الآية : 120 {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْأِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ}
قوله تعالى : {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} للعلماء فيه أقوال كثيرة. وحاصلها راجع إلى أن الظاهر ما كان عملا بالبدن مما نهى الله عنه ، وباطنه ما عقد بالقلب من مخالفة أمر الله فيما أم ونهى ؛ وهذه المرتبة لا يبلغها إلا من اتقى وأحسن ؛ كما قال : {ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} [المائدة : 93]. وهي المرتبة الثالثة. حسب ما تقدم بيانه في "المائدة". وقيل : هو ما كان عليه الجاهلية من الزنا الظاهر واتخاذ الحلائل في الباطن. وما قدمنا جامع لكل إثم وموجب لكل أمر.
الآية : 121 {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} فيه خمس مسائل : -
الأولى : روى أبو داود قال : جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله ؟ فأنزل الله عز وجل : {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ} إلى آخر الآية. وروى النسائي عن ابن عباس في قوله تعالى : {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ} قال : خاصمهم المشركون فقالوا : ما ذبح الله فلا تأكلوه وما ذبحتم أنتم أكلتموه ؛ فقال الله سبحانه لهم : لا تأكلوا ؛ فإنكم لم تذكروا اسم الله عليها. وتنشأ هنا مسألة أصولية ، وهي
الثانية : وذلك أن اللفظ الوارد على سبب هل يقصر عليه أم لا ؛ فقال علماؤنا : لا إشكال في صحة دعوى العموم فيما يذكره الشارع ابتداء من صيغ ألفاظ العموم. أما ما ذكره
(7/74)
جوابا لسؤال ففيه تفصيل ، على ما هو معروف في أصول الفقه ؛ إلا أنه إن أتى بلفظ مستقل دون السؤال لحق بالأول في صحة القصد إلى التعميم. فقول : {لا تَأْكُلُوا} ظاهر في تناول الميتة ، وتدخل فيه ما ذكر عليه غير اسم الله بعموم أنه لم يذكر عليه اسم الله ، وبزيادة ذكر غير اسم الله سبحانه عليه الذي يقتضي تحريمه نصا بقول : {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة : 173]. وهل يدخل فيه ما ترك المسلم التسمية عمدا عليه من الذبح ، وعند إرسال الصيد. اختلف العلماء في ذلك على أقوال خمسة ، وهي (المسألة)
الثالثة : القول الأول : إن تركها سهوا أكلا جميعا ، وهو قول إسحاق ورواية عن أحمد بن حنبل. فإن تركها عمدا لم يؤكلا ؛ وقال في الكتاب مالك وابن القاسم ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي وعيسى وأصبغ ، وقاله سعيد بن جبير وعطاء ، واختاره النحاس وقال : هذا أحسن ، لأنه لا يسمى فاسقا إذا كان ناسيا.
الثاني : إن تركها عامدا أو ناسيا يأكلهما. وهو قول الشافعي والحسن ، وروي ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وعطاء وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد وعكرمة وأبي عياض وأبي رافع وطاوس وإبراهيم النخعي وعبدالرحمن بن أبي ليلى وقتادة. وحكى الزهراوي عن مالك بن أنس أنه قال : تؤكل الذبيحة التي تركت التسمية عليها عمدا أو نسيانا. وروي عن ربيعة أيضا. قال عبدالوهاب : التسمية سنة ؛ فإذا تركها الذابح ناسيا أكلت الذبيحة في قول مالك وأصحابه.
الثالث : إن تركها عامدا أو ساهيا حرم أكلها ؛ قال محمد بن سيرين وعبدالله بن عياش بن أبي ربيعة وعبدالله بن عمر ونافع وعبدالله بن زيد الخطمي والشعبي ؛ وبه قال أبو ثور وداود بن علي وأحمد في رواية.
الرابع : إن تركها عامدا كره أكلها ؛ قاله القاضي أبو الحسن والشيخ أبو بكر من علمائنا.
(7/75)
الخامس : قال أشهب : تؤكل ذبيحة تارك التسمية عمدا إلا أن يكون مستخفا ، وقال نحوه الطبري. أدلة قال الله تعالى : {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام : 118] وقال : {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فبين الحالين وأوضح الحكمين. فقول : {لا تَأْكُلُوا} نهي على التحريم لا يجوز حمله على الكراهة ؛ لتناول في بعض مقتضياته الحرام المحض ، ولا يجوز أن يتبعض ، أي يراد به التحريم والكراهة معا ؛ وهذا من نفيس الأصول. وأما الناسي فلا خطاب توجه إليه إذ يستحيل خطابه ؛ فالشرط ليس بواجب عليه. وأما التارك للتسمية عمدا فلا يخلو من ثلاثة أحوال : إما أن يتركها إذا أضجع الذبيحة ويقول : قلبي مملوء من أسماء الله تعالى وتوحيده فلا أفتقر إلى ذكر بلساني ؛ فذلك يجزئه لأنه ذكر الله جل جلال وعظمه. أو يقول : إن هذا ليس بموضع تسمية صريحة ، إذ ليست بقربة ؛ فهذا أيضا يجزئه. أو يقول : لا أسمي ، وأي قدر للتسمية ؛ فهذا متهاون فاسق لا تؤكل ذبيحته. قال ابن العربي : وأعجب لرأس المحققين أمام الحرمين حيث قال : ذكر الله تعالى إنما شرع في القرب ، والذبح ليس بقربة. وهذا يعارض القرآن والسنة ؛ قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح : "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل" . فإن قيل : المراد بذكر اسم الله بالقلب ؛ لأن الذكر يضاد النسيان ومحل النسيان القلب فمحل الذكر القلب ، وقد روى البراء بن عازب : اسم الله على قلب كل مؤمن سمى أو لم يسم. قلنا : الذكر باللسان وبالقلب ، والذي كانت العرب تفعله تسمية الأصنام والنصب باللسان ، فنسخ الله ذلك بذكره في الألسنة ، وأشتهر ذلك في الشريعة حتى قيل لمالك : هل يسمي الله تعالى إذا توضأ فقال : أيريد أن يذبح. وأما الحديث الذي تعلقوا به من قوله : "اسم الله على قلب كل مؤمن" فحديث ضعيف. وقد استدل جماعة من أهل العلم على أن التسمية على الذبيحة ليست بواجبة ؛ لقوله عليه السلام لأناس سألوه ، قالوا : يا رسول الله ، إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري اذكروا اسم الله عليه أم لا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سموا الله عليه وكلوا" . أخرجه الدارقطني عن عائشة ومالك مرسلا عن هشام بن عروة عن أبيه ، لم يختلف عليه في إرساله.
(7/76)
وتأول بأن قال في آخره : وذلك في أول الإسلام. يريد قبل أن ينزل عليه {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} . قال أبو عمر : وهذا ضعيف ، وفي الحديث نفسه ما يرده ، وذلك أنه أمرهم فيه بتسمية الله على الأكل ؛ فدل على أن الآية قد كانت نزلت عليه. ومما يدل على صحة ما قلناه أن هذا الحديث كان بالمدينة ، ولا يختلف العلماء أن قوله تعالى : {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} نزل في سورة "الأنعام" بمكة. ومعنى {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} أي لمعصية عن ابن عباس. والفسق : الخروج. وقد تقدم.
الرابعة : قوله تعالى : {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} أي يوسوسون فيلقون في قلوبهم الجدال بالباطل. روى أبو داود عن ابن عباس في قوله : {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} يقولون : ما ذبح الله فلا تأكلوه ، وما ذبحتم أنتم فكلوه ، فأنزل الله {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} قال عكرمة : عنى بالشياطين في هذه الآية مردة الإنس من مجوس فارس. وقال ابن عباس وعبدالله بن كثير : بل الشياطين الجن ، وكفرة الجن أولياء قريش. وروي عن عبدالله بن الزبير أنه قيل له : إن المختار يقول : يوحى إلى فقال : صدق ، إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم. وقوله : {لِيُجَادِلُوكُمْ} .يريد قولهم : ما قتل الله لم تأكلوه وما قتلتموه أكلتموه. والمجادلة : دفع القول على طريق الحجة بالقوة ؛ مأخوذ من الأجدل ، طائر قوي. وقيل : هو مأخوذ من الجدالة ، وهي الأرض ؛ فكأنه يغلبه بالحجة يقهره حتى يصير كالمجدول بالأرض. وقيل : هو مأخوذ من الجدل ، وهو شدة القتل ؛ فكأن كل واحد منهما يفتل حجة صاحبه حتى يقطعها ، وتكون حقا في نصرة الحق وباطلا في نصرة الباطل.
الخامسة : قوله تعالى : {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} أي في تحليل الميتة {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} . فدلت الآية على أن من استحل شيئا مما حرم الله تعالى صار به مشركا. وقد حرم الله سبحانه الميتة نصا ؛ فإذا قبل تحليلها من غيره فقد أشرك. قال ابن العربي : إنما يكون المؤمن بطاعة
(7/77)
المشرك مشركا إذا أطاعه في الاعتقاد ؛ فأما إذا أطاعه في الفعل وعقده سليم مستمر على التوحيد والتصديق فهو عاص ؛ فافهموه. وقد مضى في "المائدة".
الآية : 122 {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
قوله تعالى : {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} قرأ الجمهور بفتح الواو ، دخلت عليها همزة الاستفهام. وروى المسيبي عن نافع بن أبي نعيم {أَوَمَنْ كَانَ} بإسكان الواو. قال النحاس : يحوز أن يكون محمولا على المعنى ، أي انظروا وتدبروا أغير الله أبتغي حكما. {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} قيل : معناه كان ميتا حين كان نطفة فأحييناه بنفخ الروح فيه ؛ حكاه ابن بحر. وقال ابن عباس : أو من كان كافرا فهديناه. نزلت في حمزة بن عب المطلب وأبي جهل. وقال زيد بن أسلم والسدي : {فَأَحْيَيْنَاهُ} عمر رضي الله عنه. {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} أبو جهل لعنه الله. والصحيح أنها عامة في كل مؤمن وكافر. وقيل : كان ميتا بالجهل فأحييناه بالعلم. وأنشد بعض أهل العلم ما يدل على صحة هذا التأويل لبعض شعراء البصرة :
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ... فأجسامهم قبل القبور قبور
وإن امرأ لم يحي بالعلم ميت ... فليس له حتى النشور نشور
والنور عبارة عن الهدى والإيمان. وقال الحسن : القرآن. وقيل : الحكمة. وقيل : هو النور المذكور في قوله : {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد : 12] ، وقوله : {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد : 13]. {يَمْشِي بِهِ} أي بالنور {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} أي كمن هو فمثل زائدة. تقول : أنا أكرم مثلك ؛ أي أكرمك. ومثله {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة : 95] ،
(7/78)
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى : 11]. وقيل : المعنى كمن مثله ما قتل من هو في الظلمات. والمثل والمثل واحد. {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي زين لهم الشيطان عبادة الأصنام وأوهمهم أنهم أفضل من المسلمين.
الآية : 123 {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}
قوله تعالى : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} المعنى : وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون كذلك جعلنا في كل قرية. {مُجْرِمِيهَا} مفعول أول لجعل "مفعول ثاني على التقديم والتأخير. وجعل بمعنى صير. والأكابر جمع الأكبر. قال مجاهد : يريد العظماء. وقيل : الرؤساء والعظماء. وخصهم بالذكر لأنهم أقدر على الفساد. والمكر الحيلة في مخالفة الاستقامة ، أصله الفتل ؛ فالماكر يفتل عن الاستقامة أي يصرف عنها. قال مجاهد : كانوا يجلسون على كل عقبة أربعة ينفرون الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ؛ كما فعل من قبلهم من الأمم السالفة بأنبيائهم. {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ} أي وبال مكرهم راجع إليهم. وهو من الله عز وجل الجزاء على مكر الماكرين بالعذاب الأليم. {وَمَا يَشْعُرُونَ} في الحال ؛ لفرط جهلهم أن وبال مكرهم عائد إليهم.
الآية : 124 {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ}
قوله تعالى : {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ} بين شيئا آخر من جهلهم ، وهو أنهم قالوا لن نؤمن حتى نكون أنبياء ، فنؤتى مثل ما أوتي موسى وعيسى من الآيات ؛ ونظيره
(7/79)
{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً} [المدثر : 52]. والكناية في {جَاءَتْهُمْ} ترجع إلى الأكابر الذين جرى ذكرهم. قال الوليد بن المغيرة : لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك ؛ لأني أكبر منك سنا ، وأكثر منك ما لا. وقال أبو جهل : والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا ، إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه ؛ فنزلت الآية. وقيل : لم يطلبوا النبوة ولكن قالوا لا نصدقك حتى يأتينا جبريل والملائكة يخبروننا بصدقك. والأول أصح ؛ لأن الله تعالى قال : {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ} [الأنعام : 124] أي بمن هو مأمون عليها وموضع لها. و{حَيْثُ} ليس ظرفا هنا ، بل هو اسم نصب نصب المفعول به على الاتساع ؛ أي الله أعلم أهل الرسالة. وكان الأصل الله أعلم بمواضع رسالته ، ثم حذف الحرف ، ولا يجوز أن يعمل {أَعْلَمُ} في {حَيْثُ} ويكون ظرفا ، لأن المعنى يكون على ذلك الله أعلم في هذا الموضع ، وذلك لا يجوز أن يوصف به الباري تعالى ، وإنما موضعها نصب بفعل مضمر دل عليه {أَعْلَمُ}.وهي اسم كما ذكرنا. والصغار : الضيم والذل والهوان ، وكذلك الصغر "بالضم". والمصدر الصغر "بالتحريك". وأصله من الصغر دون الكبر ؛ فكأن الذل يصغر إلى المرء نفسه ، وقيل : أصله من الصغر وهو الرضا بالذل ؛ يقال منه : صغر يصغر بفتح الغين في الماضي وضمها في المستقبل. وصغر بالكسر يصغر بالفتح لغتان ، صغرا وصغارا ، واسم الفاعل صاغر وصغير. والصاغر : الراضي بالضيم. والمصغوراء الصغار. وأرض مصغرة : نبتها لم يطل ؛ عن ابن السكيت. {عِنْدِ اللَّهِ} أي من عند الله ، فحذف. وقيل : فيه تقديم وتأخير ، أي سيصيب الذين أجرموا عند الله صغار. الفراء : سيصيب الذين أجرموا صغار من الله. وقيل : المعنى سيصيب الذين أجرموا صغار ثابت عند الله. قال النحاس : وهذا أحسن الأقوال ؛ لأن {عِنْدِ} في موضعها.
الآية : 125 {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}
(7/80)
قوله تعالى : {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} أي يوسعه له ، ويوفقه ويزين عنده ثوابه. ويقال : شرح شق ، وأصله التوسعة. وشرح الله صدره وسعه بالبيان لذلك. وشرحت الأمر : بنته وأوضحته. وكانت قريش تشرح النساء شرحا ، وهو مما تقدم : من التوسعة والبسط ، وهو وطء المرأة مستلقية على قفاها. فالشرح : الكشف ؛ تقول : شرحت الغامض ؛ ومنه تشريح اللحم. قال الراجز :
كم قد أكلت كبدا وإنفحه ... ثم ادخرت إلية مُشَرَّحَه
والقطعة منه شريحة. وكل سمين من اللحم ممتد فهو شريحة. {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} يغويه {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} وهذا رد على القدرية. ونظير هذه الآية من السنة قوله عليه السلام : "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" أخرجه الصحيحان. ولا يكون ذلك إلا بشرح الصدر وتنويره. والدين العبادات ؛ كما قال : {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران : 19]. ودليل خطابه أن من لم يرد الله به خيرا ضيق صدره ، وأبعد فهمه فلم يفقهه. والله أعلم. وروي أن عبدالله بن مسعود قال : يا رسول الله ، وهل ينشرح الصدر ؟ فقال : "نعم يدخل القلب نور" فقال : وهل لذلك من علامة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : "التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزول الموت" . وقرأ ابن كثير "ضيقا" بالتخفيف ؛ مثل هين ولين لغتان. ونافع وأبو بكر "حرجا" بالكسر ، ومعناه الضيق. كرر المعنى ، وحسن ذلك لاختلاف اللفظ. والباقون بالفتح. جمع حرجة ؛ وهو شدة الضيق أيضا ، والحرجة الغيضة ؛ والجمع حرج وحرجات. ومنه فلان يتحرج أي يضيق على نفسه في تركه هواه للمعاصي ؛ قال الهروي. وقال ابن عباس : الحرج موضع الشجر الملتف ؛ فكأن قلب الكافر لا تصل إليه الحكمة كما لا تصل الراعية إلى الموضع الذي التف شجره. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا المعنى ؛ ذكره مكي والثعلبي وغيرهما. وكل ضيق حرج. قال الجوهري : مكان حرج وحرج أي ضيق كثير الشجر لا تصل إليه
(7/81)
الراعية. وقرئ {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} و{حَرَجاً} وهو بمنزلة الوحد والوحد والفرد والفرد والدنف والدنف ؛ في معنى واحد ، وحكاه غيره عن الفراء. وقد حرج صدره يحرج حرجا. والحرج الإثم. والحرج أيضا : الناقة الضامرة. ويقال : الطويلة على وجه الأرض ؛ عن أبي زيد ، فهو لفظ مشترك. والحرج : خشب يشد بعضه إلى بعض يحمل فيه الموتى ؛ عن الأصمعي. وهو قول امرئ القيس :
فإما تريني في رحالة جابر ... على حرج كالقر تخفق أكفاني
وربما وضع فوق نعش النساء ؛ قال عنترة يصف ظليما :
يتبعن قلة رأسه وكأنه ... حرج على نعش لهن مخيم
وقال الزجاج : الحرج : أضيق الضيق. فإذا قيل. فلان حرج الصدر ، فالمعنى ذو حرج في صدره. فإذا قيل : حرج فهو فاعل. قال النحاس : حرج اسم الفاعل ، وحرج مصدر وصف به ؛ كما يقال : رجل عدل ورضا.
قوله تعالى : {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} قرأه ابن كثير بإسكان الصاد مخففا ، من الصعود هو الطلوع. شبه الله الكافر في نفوره من الإيمان وثقله عليه بمنزلة من تكلف ما لا يطيقه ؛ كما أن صعود السماء لا يطاق. وكذلك يصاعد وأصله يتصاعد ، أدغمت التاء في الصاد ، وهي قراءة أبي ، بكر والنخعي ؛ إلا أن فيه معنى فعل شيء بعد شيء ، وذلك أثقل على فاعله. وقرأ الباقون بالتشديد من غير ألف ، وهو كالذي قبله. معناه يتكلف ما لا يطيق شيئا بعد شيء ؛ كقولك : يتجرع ويتفوق. وروي عن عبدالله بن مسعود أنه قرأ {كأنما يتَصَعّد}. قال النحاس : ومعنى هذه القراءة وقراءة من قرأ يصعد ويصاعد واحد. والمعنى فيهما أن الكافر من ضيق صدره كأنه يريد أن يصعد إلى السماء وهو لا يقدر على ذلك ؛
(7/82)
فكأنه يستدعي ذلك. وقيل : المعنى كاد قلبه يصعد إلى السماء نَبْواً عن الإسلام. {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ} عليهم ؛ كجعله ضيق الصدر في أجسادهم. وأصل الرجس في اللغة النتن. قال ابن زيد : هو العذاب. وقال ابن عباس : الرجس هو الشيطان ؛ أي يسلطه عليهم. وقال مجاهد : الرجس ما لا خير فيه. وكذلك الرجس عند أهل اللغة هو النتن. فمعنى الآية والله أعلم : ويجعل اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة "على الذين لا يؤمنون".
الآية : 126 {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}
قوله تعالى : {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً} أي هذا الذي أنت عليه يا محمد والمؤمنون دين ربك لا اعوجاج فيه. {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ} أي بيناها {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} أي للمتذكرين.
الآية : 127 {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
قوله تعالى : {لَهُمْ} أي للمذكرين. {دَارُ السَّلامِ} أي الجنة ، فالجنة دار الله ؛ كما يقال : الكعبة بيت الله. ويجوز أن يكون المعنى دار السلامة ، أي التي يسلم فيها من الآفات. ومعنى قوله : {عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي مضمونة لهم عنده يوصلهم إليها بفضله. {وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} أي ناصرهم ومعينهم.
الآية : 128 {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}
(7/83)
قوله تعالى : {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} نصب على الفعل المحذوف ، أي ويوم نحشرهم نقول. {جَمِيعاً} نصب على الحال. والمراد حشر جميع الخلق في موقف القيامة. {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ} نداء مضاف. {قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ} أي من الاستمتاع بالإنس ؛ فحذف المصدر المضاف إلى المفعول ، وحرف الجر ؛ يدل على ذلك قوله : {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} وهذا يرد قول من قال : إن الجن هم الذين استمتعوا من الإنس ؛ لأن الإنس قبلوا منهم. والصحيح أن كل واحد مستمتع بصاحبه. والتقدير في العربية : استمتع بعضنا بعضا ؛ فاستمتاع الجن من الإنس إنهم تلذذوا بطاعة الإنس إياهم ، وتلذذ الإنس بقبولهم من الجن حتى زنوا وشربوا الخمور بإغواء الجن إياهم. وقيل : كان الرجل إذا مر بواد في سفره وخاف على نفسه قال : أعوذ برب هذا الوادي من جميع ما أحذر. وفي التنزيل : {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن : 6]. فهذا استمتاع الإنس بالجن. وأما استمتاع الجن بالإنس فما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف والكهانة والسحر. وقيل : استمتاع الجن بالإنس أنهم يعترفون أن الجن يقدرون أن يدفعوا عنهم ما يحذرون. ومعنى الآية تقريع الضالين والمضلين وتوبيخهم في الآخرة على أعين العالمين. {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} يعني الموت والقبر ، ووافينا نادمين. {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} أي موضع مقامكم. والمثوى المقام. {خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} استثناء ليس من الأول. قال الزجاج : يرجع إلى يوم القيامة ، أي خالدين في النار إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في الحساب ؛ فالاستثناء قطع. وقيل : يرجع الاستثناء إلى النار ، أي إلا ما شاء الله من تعذيبكم بغير النار في بعض الأوقات. وقال ابن عباس : الاستثناء لأهل الإيمان. فـ {مَا} على هذا بمعنى من. وعنه أيضا أنه قال : هذه الآية توجب الوقف في جميع الكفار. ومعنى ذلك أنها توجب الوقف فيمن لم يمت ، إذ فد يسلم. وقيل : {لَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} من كونهم في الدنيا بغير عذاب. ومعنى هذه الآية معنى الآية التي في "هود". قوله : {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ} [هود : 106] وهناك يأتي مستوفى إن شاء الله. {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} أي في عقوبتهم وفي جميع أفعاله {عَلِيمٌ} بمقدار مجازاتهم.
(7/84)
الآية : 129 {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
قوله تعالى : {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً} المعنى وكما فعلنا بهؤلاء مما وصفته لكم من استمتاع بعضهم ببعض أجعل بعض الظالمين أولياء بعض ، ثم يتبرأ بعضهم من بعض غدا. ومعنى {نُوَلِّي} على هذا نجعل وليا. قال ابن زيد : نسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس. وعنه أيضا : نسلط بعض الظلمة على بعض فيهلكه ويذله. وهذا تهديد للظالم إن لم يمتنع من ظلمه سلط الله عليه ظالما آخر. ويدخل في الآية جميع من يظلم نفسه أو يظلم الرعية ، أو التاجر يظلم الناس في تجارته أو السارق وغيرهم. وقال فضيل بن عياض : إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم فقف ، وانظر فيه متعجبا. وقال ابن عباس : إذا رضي الله عن قوم ولى أمرهم خيارهم ، إذا سخط الله على قوم ولى أمرهم شرارهم. وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم : "من أعان ظالما سلطه الله عليه". وقيل : المعنى نكل بعضهم إلى بعض فيما يختارونه من الكفر ، كما نكلهم غدا إلى رؤسائهم الذين لا يقدرون على تخليصهم من العذاب أي كما نفعل بهم ذلك في الآخرة كذلك نفعل بهم في الدنيا. وقد قيل في قوله تعالى : {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء : 115] : نكله إلى ما وكل إليه نفسه. قال ابن عباس : تفسيرها هو أن الله إذا أراد بقوم شرا ولى أمرهم شرارهم. يدل عليه قوله تعالى : {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى : 30].
الآية : 130 {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}
قوله تعالى : {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ} أي يوم نحشرهم نقول لهم ألم يأتكم رسل فحذف ؛ فيعترفون بما فيه افتضاحهم. ومعنى {مِنْكُمْ} في الخلق والتكليف والمخاطبة.
(7/85)
ولما كانت الجن ممن يخاطب ويعقل قال : {مِنْكُمْ} وإن كانت الرسل من الإنس وغلب الإنس في الخطاب كما يغلب المذكر على المؤنث. وقال ابن عباس : رسل الجن هم الذين بلغوا قومهم ما سمعوه من الوحي ؛ كما قال : {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف : 29]. وقال مقاتل والضحاك : أرسل الله رسلا من الجن كما أرسل من الإنس. وقال مجاهد : الرسل من الإنس ، والنذر من الجن ؛ ثم قرأ {إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف : 29]. وهو معنى قول ابن عباس ، وهو الصحيح على ما يأتي بيانه في "الأحقاف". وقال الكلبي : كانت الرسل قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى الإنس والجن جميعا.
قلت : وهذا لا يصح ، بل في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبدالله الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود" الحديث. على ما يأتي بيانه في "الأحقاف". وقال ابن عباس : كانت الرسل تبعث إلى الإنس وإن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث إلى الجن والإنس ؛ ذكره أبو الليث السمرقندي. وقيل : كان قوم من الجن : استمعوا إلى الأنبياء ثم عادوا إلى قومهم وأخبروهم ؛ كالحال مع نبينا عليه السلام. فيقال لهم رسل الله ، وإن لم ينص على إرسالهم. وفي التنزيل : {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن : 22] أي من أحدهما ، وإنما يخرج من الملح دون العذب ، فكذلك الرسل من الإنس دون الجن ؛ فمعنى {مِنْكُمْ} أي من أحدكم. وكان هذا جائزا ؛ لأن ذكرهما سبق. وقيل : إنما صير الرسل في مخرج اللفظ من الجميع لأن الثقلين قد ضمتهما عرصة القيامة ، والحساب عليهم دون الخلق ؛ فلما صاروا في تلك العرصة في حساب واحد في شأن الثواب والعقاب خوطبوا يومئذ بمخاطبة واحدة كأنهم جماعة واحدة ؛ لأن بدء خلقهم للعبودية ، والثواب والعقاب على العبودية ، ولأن الجن أصلهم من مارج من نار ، وأصلنا من تراب ، وخلقهم غير خلقنا ؛ فمنهم مؤمن وكافر.
(7/86)
وعدونا إبليس عدوهم ، يعادي مؤمنهم ويوالي كافرهم. وفيهم أهواء : شيعة وقدرية ومرجئة يتلون كتابنا. وقد وصف الله عنهم في سورة "الجن" من قوله : {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن : 14]. {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} [الجن : 11] على ما يأتي بيانه هناك. {يَقُصُّونَ} في موضع رفع نعت لرسل. {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} أي شهدنا أنهم بلغوا. {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} قيل : هذا خطاب من الله للمؤمنين ؛ أي أن هؤلاء قد غرتهم الحياة الدنيا ، أي خدعتهم وظنوا أنها تدوم ، وخافوا زوالها عنهم إن آمنوا .{وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} أي اعترفوا بكفرهم. قال مقاتل : هذا حين شهدت عليهم الجوارح بالشرك وبما كانوا يعملون.
الآية : 131 {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ}
قوله تعالى : {ذَلِكَ} في موضع رفع عند سيبويه ؛ أي الأمر ذلك. و{أَنْ} مخففة من الثقيلة ؛ أي إنما فعلنا هذا بهم لأني لم أكن أهلك القرى بظلمهم ؛ أي بشركهم قبل إرسال الرسل إليهم فيقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير. وقيل : لم أكن أهلك القرى بشرك من أشرك منهم ؛ فهو مثل {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام : 164]. ولو أهلكهم قبل بعثة الرسل فله أن يفعل ما يريد. وقد قال عيسى : {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة : 118] وأجاز الفراء أن يكون {ذَلِكَ} في موضع نصب ، المعنى : فعل ذلك بهم ؛ لأنه لم يكن يهلك القرى بظلم.
الآية : 132 {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}
قوله تعالى : {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} أي من الجن والإنس ؛ كما قال في آية أخرى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الأحقاف : 18] ثم قال : {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأحقاف : 19]. وفي هذا ما يدل على أن المطيع من الجن في الجنة ، والعاصي منهم في النار ؛ كالإنس سواء. وهو أصح
(7/87)
ما قيل في ذلك فاعلمه. ومعنى {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ} أي ولكل عامل بطاعة درجات في الثواب. ولكل عامل بمعصية دركات في العقاب .{وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ} أي ليس بلاه ولا ساه. والغفلة أن يذهب الشيء عنك لاشتغالك بغيره. {عَمَّا يَعْمَلُونَ} قرأه ابن عامر بالتاء ، الباقون بالياء.
الآية : 133 {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ}
قوله تعالى : {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ} أي عن خلقه وعن أعمالهم. {ذُو الرَّحْمَةِ} أي بأوليائه وأهل طاعته. {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} بالإماتة والاستئصال بالعذاب. {وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ} أي خلقا آخر أمثل منكم وأطوع. {كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} والكاف في موضع نصب ، أي يستخلف من بعدكم ما يشاء استخلافا مثل ما أنشأكم ، ونظيره {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} [النساء : 133]. {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [محمد : 38]. فالمعنى يبدل غيركم مكانكم ، كما تقول : أعطيتك من دينارك ثوبا.
الآية : 134 {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}
قوله تعالى : {نَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ} يحتمل أن يكون من {أوعدت} في الشر ، والمصدر الإيعاد. والمراد عذاب الآخرة. ويحتمل أن يكون من{وعدت} على أن يكون المراد الساعة التي في مجيئها الخير والشر فغلب الخير. روي معناه عن الحسن. {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي فائتين ؛ يقال : أعجزني فلان ، أي فاتني وغلبني.
(7/88)