الآيات : 172 - 174 {ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ، وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
فيه ست مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} أي واذكر لهم مع ما سبق من تذكير المواثيق في كتابهم ما أخذت من المواثيق من العباد يوم الذر. وهذه آية مشكلة ، وقد تكلم العلماء في تأويلها وأحكامها ، فنذكر ما ذكروه من ذلك حسب ما وقفنا عليه فقال قوم : معنى الآية أن الله تعالى أخرج من ظهور بني آدم بعضهم من بعض {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} دلهم بخلقه على توحيده ؛ لأن كل بالغ يعلم ضرورة أن له ربا واحدا. {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} أي قال. فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم ، والإقرار منهم ؛ كما قال تعالى في السماوات والأرض : {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت : 11]. ذهب إلى هذا القفال وأطنب. وقيل : إنه سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد ، وإنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها.
قلت : وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذين القولين ، وأنه تعالى أخرج الأشباح فيها الأرواح من ظهر آدم عليه السلام. وروى مالك في موطئه أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه سئل عن هذه الآية {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} فقال عمر رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت
(7/314)
هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون" . فقال رجل : ففيم العمل ؟ قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله النار" . قال أبو عمر : هذا حديث منقطع الإسناد ؛ لأن مسلم بن يسار لم يلق عمر. وقال فيه يحيى بن معين : مسلم بن يسار لا يعرف ، بينه وبين عمر نعيم بن ربيعة ، ذكره النسائي ، ونعيم غير معروف بحمل العلم. لكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة كثيرة من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وعبدالله بن مسعود وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين وغيرهم. روى الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل رجل منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال يا رب من هؤلاء قال هؤلاء ذريتك فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه فقال أي رب من هذا ؟ فقال هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود فقال رب كم جعلت عمره قال ستين سنة قال أي رب زده من عمري أربعين سنة فلما انقضى عمر آدم عليه السلام جاءه ملك الموت فقال أو لم يبق من عمري أربعون سنة قال أو لم تعطها ابنك داود قال فجحد آدم فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته" . في غير الترمذي : فحينئذ أمر بالكتاب والشهود. في رواية : فرأى فيهم الضعف والغني والفقير والذليل والمبتلى والصحيح. فقال له آدم : يا رب ، ما هذا ؟ ألا سويت بينهم! قال : أردت أن أشكر. وروى عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "أخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس" . وجعل الله لهم عقولا كنملة سليمان ، وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره. فأقروا بذلك والتزموه ، وأعلمهم
(7/315)
بأنه سيبعث إليهم الرسل ؛ فشهد بعضهم على بعض. قال أبي بن كعب : وأشهد عليهم السماوات السبع ، فليس من أحد يولد إلى يوم القيامة إلا وقد أخذ عليه العهد.
واختلف في الموضع الذي أخذ فيه الميثاق حين أخرجوا على أربعة أقوال ؛ فقال ابن عباس : ببطن نعمان ، واد إلى جنب عرفة. وروي عنه أن ذلك برهبا - أرض بالهند - الذي هبط فيه آدم عليه السلام. وقال يحيى بن سلام قال ابن عباس في هذه الآية : أهبط الله آدم بالهند ، ثم مسح على ظهره فأخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة ، ثم قال : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} قال يحيى قال الحسن : ثم أعادهم في صلب آدم عليه السلام. وقال الكلبي : بين مكة والطائف. وقال السدي : في السماء الدنيا حين أهبط من الجنة إليها مسح على ظهره فأخرج من صفحة ظهره اليمنى ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ ، فقال لهم ادخلوا الجنة برحمتي. وأخرج من صفحة ظهره اليسرى ذرية سوداء وقال لهم ادخلوا النار ولا أبالي. قال ابن جريج : خرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء ، وكل نفس مخلوقة للنار سوداء.
الثانية : قال ابن العربي رحمه الله : "فإن قيل فكيف يجوز أن يعذب الخلق وهم لم يذنبوا ، أو يعاقبهم على ما أراده منهم وكتبه عليهم وساقهم إليه ، قلنا : ومن أين يمتنع ذلك ، أعقلا أم شرعا ؟ فإن قيل : لأن الرحيم الحكيم منا لا يجوز أن يفعل ذلك. قلنا : لأن فوقه آمرا يأمره وناهيا ينهاه ، وربنا تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ولا يجوز أن يقاس الخلق بالخالق ، ولا تحمل أفعال العباد على أفعال الإله ، وبالحقيقة الأفعال كلها لله جل جلاله ، والخلق بأجمعهم له ، صرفهم كيف شاء ، وحكم بينهم بما أراد ، وهذا الذي يجده الآدمي إنما تبعث عليه رقة الجبلة وشفقة الجنسية وحب الثناء والمدح ؛ لما يتوقع في ذلك من الانتفاع ، والباري تعالى متقدس عن ذلك كله ، فلا يجوز أن يعتبر به".
الثالثة : واختلف في هذه الآية ، هل هي خاصة أو عامة. فقيل : الآية خاصة ؛ لأنه تعالى قال : {مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} فخرج من هذا الحديث من كان من ولد آدم لصلبه. وقال جل وعز : {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} فخرج منها كل من لم يكن له آباء مشركون.
(7/316)
وقيل : هي مخصوصة فيمن أخذ عليه العهد على ألسنة الأنبياء. وقيل : بل هي عامة لجميع الناس ؛ لأن كل أحد يعلم أنه كان طفلا فغذي وربي ، وأن له مدبرا وخالقا. فهذا معنى {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}. ومعنى {قَالُوا بَلَى} أي إن ذلك واجب عليهم. فلما اعترف الخلق لله سبحانه بأنه الرب ثم ذهلوا عنه ذكرهم بأنبيائه وختم الذكر بأفضل أصفيائه لتقوم حجته عليهم فقال له : {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية : 22]. ثم مكنه من الصيطرة ، وأتاه السلطنة ، ومكن له دينه في الأرض. قال الطرطوشي : إن هذا العهد يلزم البشر وإن كانوا لا يذكرونه في هذه الحياة ، كما يلزم الطلاق من شهد عليه به وقد نسيه".
الرابعة : وقد استدل بهذه الآية من قال : إن من مات صغيرا دخل الجنة لإقراره في ، الميثاق الأول. ومن بلغ العقل لم يغنه الميثاق الأول. وهذا القائل يقول : أطفال المشركين في الجنة ، وهو الصحيح في الباب. وهذه المسألة اختلف فيها لاختلاف الآثار ، والصحيح ما ذكرناه. وسيأتي الكلام في هذا في "الروم" إن شاء الله. وقد أتينا عليها في كتاب "التذكرة" والحمد لله.
الخامسة : قوله تعالى : {مِنْ ظُهُورِهِمْ} بدل اشتمال من قوله {مِنْ بَنِي آدَمَ} . وألفاظ الآية تقتضي أن الأخذ إنما كان من بني آدم ، وليس لآدم في الآية ذكر بحسب اللفظ. ووجه النظم على هذا : وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم ذريتهم. وإنما لم يذكر ظهر آدم لأن المعلوم أنهم كلهم بنوه. وأنهم أخرجوا يوم الميثاق من ظهره. فاستغنى عن ذكره لقوله : {مِنْ بَنِي آدَمَ}. {ذُرِّيَّتَهُمْ} قرأ الكوفيون وابن كثير بالتوحيد وفتح التاء ، وهي تقع للواحد والجمع ؛ قال الله تعالى : {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران : 38] فهذا للواحد ؛ لأنه إنما سأل هبة ولد فبشر بيحيى. وأجمع القراء على التوحيد في قوله : {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} [مريم : 58] ولا شيء أكثر من ذرية آدم. وقال : {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} فهذا للجمع. وقرأ الباقون
(7/317)
{ذُرِّيَّاتِهِمْ} بالجمع ، لأن الذرية لما كانت تقع للواحد أتى بلفظ لا يقع للواحد فجمع لتخلص الكلمة إلى معناها المقصود إليه لا يشركها فيه شيء وهو الجمع ؛ لأن ظهور بني آدم استخرج منها ذريات كثيرة متناسبة ، أعقاب بعد أعقاب ، لا يعلم عددهم إلا الله ؛ فجمع لهذا المعنى.
السادسة : قوله تعالى : {بَلَى} تقدم القول فيها في "البقرة". {أَنْ يَقُولُوا} {أَوْ يَقُولُوا} قرأ أبو عمرو بالياء فيهما. ردهما على لفظ الغيبة المتكرر قبله ، وهو قوله : {مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}. وقوله : {قَالُوا بَلَى} أيضا لفظ غيبة. وكذا {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} {وَلَعَلَّهُمْ} فحمله على ما قبله وما بعده من لفظ الغيبة. وقرأ الباقون بالتاء فيهما ؛ ردوه على لفظ الخطاب المتقدم في قوله : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} . ويكون {شَهِدْنَا} من قول الملائكة. لما قالوا {بَلَى} قالت الملائكة : {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا} {أَوْ تَقُولُوا} أي لئلا تقولوا. وقيل : معنى ذلك أنهم لما قالوا بلى ، فأقروا له بالربوبية ، قال الله تعالى للملائكة : اشهدوا قالوا شهدنا بإقراركم لئلا تقولوا أو تقولوا. وهذا قول مجاهد والضحاك والسدي. وقال ابن عباس وأبي بن كعب : قوله {شَهِدْنَا} هو من قول بني آدم ، والمعنى : شهدنا أنك ربنا وإلهنا ، وقال ابن عباس : أشهد بعضهم على بعض ؛ فالمعنى على هذا قالوا بلى شهد بعضنا على بعض ؛ فإذا كان ذلك من قول الملائكة فيوقف على {بَلَى} ولا يحسن الوقف عليه إذا كان من قول بني آدم ؛ لأن {أَنْ} متعلقة بما قبل بلى ، من قوله : {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} لئلا يقولوا. وقد روى مجاهد عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم كما يؤخذ بالمشط من الرأس فقال لهم ألست بربكم قالوا بلى قالت الملائكة شهدنا أن تقولوا". أي شهدنا عليكم بالإقرار بالربوبية لئلا تقولوا. فهذا يدل على التاء. قال مكي : وهو الاختيار لصحة معناه ، ولأن الجماعة عليه. وقد قيل : إن قوله {شَهِدْنَا}من قول الله تعالى والملائكة. والمعنى : فشهدنا على إقراركم ؛ قاله أبو مالك ، وروي عن السدي أيضا.
(7/318)
{وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} أي اقتدينا بهم. {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} بمعنى : لست تفعل هذا. ولا عذر للمقلد في التوحيد.
الآية : 175 {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ}
ذكر أهل الكتاب قصة عرفوها في التوراة. واختلف في تعيين الذي أوتي الآيات. فقال ابن مسعود وابن عباس : هو بلعام بن باعوراء ، ويقال ناعم ، من بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام ، وكان بحيث إذا نظر رأى العرش. وهو المعني بقوله {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} ولم يقل آية ، وكان في مجلسه اثنتا عشرة ألف محبرة للمتعلمين الذين يكتبون عنه. ثم صار بحيث أنه كان أول من صنف كتابا في أن "ليس للعالم صانع". قال مالك بن دينار : بعث بلعام بن باعوراء إلى ملك مدين ليدعوه إلى الإيمان ؛ فأعطاه وأقطعه فاتبع دينه وترك دين موسى ؛ ففيه نزلت هذه الآيات. روى المعتمر بن سليمان عن أبيه قال : كان بلعام قد أوتي النبوة ، وكان مجاب الدعوة ، فلما أقبل موسى في بني إسرائيل يريد قتال الجبارين ، سأل الجبارون بلعام بن باعوراء أن يدعو على موسى فقام ليدعو فتحول لسانه بالدعاء على أصحابه. فقيل له في ذلك ؛ لا أقدر على أكثر مما تسمعون ؛ واندلع لسانه على صدره. فقال : قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة ، فلم يبق إلا المكر والخديعة والحيلة ، وسأمكر لكم ، فإني أرى أن تخرجوا إليهم فتياتكم فإن الله يبغض الزنى ، فإن وقعوا فيه هلكوا ؛ ففعلوا فوقع بنو إسرائيل في الزنى ، فأرسل الله عليهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفا. وقد ذكر هذا الخبر بكماله الثعلبي وغيره. وروي أن بلعام بن باعوراء دعا ألا يدخل موسى مدينة الجبارين ، فاستجيب له وبقي في التيه. فقال موسى : يا رب ، بأي ذنب بقينا في التيه. فقال : بدعاء بلعام. قال : فكما سمعت دعاءه علي فاسمع دعائي عليه. فدعا موسى أن ينزع الله عنه الاسم الأعظم ؛
(7/319)
فسلخه الله ما كان عليه ، وقال أبو حامد في آخر كتاب منهاج العارفين له : وسمعت بعض العارفين يقول إن بعض الأنبياء سأل الله تعالى عن أمر بلعام وطرده بعد تلك الآيات والكرامات ، فقال الله تعالى : لم يشكرني يوما من الأيام على ما أعطيته ، ولو شكرني على ذلك مرة لما سلبته. وقال عكرمة : كان بلعام نبيا وأوتي كتابا. وقال مجاهد : إنه أوتي النبوة ؛ فرشاه قومه على أن يسكت ففعل وتركهم على ما هم عليه. قال الماوردي : وهذا غير صحيح ؛ لأن الله تعالى لا يصطفي لنبوته إلا من علم أنه لا يخرج عن طاعته إلى معصيته. وقال عبدالله بن عمرو بن العاص وزيد بن أسلم : نزلت في أمية بن أبي الصلت الثقفي ، وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولا في ذلك الوقت ، وتمنى أن يكون هو ذلك الرسول ، فلما أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به. وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : "آمن شعره وكفر قلبه" .
وقال سعيد بن المسيب : نزلت في أبي عامر بن صيفي ، وكان يلبس المسوح في الجاهلية ؛ فكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم. وذلك أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فقال : يا محمد ، ما هذا الذي جئت به ؟ قال : "جئت بالحنيفية دين إبراهيم" . قال : فإني عليها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لست عليها لأنك أدخلت فيها ما ليس منها" . فقال أبو عامر : أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "نعم أمات الله الكاذب منا كذلك" وإنما قال هذا يعرض برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث خرج من مكة. فخرج أبو عامر إلى الشأم ومر إلى قيصر وكتب إلى المنافقين : استعدوا فإني آتيكم من عند قيصر بجند لنخرج محمدا من المدينة ؛ فمات بالشام وحيدا. وفيه نزل : "وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل} [التوبة : 107] وسيأتي في براءة. وقال ابن عباس في رواية : نزلت في رجل كان له ثلاث دعوات يستجاب له فيها ، وكانت له امرأة يقال لها "البسوس" فكان له منها ولد ؛ فقالت : اجعل لي منها دعوة واحدة. فقال : لك واحدة ، فما تأمرين ؟ قالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة
(7/320)
في بني إسرائيل. فلما علمت أنه ليس فيهم مثلها رغبت عنه ؛ فدعا الله عليها أن يجعلها كلبة نباحة. فذهب فيها دعوتان ؛ فجاء بنوها وقالوا : لا صبر لنا عن هذا ، وقد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها ، فادع الله أن يردها كما كانت ؛ فدعا فعادت إلى ما كانت ، وذهبت الدعوات فيها. والقول الأول أشهر وعليه الأكثر. قال عبادة بن الصامت : نزلت في قريش ، آتاهم الله آياته التي أنزلها الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم فانسلخوا منها ولم يقبلوها. قال ابن عباس : كان بلعام من مدينة الجبارين. وقيل : كان من اليمن. {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} أي من معرفة الله تعالى ، أي نزع منه العلم الذي كان يعلمه. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : "العلم علمان علم في القلب فذلك العلم النافع وعلم على اللسان فذلك حجة الله تعالى على ابن آدم". فهذا مثل علم بلعام وأشباهه ، نعوذ بالله منه ؛ ونسأل التوفيق والممات على التحقيق. والانسلاخ : الخروج ؛ يقال : انسلخت الحية من جلدها أي خرجت منه. وقيل : هذا من المقلوب ، أي انسلخت الآيات منه. {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} أي لحق به ؛ يقال : أتبعت القوم أي لحقتهم. وقيل : نزلت في اليهود والنصارى ، انتظروا خروج محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به.
الآية : 176 {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}
الآية : 177 {سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ}
قوله تعالى : {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} يريد بلعام. أي لو شئنا لأمتناه قبل أن يعصي فرفعناه إلى الجنة. {بِهَا} أي بالعمل بها. {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} أي ركن إليها ؛ عن
(7/321)
ابن جبير والسدي. مجاهد : سكن إليها ؛ أي سكن إلى لذاتها. وأصل الإخلاد اللزوم. يقال : أخلد فلان بالمكان إذا أقام به ولزمه. قال زهير :
لمن الديار غشيتها بالغرقد ... كالوحي في حجر المسيل المخلد
يعني المقيم ؛ فكأن المعنى لزم لذات الأرض فعبر عنها بالأرض ، لأن متاع الدنيا على وجه الأرض. {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} أي ما زين له الشيطان. وقيل : كان هواه مع الكفار. وقيل : اتبع رضا زوجته ، وكانت رغبت في أموال حتى حملته على الدعاء على موسى. {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} ابتداء وخبر. {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} شرط وجوابه. وهو في موضع الحال ، أي فمثله كمثل الكلب لاهثا. والمعنى : أنه على شيء واحد لا يرعوي عن المعصية ؛ كمثل الكلب الذي هذه حالته. فالمعنى : أنه لاهث على كل حال ، طردته أو لم تطرده. قال ابن جريج : الكلب منقطع الفؤاد ، لا فؤاد له ، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ؛ كذلك الذي يترك الهدى لا فؤاد له ، وإنما فؤاده منقطع. قال القتيبي : كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش ، إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة وحال المرض وحال الصحة وحال الري وحال العطش. فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته فقال : إن وعظته ضل وإن تركته ضل ؛ فهو كالكلب إن تركته لهث وإن طردته لهث ؛ كقوله تعالى : {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف : 193]. قال الجوهري : لهث الكلب "بالفتح" يلهث لهثا ولهاثا "بالضم" إذا أخرج لسانه من التعب أو العطش ؛ وكذلك الرجل إذا أعيا.
وقوله تعالى {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} لأنك إذا حملت على الكلب نبح وولى هاربا ، وإذا تركته شد عليك ونبح ؛ فيتعب نفسه مقبلا عليك ومدبرا عنك فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان. قال الترمذي الحكيم في نوادر الأصول :
(7/322)
إنما شبهه بالكلب من بين السباع لأن الكلب ميت الفؤاد ، وإنما لهاثه لموت فؤاده. وسائر السباع ليست كذلك فلذلك لا يلهثن. وإنما صار الكلب كذلك لأنه لما نزل آدم صلى الله عليه وسلم إلى الأرض شمت به العدو ، فذهب إلى السباع فأشلاهم على آدم ، فكان الكلب من أشدهم طلبا. فنزل جبريل بالعصا التي صرفت إلى موسى بمدين وجعلها آية له إلى فرعون وملئه ، وجعل فيها سلطانا عظيما وكانت من آس الجنة ؛ فأعطاها آدم صلى الله عليه وسلم يومئذ ليطرد بها السباع عن نفسه ، وأمره فيما روي أن يدنو من الكلب ويضع يده على رأسه ، فمن ذلك ألفه الكلب ومات الفؤاد منه لسلطان العصا ، وألف به وبولده إلى يومنا هذا ، لوضع يده على رأسه ، وصار حارسا من حراس ولده. وإذا أدب وعلم الاصطياد تأدب وقبل التعليم ؛ وذلك قوله : {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة : 4]. السدي : كان بلعام بعد ذلك يلهث كما يلهث الكلب. وهذا المثل في قول كثير من أهل العلم بالتأويل عام في كل من أوتي القرآن فلم يعمل به. وقيل : هو في كل منافق. والأول أصح. قال مجاهد في قوله تعالى : {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} أي إن تحمل عليه بدابتك أو برجلك يلهث أو تتركه يلهث. وكذلك من يقرأ الكتاب ولا يعمل بما فيه. وقال غيره : هذا شر تمثيل ؛ لأنه مثله في أنه قد غلب عليه هواه حتى صار لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا بكلب لاهث أبدا ، حمل عليه أو لم يحمل عليه ؛ فهو لا يملك لنفسه ترك اللهثان. وقيل : من أخلاق الكلب الوقوع بمن لم يخفه على جهة الابتداء بالجفاء ، ثم تهدأ طائشته بنيل كل عوض خسيس. ضربه الله مثلا للذي قبل الرشوة في الدين حتى انسلخ من آيات ربه. فدلت الآية لمن تدبرها على ألا يغتر أحد بعمله ولا بعلمه ؛ إذ لا يدري بما يختم له. ودلت على منع أخذ الرشوة لإبطال حق أو تغييره. وقد مضى بيانه في "المائدة". ودلت أيضا على منع التقليد لعالم إلا بحجة يبينها ؛ لأن الله تعالى أخبر أنه أعطى هذا آياته فانسلخ منها فوجب أن يخاف مثل هذا على غيره وألا يقبل منه إلا بحجة.
(7/323)
قوله تعالى : {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي هو مثل جميع الكفار.
الآية : 177 {سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ}
قوله تعالى : {سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ} يقال : ساء الشيء قبح ، فهو لازم ، وساء يسوء مساءة ، فهو متعد ، أي قبح مثلهم. وتقديره : ساء مثلا مثل القوم ؛ فحذف المضاف ، ونصب {مَثَلاً} على التمييز. قال الأخفش : فجعل المثل القوم مجازا. والقوم مرفوع بالابتداء أو على إضمار مبتدأ. التقدير : ساء المثل مثلا هو مثل القوم. وقدره أبو علي : ساء مثلا مثل القوم. وقرأ عاصم الجحدي والأعمش {ساء مثل القوم}رفع مثلا بساء.
الآية : 178 {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
تقدم معناه في غير موضع. وهذه الآية ترد على القدرية كما سبق ، وترد على من قال إن الله تعالى هدى جميع المكلفين ولا يجوز أن يضل أحدا.
الآية : 179 {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}
أخبر تعالى أنه خلق للنار أهلا بعدله. ثم وصفهم فقال {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} بمنزلة من لا يفقه ؛ لأنهم لا ينتفعون بها ، ولا يعقلون ثوابا ولا يخافون عقابا. و {أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا} الهدى. و {آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} المواعظ. وليس الغرض نفي الإدراكات عن حواسهم جملة كما بيناه في "البقرة". {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} لأنهم لا يهتدون إلى ثواب ، فهم كالأنعام ؛ أي همتهم الأكل والشرب ، وهم أضل لأن الأنعام تبصر منافعها
(7/324)
ومضارها وتتبع مالكها ، وهم بخلاف ذلك. وقال عطاء : الأنعام تعرف الله ، والكافر لا يعرفه. وقيل : الأنعام مطيعة لله تعالى ، والكافر غير مطيع. و {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} أي تركوا التدبر وأعرضوا عن الجنة والنار.
الآية : 180 {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
فيه ست مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} أمر بإخلاص العبادة لله ، ومجانبة المشركين والملحدين. قال مقاتل وغيره من المفسرين : نزلت الآية في رجل من المسلمين ، كان يقول في صلاته : يا رحمن يا رحيم. فقال رجل من مشركي مكة : أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا ، فما بال هذا يدعو ربين اثنين ؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى : {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} .
الثانية : جاء في كتاب الترمذي وسنن ابن ماجة وغيرهما حديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نص فيه أن لله تسعة وتسعين اسما ؛ في أحدهما ما ليس في الآخر. وقد بينا ذلك في "الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى". قال ابن عطية - وذكر حديث الترمذي - وذلك الحديث ليس بالمتواتر ، وإن كان قد قال فيه أبو عيسى : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح ، وهو ثقة عند أهل الحديث. وإنما المتواتر منه قوله صلى الله عليه وسلم : "إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة" . ومعنى "أحصاها" عدها وحفظها. وقيل غير هذا مما بيناه في كتابنا. وذكرنا هناك تصحيح حديث الترمذي ، وذكرنا من الأسماء ما اجتمع عليه وما اختلف فيه مما وقفنا عليه في كتب أئمتنا ما ينيف على مائتي اسم. وذكرنا قبل تعيينها في مقدمة الكتاب اثنين وثلاثين فصلا فيما يتعلق بأحكامها ، فمن أراده وقف عليه هناك وفي غيره من الكتب الموضوعة في هذا الباب. والله الموفق للصواب ، لا رب سواه.
(7/325)
الثالثة : واختلف العلماء من هذا الباب في الاسم والمسمى ، وقد ذكرنا ما للعلماء من ذلك في "الكتاب الأسنى". قال ابن الحصار : وفي هذه الآية وقوع الاسم على المسمى ووقوعه على التسمية. فقوله : {وَلِلَّهِ} وقع على المسمى. ، وقوله : {الْأَسْمَاءُ} وهو جمع اسم واقع على التسميات. يدل على صحة ما قلناه قوله : {فَادْعُوهُ بِهَا} ، والهاء في قوله : {فَادْعُوهُ} تعود على المسمى سبحانه وتعالى ، فهو المدعو. والهاء في قوله {بِهَا} تعود على الأسماء ، وهي التسميات التي يدعى بها لا بغيرها. هذا الذي يقتضيه لسان العرب. ومثل ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لي خمسة أسماء أنا محمد وأحمد" الحديث. وقد تقدم في "البقرة" شيء من هذا. والذي يذهب إليه أهل الحق أن الاسم هو المسمى ، أو صفة له تتعلق به ، وأنه غير التسمية. قال ابن العربي عند كلامه على قوله تعالى : {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} : فيه ثلاثة أقوال. قال بعض علمائنا : في ذلك دليل على أن الاسم المسمى ؛ لأنه لو كان غيره لوجب أن تكون الأسماء لغير الله تعالى. الثاني : قال آخرون : المراد به التسميات ؛ لأنه سبحانه واحد والأسماء جمع.
قلت : ذكر ابن عطية في تفسيره أن الأسماء في الآية بمعنى التسميات إجماعا من المتأولين لا يجوز غيره. وقال القاضي أبو بكر في كتاب التمهيد : وتأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم : "لله تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة" أي أن له تسعة وتسعين تسمية بلا خلاف ، وهي عبارات عن كون الله تعالى على أوصاف شتى ، منها ما يستحقه لنفسه ومنها ما يستحقه لصفة تتعلق به ، وأسماؤه العائدة إلى نفسه هي هو ، وما تعلق بصفة له فهي أسماء له. ومنها صفات لذاته. ومنها صفات أفعال. وهذا هو تأويل قوله تعالى : {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} أي التسميات الحسنى. الثالث : قال آخرون منهم : ولله الصفات.
الرابعة : سمى الله سبحانه أسماءه بالحسنى لأنها حسنة في الأسماع والقلوب ؛ فإنها تدل على توحيده وكرمه وجوده ورحمته وإفضاله. والحسنى مصدر وصف به. ويجوز أن يقدر
(7/326)
{الْحُسْنَى} فعلى ، مؤنث الأحسن ؛ كالكبرى تأنيث الأكبر ، والجمع الكبر والحسن.
وعلى الأول أفرد كما أفرد وصف ما لا يعقل ؛ كما قال تعالى : {مَآرِبُ أُخْرَى} [طه : 18] و {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ : 10].
الخامسة : قوله تعالى : {فَادْعُوهُ بِهَا} أي اطلبوا منه بأسمائه ؛ فيطلب بكل اسم ما يليق به ، تقول : يا رحيم ارحمني ، يا حكيم احكم لي ، يا رازق ارزقني ، يا هادي اهدني ، يا فتاح افتح لي ، يا تواب تب علي ؛ هكذا. فإن دعوت باسم عام قلت : يا مالك ارحمني ، يا عزيز احكم لي ، يا لطيف ارزقني. وإن دعوت بالأعم الأعظم فقلت : يا الله ؛ فهو متضمن لكل اسم. ولا تقول : يا رزاق اهدني ؛ إلا أن تريد يا رزاق ارزقني الخير. قال ابن العربي : وهكذا ، رتب دعاءك تكن من المخلصين. وقد تقدم في "البقرة" شرائط الدعاء ، وفي هذه السورة أيضا. والحمد لله.
السادسة : أدخل القاضي أبو بكر بن العربي عدة من الأسماء في أسمائه سبحانه ، مثل متم نوره ، وخير الوارثين ، وخير الماكرين ، ورابع ثلاثة ، وسادس خمسة ، والطيب ، والمعلم ؛ وأمثال ذلك. قال ابن الحصار : واقتدى في ذلك بابن برجان ، إذ ذكر في الأسماء "النظيف" وغير ذلك مما لم يرد في كتاب ولا سنة.
قلت : أما ما ذكر من قوله : "مما لم يرد في كتاب ولا سنة" فقد جاء في صحيح مسلم "الطيب". وخرج الترمذي "النظيف". وخرج عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه "رب اعني ولا تعن علي وانصرني ولا تنصر علي وامكر لي ولا تمكر علي" الحديث. وقال فيه : حديث حسن صحيح. فعلى هذا جائز أن يقال : يا خير الماكرين امكر لي ولا تمكر علي. والله أعلم. وقد ذكرنا "الطيب ، والنظيف" في كتابنا وغيره مما جاء
(7/327)
ذكره في الأخبار ، وعن السلف الأخيار ، وما يجوز أن يسمى به ويدعى ، وما يجوز أن يسمى به ولا يدعى ، وما لا يجوز أن يسمى به ولا يدعى. حسب ما ذكره الشيخ أبو الحسن الأشعري. وهناك يتبين لك ذلك إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
فيه مسألتان : -
الأولى : قوله تعالى : {يُلْحِدُونَ} الإلحاد : الميل وترك القصد ؛ يقال : ألحد الرجل في الدين. وألحد إذا مال. ومنه اللحد في القبر ؛ لأنه في ناحيته. وقرئ {يَلْحِدُونَ} لغتان والإلحاد يكون بثلاثة أوجه
أحدها : بالتغيير فيها كما فعله المشركون ، وذلك أنهم عدلوا بها عما هي عليه فسموا بها أوثانهم ؛ فاشتقوا اللات من الله ، والعزى من العزيز ، ومناة من المنان قاله ابن عباس وقتادة. الثاني : بالزيادة فيها. الثالث : بالنقصان منها ؛ كما يفعله الجهال الذين يخترعون أدعية يسمون فيها الله تعالى بغير أسمائه ، ويذكرون بغير ما يذكر من أفعاله ؛ إلى غير ذلك مما لا يليق به. قال ابن العربي : "فحذار منها ، ولا يدعون أحدكم إلا بما في كتاب الله والكتب الخمسة ؛ وهي البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي. فهذه الكتب التي يدور الإسلام عليها ، وقد دخل فيها ما في الموطأ الذي هو أصل التصانيف ، وذروا ما سواها ، ولا يقولن أحدكم أختار دعاء كذا وكذا ؛ فإن الله قد اختار له وأرسل بذلك إلى الخلق رسوله صلى الله عليه وسلم.
الثانية : معنى الزيادة في الأسماء التشبيه ، والنقصان التعطيل. فإن المشبهة وصفوه بما لم يأذن فيه ، والمعطلة سلبوه ما اتصف به ، ولذلك قال أهل الحق : إن ديننا طريق بين طريقين ، لا بتشبيه ولا بتعطيل. وسئل الشيخ أبو الحسن البوشنجي عن التوحيد فقال : إثبات ذات غير مشبهة بالذوات ، ولا معطلة من الصفات. وقد قيل في قوله تعالى : {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ} معناه اتركوهم ولا تحاجوهم ولا تعرضوا لهم. فالآية على هذا منسوخة بالقتال ؛ قاله ابن زيد. وقيل : معناه الوعيد ؛ كقوله تعالى : {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ
(7/328)
وَحِيداً} [المدثر : 11] وقوله : {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} [الحجر : 3]. وهو الظاهر من الآية ؛ لقوله تعالى : {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. والله أعلم.
الآية : 181 {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}
في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "هم هذه الأمة" وروي أنه قال : "هذه لكم وقد أعطى الله قوم موسى مثلها" وقرأ هذه الآية وقال : "إن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم" . فدلت الآية على أن الله عز وجل لا يخلي الدنيا في وقت من الأوقات من داع يدعو إلى الحق.
الآية : 182 {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}
أخبر تعالى عمن كذب بآياته أنه سيستدرجهم. قال ابن عباس : هم أهل مكة. والاستدراج هو الأخذ بالتدريج ، منزلة بعد منزلة. والدرج : لف الشيء ؛ يقال : أدرجته ودرجته. ومنه أدرج الميت في أكفانه. وقيل : هو من الدرجة ؛ فالاستدراج أن يحط درجة بعد درجة إلى المقصود. قال الضحاك : كلما جددوا لنا معصية جددنا لهم نعمة. وقيل لذي النون : ما أقصى ما يخدع به العبد ؟ قال : بالألطاف والكرامات ؛ لذلك قال سبحانه وتعالى : {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} نسبغ عليهم النعم وننسيهم الشكر ؛ وأنشدوا :
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر
الآية : 183 {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}
قوله تعالى : {وَأُمْلِي لَهُمْ} أي أطيل لهم المدة وأمهلهم وأؤخر عقوبتهم. {إِنَّ كَيْدِي} أي مكري. {مَتِينٌ} أي شديد قوي. وأصله من المتن ، وهو اللحم الغليظ الذي عن جانب الصلب. قيل : نزلت في المستهزئين من قريش ، قتلهم الله في ليلة واحدة بعد أن أمهلهم مدة. نظيره {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام : 44].
(7/329)