المجلد الثامنتابع سورة الأنفال
الآيتان : 75 - 76 {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ، فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}
الآية : 77 {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ}
الآية : 78 {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}
فيه ثمان مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} قال قتادة : هذا رجل من الأنصار قال : لئن رزقني الله شيئا لأؤدين فيه حقه ولأتصدقن ؛ فلما آتاه الله ذلك فعل ما نُص عليكم ، فاحذروا الكذب فإنه يؤدي إلى الفجور. وروى علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة الباهلي أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري (فسماه) قال للنبي صلى الله عليه وسلم ادع الله أن يرزقني مالا. فقال عليه السلام "ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه" ثم عاود ثانيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أما ترضى أن تكون مثل نبي الله لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا لسارت" فقال : والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه. فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فاتخذ غنما فنمت كما تنمي الدود ، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ، وترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة ، وهي تنمي حتى ترك الجمعة أيضا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا ويح ثعلبة" ثلاثا. ثم نزل {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة : 103]. فبعث صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة ، وقال لهما : "مرا بثعلبة وبفلان - رجل من بني سليم - فخذا صدقاتهما" فأتيا ثعلبة وأقرأه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هذه إلا أخت الجزية انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا. الحديث ، وهو مشهور. وقيل : سبب غناء ثعلبة أنه ورث ابن عم له. قاله ابن عبدالبر : قيل إن ثعلبة بن حاطب هو الذي نزل فيه {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ...} الآية ؛ إذ منع الزكاة ، فالله أعلم. وما جاء فيمن شاهد بدرا يعارضه قوله تعالى في الآية : {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ} الآية.
قلت : وذكر عن ابن عباس في سبب نزول الآية أن حاطب بن أبي بلتعة أبطأ عنه ماله بالشام فحلف في مجلس من مجالس الأنصار : إن سلم ذلك لأتصدقن منه ولأصلن منه. فلما سلم بخل بذلك فنزلت.
(8/209)
قلت : وثعلبة بدري أنصاري وممن شهد الله له ورسوله بالإيمان ؛ حسب ما يأتي بيانه في أول الممتحنة فما روي عنه غير صحيح. قال أبو عمر : ولعل قول من قال في ثعلبة أنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح ، والله أعلم. وقال الضحاك : إن الآية نزلت في رجال من المنافقين نبتل بن الحارث وجد بن قيس ومعتب بن قشير.
قلت : وهذا أشبه بنزول الآية فيهم ؛ إلا أن قوله {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً} يدل على أن الذي عاهد الله لم يكن منافقا من قبل ، إلا أن يكون المعنى : زادهم نفاقا ثبتوا عليه إلى الممات ، وهو قوله تعالى : {إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} على ما يأتي.
الثانية : قال علماؤنا : لما قال الله تعالى : {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} احتمل أن يكون عاهد الله بلسانه ولم يعتقده بقلبه. واحتمل أن يكون عاهد الله بهما ثم أدركته سوء الخاتمة ؛ فإن الأعمال بخواتيمها والأيام بعواقبها. و"من" رفع بالابتداء والخبر في المجرور. ولفظ اليمين ورد في الحديث وليس في ظاهر القرآن يمين إلا بمجرد الارتباط والالتزام ، أما إنه في صيغة القسم في المعنى فإن اللام تدل عليه ، وقد أتى بلامين الأولى للقسم والثانية لام الجواب ، وكلاهما للتأكيد. ومنهم من قال : إنهما لا ما القسم ؛ والأول أظهر ، والله أعلم.
الثالثة : العهد والطلاق وكل حكم ينفرد به المرء ولا يفتقر إلى غيره فيه فإنه يلزمه منه ما يلتزمه بقصده وإن لم يلفظ به ؛ قاله علماؤنا. وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا يلزم أحدا حكم إلا بعد أن يلفظ به وهو القول الآخر لعلمائنا. ابن العربي : والدليل على صحة ما ذهبنا إليه ما رواه أشهب عن مالك ، وقد سئل : إذا نوى الرجل الطلاق بقلبه ولم يلفظ به بلسانه فقال : يلزمه ؛ كما يكون مؤمنا بقلبه ، وكافرا بقلبه. قال ابن العربي : وهذا أصل بديع ، وتحريره أن يقال : عقد لا يفتقر فيه المرء إلى غيره في التزامه فانعقد عليه بنية. أصله الإيمان والكفر.
(8/210)
قلت : وحجة القول الثاني ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به" رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا عند أهل العلم إذا حدث نفسه بالطلاق لم يكن شيئا حتى يتكلم به. قال أبو عمر : ومن اعتقد بقلبه الطلاق ولم ينطق به لسانه فليس بشيء. هذا هو الأشهر عن مالك. وقد روي عنه أنه يلزمه الطلاق إذا نواه بقلبه ؛ كما يكفر بقلبه وإن لم ينطق به لسانه. والأول أصح في النظر وطريق الأثر ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تجاوز الله لأمتي عما وسوست به نفوسها ما لم ينطق به لسان أو تعلمه يد" .
الرابعة : إن كان نذرا فالوفاء بالنذر واجب من غير خلاف وتركه معصية. وإن كانت يمينا فليس الوفاء باليمين واجبا باتفاق. بيد أن المعنى فيه إن كان الرجل فقيرا لا يتعين عليه فرض الزكاة ؛ فسأل الله مالا تلزمه فيه الزكاة ويؤدي ما تعين عليه من فرضه ، فلما آتاه الله ما شاء من ذلك ترك ما التزم مما كان يلزمه في أصل الدين لو لم يلتزمه ، لكن التعاطي بطلب المال لأداء الحقوق هو الذي أورطه إذ كان طلبه من الله تعالى بغير نية خالصة ، أو نية لكن سبقت فيه البداية المكتوب عليه فيها الشقاوة. نعوذ بالله من ذلك.
قلت : ومن هذا المعنى قوله عليه السلام : "إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فإنه لا يدري ما كتب له في غيب الله عز وجل من أمنيته" أي من عاقبتها ، فرب أمنية يفتتن بها أو يطغي فتكون سببا للهلاك دنيا وأخرى ، لأن أمور الدنيا مبهمة عواقبها خطرة غائلتها. وأما تمني أمور الدين والأخرى فتمنيها محمود العاقبة محضوض عليها مندوب إليها.
الخامسة : قوله تعالى : {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} دليل على أن من قال : إن ملكت كذا وكذا فهو صدقة فإنه يلزمه ؛ وبه قال أبو حنيفة : وقال الشافعي : لا يلزمه. والخلاف في الطلاق مثله ، وكذلك في العتق. وقال أحمد بن حنبل : يلزمه ذلك في العتق ولا يلزمه في الطلاق ؛ لأن العتق قربة وهي تثبت في الذمة بالنذر ؛ بخلاف الطلاق فإنه
(8/211)
تصرف في محل ، وهو لا يثبت في الذمة. احتج الشافعي بما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا طلاق له فيما لا يملك" لفظ الترمذي. وقال : وفي الباب عن علي ومعاذ وجابر وابن عباس وعائشة حديث عبدالله بن عمرو حديث حسن ، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب. وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. ابن العربي : وسرد أصحاب الشافعي في هذا الباب أحاديث كثيرة لم يصح منها شيء فلا يعول عليها ، ولم يبق إلا ظاهر الآية.
السادسة : قوله تعالى : {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي أعطاهم. {بَخِلُوا بِهِ} أي بإعطاء الصدقة وبإنفاق المال في الخير ، وبالوفاء بما ضمنوا والتزموا. وقد مضى البخل في "آل عمران". {وَتَوَلَّوْا} أي عن طاعة الله. {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} أي عن الإسلام ، أي مظهرون للإعراض عنه.
الآيتان : 77 - 78 {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ ، أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}
قوله تعالى : {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً} مفعولان أي أعقبهم الله تعالى نفاقا في قلوبهم. وقيل : أي أعقبهم البخل نفاقا ؛ ولهذا قال : {بَخِلُوا بِهِ} . {إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} في موضع خفض ؛ أي يلقون بخلهم ، أي جزاء بخلهم ؛ كما يقال : أنت تلقي غدا عملك. وقيل : {إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} أي يلقون الله. وفي هذا دليل على أنه مات منافقا. وهو يبعد أن يكون المنزل فيه ثعلبة أو حاطب ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر : "وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" وثعلبة وحاطب ممن حضر بدرا وشهدها. {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} كذبهم نقضهم العهد وتركهم الوفاء بما التزموه من ذلك.
الثامنة : قوله تعالى : {نِفَاقاً} النفاق إذا كان في القلب فهو الكفر. فأما إذا كان في الأعمال فهو معصية. قال النبي صلى الله عليه وسلم : "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا
(8/212)
ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها. إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر" خرجه البخاري. وقد مضى في "البقرة" اشتقاق هذه الكلمة ، فلا معنى لإعادتها. واختلف الناس في تأويل هذا الحديث ؛ فقالت طائفة : إنما ذلك لمن يحدث بحديث يعلم أنه كذب ، ويعهد عهدا لا يعتقد الوفاء به ، وينتظر الأمانة للخيانة فيها. وتعلقوا بحديث ضعيف الإسناد ، وأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لقي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما خارجين من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما ثقيلان فقال علي : مالي أراكما ثقيلين ؟ قالا حديثا سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال المنافقين "إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا اؤتمن خان وإذا وعد أخلف" فقال علي : أفلا سألتماه ؟ فقالا : هبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لكني سأسأله ؛ فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، خرج أبو بكر وعمر وهما ثقيلان ، ثم ذكر ما قالاه ، فقال : "قد حدثتهما ولم أضعه على الوضع الذي وضعاه ولكن المنافق إذا حدث وهو يحدث نفسه أنه يكذب وإذا وعد وهو يحدث نفسه أنه يخلف وإذا اؤتمن وهو يحدث نفسه أنه يخون" ابن العربي : قد قام الدليل الواضح على أن متعمد هذه الخصال لا يكون كافرا ، وإنما يكون كافرا باعتقاد يعود إلى الجهل بالله وصفاته أو تكذيب له تعالى الله وتقدس عن اعتقاد الجاهلين وعن زيغ الزائغين. وقالت طائفة : ذلك مخصوص بالمنافقين زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتعلقوا بما رواه مقاتل بن حيان عن سعيد بن جبير عن ابن عمر وابن عباس قالا : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه فقلنا : يا رسول الله ، إنك قلت : "ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلي وزعم أنه مؤمن إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان ومن كانت فيه خصلة منهن ففيه ثلث النفاق" فظننا أنا لم نسلم منهن أو من بعضهن ولم يسلم منهن كثير من الناس ؛ قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : "مالكم ولهن إنما خصصت بهن المنافقين كما خصهم الله في كتابه أما قولي إذا حدث كذب فذلك قوله عز وجل {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ...} [المنافقون : 1] - الآية – "أفأنتم
(8/213)
كذلك" ؟ قلنا : لا. قال : "لا عليكم أنتم من ذلك براء وأما قولي إذا وعد أخلف فذلك فيما أنزل الله علي {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} - الآيات الثلاث – "أفأنتم كذلك" ؟ قلنا لا ، والله لو عاهدنا الله على شيء أوفينا به. قال : "لا عليكم أنتم من ذلك براء وأما قولي وإذا اؤتمن خان فذلك فيما أنزل الله علي {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ...} [الأحزاب : 72] - الآية – "فكل إنسان مؤتمن على دينه فالمؤمن يغتسل من الجنابة في السر والعلانية والمنافق لا يفعل ذلك إلا في العلانية أفأنتم كذلك" ؟ قلنا لا قال : "لا عليكم أنتم من ذلك براء". وإلى هذا صار كثير من التابعين والأئمة. قالت طائفة : هذا فيمن كان الغالب عليه هذه الخصال. ويظهر من مذهب البخاري وغيره من أهل العلم أن هذه الخلال الذميمة منافق من اتصف بها إلى يوم القيامة. قال ابن العربي : والذي عندي أنه لو غلبت عليه المعاصي ما كان بها كافرا ما لم يؤثر في الاعتقاد.
قال علماؤنا : إن إخوة يوسف عليه السلام عاهدوا أباهم فأخلفوه ، وحدثوه فكذبوه ، وائتمنهم على يوسف فخانوه وما كانوا منافقين. قال عطاء بن أبي رباح : قد فعل هذه الخلال إخوة يوسف ولم يكونوا منافقين بل كانوا أنبياء. وقال الحسن بن أبي الحسن البصري : النفاق نفاقان ، نفاق الكذب ونفاق العمل ؛ فأما نفاق الكذب فكان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما نفاق العمل فلا ينقطع إلى يوم القيامة. وروى البخاري عن حذيفة أن النفاق كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان.
قوله تعالى : {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} هذا توبيخ ، وإذا كان عالما فإنه سيجازيهم.
الآية : 79 {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
(8/214)
قوله تعالى : {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} هذا أيضا من صفات المنافقين. قال قتادة : {يَلْمِزُونَ} يعيبون. قال : وذلك أن عبدالرحمن بن عوف تصدق بنصف ماله ، وكان ماله ثمانية آلاف فتصدق منها بأربعة آلاف. فقال قوم : ما أعظم رياءه ؛ فأنزل الله : {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} . وجاء رجل من الأنصار بنصف صبرة من تمره فقالوا : ما أغنى الله عن هذا ؛ فأنزل الله عز وجل {وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} الآية. وخرج مسلم عن أبي مسعود قال : أمرنا بالصدقة - قال : كنا نحامل ، في رواية : على ظهورنا - قال : فتصدق أبو عقيل بنصف صاع. قال : وجاء إنسان بشيء أكثر منه فقال المنافقون : إن الله لغني عن صدقة هذا ، وما فعل هذا الآخر إلا رياء : فنزلت {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} . يعني أبا عقيل ، واسمه الحبحاب. والجهد : شيء قليل يعيش به المقل. والجُهد والجَهد بمعنى واحد. وقد تقدم. و {يَلْمِزُونَ} يعيبون. وقد تقدم. و {الْمُطَّوِّعِينَ} أصله المتطوعين أدغمت التاء في الطاء ؛ وهم الذين يفعلون الشيء تبرعا من غير أن يجب عليهم. {وَالَّذِينَ} في موضع خفض عطف على {الْمُؤْمِنِينَ} . ولا يجوز أن يكون عطفا على الاسم قبل تمامه. {فَيَسْخَرُونَ} عطف على {يَلْمِزُونَ} . {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} خبر الابتداء ، وهو دعاء عليهم. وقال ابن عباس : هو خبر ؛ أي سخر منهم حيث صاروا إلى النار. ومعنى سخر الله مجازاتهم على سخريتهم. وقد تقدم في "البقرة".
الآية : 80 {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}
(8/215)
قوله تعالى : {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} يأتي بيانه عند قوله تعالى : {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً} [التوبة : 84].
الآية : 81 {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}
قوله تعالى : {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ} أي بقعودهم. قعد قعودا ومقعدا ؛ أي جلس. وأقعده غيره ؛ عن الجوهري. والمخلف المتروك ؛ أي خلفهم الله وثبطهم ، أو خلفهم رسول الله والمؤمنون لما علموا تثاقلهم عن الجهاد ؛ قولان ، وكان هذا في غزوة تبوك. {خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} مفعول من أجله ، وإن شئت كان مصدرا. والخلاف المخالفة. ومن قرأ {خَلْفَ رَسُولِ اللهِ} أراد التأخر عن الجهاد. {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} أي قال بعضهم لبعض ذلك. {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ} قل لهم يا محمد نار جهنم. {أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} ابتداء وخبر. {حَرّاً}نصب على البيان ؛ أي من ترك أمر الله تعرض لتلك النار.
الآية : 82 {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
فيه مسألتان : -
الأولى : قوله تعالى : {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً} أمر ، معناه معنى التهديد وليس أمرا والأصل أن تكون اللام مكسورة فحذفت الكسرة لثقلها. قال الحسن : {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً} في الدنيا {وَلْيَبْكُوا كَثِيراً} في جهنم. وقيل : هو أمر بمعنى الخبر. أي إنهم سيضحكون قليلا ويبكون كثيرا.{جَزَاءً}مفعول من أجله ؛ أي للجزاء.
(8/216)
الثانية : من الناس من كان لا يضحك اهتماما بنفسه وفساد حاله في اعتقاده من شدة الخوف ، وإن كان عبدا صالحا. قال صلى الله عليه وسلم : "والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى لوددت أني كنت شجرة تعضد" خرجه الترمذي. وكان الحسن البصري رضي الله عنه ممن قد غلب عليه الحزن فكان لا يضحك. وكان ابن سيرين يضحك ويحتج على الحسن ويقول : الله أضحك وأبكى. وكان الصحابة يضحكون ؛ إلا أن الإكثار منه وملازمته حتى يغلب على صاحبه مذموم منهي عنه ، وهو من فعل السفهاء والبطالة. وفي الخبر : (أن كثرته تميت القلب) وأما البكاء من خوف الله وعذابه وشدة عقابه فمحمود ؛ قال عليه السلام : "ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون فلو أن سفنا أجريت فيها لجرت" خرجه ابن المبارك من حديث أنس وابن ماجة أيضا.
الآية : 83 {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ}
قوله تعالى : {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} أي المنافقين. وإنما قال : {إِلَى طَائِفَةٍ} لأن جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين ، بل كان فيهم معذورون ومن لا عذر له ، ثم عفا وتاب عليهم ؛ كالثلاثة الذين خلفوا. وسيأتي. {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً} أي عاقبهم بألا تصحبهم أبدا. وهو كما قال في "سورة الفتح" : {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا} [الفتح : 15]. و {الْخَالِفِينَ} جمع خالف ؛ كأنهم خلقوا الخارجين. قال ابن عباس :
(8/217)
{الْخَالِفِينَ} من تخلف من المنافقين. وقال الحسن : مع النساء والضعفاء من الرجال ، فغلب المذكر. وقيل : المعنى فأقعدوا مع الفاسدين ؛ من قولهم فلان خالفة أهل بيته إذا كان فاسدا فيهم ؛ من خلوف فم الصائم. ومن قولك : خلف اللبن ؛ أي فسد بطول المكث في السقاء ؛ فعلى هذا يعني فاقعدوا مع الفاسدين. وهذا يدل على أن استصحاب المخذل في الغزوات لا يجوز.
الآية : 84 {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ}
فيه إحدى عشرة مسألة : -
الأولى : روي أن هذه الآية نزلت في شأن عبدالله بن أبي سلول وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليه. ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما. وتظاهرت الروايات بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه ، وأن الآية نزلت بعد ذلك. وروي عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تقدم ليصلي عليه جاءه جبريل فجبذ ثوبه وتلا عليه {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً} الآية ؛ فأنصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليه. والروايات الثابتة على خلاف هذا ، ففي البخاري عن ابن عباس قال : فصلي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف ؛ فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من [براءة] {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً} ونحوه عن ابن عمر ؛ خرجه مسلم. قال ابن عمر : لما توفي عبدالله بن أبي بن سلول جاء ابنه عبدالله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه ، فقام عمر وأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما خيرني الله تعالى فقال : {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة : 80] وسأزيد على
(8/218)
سبعين" قال : إنه منافق. فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} فترك الصلاة عليهم. وقال بعض العلماء : إنما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على عبدالله بن أبي بناء على الظاهر من لفظ إسلامه. ثم لم يكن يفعل ذلك لما نهي عنه.
الثانية : إن قال قائل فكيف قال عمر : أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه ؛ ولم يكن تقدم نهي عن الصلاة عليهم. قيل له : يحتمل أن يكون ذلك وقع له في خاطره ، ويكون من قبيل الإلهام والتحدث الذي شهد له به النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد كان القرآن ينزل على مراده ، كما قال : وافقت ربي في ثلاث. وجاء : في أربع. وقد تقدم في البقرة. فيكون هذا من ذلك. ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله تعالى : {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة : 80] الآية. لا أنه كان تقدم نهي على ما دل عليه حديث البخاري ومسلم. والله أعلم.
قلت : ويحتمل أن يكون فهمه من قوله تعالى : {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة : 113] لأنها نزلت بمكة. وسيأتي القول فيها.
الثالث : قوله تعالى : {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية. بين تعالى أنه وإن استغفر لهم لم ينفعهم ذلك وإن أكثر من الاستغفار. قال القشيري : ولم يثبت ما يروي أنه قال : "لأزيدن على السبعين".
قلت : وهذا خلاف ما يثبت في حديث ابن عمر "وسأزيد على سبعين" وفي حديث ابن عباس "لو أعلم أني زدت على السبعين يغفر لهم لزدت عليها" . قال فصلي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. خرجه البخاري.
الرابعة : واختلف العلماء في تأويل قوله : {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} هل هو إياس أو تخيير ، فقالت طائفة : المقصود به اليأس بدليل قوله تعالى : {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة : 80]. وذكر السبعين وفاق جرى ، أو هو عادتهم في العبارة عن الكثرة والإغياء فإذا قال قائلهم : لا أكلمه
(8/219)
سبعين سنة صار عندهم بمنزلة قوله. لا أكلمه أبدا. ومثله في الإغياء قوله تعالى : {فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً} [الحاقة : 32] وقوله عليه السلام : " من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا" . وقالت طائفة : هو تخيير - منهم الحسن وقتاده وعروة - إن شئت استغفر لهم وإن شئت لا تستغفر. ولهذا لما أراد أن يصلي على ابن أبي قال عمر : أتصلي على عدو الله ، القائل يوم كذا كذا وكذا ؟ فقال : " إني خيرت فاخترت". قالوا ثم نسخ هذا لما نزل {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [المنافقون : 6] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا} [التوبة : 80]أي لا يغفر الله لهم لكفرهم.
الخامسة : قوله تعالى : {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة : 113] الآية. وهذه الآية نزلت بمكة عند موت أبي طالب ، على ما يأتي بيانه. وهذا يفهم منه النهي عن الاستغفار لمن مات كافرا. وهو متقدم على هذه الآية التي فهم منها التخيير بقوله : "إنما خيرني الله" وهذا مشكل. فقيل : إن استغفاره لعمه إنما كان مقصوده استغفارا مرجو الإجابة حتى تحصل له المغفرة. وفي هذا الاستغفار استأذن عليه السلام ربه في أن يأذن له فيه لأمه فلم يأذن له فيه. وأما الاستغفار للمنافقين الذي خير فيه فهو استغفار لساني لا ينفع ، وغايته تطييب قلوب بعض الأحياء من قرابات المستغفر له. والله أعلم.
السادسة : واختلف في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم قميصه لعبدالله ؛ فقيل : إنما أعطاه لأن عبدالله كان قد أعطى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قميصه يوم بدر. وذلك أن العباس لما أسر يوم بدر - على ما تقدم - وسلب ثوبه رآه النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فأشفق عليه ، فطلب له قميصا فما وجد له قميص يقادره إلا قميص عبدالله ، لتقاربهما في طول القامة ؛ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء القميص أن يرفع اليد عنه في الدنيا ، حتى لا يلقاه في الآخرة وله عليه يد يكافئه بها ، وقيل : إنما أعطاه القميص إكراما لابنه وإسعافا له في طلبته وتطييبا لقلبه. والأول أصح ؛ خرجه البخاري عن جابر
(8/220)
ابن عبدالله قال : لما كان يوم بدر أتي بأسارى وأتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب ؛ فطلب النبي صلى الله عليه وسلم له قميصا فوجدوا قميص عبدالله بن أبي يقدر عليه ، فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه ؛ فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئا وإني لأرجو أن يسلم بفعلي هذا ألف رجل من قومي" كذا في بعض الروايات "من قومي" يريد من منافقي العرب. والصحيح أنه قال : "رجال من قومه". ووقع في مغازي ابن إسحاق وفي بعض كتب التفسير : فأسلم وتاب لهذه الفعلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف رجل من الخزرج.
السابعة : لما قال تعالى : {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً} قال علماؤنا : هذا نص في الامتناع من الصلاة على الكفار ، وليس فيه دليل على الصلاة على المؤمنين. واختلف هل يؤخذ من مفهومه وجوب الصلاة على المؤمنين على قولين. يؤخذ لأنه علل المنع من الصلاة على الكفار لكفرهم لقوله تعالى : {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} فإذا زال الكفر وجبت الصلاة. ويكون هذا نحو قوله تعالى : {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين : 15] يعني الكفار ؛ فدل على أن غير الكفار يرونه وهم المؤمنون ؛ فذلك مثله. والله أعلم. أو تؤخذ الصلاة من دليل خارج عن الآية ، وهي الأحاديث الواردة في الباب ، والإجماع. ومنشأ الخلاف القول بدليل الخطاب وتركه. روى مسلم عن جابر بن عبدالله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أخا لكم قد مات فقوموا فصلوا عليه" قال : فقمنا فصففنا صفين ؛ يعني النجاشي. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه ، فخرج بهم إلى المصلي وكبر أربع تكبيرات. وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز ترك الصلاة على جنائز المسلمين ، من أهل الكبائر كانوا أو صالحين ، وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم قولا وعملا. والحمد لله. وأتفق العلماء على ذلك إلا في الشهيد كما تقدم ؛ وإلا في أهل البدع والبغاة.
(8/221)
الثامنة : والجمهور من العلماء على أن التكبير أربع. قال ابن سيرين : كان التكبير ثلاثا فزادوا واحدة. وقالت طائفة : يكبر خمسا ؛ وروي عن ابن مسعود وزيد بن أرقم. وعن علي : ست تكبيرات. وعن ابن عباس وأنس بن مالك وجابر بن زيد : ثلاث تكبيرات والمعول عليه أربع. روى الدارقطني عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الملائكة صلت على آدم فكبرت عليه أربعا وقالوا هذه سنتكم يا بني آدم" .
التاسعة : ولا قراءة في هذه الصلاة في المشهور من مذهب مالك ، وكذلك أبو حنيفة والثوري ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء" رواه أبو داود من حديث أبي هريرة. وذهب الشافعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن مسلمة وأشهب من علمائنا وداود إلى أنه يقرأ بالفاتحة ؛ لقوله عليه السلام : "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" حملا له على عمومه. وبما خرجه البخاري عن ابن عباس وصلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال : لتعلموا أنها سنة. وخرج النسائي من حديث أبي أمامة قال : السنة في الصلاة على الجنائز أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة ، ثم يكبر ثلاثا ، والتسليم عند الآخرة. وذكر محمد بن نصر المروزي عن أبي أمامة أيضا قال : السنة في الصلاة على الجنائز أن تكبر ، ثم تقرأ بأم القرآن ، ثم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم تخلص الدعاء للميت. ولا يقرأ إلا في التكبيرة الأولى ثم يسلم. قال شيخنا أبو العباس : وهذان الحديثان صحيحان ، وهما ملحقان عند الأصوليين بالمسند. والعمل على حديث أبي أمامة أولى ؛ إذ فيه جمع بين قوله عليه السلام : "لا صلاة" وبين إخلاص الدعاء للميت. وقراءة الفاتحة فيها إنما هي استفتاح للدعاء. والله أعلم.
العاشرة : وسنة الإمام أن يقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة ، لما رواه أبو داود عن أنس وصلى على جنازة فقال له العلاء بن زياد : يا أبا حمزة ، هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنائز كصلاتك يكبر أربعا ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة ؟ قال : نعم. ورواه مسلم عن سمرة بن جندب قال : صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى على أم كعب ماتت وهي نفساء ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليها وسطها.
(8/222)
الحادية عشرة : قوله تعالى : {وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له بالتثبيت ، على ما بيناه [في التذكرة] والحمد لله.
الآية : 85 {وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}
كرره تأكيدا. وقد تقدم الكلام فيه.
الآية : 86 {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ}
انتدب المؤمنون إلى الإجابة وتعلل المنافقون. فالأمر للمؤمنين باستدامة الإيمان وللمنافقين بابتداء الإيمان. و{أَنْ} في موضع نصب ؛ أي بأن آمنوا. و{الطَّوْلِ} الغني ؛ وقد تقدم. وخصهم بالذكر لأن من لا طول له لا يحتاج إلى إذن لأنه معذور. {وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} أي العاجزين عن الخروج.
الآية : 87 - 88 - 89 {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ، لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
قوله تعالى : {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ}{الْخَوَالِفِ} جمع خالفة ؛ أي مع النساء والصبيان وأصحاب الأعذار من الرجال. وقد يقال للرجل : خالفة وخالف أيضا إذا كان غير نجيب ؛ على ما تقدم. يقال : فلان خالفة أهله إذا كان دونهم. قال النحاس :
(8/223)
وأصله من خلف اللبن يخلف إذا حمض من طول مكثه. وخلف فم الصائم إذا تغير ريحه ؛ ومنه فلان خلف سوء ؛ إلا أن فواعل جمع فاعله ولا يجمع فاعل صفة على فواعل إلا في الشعر ؛ إلا في حرفين ، وهما فارس وهالك. وقوله تعالى في وصف المجاهدين : {وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} قيل : النساء الحسان ؛ عن الحسن. دليله قوله عز وجل : {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن : 70]. ويقال : هي خيرة النساء. والأصل خيرة فخفف ؛ مثل هينة وهينة. وقيل : جمع خير. فالمعنى لهم منافع الدارين. وقد تقدم معنى الفلاح. والجنات : والبساتين. وقد تقدم أيضا.
الآية : 90 {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
قوله تعالى : {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ} قرأ الأعرج والضحاك {الْمُعَذِّرُونَ} مخففا. ورواها أبو كريب عن أبي بكر عن عاصم ، ورواها أصحاب القراءات عن ابن عباس. قال الجوهري : وكان ابن عباس يقرأ {وَجَاءَ الْمُعْذِرُونَ} مخففة ، من أعذر. ويقول : والله لهكذا أنزلت. قال النحاس : إلا أن مدارها عن الكلبي ، وهي من أعذر ؛ ومنه قد أعذر من أنذر ؛ أي قد بالغ في العذر من تقدم إليك فأنذرك. وأما {الْمُعَذِّرُونَ} بالتشديد
ففيه قولان :
أحدهما أنه يكون المحق ؛ فهو في المعنى المعتذر ، لأن له عذرا. فيكون {المعذرون} على هذه أصله المعتذرون ، ولكن التاء قلبت ذالا فأدغمت فيها وجعلت حركتها على العين ؛ كما قرئ {يَخَصَّمون} [يس : 49] بفتح الخاء. ويجوز {المعِذّرون} بكسر العين لاجتماع الساكنين. ويجوز ضمها اتباعا للميم. ذكره الجوهري والنحاس. إلا أن النحاس حكاه عن الأخفش والفراء وأبي حاتم وأبي عبيد. ويجوز أن يكون الأصل المعتذرون ، ثم أدغمت التاء في الذال ؛ ويكونون الذين لهم عذر. قال لبيد :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
(8/224)
والقول الآخر أن المعذر قد يكون غير محق ، وهو الذي يعتذر ولا عذر له. قال الجوهري : فهو المعذر على جهة المفعل ؛ لأنه الممرض والمقصر يعتذر بغير عذر. قال غيره : يقال عذر فلان في أمر كذا تعذيرا ؛ أي قصر ولم يبالغ فيه. والمعنى أنهم اعتذروا بالكذب. قال الجوهري : وكان ابن عباس يقول : لعن الله المعذرين. كأن الأمر عنده أن المعذر بالتشديد هو المظهر للعذر ، اعتلالا من غير حقيقة له في العذر. النحاس : قال أبو العباس محمد بن يزيد ولا يجوز أن يكون الأصل فيه المعتذرين ، ولا يجوز الإدغام فيقع اللبس. ذكر إسماعيل بن إسحاق أن الإدغام مجتنب على قول الخليل وسيبويه ، بعد أن كان سياق الكلام يدل على أنهم مذمومون لا عذر لهم ، قال : لأنهم جاؤوا ليؤذن لهم ولو كانوا من الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون لم يحتاجوا أن يستأذنوا. قال النحاس : وأصل المعذرة والإعذار والتعذير من شيء واحد وهو مما يصعب ويتعذر. وقول العرب : من عذيري من فلان ، معناه قد أتى أمرا عظيما يستحق أن أعاقبه عليه ولم يعلم الناس به ؛ فمن يعذرني إن عاقبته. فعلى قراءة التخفيف قال ابن عباس : هم الذين تخلفوا بعذر فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل : هم رهط عامر بن الطفيل قالوا : يا رسول الله ، لو غزونا معك أغارت أعراب طيء على حلائلنا وأولادنا ومواشينا ؛ فعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى قراءة التشديد في القول الثاني ، هم قوم من غفار اعتذروا فلم يعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لعلمه أنهم غير محقين ، والله أعلم. وقعد قوم بغير عذر أظهروه جرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم الذين أخبر الله تعالى عنهم فقال : {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} والمراد بكذبهم قولهم : إنا مؤمنون. و {لِيُؤْذَنَ} نصب بلام كي.