*3*الآية : 41 {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
قوله تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ}
فيه ست وعشرون مسألة : -
الأولى- قوله تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الغنيمة في اللغة ما يناله الرجل أو الجماعة بسعي ، ومن ذلك قول الشاعر :
وقد طوفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
وقال آخر :
ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه ... أنى توجه والمحروم محروم
والمغنم والغنيمة بمعنى ؛ يقال : غنم القوم غنما. وأعلم أن الاتفاق حاصل على أن المراد بقوله تعالى : {غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر. ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص على ما بيناه ، ولكن عرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع. وسمى الشرع الواصل من الكفار إلينا من الأموال باسمين : غنيمة وفيئا. فالشيء الذي يناله المسلمون من عدوهم بالسعي وإيجاف الخيل والركاب يسمى غنيمة. ولزم هذا الاسم هذا
(8/1)
المعنى حتى صار عرفا. والفيء مأخوذ من فاء يفيء إذا رجع ، وهو كل مال دخل على المسلمين من غير حرب ولا إيجاف. كخراج الأرضين وجزية الجماجم وخمس الغنائم. ونحو هذا قال سفيان الثوري وعطاء بن السائب. وقيل : إنهما واحد ، وفيهما الخمس ؛ قاله قتادة. وقيل : الفيء عبارة عن كل ما صار للمسلمين من الأموال بغير قهر. والمعنى متقارب.
الثانية : هذه الآية ناسخة لأول السورة ، عند الجمهور. وقد ادعى ابن عبدالبر الإجماع على أن هذه الآية نزلت بعد قوله : {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأنفال : 1] وأن أربعة أخماس الغنيمة مقسومة على الغانمين ، على ما يأتي بيانه. وأن قوله : {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} نزلت في حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر ، على ما تقدم أول السورة.
قلت : ومما يدل على صحة هذا ما ذكره إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا سفيان قال حدثني محمد بن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس قال : (لما كان يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من قتل قتيلا فله كذا ومن أسر أسيرا فله كذا" وكانوا قتلوا سبعين ، وأسروا سبعين ، فجاء أبو اليسر بن عمرو بأسيرين ، فقال : يا رسول الله إنك وعدتنا من قتل قتيلا فله كذا ، وقد جئت بأسيرين. فقام سعد فقال : يا رسول الله ، إنا لم يمنعنا زيادة في الأجر ولا جبن عن العدو ولكنا قمنا هذا المقام خشية أن يعطف المشركون ، فإنك إن تعطي هؤلاء لا يبقى لأصحابك شيء. قال : وجعل هؤلاء يقولون وهؤلاء يقولون فنزلت {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال : 1] فسلموا الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ) ثم نزلت {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية. وقد قيل : إنها محكمة غير منسوخة ، وأن الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليست مقسومة بين الغانمين ، وكذلك لمن بعده من الأئمة. كذا حكاه المازري عن كثير من أصحابنا ، رضي الله عنهم ، وأن للإمام أن يخرجها عنهم. واحتجوا بفتح مكة وقصة حنين. وكان أبو عبيد يقول : افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة ومن على أهلها فردها عليهم ولم يقسمها ولم يجعلها عليهم فيئا. ورأى بعض الناس أن هذا جائز للأئمة بعده.
(8/2)
قلت : وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} والأربعة الأخماس للإمام ، إن شاء حبسها وإن شاء قسمها بين الغانمين. وهذا ليس بشيء ، لما ذكرناه ، ولأن الله سبحانه أضاف الغنيمة للغانمين فقال : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} ثم عين الخمس لمن سمى في كتابه ، وسكت عن الأربعة الأخماس ، كما سكت عن الثلثين في قوله : {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء : 11] فكان للأب الثلثان اتفاقا. وكذا الأربعة الأخماس للغانمين إجماعا ، على ما ذكره ابن المنذر وابن عبدالبر والداودي والمازري أيضا والقاضي عياض وابن العربي. والأخبار بهذا المعنى متظاهرة ، وسيأتي بعضها. ويكون معنى قوله : {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} الآية ، ما ينفله الإمام لمن شاء لما يراه من المصلحة قبل القسمة. وقال عطاء والحسن : هي مخصوصة بما شذ من المشركين إلى المسلمين ، من عبد أو أمة أو دابة ، يقضي فيها الإمام بما أحب. وقيل : المراد بها أنفال السرايا أي غنائما ، إن شاء خمسها الإمام ، وإن شاء نفلها كلها. وقال إبراهيم النخعي في الإمام يبعث السرية فيصيبون المغنم : إن شاء الإمام نفله كله ، وإن شاء خمسه. وحكاه أبو عمر عن مكحول وعطاء. قال علي بن ثابت : سألت مكحول وعطاء عن الإمام ينفل القوم ما أصابوا ، قال : ذلك لهم. قال أبو عمر : من ذهب إلى هذا تأول قول الله عز وجل : {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال : 1] أن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم يضعها حيث شاء. ولم ير أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} .وقيل : غير هذا مما قد أتينا عليه في كتاب (القبس في شرح موطأ مالك بن أنس). ولم يقل أحد من العلماء فيما أعلم أن قوله تعالى {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} الآية ، ناسخ لقول : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} .بل قال الجمهور على ما ذكرنا : إن قوله : {مَا غَنِمْتُمْ} ناسخ ، وهم الذين لا يجوز عليهم التحريف ولا التبديل لكتاب الله تعالى. وأما قصة فتح مكة فلا حجة فيها لاختلاف العلماء في فتحها. وقد قال أبو عبيد : ولا نعلم مكة يشبهها شيء من البلدان من جهتين : إحداهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(8/3)
كان الله قد خصه من الأنفال والغنائم ما لم يجعله لغيره ، وذلك لقوله : {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأنفال : 1] الآية ، فنرى أن هذا كان خاصا له والجهة الأخرى أنه سن لمكة سننا ليست لشيء من البلاد. وأما قصة حنين فقد عوض الأنصار لما قالوا : يعطي الغنائم قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم! فقال لهم : "أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم" خرجه مسلم وغيره. وليس لغيره أن يقول هذا القول ، مع أن ذلك خاص به على ما قاله بعض علمائنا. والله أعلم.
الثالثة : لم يختلف العلماء أن قوله : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} ليس على عمومه ، وأنه يدخله الخصوص ، فمما خصصوه بإجماع أن قالوا : سلب المقتول لقاتله إذا نادى به الإمام. وكذلك الرقاب ، أعني الأسارى ، الخيرة فيها إلى الإمام بلا خلاف ، على ما يأتي بيانه. ومما خص به أيضا الأرض. والمعنى : ما غنمتم من ذهب وفضة وسائر الأمتعة والسبي. وأما الأرض فغير داخلة في عموم هذه الآية ، لما روى أبو داود عن عمر بن الخطاب أنه قال : (لولا أخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر). ومما يصحح هذا المذهب ما رواه الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "منعت العراق قفيزها ودرهمها ومنعت الشام مدها ودينارها" الحديث. قال الطحاوي : "منعت" بمعنى ستمنع ، فدل ذلك على أنها لا تكون للغانمين ، لأن ما ملكه الغانمون لا يكون فيه قفيز ولا درهم ، ولو كانت الأرض تقسم ما بقي لمن جاء بعد الغانمين شيء. والله تعالى يقول : {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر : 10] بالعطف على قوله : {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر : 8]. قال : وإنما يقسم ما ينقل من موضع إلى موضع. وقال الشافعي : كل ما حصل من الغنائم من أهل دار الحرب من شيء قل أو كثر من دار أو أرض أو متاع أو غير ذلك قسم ، إلا الرجال البالغين فإن الإمام فيهم مخير أن يمن أو يقتل أو يسبي. وسبيل ما أخذ منهم وسبي سبيل الغنيمة. واحتج بعموم الآية. قال : والأرض مغنومة لا محالة ، فوجب أن تقسم كسائر الغنائم. وقد قسم
(8/4)
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أفتتح عنوة من خيبر. قالوا : ولو جاز أن يدعى الخصوص في الأرض جاز أن يدعى في غير الأرض فيبطل حكم الآية. وأما آية "الحشر" فلا حجة فيها ، لأن ذلك إنما هو في الفيء لا في الغنيمة. وقول : {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر : 10] استئناف كلام بالدعاء لمن سبقهم بالإيمان لا لغير ذلك. قالوا : وليس يخلو فعل عمر في توقيفه الأرض من أحد وجهين : إما أن تكون غنيمة استطاب أنفس أهلها ، وطابت بذلك فوقفها. وكذلك روى جرير أن عمر استطاب أنفس أهلها. وكذلك صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبي هوازن ، لما أتوه استطاب أنفس أصحابه عما كان في أيديهم. وإما أن يكون ما وقفه عمر فيئا فلم يحتج إلى مراضاة أحد. وذهب الكوفيون إلى تخيير الإمام في ، قسمها أو إقرارها وتوظيف الخراج عليها ، وتصير ملكا لهم كأرض الصلح : قال شيخنا أبو العباس رضي الله عنه : وكأن هذا جمع بين الدليلين ووسط بين المذهبين ، وهو الذي فهمه عمر رضي الله عنه قطعا ، ولذلك قال : لولا أخر الناس ، فلم يخبر بنسخ فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولا بتخصيصه بهم ، غير أن الكوفيين زادوا على ما فعل عمر ، فإن عمر إنما وقفها على مصالح المسلمين ولم يملكها لأهل الصلح ، وهم الذين قالوا للإمام أن يملكها لأهل الصلح.
الرابعة : ذهب مالك وأبو حنيفة والثوري إلى أن السلب ليس للقاتل ، وأن حكمه حكم الغنيمة ، إلا أن يقول الأمير : من قتل قتيلا فله سلبه ، فيكون حينئذ له. وقال الليث والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد والطبري وابن المنذر : السلب للقاتل على كل حال ، قاله الإمام أو لم يقله. إلا أن الشافعي رضي الله عنه قال : إنما يكون السلب للقاتل إذا قتل قتيلا مقبلا عليه : وأما إذا قتله مدبرا عنه فلا. قال أبو العباس بن سريج من أصحاب الشافعي : ليس الحديث "من قتل قتيلا فله سلبه" على عمومه ، لإجماع العلماء على أن من قتل أسيرا أو امرأة أو شيخا أنه ليس له سلب واحد منهم. وكذلك من ذفف على جريح ، ومن قتل من قطعت يداه ورجلاه. قال : وكذلك المنهزم لا يمتنع في انهزامه ، وهو
(8/5)
كالمكتوف. قال : فعلم بذلك أن الحديث إنما جعل السلب لمن لقتله معنى زائد ، أو لمن في قتله فضيلة ، وهو القاتل في الإقبال ، لما في ذلك من المؤنة. وأما من أثخن فلا. وقال الطبري : السلب للقاتل ، مقبلا قتله أو مدبرا ، هاربا أو مبارزا إذا كان في المعركة. وهذا يرده ما ذكره عبدالرزاق ومحمد بن بكر عن ابن جريج قال سمعت نافعا مولى ابن عمر يقول : لم نزل نسمع إذا التقى المسلمون والكفار فقتل رجل من المسلمين رجلا من الكفار فإن سلبه له إلا أن يكون في معمعة القتال ، لأنه حينئذ لا يدري من قتل قتيلا. فظاهر هذا يرد قول الطبري لاشتراطه في السلب القتل في المعركة خاصة. وقال أبو ثور وابن المنذر : السلب للقاتل في معركة كان أو غير معركة ، في الإقبال والإدبار والهروب والانتهار ، على كل الوجوه ، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : "من قتل قتيلا فله سلبه" .
قلت : روى مسلم عن سلمة بن الأكوع قال : (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن فبينا نحن نتضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على جمل أحمر فأناخه ، ثم انتزع طلقا من حقبه فقيد به الجمل ، ثم تقدم يتغدى مع القوم ، وجعل ينظر ، وفينا ضعفة ورقة في الظهر ، وبعضنا مشاة ، إذ خرج يشتد ، فأتى جمله فأطلق قيده ثم أناخه وقعد عليه فأثاره فاشتد به الجمل ، فاتبعه رجل على ناقة ورقاء. قال سلمة : وخرجت اشتد فكنت عند ورك الناقة ، ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل ، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته ، فلما وضع ركبته في الأرض اخترطت سيفي فضربت رأس الرجل فندر ، ثم جئت بالجمل أقوده ، عليه رحله وسلاحه ، فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فقال : "من قتل الرجل" ؟ قالوا : ابن الأكوع. قال : "له سلبه أجمع" فهذا سلمة قتله هاربا غير مقبل ، وأعطاه سلبه. وفيه حجة لمالك من أن السلب لا يستحقه القاتل
(8/6)
إلا بإذن الإمام ، إذ لو كان واجبا له بنفس القتل لما احتاج إلى تكرير هذا القول. ومن حجته أيضا ما ذكره أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو الأحوص عن الأسود بن قيس عن بشر بن علقمة قال : بارزت رجلا يوم القادسية فقتلته وأخذت سلبه ، فأتيت سعدا فخطب سعد أصحابه ثم قال : هذا سلب بشر بن علقمة ، فهو خير من اثني عشر ألف درهم ، وإنا قد نفلناه إياه. فلو كان السلب للقاتل قضاء من النبي صلى الله عليه وسلم ما احتاج الأمر أن يضيفوا ذلك إلى أنفسهم باجتهادهم ، ولأخذه القاتل دون أمرهم. والله أعلم. وفي الصحيح أن معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء ضربا أبا جهل بسيفيهما حتى قتلاه ، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "أيكما قتله" ؟ فقال كل واحد منهما : أنا قتلته. فنظر في السيفين فقال : "كلاكما قتله" وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح ، وهذا نص على أن السلب ليس للقاتل ، إذ لو كان له لقسمه النبي صلى الله عليه وسلم بينهما. وفي الصحيح أيضا عن عوف بن مالك قال : خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ، ورافقني مددي من اليمن. وساق الحديث ، وفيه : فقال عوف : يا خالد ، أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل ؟ قال : بلى ، ولكني استكثرته. وأخرجه أبو بكر البرقاني بإسناده الذي أخرجه به مسلم ، وزاد فيه بيانا أن عوف بن مالك قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يخمس السلب ، وإن مدديا كان رفيقا لهم في غزوة مؤتة في طرف من الشام ، قال : فجعل رومي منهم يشتد على المسلمين وهو على فرس أشقر وسرج مذهب ومنطقة ملطخة وسيف محلى بذهب. قال : فيغري بهم ، قال : فتلطف له المددي حتى مر به فضرب عرقوب فرسه فوقع ، وعلاه بالسيف فقتله وأخذ سلاحه. قال : فأعطاه خالد بن الوليد وحبس منه ، قال عوف : فقلت له أعطه كله ، أليس قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "السلب للقاتل"! قال : بلى ، ولكني استكثرته. قال عوف : وكان بيني وبينه كلام ، فقلت له : لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(8/7)
قال عوف : فلما اجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عوف ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لخالد : "لم لم تعطه" ؟ قال فقال : استكثرته. قال : "فادفعه إليه" فقلت له : ألم أنجز لك ما وعدتك ؟ قال : فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : "يا خالد لا تدفعه إليه هل أنتم تاركون لي أمرائي" . فهذا يدل دلالة واضحة على أن السلب لا يستحقه القاتل بنفس القتل بل برأي الإمام ونظره. وقال أحسد بن حنبل : لا يكون السلب للقاتل إلا في المبارزة خاصة.
الخامسة : اختلف العلماء في تخميس السلب ، فقال الشافعي : لا يخمس. وقال إسحاق : إن كان السلب يسيرا فهو للقاتل ، وإن كان كثيرا خمس. وفعله عمر بن الخطاب مع البراء بن مالك حين بارز المرزبان فقتله ، فكانت قيمة منطقته وسواريه ثلاثين ألفا فخمس ذلك. أنس عن البراء بن مالك أنه قتل من المشركين مائة رجل إلا رجلا مبارزة ، وأنهم لما غزوا الزارة خرج دهقان الزارة فقال : رجل ورجل ، فبرز البراء فاختلفا بسيفيهما ثم اعتنقا فتوركه البراء فقعد على كبده ، ثم أخذ السيف فذبحه ، وأخذ سلاحه ومنطقته وأتى به عمر ، فنفله السلاح وقوم المنطقة بثلاثين ألفا فخمسها ، وقال : إنها مال. وقال الأوزاعي ومكحول : السلب مغنم وفيه الخمس. وروي نحوه عن عمر بن الخطاب. والحجة للشافعي ما رواه أبو داود عن عوف بن مالك الأشجعي وخالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في السلب للقاتل ولم يخمس السلب.
السادسة : ذهب جمهور العلماء إلى أن السلب لا يعطى للقاتل إلا أن يقيم البينة على قتله. قال أكثرهم : ويجزئ شاهد واحد ، على حديث أبي قتادة. وقيل : شاهدان أو شاهد ويمين. وقال الأوزاعي : يعطاه بمجرد دعواه ، وليست البينة : شرطا في الاستحقاق ، بل إن اتفق ذلك فهو الأولى دفعا للمنازعة. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أبا قتادة صلب مقتول من غير شهادة ولا يمين. ولا تكفي شهادة واحد ، ولا يناط بها حكم بمجردها. وبه قال الليث بن سعد.
(8/ قلت : سمعت شيخنا الحافظ المنذري الشافعي أبا محمد عبدالعظيم يقول : إنما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم السلب بشهادة الأسود بن خزاعي وعبدالله بن أنيس. وعلى هذا يندفع النزاع ويزول الإشكال ، ويطرد الحكم. وأما المالكية فيخرج على قولهم أنه لا يحتاج الإمام فيه إلى بينة ، لأنه من الإمام ابتداء عطية ، فإن شرط الشهادة كان له ، وإن لم يشترط جاز أن يعطيه من غير شهادة.
السابعة : واختلفوا في السلب ما هو ، فأما السلاح وكل ما يحتاج للقتال فلا خلاف أنه من السلب ، وفرسه إن قاتل عليه وصرع عنه. وقال أحمد في الفرس : ليس من السلب. وكذلك إن كان في هميانه وفي منطقته دنانير أو جواهر أو نحو هذا ، فلا خلاف أنه ليس من السلب. واختلفوا فيما يتزين به للحرب ، فقال الأوزاعي : ذلك كله من السلب. وقالت فرقة : ليس من السلب. وهذا مروي عن سحنون رحمه الله ، إلا المنطقة فإنها عنده من السلب. وقال ابن حبيب في الواضحة : والسواران من السلب.
الثامنة : قوله تعالى : {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} قال أبو عبيد : هذا ناسخ لقوله عز وجل في أول السورة {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال : 1] ولم يخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم بدر ، فنسخ حكمه في ترك التخميس بهذا. إلا أنه يظهر من قول علي رضي الله عنه في صحيح مسلم" كان لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفا من الخمس يومئذ" الحديث - أنه خمس ، فإنه كان هذا فقول أبي عبيد مردود. قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون الخمس الذي ذكر علي من إحدى الغزوات التي كانت بين بدر وأحد ، فقد كانت غزوة بني سليم وغزوة بني المصطلق وغزوة ذي أمر وغزوة بحران ، ولم يحفظ فيها قتال ، ولكن يمكن أن غنمت غنائم. والله أعلم.
قلت : وهذا التأويل يرده قول علي يومئذ ، وذلك إشارة إلى يوم قسم غنائم بدر ، إلا أنه يحتمل أن يكون من الخمس إن كان لم يقع في بدر تخميس ، من خمس سرية عبدالله بن جحش
(8/9)
فإنها أول غنيمة غنمت في الإسلام ، وأول خمس كان في الإسلام ، ثم نزل القرآن {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} . وهذا أولى من التأويل الأول. والله أعلم.
التاسعة : {مَا} في قوله : {مَا غَنِمْتُمْ} بمعنى الذي والهاء محذوفة ، أي الذي غنمتموه. ودخلت الفاء لأن في الكلام معنى المجازاة. و"أن" الثانية توكيد للأولى ، ويجوز كسرها ، وروي عن أبي عمرو. قال الحسن : هذا مفتاح كلام ، الدنيا والآخرة لله ، ذكره النسائي. واستفتح عز وجل الكلام في الفيء والخمس بذكر نفسه ، لأنهما أشرف الكسب ، ولم ينسب الصدقة إليه لأنها أوساخ الناس.
العاشرة : واختلف العلماء في كيفية قسم الخمس
على أقوال ستة :
الأول : قالت طائفة : يقسم الخمس على ستة ، فيجعل السدس للكعبة ، وهو الذي لله. والثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثالث لذوي القربى. والرابع لليتامى. والخامس للمساكين ، والسادس لابن السبيل. وقال بعض أصحاب هذا القول : يرد السهم الذي لله على ذوي الحاجة.
الثاني : قال أبو العالية والربيع : تقسم الغنيمة على خمسة ، فيعزل منها سهم واحد ، وتقسم الأربعة على الناس ، ثم يضرب بيده على السهم الذي عزله فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة ، ثم يقسم بقية السهم الذي عزله على خمسة ، سهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، وسهم لذوي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل.
الثالث : قال المنهال بن عمرو : سألت عبدالله بن محمد بن علي وعلي بن الحسين عن الخمس فقال : هو لنا. قلت لعلي : إن الله تعالى يقول : {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} فقال : أيتامنا ومساكيننا.
الرابع : قال الشافعي : يقسم على خمسة. ورأى أن سهم الله ورسوله واحد ، وأنه يصرف في مصالح المؤمنين ، والأربعة الأخماس على الأربعة الأصناف المذكورين في الآية.
(8/10)
الخامس : قال أبو حنيفة : يقسم على ثلاثة : اليتامى والمساكين وابن السبيل. وارتفع عنده حكم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته ، كما ارتفع حكم سهمه. قالوا : ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر ، وبناء المساجد ، وأرزاق القضاة والجند ، وروي نحو هذا عن الشافعي أيضا.
السادس : قال مالك : هو موكول إلى نظر الإمام واجتهاده ، فيأخذ منه من غير تقدير ، ويعطي منه القرابة باجتهاد ، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين. وبه قال الخلفاء الأربعة ، وبه عملوا. وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم : (ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم). فإنه لم يقسمه أخماسا ولا أثلاثا ، وإنما ذكر في الآية من ذكر على وجه التنبيه عليهم ، لأنهم من أهم من يدفع إليه. قال الزجاج محتجا لمالك : قال الله عز وجل : {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة : 215] وللرجل جائز بإجماع أن ينفق في غير هذه الأصناف إذا رأى ذلك. وذكر النسائي عن عطاء قال : خمس الله وخمس رسوله واحد ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل منه ويضعه حيث شاء ويصنع به ما شاء.
الحادية عشرة : قوله تعالى : {وَلِذِي الْقُرْبَى} ليست اللام لبيان الاستحقاق والملك ، وإنما هي لبيان المصرف والمحل. والدليل عليه ما رواه مسلم أن الفضل بن عباس وربيعة بن عبدالمطلب أتيا النبي صلى الله عليه وسلم ، فتكلم أحدهما فقال : يا رسول الله ، أنت أبر الناس ، وأوصل الناس ، وقد بلغنا النكاح فجئنا لتؤمرنا على بعض هذه الصدقات ، فنؤدي إليك كما يؤدي الناس ، ونصيب كما يصيبون. فسكت طويلا حتى أردنا أن نكلمه ، قال : وجعلت زينب تلمع إلينا من وراء الحجاب ألا تكلماه ، قال : ثم قال : "إن الصدقة لا تحل لآل محمد إنما هي أوساخ الناس ادعوا لي محمية - وكان على الخمس - ونوفل بن الحارث بن
(8/11)
عبدالمطلب" قال : فجاءاه فقال لمحمية : "أنكح هذا الغلام ابنتك" - للفضل بن عباس - فأنكحه. وقال لنوفل بن الحارث : "أنكح هذا الغلام ابنتك" يعني ربيعة بن عبدالمطلب. وقال لمحمية : "أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا" . وقال صلى الله عليه وسلم : "ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم" . وقد أعطى جميعه وبعضه ، وأعطى منه المؤلفة قلوبهم ، وليس ممن ذكرهم الله في التقسيم ، فدل على ما ذكرناه ، والموفق الإله.
الثانية عشرة : واختلف العلماء في ذوي القربى على ثلاثة أقوال : قريش كلها ، قاله بعض السلف ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صعد الصفا جعل يهتف : "يا بني فلان يا بني عبد مناف يا بني عبدالمطلب يا بني كعب يا بني مرة يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار" الحديث. وسيأتي في "الشعراء". وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور ومجاهد وقتادة وابن جريج ومسلم بن خالد : بنو هاشم وبنو عبدالمطلب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني عبدالمطلب قال : "إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد" وشبك بين أصابعه ، أخرجه النسائي والبخاري. قال البخاري : قال الليث حدثني يونس ، وزاد : ولم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل شيئا. قال ابن إسحاق : وعبد شمس وهاشم والمطلب إخوة لأم ، وأمهم عاتكة بنت مرة. وكان نوفل أخاهم لأبيهم. قال النسائي : وأسهم النبي صلى الله عليه وسلم لذوي القربى ، وهم بنو هاشم وبنو المطلب ، بينهم الغني والفقير. وقد قيل : إنه للفقير منهم دون الغني ، كاليتامى وابن السبيل - وهو أشبه القولين بالصواب عندي. والله أعلم - والصغير والكبير والذكر والأنثى سواء ، لأن الله تعالى جعل ذلك لهم ، وقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم. وليس في الحديث أنه فضل بعضهم على بعض. الثالث : بنو هاشم خاصة ، قاله مجاهد وعلي بن الحسين. وهو قول مالك والثوري والأوزاعي وغيرهم.
(8/12)