وهنا ثلاث مسائل :
الأولى : قال مالك : بلغني أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم : "كيف أهل بدر فيكم" ؟ قال : "خيارنا" فقال : "إنهم كذلك فينا". فدل هذا على أن شرف المخلوقات ليس بالذوات ، وإنما هو بالأفعال. فللملائكة أفعالها الشريفة من المواظبة على التسبيح الدائم. ولنا أفعالنا بالإخلاص بالطاعة. وتتفاضل الطاعات بتفضيل الشرع لها ، وأفضلها الجهاد ، وأفضل الجهاد يوم بدر ؛ لأن بناء الإسلام كان عليه.
الثانية : ودل خروج النبي صلى الله عليه وسلم ليلقى العير على جواز النفير للغنيمة لأنها كسب حلال. وهو يرد ما كره مالك من ذلك ؛ إذ قال : ذلك قتال على الدنيا ، وما جاء أن من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله دون من يقاتل للغنيمة ، يراد به إذا كان قصده وحده وليس للدين فيه حظ. وروى عكرمة عن ابن عباس قال : قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر : عليك بالعير ، ليس دونها شيء. فناداه العباس وهو في الأسرى : لا يصلح هذا. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "ولم" ؟ قال : لأن الله وعدك إحدى الطائفتين ، وقد أعطاك الله ما وعدك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
(7/376)
"صدقت" . وعلم ذلك العباس بحديث أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبما كان من شأن بدر ، فسمع ذلك في أثناء الحديث.
الثالثة : روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثا ، ثم قام عليهم فناداهم فقال : "يا أبا جهل بن هشام يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا" . فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، كيف يسمعون ، وأنى يجيبون وقد جيفوا ؟ قال : "والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا" . ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في القليب ، قليب بدر. {جيفوا} بفتح الجيم والياء ، ومعناه أنتنوا فصاروا جيفا. وقول عمر : {يسمعون} استبعاد على ما جرت به حكم العادة. فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يسمعون كسمع الأحياء. وفي هذا ما يدل على أن الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف ، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته ، وحيلولة بينهما ، وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الميت إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم" الحديث. أخرجه الصحيح.
قوله تعالى : {وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} الضمير في {بِهِ} عائد على الماء الذي شد دهس الوادي ، كما تقوم. وقيل : هو عائد على ربط القلوب ؛ فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب.
الآية : 12 {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}
(7/377)
قوله تعالى : {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} العامل في "إذ ، يثبت" أي يثبت به الأقدام ذلك الوقت. وقيل : العامل {لِيربط} أي وليربط إذ يوحي. وقد يكون التقدير : اذكر {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} في موضع نصب ، والمعنى : بأني معكم ، أي بالنصر والمعونة. {مَعَكُمْ} بفتح العين ظرف ، ومن أسكنها فهي عنده حرف. {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} أي بشروهم بالنصر أو القتال معهم أو الحضور معهم من غير قتال ؛ فكان الملك يسير أمام الصف في ، صورة الرجل ويقول : سيروا فإن الله ناصركم. ويظن المسلمون أنه منهم ؛ وقد تقدم في "آل عمران" أن الملائكة قاتلت ذلك اليوم. فكانوا يرون رؤوسا تندر عن الأعناق من غير ضارب يرونه. وسمع بعضهم قائلا يسمع قوله ولا يرى شخصه : أقدم حيزوم. وقيل : كان هذا التثبيت ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين نزول الملائكة مددا.
قوله تعالى : {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} تقدم في آل عمران بيانه. {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} هذا أمر للملائكة. وقيل : للمؤمنين ، أي اضربوا الأعناق ، و{فَوْقَ}زائدة ؛ قاله الأخفش والضحاك وعطية. وقد روى المسعودي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله وإنما بعثت بضرب الرقاب وشد الوثاق". وقال محمد بن يزيد : هذا خطأ ؛ لأن "فوق" تفيد معنى فلا يجوز زيادتها ، ولكن المعنى أنهم أبيح لهم ضرب الوجوه وما قرب منها. وقال ابن عباس : كل هام وجمجمة. وقيل : أي ما فوق الأعناق ، وهو الرؤوس ؛ قال عكرمة. والضرب على الرأس أبلغ ؛ لأن أدنى شيء يؤثر في الدماغ. وقد مضى شيء من هذا المعنى في "النساء" وأن {فَوْقَ}ليست بزائدة ، عند قوله : {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ}. {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} قال الزجاج : واحد البنان بنانة ، وهي هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء. والبنان مشتق من
(7/378)
قولهم : أبن الرجل بالمكان إذا أقام به. فالبنان يعتمل به ما يكون للإقامة والحياة. وقيل : المراد بالبنان هنا أطراف الأصابع من اليدين والرجلين. وهو عبارة عن الثبات في الحرب وموضع الضرب ؛ فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب القتال بخلاف سائر الأعضاء. قال عنترة :
وكان فتى الهيجاء يحمي ذمارها ... ويضرب عند الكرب كل بنان
ومما جاء أن البنان الأصابع قول عنترة أيضا :
وأن الموت طوع يدي إذا ما ... وصلت بنانها بالهندواني
وهو كثير في أشعار العرب ، البنان : الأصابع. قال ابن فارس : البنان الأصابع ، ويقال : الأطراف. وذكر بعضهم أنها سميت بنانا لأن بها صلاح الأحوال التي بها يستقر الإنسان ويبن. وقال الضحاك : البنان كل مفصل.
الآيتان : 13 - 14 {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ، ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ}
قوله تعالى : {ذَلِكَ} في موضع رفع على الابتداء ، والتقدير : ذلك الأمر ، أو الأمر ذلك. {شَاقُّوا اللَّهَ} أي أولياءه. والشقاق : أن يصير كل واحد في شق. وقد تقدم. { ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} قال الزجاج{ذَلِكُمْ} رفع بإضمار الأمر أو القصة ، أي الأمر ذلكم فذوقوه. ويجوز أن يكون في موضع نصب بـ {ذُوقُوا} كقولك : زيدا فاضربه. ومعنى الكلام التوبيخ للكافرين. {وَأَنَّ} في موضع رفع عطف على ذلكم. قال الفراء : ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى وبأن للكافرين. قال : ويجوز أن يضمر واعلموا أن. الزجاج : لو جاز إضمار واعلموا لجاز زيد منطلق
(7/379)
وعمرا جالسا ، بل كان يجوز في الابتداء زيدا منطلقا ؛ لأن المخبر معلم ، وهذا لا يقوله أحد من النحويين.
الآيتان : 15 - 16 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
فيه سبع مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {زَحْفاً} الزحف الدنو قليلا قليلا. وأصله الاندفاع على الألية ؛ ثم سمي كل ماش في الحرب إلى آخر زاحفا. والتزاحف : التداني والتقارب ؛ يقال : زحف إلى العدو زحفا. وازحف القوم ، أي مشى بعضهم إلى بعض. ومنه زحاف الشعر ، وهو أن يسقط بين الحرفين حرف فيزحف أحدهما إلى الآخر. يقول : إذا تدانيتم وتعاينتم فلا تفروا عنهم ولا تعطوهم أدباركم. حرم الله ذلك على المؤمنين حين فرض عليهم الجهاد وقتال الكفار. قال ابن عطية : والأدبار جمع دبر. والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة الفصاحة ؛ لأنها بشعة على الفار ، ذامة له.
الثانية : أمر الله عز وجل في هذه الآية ألا يولي المؤمنون أمام الكفار. وهذا الأمر مقيد بالشريطة المنصوصة في مثلي المؤمنين ؛ فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنين من المشركين فالفرض ألا يفروا أمامهم. فمن فر من اثنين فهو فار من الزحف. ومن فر من ثلاثة فليس بفار من الزحف ، ولا يتوجه عليه الوعيد. والفرار كبيرة موبقة بظاهر القرآن وإجماع الأكثر من الأئمة. وقالت فرقة منهم ابن الماجشون في الواضحة : إنه يراعى الضعف والقوة والعدة ؛ فيجوز على قولهم أن يفر مائة فارس من مائة فارس إذا علموا أن ما عند المشركين من النجدة والبسالة ضعف ما عندهم. وأما على قول الجمهور فلا يحل فرار مائة إلا
(7/380)
مما زاد على ، المائتين ؛ فمهما كان في مقابلة مسلم أكثر من اثنين فيجوز الانهزام ، والصبر أحسن. وقد وقف جيش مؤتة وهم ثلاثة آلاف في مقابلة مائتي ألف ، منهم مائة ألف من الروم ، ومائة ألف من المستعربة من لخم وجذام.
قلت : ووقع في تاريخ فتح الأندلس ، أن طارقا مولى موسى بن نصير سار في ألف وسبعمائة رجل إلى الأندلس ، وذلك في رجب سنة ثلاث وتسعين من الهجرة ؛ فالتقى وملك الأندلس لذريق وكان في سبعين ألف عنان ؛ فزحف إليه طارق وصبر له فهزم الله الطاغية لذريق ، وكان الفتح. قال ابن وهب : سمعت مالكا يسأل عن القوم يلقون العدو أو يكونون في محرس يحرسون فيأتيهم العدو وهم يسير ، أيقاتلون أو ينصرفون فيؤذنون أصحابهم ؟ قال : إن كانوا يقوون على قتالهم قاتلوهم ، وإلا انصرفوا إلى أصحابهم فآذنوهم.
الثالثة : واختلف الناس هل الفرار يوم الزحف مخصوص بيوم بدر أم عام في الزحوف كلها إلى يوم القيامة ؟ فروي عن أبي سعيد الخدري أن ذلك مخصوص بيوم بدر ، وبه قال نافع والحسن وقتادة ويزيد بن أبي حبيب والضحاك ، وبه قال أبو حنيفة. وأن ذلك خاص بأهل بدر فلم يكن لهم أن ينحازوا ، ولو انحازوا لانحازوا للمشركين ، ولم يكن في الأرض يومئذ مسلمون غيرهم ، ولا للمسلمين فئة إلا النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فأما بعد ذلك فإن بعضهم فئة لبعض. قال الكيا : وهذا فيه نظر ؛ لأنه كان بالمدينة خلق كثير من الأنصار لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج ولم يكونوا يرون أنه قتال ، وإنما ظنوا أنها العير ؛ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خف معه. ويروى عن ابن عباس وسائر العلماء أن الآية باقية إلى يوم القيامة. احتج الأولون بما ذكرنا ، وبقوله تعالى : {يَوْمَئِذٍ} فقالوا : هو إشارة إلى يوم بدر ، وأنه نسخ حكم الآية بآية الضعف. وبقي حكم الفرار من الزحف ليس بكبيرة. وقد فر الناس يوم أحد فعفا الله عنهم ، وقال الله فيهم يوم حنين {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة : 25] ولم يقع على ذلك تعنيف. وقال الجمهور من العلماء : إنما ذلك إشارة
(7/381)
إلى يوم الزحف الذي يتضمنه قوله تعالى : {إِذَا لَقِيتُمُ} . وحكم الآية باق إلى يوم القيامة بشرط الضعف الذي بينه الله تعالى في آية أخرى ، وليس في الآية نسخ. والدليل عليه أن الآية نزلت بعد القتال وانقضاء الحرب وذهاب اليوم بما فيه. وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأكثر العلماء. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "اجتنبوا السبع الموبقات - وفيه - والتولي يوم الزحف" وهذا نص في المسألة. وأما يوم أحد فإنما فر الناس من أكثر من ضعفهم ومع ذلك عنفوا. وأما يوم حنين فكذلك من فر إنما انكشف عن الكثرة ؛ على ما يأتي بيانه.
الرابعة : قال ابن القاسم : لا تجوز شهادة من فر من الزحف ، ولا يجوز لهم الفرار وإن فر إمامهم ؛ لقوله عز وجل : {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} الآية. قال : ويجوز الفرار من أكثر من ضعفهم ، وهذا ما لم يبلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفا ؛ فإن بلغ اثني عشر ألفا لم يحل لهم الفرار وإن زاد عدد المشركين على الضعف ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة" فإن أكثر أهل العلم خصصوا هذا العدد بهذا الحديث من عموم الآية.
قلت : رواه أبو بشر وأبو سلمة العاملي ، وهو الحكم بن عبدالله بن خطاف وهو متروك. قالا : حدثنا الزهري عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يا أكثم بن الجون اغز مع غير قومك يحسن خلقك وتكرم على رفقائك. يا أكثم بن الجون خير الرفقاء أربعة وخير الطلائع أربعون وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف ولن يؤتى اثنا عشر ألفا من قلة" . وروي عن مالك ما يدل على ذلك من مذهبه وهو قوله للعمري العابد إذ سأله هل لك سعة في ترك مجاهدة من غير الأحكام وبدلها ؟ فقال : إن كان معك اثنا عشر ألفا فلا سعة لك في ذلك.
(7/382)
الخامسة : فإن فر فليستغفر الله عز وجل. روى الترمذي عن بلال بن يسار بن زيد قال : حدثني أبي عن جدي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر الله له وإن كان قد فر من الزحف" . قال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
السادسة : قوله تعالى : {إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} التحرف : الزوال عن جهة الاستواء. فالمتحرف من جانب إلى جانب لمكايد الحرب غير منهزم ؛ وكذلك المتحيز إذا نوى التحيز إلى فئة من المسلمين ليستعين بهم فيرجع إلى القتال غير منهزم أيضا. روى أبو داود عن عبدالله بن عمر أنه كان في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فحاص الناس حيصة ، فكنت فيمن حاص ، قال : فلما برزنا قلنا كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب. فقلنا : ندخل المدينة فنتثبت فيها ونذهب ولا يرانا أحد. قال : فدخلنا فقلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كانت لنا توبة أقمنا ، وإن كان غير ذلك ذهبنا. قال : فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر ، فلما خرج قمنا إليه فقلنا ، نحن الفرارون ؛ فأقبل إلينا فقال : "لا بل أنتم العكارون" قال : فدنونا فقبلنا يده. فقال : "أنا فئة المسلمين" . قال ثعلب : العكارون هم العطافون. وقال غيره : يقال للرجل الذي يولي عند الحرب ثم يكر راجعا : عكر واعتكر. وروى جرير عن منصور عن إبراهيم قال : انهزم رجل من القادسية فأتى المدينة إلى عمر فقال : يا أمير المؤمنين ، هلكت! فررت من الزحف. فقال عمر : أنا فئتك. وقال محمد بن سيرين : لما قتل أبو عبيدة جاء الخبر إلى عمر فقال : لو انحاز إلي لكنت له فئة ، فأنا فئة كل مسلم. وعلى هذه الأحاديث لا يكون الفرار كبيرة ؛ لأن الفئة هنا المدينة والإمام وجماعة المسلمين حيث كانوا. وعلى القول الآخر يكون كبيرة ؛ لأن الفئة هناك الجماعة من الناس الحاضرة للحرب. هذا على قول الجمهور أن الفرار من الزحف كبيرة. قالوا : وإنما كان ذلك القول
(7/383)
من النبي صلى الله عليه وسلم وعمر على جهة الحيطة على المؤمنين ، إذ كانوا في ذلك الزمان يثبتون لأضعافهم مرارا. والله أعلم. وفي قوله : "والتولي يوم الزحف" ما يكفي.
قوله تعالى : {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} أي استحق الغضب. وأصل {بَاءَ} رجع وقد تقدم. {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} أي مقامه. وهذا لا يدل على الخلود ؛ كما تقدم في غير موضع. وقد قال صلى الله عليه وسلم : "من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم غفر له وإن كان قد فر من الزحف" .
الآيتان : 17 - 18 {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}
قوله تعالى : {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} أي يوم بدر. روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صدروا عن بدر ذكر كل واحد منهم ما فعل : قتلت كذا ، فعلت كذا ؛ فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك. فنزلت الآية إعلاما بأن الله تعالى هو المميت والمقدر لجميع الأشياء ، وأن العبد إنما يشارك بتكسبه وقصده. وهذه الآية ترد على من يقول بأن أفعال العباد خلق لهم. فقيل : المعنى فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم بسوقهم إليكم حتى أمكنكم منهم. وقيل : ولكن الله قتلهم بالملائكة الذين أمدكم بهم. {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} مثله. {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} . واختلف العلماء في هذا الرمي
على أربعة أقوال :
الأول : إن هذا الرمي إنما كان في حصب رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ؛ رواه ابن وهب عن مالك. قال مالك : ولم يبق في ذلك اليوم أحد إلا وقد أصابه ذلك. وكذلك روى عنه ابن القاسم أيضا.
(7/384)
الثاني : أن هذا كان يوم أحد حين رمى أبي بن خلف بالحربة في عنقه ؛ فكر أبي منهزما. فقال له المشركون : والله ما بك من بأس. فقال : والله لو بصق علي لقتلني. أليس قد قال : بل أنا أقتله. وكان أوعد أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتل بمكة ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بل أنا أقتلك" فمات عدو الله من ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرجعه إلى مكة ، بموضع يقال له "سرف". قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب : لما كان يوم أحد أقبل أبي مقنعا في الحديد على فرسه يقول : لا نجوت إن نجا محمد ؛ فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريه قتله. قال موسى بن عقبة قال سعيد بن المسيب : فاعترض له رجال من المؤمنين ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلوا طريقه ؛ فاستقبله مصعب بن عمير يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقتل مصعب بن عمير ، وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي بن خلف من فرجة بين سابغة البيضة والدرع ؛ فطعنه بحربته فوقع أبي عن فرسه ، ولم يخرج من طعنته دم. قال سعيد : فكسر ضلعا من أضلاعه ؛ فقال : ففي ذلك نزل {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} . وهذا ضعيف ؛ لأن الآية نزلت عقيب بدر.
الثالث : أن المراد السهم الذي رمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حصن خيبر ، فسار في الهواء حتى أصاب ابن أبي الحقيق وهو على فراشه. وهذا أيضا فاسد ، وخيبر وفتحها أبعد من أحد بكثير. والصحيح في صورة قتل ابن أبي الحقيق غير هذا.
الرابع : أنها كانت يوم بدر ؛ قال ابن إسحاق. وهو أصح ؛ لأن السورة بدرية ، وذلك أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم : "خذ قبضة من التراب" فأخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم فما من المشركين ، من أحد إلا وأصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة ؛ وقاله ابن عباس ؛ وسيأتي. قال ثعلب : المعنى {وَمَا رَمَيْتَ} الفزع والرعب في قلوبهم {إِذْ رَمَيْتَ} بالحصباء فانهزموا {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} أي أعانك وأظفرك. والعرب تقول : رمى الله لك ، أي أعانك وأظفرك وصنع لك. حكى هذا أبو عبيدة
(7/385)
في كتاب المجاز. وقال محمد بن يزيد : وما رميت بقوتك ، إذ رميت ، ولكنك بقوة الله رميت. {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً} البلاء ههنا النعمة. واللام تتعلق بمحذوف ؛ أي وليبلي المؤمنين فعل ذلك. {موَهِّن}
قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو. وقراءة أهل الكوفة {مُوهِنُ كَيْدِ الكَافِرِينَ}. وفي التشديد معنى المبالغة. وروي عن الحسن {مُوهِنُ كَيْدِ الكافِرِينَ} بالإضافة والتخفيف. والمعنى : أن الله عز وجل يلقي في قلوبهم الرعب حتى يتشتتوا ويتفرق جمعهم فيضعفوا. والكيد : المكر. وقد تقدم.
الآية : 19 {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}
قوله تعالى : {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} شرطه وجوابه. وفيه ثلاثة أقوال : يكون خطابا للكفار ؛ لأنهم استفتحوا فقالوا : اللهم أقطعنا للرحم وأظلمنا لصاحبه فانصره عليه ؛ قاله الحسن ومجاهد وغيرهما. وكان هذا القول منهم وقت خروجهم لنصرة العير. وقيل : قاله أبو جهل وقت القتال. وقال النضر بن الحارث : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. وهو ممن قتل ببدر. والاستفتاح : طلب النصر ؛ أي قد جاءكم الفتح ولكنه كان للمسلمين عليكم. أي فقد جاءكم ما بان به الأمر ، وانكشف لكم الحق. {وَإِنْ تَنْتَهُوا} أي عن الكفر {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}. {وَإِنْ تَعُودُوا} أي إلى هذا القول وقتال محمد. {نَعُدْ} إلى نصر المؤمنين. {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ} أي عن جماعتكم {شَيْئاً}. {وَلَوْ كَثُرَتْ} أي في العدد.
الثاني : يكون خطابا للمؤمنين ؛ أي إن تستنصروا فقد جاءكم النصر. وإن {تَنْتَهُوا} أي عن مثل ما فعلتموه من أخذ الغنائم والأسرى قبل الإذن ؛ {فَهُوَ خَيْرٌ}. و{وَإِنْ تَعُودُوا} أي إلى مثل ذلك نعد إلى توبيخكم. كما قال : {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ ل} [الأنفال : 68] الآية.
(7/386)
والقول الثالث : أن يكون {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} خطابا للمؤمنين ، وما بعده للكفار. أي وإن تعودوا إلى القتال نعد إلى مثل وقعة بدر. القشيري : والصحيح أنه خطاب للكفار ؛ فإنهم لما نفروا إلى نصرة العير تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر أهدى الطائفتين ، وأفضل الدينين. المهدوي : وروي أن المشركين خرجوا معهم بأستار الكعبة يستفتحون بها ، أي يستنصرون.
قلت : ولا تعارض لاحتمال أن يكونوا فعلوا الحالتين.
{وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} بكسر الألف على الاستئناف ، وبفتحها عطف على قوله : {وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} . أو على قوله : {أَنِّي مَعَكُمْ} . والمعنى : ولأن الله ؛ والتقدير لكثرتها وأن الله. أي من كان الله في نصره لم تغلبه فئة وإن كثرت.
الآية : 20 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ}
قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الخطاب للمؤمنين المصدقين. أفردهم بالخطاب دون المنافقين إجلالا لهم. جدد الله عليهم الأمر بطاعة الله والرسول ، ونهاهم عن التولي عنه. هذا قول الجمهور. وقالت فرقة : الخطاب بهذه الآية إنما للمنافقين. والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم فقط. قال ابن عطية : وهذا وإن كان محتملا على بعد فهو ضعيف جدا ؛ لأن الله تعالى وصف من خاطب في هذه الآية بالإيمان. والإيمان التصديق ، والمنافقون لا يتصفون من التصديق بشيء. وأبعد من هذا من قال : إن الخطاب لبني إسرائيل ، فإنه أجنبي من الآية.
قوله تعالى : { وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ} التولي الإعراض. وقال {عَنْهُ} ولم يقل عنهما لأن طاعة الرسول طاعته ؛ وهو كقوله تعالى : {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة : 62]. {وَأَنْتُمْ
(7/387)
تَسْمَعُونَ} ابتداء وخبر في موضع الحال. والمعنى : وأنتم تسمعون ما يتلى عليكم من الحجج والبراهين في القرآن.
الآيتان : 21 - 22 {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ، إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ}
قوله تعالى : {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا} أي كاليهود أو المنافقين أو المشركين. وهو من سماع الأذن. {وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} أي لا يتدبرون ما سمعوا ، ولا يفكرون فيه ، فهم بمنزلة من لم يسمع وأعرض عن الحق. نهى المؤمنين أن يكونوا مثلهم. فدلت الآية على أن قول المؤمن : سمعت وأطعت ، لا فائدة فيه ما لم يظهر أثر ذلك عليه بامتثال فعله. فإذا قصر في الأوامر فلم يأتها ، واعتمد النواهي فاقتحمها فأي سمع عنده وأي طاعة! وإنما يكون حينئذ بمنزلة المنافقين الذي يظهر الإيمان ، ويسر الكفر ؛ وذلك هو المراد بقوله : {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}. يعني بذلك المنافقين ، أي اليهود أو المشركين ، على مما تقدم. ثم أخبر تعالى أن الكفار شر ما دب على الأرض. وفي البخاري عن ابن عباس {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} قال : هم نفر من بني عبدالدار. والأصل أشر ، حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال. وكذا خير ؛ الأصل أخير.
الآية : 23 {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}
قوله تعالى : {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ} قيل : الحجج والبراهين ؛ إسماع تفهم. ولكن سبق علمه بشقاوتهم
أي لو أفهمهم لما آمنوا بعد علمه الأزلي بكفرهم. وقيل : المعنى لأسمعهم كلام الموتى الذين طلبوا إحياءهم ؛ لأنهم طلبوا إحياء قصي بن كلاب وغيره ليشهدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. الزجاج : لأسمعهم جواب كل ما سألوا عنه. {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} إذ سبق في علمه أنهم لا يؤمنون.
(7/388)
الآية : 24 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}
فيه ثلاث مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} هذا الخطاب للمؤمنين المصدقين بلا خلاف. والاستجابة : الإجابة. و {يُحْيِيكُمْ} أصله يحييكم ، حذفت الضمة من الياء لثقلها. ولا يجوز الإدغام. قال أبو عبيدة : معنى {اسْتَجِيبُوا} أجيبوا ؛ ولكن عرف الكلام أن يتعدى استجاب بلام ، ويتعدى أجاب دون لام. قال الله تعالى : {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف : 31]. وقد يتعدى استجاب بغير لام ؛ والشاهد له قول الشاعر :
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
تقول : أجابه وأجاب عن سؤاله. والمصدر الإجابة. والاسم الجابة ؛ بمنزلة الطاقة والطاعة. تقول : أساء سمعا فأساء جابة. هكذا يتكلم بهذا الحرف. والمجاوبة والتجاوب : التحاور. وتقول : إنه لحسن الجيبة "بالكسر" أي الجواب. {لِمَا يُحْيِيكُمْ} متعلق بقوله : {اسْتَجِيبُوا}. المعنى : استجيبوا لما يحييكم إذا دعاكم. وقيل : اللام بمعنى إلى ، أي إلى ما يحييكم ، أي يحيي دينكم ويعلمكم. وقيل : أي إلى ما يحيي به قلوبكم فتوحدوه ، وهذا إحياء مستعار ؛ لأنه من موت الكفر والجهل. وقال مجاهد والجمهور : المعنى استجيبوا للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواهي ؛ ففيه الحياة الأبدية ، والنعمة السرمدية ، وقيل : المراد بقوله {لِمَا يُحْيِيكُمْ} الجهاد ، فإنه سبب الحياة في الظاهر ، لأن العدو إذا لم
(7/389)
يُغز غزا ؛ وفي غزوه الموت ، والموت في الجهاد الحياة الأبدية ؛ قال الله عز وجل : {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران : 169] والصحيح العموم كما قال الجمهور.
الثانية : روى البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه ، ثم أتيته فقلت : يا رسول الله ، إني كنت أصلي. فقال : "ألم يقل الله عز وجل {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} وذكر الحديث. وقد تقدم في الفاتحة. وقال الشافعي رحمه الله : هذا دليل على أن الفعل الفرض أو القول الفرض إذا أتي به في الصلاة لا تبطل ؛ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإجابة وإن كان في الصلاة.
قلت : وفيه حجة لقول الأوزاعي : لو أن رجلا يصلي فأبصر غلاما يريد أن يسقط في ، بئر فصاح به وانصرف إليه وانتهره لم يكن بذلك بأس. والله أعلم.
الثالثة : قوله تعالى : {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} قيل : إنه يقتضي النص منه على خلقه تعالى الكفر والإيمان فيحول بين المرء الكافر وبين الإيمان الذي أمره به ، فلا يكتسبه إذا لم يقدره عليه بل أقدره على ضده وهو الكفر. وهكذا المؤمن يحول بينه وبين الكفر. فبان بهذا النص أنه تعالى خالق لجميع اكتساب العباد خيرها وشرها. وهذا معنى قوله عليه السلام : "لا ، ومقلب القلوب" . وكان فعل الله تعالى ذلك عدلا فيمن أضله وخذله ؛ إذ لم يمنعهم حقا وجب عليه فتزول صفة العدل ، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم لا ما وجب لهم. قال السدي : يحول بين المرء وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن إلا بإذنه ، ولا يكفر أيضا إلا بإذنه ؛ أي بمشيئته. والقلب موضع الفكر. وقد تقدم في "البقرة" بيانه. وهو بيد الله ، متى شاء حال بين العبد وبينه بمرض أو آفة كيلا يعقل. أي بادروا إلى الاستجابة قبل ألا تتمكنوا منها بزوال العقل. وقال مجاهد : المعنى يحول بين المرء
(7/390)
وعقله حتى لا يدري ما يصنع. وفي التنزيل : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق : 37] أي عقل. وقيل : يحول بينه وبينه بالموت ، فلا يمكنه استدراك ما فات. وقيل : خاف المسلمون يوم بدر كثرة العدو فأعلمهم الله أنه يحول بين المرء وقلبه بأن يبدلهم بعد الخوف أمنا ، ويبدل عدوهم من الأمن خوفا. وقيل : المعنى يقلب الأمور من حال إلى حال ؛ وهذا جامع. واختيار الطبري أن يكون ذلك إخبارا من الله عز وجل بأنه أملك لقلوب العباد منهم ، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء ؛ حتى لا يدرك الإنسان شيئا إلا بمشيئة الله عز وجل. {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} عطف. قال الفراء : ولو استأنفت فكسرت ، {وَأَنَّهُ} كان صوابا.
الآية : 25 {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
فيه مسألتان : -
الأولى : قال ابن عباس : أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب. وكذلك تأول فيها الزبير بن العوام فإنه قال يوم الجمل ، وكان سنة ست وثلاثين : ما علمت أنا أردنا بهذه الآية إلا اليوم ، وما كنت أظنها إلا فيمن خوطب ذلك الوقت. وكذلك تأول الحسن البصري والسدي وغيرهما. قال السدي : نزلت الآية في أهل بدر خاصة ؛ فأصابتهم الفتنة يوم الجمل فاقتتلوا. وقال ابن عباس رضي الله عنه : نزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : وقال : أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر فيما بينهم فيعمهم الله بالعذاب. وعن حذيفة بن اليمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يكون بين ناس من أصحابي فتنة يغفرها الله لهم بصحبتهم إياي يستن بهم فيها ناس بعدهم يدخلهم الله بها الناس" .
قلت : وهذه التأويلات هي التي تعضدها الأحاديث الصحيحة ؛ ففي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له : يا رسول الله ، أنهلك وفينا
(7/391)
الصالحون ؟ قال : "نعم إذا كثر الخبث" . وفي صحيح الترمذي : "إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده" وقد تقدمت هذه الأحاديث. وفي صحيح البخاري والترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا" . ففي هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة. وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال علماؤنا : فالفتنة إذا عملت هلك الكل. وذلك عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم التغيير ، وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها. وهكذا كان الحكم فيمن كان قبلنا من الأمم ؛ كما في قصة السبت حين هجروا العاصين وقالوا لا نساكنكم. وبهذا قال السلف رضي الله عنهم. روى ابن وهب عن مالك أنه قال : تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارا ولا يستقر فيها. واحتج بصنيع أبي الدرداء في خروجه عن أرض معاوية حين أعلن بالربا ، فأجاز بيع سقاية الذهب بأكثر من وزنها. خرجه الصحيح. وروى البخاري عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا أنزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم" . فهذا يدل على أن الهلاك العام منه ما يكون طهرة للمؤمنين ومنه ما يكون نقمة للفاسقين. وروى مسلم عن عبدالله بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت : عبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه ، فقلت : يا رسول الله ، صنعت شيئا في منامك لم تكن تفعله ؟ فقال : "العجب ، إن ناسا من أمتي يؤمون هذا البيت برجل من قريش قد لجأ بالبيت حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم" . فقلنا : يا رسول الله ، إن الطريق
(7/392)
قد يجمع الناس. قال : "نعم ، فيهم المستبصر والمحبور وابن السبيل يهلكون مهلكا واحدا ويصدرون مصادر شتى يبعثهم الله تعالى على نياتهم" . فإن قيل : فقد قال الله تعالى {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام : 164]. {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر : 38]. {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة : 286]. وهذا يوجب ألا يؤخذ أحد بذنب أحد ، وإنما تتعلق العقوبة بصاحب الذنب. فالجواب أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره ؛ فإذا سكت عليه فكلهم عاص. هذا بفعله وهذا برضاه. وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضي بمنزلة العامل ؛ فانتظم في العقوبة ؛ قال ابن العربي. وهو مضمون الأحاديث كما ذكرنا. ومقصود الآية : واتقوا فتنة تتعدى الظالم ، فتصيب الصالح والطالح.
الثانية : واختلف النحاة في دخول النون في {لا تُصِيبَنَّ}. قال الفراء : هو بمنزلة قولك : انزل عن الدابة لا تطرحنك ؛ فهو جواب الأمر بلفظ النهي ؛ أي إن تنزل عنها لا تطرحنك. ومثله قوله تعالى : {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ} [النمل : 18]. أي إن تدخلوا لا يحطمنكم ؛ فدخلت النون لما فيه من معنى الجزاء. وقيل : لأنه خرج مخرج القسم ، والنون لا تدخل إلا على فعل النهي أو جواب القسم. وقال أبو العباس المبرد : إنه نهي بعد أمر ، والمعنى النهي للظالمين ؛ أي لا تقربن الظلم. وحكى سيبويه : لا أرينك ههنا ؛ أي لا تكن ههنا ؛ فإنه من كان ههنا رأيته. وقال الجرجاني : المعنى اتقوا فتنة تصيب الذين ظلموا خاصة. فقوله {لا تُصِيبَنَّ} نهي في موضع وصف النكرة ؛ وتأويله الإخبار بإصابتها الذين ظلموا. وقرأ علي وزيد بن ثابت وأبي وابن مسعود {لتصيبن} بلا ألف. قال المهدوي : من قرأ {لتصيبن} جاز أن يكون مقصورا من {لا تصيبن} حذفت الألف كما حذفت من {ما} وهي أخت {لا} في نحو أم والله لأفعلن ، وشبهه. ويجوز أن تكون مخالفة لقراءة الجماعة ؛ فيكون المعنى أنها تصيب الظالم خاصة.
(7/393)