البجلي أو من شاركه في فقد ظاهر ما اشترطه فيهم ممن لا نعرف خلافا في عده من الصحابة.
السادسة : لا خلاف أن أول السابقين من المهاجرين أبو بكر الصديق. وقال ابن العربي : السبق يكون بثلاثة أشياء : الصفة وهو الإيمان ، والزمان ، والمكان. وأفضل هذه الوجوه سبق الصفات ؛ والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح : "نحن الآخرون الأولون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فاليهود غدا والنصارى بعد غد" . فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من سبقنا من الأمم بالزمان سبقناهم بالإيمان والامتثال لأمر الله تعالى والانقياد إليه ، والاستسلام لأمره والرضا
(8/237)
بتكليفه والاحتمال لوظائفه ، لا نعترض عليه ولا نختار معه ، ولا نبدل بالرأي شريعته كما فعل أهل الكتاب ؛ وذلك بتوفيق الله لما قضاه ، وبتيسيره لما يرضاه ؛ وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
السابعة : قال ابن خويز منداد : تضمنت هذه الآية تفضيل السابقين إلى كل منقبة من مناقب الشريعة ، في علم أو دين أو شجاعة أو غير ذلك ، من العطاء في المال والرتبة في الإكرام. وفي هذه المسألة خلاف بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. واختلف العلماء في تفضيل السابقين بالعطاء على غيرهم ؛ فروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان لا يفضل بين الناس في العطاء بعضهم على بعض بحسب السابقة. وكان عمر يقول له : أتجعل ذا السابقة كمن لا سابقة له ؟ فقال أبو بكر : إنما عملوا لله وأجرهم عليه. وكان عمر يفضل في خلافته ؛ ثم قال عند وفاته : لئن عشت إلى غد لألحقن أسفل الناس بأعلاهم ؛ فمات من ليلته. والخلافة إلى يومنا هذا على هذا الخلاف.
قوله تعالى : {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ}
فيه مسألتان : -
الأولى : قرأ عمر {والأنصارُ} رفعا. {الذين} بإسقاط الواو نعتا للأنصار ؛ فراجعه زيد بن ثابت ، فسأل عمر أبي بن كعب فصدق زيدا ؛ فرجع إليه عمر وقال : ما كنا نرى إلا أنا رفعنا رفعة لا ينالها معنا أحد. فقال أبي : إني أجد مصداق ذلك في كتاب الله في أول سورة الجمعة : {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة : 3] وفي سورة الحشر : {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} [الحشر : 10]. وفي سورة الأنفال بقوله : {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} [الأنفال : 74]. فثبتت القراءة بالواو. وبين تعالى بقوله : {بِإِحْسَانٍ} ما يتبعون فيه من أفعالهم وأقوالهم ، لا فيما صدر عنهم من الهفوات والزلات ؛ إذ لم يكونوا معصومين رضي الله عنهم.
الثانية : واختلف العلماء في التابعين ومراتبهم ؛ فقال الخطيب الحافظ : التابعي من صحب الصحابي ؛ ويقال للواحد منهم : تابع وتابعي. وكلام الحاكم أبي عبدالله وغيره
(8/238)
مشعر بأنه يكفي فيه أن يسمع من الصحابي أو يلقاه وإن لم توجد الصحبة العرفية. وقد قيل : إن اسم التابعين ينطلق على من أسلم بعد الحديبية ؛ كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ومن داناهم من مسلمة الفتح ؛ لما ثبت أن عبدالرحمن بن عوف شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد : "دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" . ومن العجب عد الحاكم أبو عبدالله النعمان وسويدا ابني مقرن المزني في التابعين عندما ذكر الإخوة من التابعين ، وهما صحابيان معروفان مذكوران في الصحابة ، وقد شهدا الخندق كما تقدم. والله أعلم. وأكبر التابعين الفقهاء السبعة من أهل المدينة ، وهم سعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد ؛ وعروة بن الزبير ، وخارجه بن زيد ، وأبو سلمة بن عبدالرحمن ، وعبدالله بن عتبة بن مسعود ، وسليمان بن يسار. وقد نظمهم بعض الأجلة في بيت واحد فقال :
فخذهم عبيدالله عروة قاسم ... سعيد أبو بكر سليمان خارجه
وقال أحمد بن حنبل : أفضل التابعين سعيد بن المسيب ؛ فقيل له : فعلقمة والأسود. فقال : سعيد بن المسيب وعلقمة والأسود. وعنه أيضا أنه قال : أفضل التابعين قيس وأبو عثمان وعلقمة ومسروق ؛ هؤلاء كانوا فاضلين ومن علية التابعين. وقال أيضا : كان عطاء مفتي مكة والحسن مفتي البصرة فهذان أكثر الناس عنهم ؛ وأبهم. وروي عن أبي بكر بن أبي داود قال : سيدتا التابعين من النساء حفصة بنت سيرين وعمرة بنت عبدالرحمن ، وثالثهما - وليست كهما - أم الدرداء. وروي عن الحاكم أبي عبدالله قال : طبقة تعد في التابعين ولم يصح سماع أحد منهم من الصحابة ؛ منهم إبراهيم بن سويد النخعي وليس بإبراهيم بن يزيد النخعي الفقيه. وبكير بن أبي السميط ، وبكير بن عبدالله الأشج. وذكر غيرهم قال : وطبقة عدادهم عند الناس في أتباع التابعين. وقد لقوا الصحابة منهم أبو الزناد عبدالله بن ذكوان ، لقي عبدالله بن عمر وأنسا. وهشام بن عروة ، وقد أدخل على عبدالله بن عمر ،
(8/239)
وجابر بن عبدالله وموسى بن عقبة ، وقد أدرك أنس بن مالك. وأم خالد بنت خالد بن سعيد. وفي التابعين طبقة تسمى بالمخضرمين ، وهم الذين أدركوا الجاهلية وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا ولا صحبة لهم. واحدهم مخضرم بفتح الراء كأنه خضرم ، أي قطع عن نظرائه الذين أدركوا الصحبة وغيرها. وذكرهم مسلم فبلغ بهم عشرين نفسا ، منهم أبو عمرو الشيباني ، وسويد بن غفلة الكندي ، وعمرو بن ميمون الأودي ، وأبو عثمان النهدي وعبد خير بن يزيد الخيراني بفتح الخاء ، بطن من همدان ، وعبدالرحمن بن مل. وأبو الحلال العتكي ربيعة بن زرارة. وممن لم يذكره مسلم ؛ منهم أبو مسلم الخولاني عبدالله بن ثوب ، والأحنف بن قيس. فهذه نبذة من معرفة الصحابة والتابعين الذين نطق بفضلهم القرآن الكريم ، رضوان الله عليهم أجمعين. وكفانا نحن قوله جل وعز : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران : 110] على ما تقدم ، وقوله عز وجل : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة : 143] الآية. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وددت أنا لو رأينا إخواننا...". الحديث. فجعلنا إخوانه ؛ إن اتقينا الله واقتفينا آثاره حشرنا الله في زمرته ولا حاد بنا عن طريقته وملته بحق محمد وآله.
الآية : 101 {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ}
قوله تعالى : {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ} ابتداء وخبر. أي قوم منافقون ؛ يعني مزينة وجهينة وأسلم وغفار وأشجع. {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} أي قوم مردوا على النفاق. وقيل : {مَرَدُوا} من نعت المنافقين ؛ فيكون في الكلام تقديم وتأخير ، المعنى. ومن حولكم من الأعراب منافقون مردوا على النفاق ، ومن أهل المدينة مثل ذلك. ومعنى : {مَرَدُوا} أقاموا ولم يتوبوا ؛ عن ابن زيد. وقال غيره : لجوا فيه وأبوا غيره ؛
(8/240)
والمعنى متقارب. وأصل الكلمة من اللين والملامسة والتجرد. فكأنهم تجردوا للنفاق. ومنه رملة مرداء لا نبت فيها. وغصن أمرد لا ورق عليه. وفرس أمرد لا شعر على ثنته. وغلام أمرد بين المرد ؛ ولا يقال : جارية مرداء. وتمريد البناء تمليسه ؛ ومنه قوله : {صَرْحٌ مُمَرَّدٌ} [النمل : 44]. وتمريد الغصن تجريده من الورق ؛ يقال : مرد يمرد مرودا ومرادة. {لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} هو مثل قوله : {لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال : 60] على ما تقدم. وقيل : المعنى لا تعلم يا محمد عاقبة أمورهم وإنما نختص نحن بعلمها ؛ وهذا يمنع أن يحكم على أحد بجنة أو نار.
قوله تعالى : {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} قال ابن عباس : بالأمراض في الدنيا وعذاب الآخرة. فمرض المؤمن كفارة ، ومرض الكافر عقوبة. وقيل : العذاب الأول الفضيحة بإطلاع النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ؛ على ما يأتي بيانه في المنافقين. والعذاب الثاني عذاب القبر. الحسن وقتادة : عذاب الدنيا وعذاب القبر. ابن زيد : الأول بالمصائب في أموالهم وأولادهم ، والثاني عذاب القبر. مجاهد : الجوع والقتل. الفراء : القتل وعذاب القبر. وقيل : السباء والقتل. وقيل : الأول أخذ الزكاة من أموالهم وإجراء الحدود عليهم ، والثاني عذاب القبر. وقيل : أحد العذابين ما قال تعالى : {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ - إلى قول - إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة : 55]. والغرض من الآية إتباع العذاب ، أو تضعيف العذاب عليهم.
(8/241)