فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الإثنين 9 مايو - 15:46 | |
| الثانية- واختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة ؛ فقال مالك : المحارب عندنا من حمل على الناس في مصر أو في برية وكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون نائرة ولا ذحل ولا عداوة ؛ قال ابن المنذر : اختلف عن مالك في هذه المسألة ، فأثبت المحاربة في المصر مرة ونفى ذلك مرة ؛ وقالت طائفة : حكم ذلك في المصر أو في المنازل والطرق وديار أهل البادية والقرى سواء وحدودهم واحدة ؛ وهذا قول الشافعي وأبي ثور ؛ قال ابن المنذر : كذلك هو لأن كلا يقع عليه اسم المحاربة ، والكتاب على العموم ، وليس لأحد أن يخرج من جملة الآية قوما بغير حجة. وقالت طائفة : لا تكون المحاربة في المصر إنما تكون خارجا عن المصر ؛ هذا قول سفيان الثوري وإسحاق والنعمان. والمغتال كالمحارب وهو الذي يحتال في قتل إنسان على أخذ ماله ، وإن لم يشهر السلاح لكن دخل عليه بيته أو صحبه في سفر فأطعمه سما فقتله فيقتل حدا لا قودا. الثالثة- واختلفوا في حكم المحارب ؛ فقالت طائفة : يقام عليه بقدر فعله ؛ فمن أخاف السبيل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف ، وإن أخذ المال وقتل قطعت يده ورجله ثم صلب ، فإذا قتل ولم يأخذ المال ، وإن هو لم يأخذ المال ولم يقتل نفي ؛ قاله ابن عباس ، وروي عن أبي مجلز والنخعي وعطاء الخراساني وغيرهم. وقال أبو يوسف : إذا أخذ المال وقتل صلب وقتل على الخشبة ؛ قال الليث : بالحربة مصلوبا. وقال أبو حنيفة : إذا قتل قتل ، وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ، وإذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخير فيه ، إن شاء قطع يده ورجله وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه ؛ قال أبو يوسف : القتل يأتي على كل شيء. ونحوه قول الأوزاعي. وقال الشافعي : إذا أخذ المال قطعت يده اليمنى وحسمت ، ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت وخلي ؛ لأن هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة ، وإذا قتل قتل ، وإذا أخذ المال وقتل قتل وصلب ؛ وروي عنه أنه قال : يصلب ثلاثة أيام ؛ قال : وإن حضر وكثر وهيب وكان ردءا للعدو(6/151) حبس. وقال أحمد : إن قتل قتل ، وإن أخذ المال قطعت يده ورجله كقول الشافعي. وقال قوم : لا ينبغي أن يصلب قبل ، القتل فيحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب ؛ وحكي عن الشافعي : أكره أن يقتل مصلوبا لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة. وقال أبو ثور : الإمام مخير على ظاهر الآية ، وكذلك قال مالك ، وهو مروي عن ابن عباس ، وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبدالعزيز ومجاهد والضحاك والنخعي كلهم قال : الإمام مخير في الحكم على المحاربين ، يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها الله تعالى من القتل والصلب أو القطع أو النفي بظاهر الآية ؛ قال ابن عباس : ما كان في القرآن {أَوْ} فصاحبه بالخيار ؛ وهذا القول أشعر بظاهر الآية ؛ فإن أهل القول الأول الذين قالوا {أَوْ} للترتيب وإن اختلفوا - فإنك تجد أقوالهم أنهم يجمعون عليه حدين فيقولون : يقتل ويصلب ؛ ويقول بعضهم : يصلب ويقتل ؛ ويقول بعضهم : تقطع يده ورجله وينفى ؛ وليس كذلك الآية ولا معنى {أَوْ} في اللغة ؛ قال النحاس. واحتج الأولون بما ذكره الطبري عن أنس بن مالك أنه قال : سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن الحكم في المحارب فقال : "من أخاف السبيل وأخذ المال فأقطع به للأخذ ورجله للإخافة ومن قتل فاقتله ومن جمع ذلك فأصلبه" . قال ابن عطية : وبقي النفي للمخيف فقط والمخيف في حكم القاتل ، ومع ذلك فمالك يرى فيه الأخذ بأيسر العذاب والعقاب استحسانا. الرابعة- قوله تعالى : {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} اختلف في معناه ؛ فقال السدي : هو أن يطلب أبدا بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حد الله ، أو يخرج من دار الإسلام هربا ممن يطلبه ؛ عن ابن عباس وأنس بن مالك ومالك بن أنس والحسن والسدي والضحاك وقتادة وسعيد بن جبير والربيع بن أنس والزهري. حكاه الرماني في كتابه ؛ وحكي عن الشافعي أنهم يخرجون من بلد إلى بلد ، ويطلبون لتقام عليهم الحدود ؛ وقال الليث بن سعد والزهري أيضا. وقال مالك أيضا : ينفى من البلد الذي أحدث فيه هذا إلى غيره ويحبس فيه كالزاني. وقال مالك أيضا والكوفيون : نفيهم سجنهم فينفى من سعة الدنيا إلى(6/152) ضيقها ، فصار كأنه إذا سجن فقد نفي من الأرض إلا من موضع استقراره ؛ واحتجوا بقول بعض أهل السجون في ذلك : خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا إذا جاءنا السجان يوما لحاجة ... عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا حكى مكحول أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من حبس في السجون وقال : أحبسه حتى أعلم منه التوبة ، ولا أنفيه من بلد إلى بلد فيؤذيهم ؛ والظاهر أن الأرض في الآية هي أرض النازلة وفد تجنب ، الناس قديما الأرض التي أصابوا فيها الذنوب ؛ ومنه الحديث "الذي ناء بصدره نحو الأرض المقدسة" . وينبغي الإمام إن كان هذا المحارب مخوف الجانب يظن أنه يعود إلى حرابة أو إفساد أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه ، وإن كان غير مخوف الجانب فظن أنه لا يعود إلى جناية سرح ؛ قال ابن عطية : وهذا صريح مذهب مالك أن يغرب ويسن حيث يغرب ، وهذا على الأغلب في أنه مخوف ، ورجحه الطبري وهو الواضح ؛ لأن نفيه من أرض النازلة هو نص الآية ، وسجنه بعد بحسب الخوف منه ، فإن تاب وفهمت حاله سرح. الخامسة- قوله تعالى : {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} النفي أصله الإهلاك ؛ ومنه الإثبات والنفي ، فالنفي الإهلاك بالإعدام ؛ ومنه النفاية لردي المتاع ؛ ومنه النفي لما تطاير من الماء عن الدلو. قال الراجز : كأن متنيه من النفي ... مواقع الطير على الصفي السادسة- قال ابن خويز منداد : ولا يراعى المال الذي يأخذه المحارب نصابا كما يراعى في السارق. وقد قيل : يراعى في ذلك النصاب ربع دينار ؛ قال ابن العربي ، قال الشافعي(6/153) وأصحاب الرأي : لا يقطع من قطاع الطريق إلا من أخذ قدر ما تقطع فيه يد السارق ؛ وقال مالك : يحكم عليه بحكم المحارب وهو الصحيح ؛ فإن الله تعالى وقت على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام القطع في السرقة في ربع دينار ، ولم يوقت في الحرابة شيئا ، بل ذكر جزاء المحارب ، فاقتضى ذلك توفية الجزاء لهم على المحاربة عن حبة ؛ ثم إن هذا قياس أصل على أصل وهو مختلف فيه ، وقياس الأعلى بالأدنى والأدنى بالأسفل وذلك عكس القياس. وكيف يصح أن يقاس المحارب على السارق وهو يطلب خطف المال فإن شعر به فر ؛ حتى إن السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال فإن منع منه أو صبح عليه وحارب عليه فهو محارب حكم عليه بحكم المحارب. قال القاضي ابن العربي : كنت في أيام حكمي بين الناس إذا جاءني أحد بسارق ، وقد دخل الدار بسكين يحبسه على قلب صاحب الدار وهو نائم ، وأصحابه يأخذون مال الرجل ، حكمت فيهم بحكم المحاربين ، فافهموا هذا من أصل الدين ، وارتفعوا إلى يفاع العلم عن حضيض الجاهلين. قلت : اليفع أعلى الجبل ومنه غلام يفعة إذا ارتفع إلى البلوغ ؛ والحضيض الحفرة في أسفل الوادي ؛ كذا قال أهل اللغة. السابعة- ولا خلاف في أن الحرابة يقتل فيها من قتل وإن لم يكن المقتول مكافئا للقاتل ؛ وللشافعي قولان : أحدهما : أنها تعتبر المكافأة لأنه قتل فاعتبر فيه المكافأة كالقصاص ؛ وهذا ضعيف ؛ لأن القتل هنا ليس على مجرد القتل وإنما هو على الفساد العام من التخويف وسلب المال ؛ قال الله تعالى : {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا} فأمر تعالى بإقامة الحدود على المحارب إذا جمع شيئين محاربة وسعيا في الأرض بالفساد ، ولم يخص شريفا من وضيع ، ولا رفيعا من دنيء. الثامنة- وإذا خرج المحاربون فاقتتلوا مع القافلة فقتل بعض المحاربين ولم يقتل بعض قتل الجميع. وقال الشافعي : لا قتل إلا من قتل ؛ وهذا أيضا ضعيف ؛ فإن من حضر(6/154) الوقيعة شركاء في الغنيمة وإن لم يقتل جميعهم ؛ وقد اتفق معنا على قتل الردء وهو الطليعة ، فالمحارب أولى. التاسعة- وإذا أخاف المحاربون السبيل وقطعوا الطريق وجب على الإمام قتالهم من غير أن يدعوهم ، ووجب على المسلمين التعاون على قتالهم وهم عن أذى المسلمين ، فإن انهزموا لم يتبع منهم مدبرا إلا أن يكون قد قتل وأخذ مالا ، فإن كان كذلك أتبع ليؤخذ ويقام عليه ما وجب لجنايته ؛ ولا يدفف منهم على جريح إلا أن يكون قد قتل ؛ فإن أخذوا وجد في أيديهم مال لأحد بعينه رد إليه أو إلى ورثته ، وإن لم يوجد له صاحب جعل في بيت المال ؛ وما أتلفوه من مال لأحد غرموه ؛ ولا دية لمن قتلوا إذا قدر عليهم قبل التوبة ، فإن تابوا وجاؤوا تائبين هي : العاشرة- لم يكن للإمام عليهم سبيل ، وسقط عنهم ما كان حدا لله وأخذوا بحقوق الآدميين ، فاقتص منهم من النفس والجراح ، وكان عليهم ما أتلفوه من مال ودم لأوليائه في ذلك ، ويجوز لهم العفو والهبة كسائر الجناة من غير المحاربين ؛ هذا مذهب مالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي. وإنما أخذ ما بأيديهم من الأموال وضمنوا قيمه ما استهلكوا ؛ لأن ذلك غصب فلا يجوز ملكه لهم ، ويصرف إلى أربابه أو يوقفه الإمام عنده حتى يعلم صاحبه. وقال قوم من الصحابة والتابعين : لا يطلب من المال إلا بما وجد عنده ، وأما ما استهلكه فلا يطالب به ؛ وذكر الطبري ذلك عن مالك من رواية الوليد بن مسلم عنه ، وهو الظاهر من فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بحارثة بن بدر الغداني فإنه كان محاربا ثم تاب قبل القدرة عليه ، فكتب له بسقوط الأموال والدم عنه كتابا منشورا ؛ قال ابن خويز منداد : واختلفت الرواية عن مالك في المحارب إذا أقيم عليه الحد ولم يوجد له مال ؛ هل يتبع دينا بما أخذ ، أو يسقط عنه كما سقط عن السارق ؟ والمسلم والذمي في ذلك سواء.(6/155) الحادية عشرة- وجمع أهل العلم على أن السلطان ولي من حارب ؛ فإن قتل محارب أخا امرئ أو أباه في حال المحاربة ، فليس إلى طالب الدم من أمر المحارب شيء ، ولا يجوز عفو ولي الدم ، والقائم بذلك الإمام ؛ جعلوا ذلك بمنزلة حد من حدود الله تعالى. قلت : فهذه جملة من أحكام المحاربين جمعنا غررها ، واجتلبنا دررها ؛ ومن أغرب ما قيل في تفسيرها وهي : الثانية عشرة- وتفسير مجاهد لها ؛ المراد بالمحاربة في هذه الآية الزنى والسرقة ؛ وليس بصحيح ؛ فإن الله سبحانه بين في كتابه وعلى لسان نبيه أن السارق تقطع يده ، وأن الزاني يجلد ويغرب إن كان بكرا ، ويرجم إن كان ثيبا محصنا. وأحكام المحارب في هذه الآية مخالف لذلك ، اللهم إلا أن يريد إخافة الطريق بإظهار السلاح قصدا للغلبة على الفروج ، فهذا أفحش المحاربة ، وأقبح من أخذ الأموال وقد دخل في معنى قوله تعالى : {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً} . الثالثة عشرة- قال علماؤنا : ويناشد اللص بالله تعالى ، فإن كف ترك وإن أبى قوتل ، فإن أنت قتلته فشر قتيل ودمه هدر. روى النسائي عن أبي هريرة أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن عدي على مالي ؟ قال : "فانشد بالله" قال : فإن أبوا علي. قال : "فانشد بالله" قال : فإن أبوا علي قال : "فانشد بالله" قال : فإن أبوا علي قال : "فقاتل فإن قتلت ففي الجنة وإن قتلت ففي النار" وأخرجه البخاري ومسلم - وليس فيه ذكر المناشدة - عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي ؟ قال : "فلا تعطه مالك" قال : أرأيت إن قاتلني ؟ قال : "فقاتله" قال : أرأيت إن قتلني ؟ قال : "فأنت شهيد" قال : فإن قتلته ؟ قال : "هو في النار" . قال ابن المنذر : وروينا عن جماعة من أهل العلم أنهم رأوا قتال اللصوص ودفعهم عن أنفسهم وأموالهم ؛ هذا مذهب ابن عمر والحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق والنعمان ، وبهذا يقول عوام أهل العلم : إن(6/156) للرجل أن يقاتل عن نفسه وأهله وماله إذا أريد ظلما ؛ للأخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص وقتا دون وقت ، ولا حالا دون حال إلا السلطان ؛ فإن جماعة أهل الحديث لا يحاربه ولا يخرج عليه ؛ للأخبار الدالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، التي فيها الأمر بالصبر على ما يكون منهم ، من الجور والظلم ، وترك قتالهم والخروج عليهم ما أقاموا الصلاة. قلت : وقد اختلف مذهبنا إذا طلب الشيء الخفيف كالثوب والطعام هل يعطونه أو يقاتلون ؟ وهذا الخلاف مبني على أصل ، وهو هل الأمر بقتالهم لأنه تغيير منكر أو هو من باب دفع الضرر ؟ وعلى هذا أيضا ينبني الخلاف في دعوتهم قبل القتال. والله أعلم. الرابعة عشرة- قوله تعالى : {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} لشناعة المحاربة وعظم ضررها ، وإنما كانت المحاربة عظيمة الضرر ؛ لأن فيها سد سبيل الكسب على الناس ، لأن أكثر المكاسب وأعظمها التجارات ، وركنها وعمادها الضرب في الأرض ؛ كما قال عز وجل : {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} فإذا أخيف الطريق انقطع الناس عن السفر ، واحتاجوا إلى لزوم البيوت ، فانسد باب التجارة عليهم ، وانقطعت أكسابهم ؛ فشرع الله على قطاع الطريق الحدود المغلظة ، وذلك الخزي في الدنيا ردعا لهم عن سوء فعلهم ، وفتحا لباب التجارة التي أباحها لعباده لمن أرادها منهم ، ووعد فيها بالعذاب العظيم في الآخرة. وتكون هذه المعصية خارجة عن المعاصي ، ومستثناة من حديث عبادة في قول النبي صلى الله عليه وسلم : "فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة" والله أعلم. ويحتمل أن يكون الخزي لمن عوقب ، وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا ، ويجرى هذا الذنب مجرى غيره. ولا خلود لمؤمن في النار على ما تقدم ، ولكن يعظم عقابه لعظم الذنب ، ثم يخرج إما بالشفاعة وإما بالقبضة ، ثم إن هذا الوعيد مشروط الإنفاذ بالمشيئة(6/157) كقوله تعالى : {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} أما إن الخوف يغلب عليهم بحسب الوعيد وكبر المعصية. الخامسة عشرة- قوله تعالى : {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} استثنى جل وعز التائبين قبل أن يقدر عليهم ، وأخبر بسقوط حقه عنهم بقوله : {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . أما القصاص وحقوق الآدميين فلا تسقط. ومن تاب بعد القدرة فظاهر الآية أن التوبة لا تنفع ، وتقام الحدود عليه كما تقدم. وللشافعي قول أنه يسقط كل حد بالتوبة ، والصحيح من مذهبه أن ما تعلق به حق لآدمي قصاصا كان أو غيره فإنه لا يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه. وقيل : أراد بالاستثناء المشرك إذا تاب وأمن قبل القدرة عليه فإنه تسقط عنه الحدود ؛ وهذا ضعيف ؛ لأنه إن آمن بعد القدرة عليه لم يقتل أيضا بالإجماع. وقيل : إنما لا يسقط الحد عن المحاربين بعد القدرة عليهم - والله أعلم - لأنهم متهمون بالكذب في توبتهم والتصنع فيها إذا نالتهم يد الإمام ، أو لأنه لما قدر عليهم صاروا بمعرض أن ينكل بهم فلم تقبل توبتهم ؛ كالمتلبس بالعذاب من الأمم قبلنا ، أو من صار إلى حال الغرغرة فتاب ؛ فأما إذا تقدمت توبتهم القدرة عليهم ، فلا تهمة وهي نافعة على ما يأتي بيانه في سورة {يُونُسَ} ؛ فأما الشراب والزناة والسراق إذا تابوا وأصلحوا وعرف ذلك منهم ، ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم ، وإن رفعوا إليه فقالوا تبنا لم يتركوا ، وهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا. والله أعلم. 35- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 36- {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(6/158) قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} الوسيلة هي القربة عن أبي وائل والحسن ومجاهد وقتادة وعطاء والسد وابن زيد وعبدالله بن كثير ، وهي فعيلة من توسلت إليه أي تقربت ؛ قال عنترة : إن الرجال لهم إليك وسيلة ... أن يأخذوك تكحلي وتخصني والجمع الوسائل ؛ قال : إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا ... وعاد التصافي بيننا والوسائل ويقال : منه سلت أسأل أي طلبت ، وهما يتساولان أي يطلب كل واحد من صاحبه ؛ فالأصل الطلب ؛ والوسيلة القربة التي ينبغي أن يطلب بها ، والوسيلة درجة في الجنة ، وهي التي جاء الحديث الصحيح بها في قوله عليه الصلاة والسلام : "فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة" . 37- {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} قال يزيد الفقير : قيل لجابر بن عبدالله إنكم يا أصحاب محمد تقولون إن قوما يخرجون من النار والله تعالى يقول : {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} فقال جابر : إنكم تجعلون العام خاصا والخاص عاما ، إنما هذا في الكفار خاصة ؛ فقرأت الآية كلها من أولها إلى آخرها فإذا هي في الكفار خاصة. و {مُقِيمٌ} معناه دائم ثابت لا يزول ولا يحول ؛ قال الشاعر : فإن لكم بيوم الشعب مني ... عذابا دائما لكم مقيما 38- {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 39- {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فيه سبع وعشرون مسألة : الأولى- قوله تعالى : {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} الآية. لما ذكر تعالى أخذ الأموال بطريق السعي في الأرض والفساد ذكر حكم السارق من غير حراب على ما يأتي(6/159) بيانه أثناء الباب ؛ وبدأ سبحانه بالسارق قبل السارقة عكس الزنى على ما نبينه آخر الباب. وقد قطع السارق في الجاهلية ، وأول من حكم بقطعه في الجاهلية الوليد بن المغيرة ، فأمر الله بقطعه في الإسلام ، فكان أول سارق قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام من الرجال الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف ، ومن النساء مرة بنت سفيان بن عبدالأسد من بن مخزوم ، وقطع أبو بكر يد اليمني الذي سرق العقد ؛ وقطع عمر يد ابن سمرة أخي عبدالرحمن بن سمرة ولا خلاف فيه. وظاهر الآية العموم في كل سارق وليس كذلك ؛ لقوله عليه السلام "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا" فبين انه إنما أراد بقوله : {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} بعض السراق دون بعض ؛ فلا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار ، أو فيما قيمته ربع دينار ؛ وهذا قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي رضي الله عنهم ، وبه قال عمر بن عبدالعزيز والليث والشافعي وأبو ثور ؛ وقال مالك : تقطع اليد في ربع دينار أو في ثلاثة دراهم ، فإن سرق درهمين وهو ربع دينار لانحطاط الصرف لم تقطع يده فيهما. والعروض لا تقطع فيها إلا أن تبلغ ثلاثة دراهم قل الصرف أو كثر ؛ فجعل مالك الذهب والورق كل واحد منهما أصلا بنفسه ، وجعل تقويم العروض بالدراهم في المشهور. وقال أحمد وإسحاق : إن سرق ذهب فربع دينار ، وإن سرق غير الذهب والفضة كانت قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم من الورق. وهذا نحو ما صار إليه مال في القول الآخر ؛ والحجة للأول حديث ابن عمر أن رجلا سرق جحفة ، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بها فقومت بثلاثة دراهم. والشافعي حديث عائشة رضي الله عنها في الربع دينار أصلا رد إليه تقويم العروض لا بالثلاثة دراهم على غلاء الذهب ورخصه ، وترك حديث ابن عمر لما رآه - والله أعلم - من اختلاف الصحابة في المجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فابن عمر يقول : ثلاثة دراهم ؛ وابن عباس يقول : عشرة دراهم ؛ وأنس يقول : خمسة دراهم ، (6/160) وحديث عائشة في الربع دينار حديث صحيح ثابت لم يختلف فيه عن عائشة إلا أن بعضهم وقفه ، ورقعه من يجب العمل بقوله لحفظه وعدالته ؛ قاله أبو عمر وغيره. وعلى هذا فإن بلغ العرض المسروق ربع دينار بالتقويم قطع سارقه ؛ وهو قول إسحاق ؛ فقف على هذين الأصلين فهما عمدة الباب ، وما أصح ما قيل فيه. وقال أبو حنيفة وصاحباه والثوري : لا تقطع يد السارق إلا في عشرة دراهم كيلا ، أو دينارا ذهبا عينا أو وزنا ؛ ولا يقطع حتى خرج بالمتاع من ملك الرجل ؛ وحجتهم حديث ابن عباس ؛ قال : قوم المجن الذي مع قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة دراهم. ورواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان ثمن المجن يومئذ عشرة دراهم ؛ أخرجهما الدارقطني وغيره. وفي المسألة قول رابع ، وهو ما رواه الدارقطني عن عمر قال : لا تقطع الخمس إلا في خمس ؛ وبه قال سليمان بن يسار وابن أبي ليلى وابن شبرمة ؛ وقال أنس بن مالك : قطع أبو بكر - رحمه الله - في مجن قيمته خمسة دراهم. وقول خامس : وهو أن اليد تقطع في أربعة دراهم فصاعدا ؛ روي عن أبي هريرة وأبى سعيد الخدري. وقول سادس : وهو أن اليد تقطع في درهم فما فوقه ؛ قاله عثمان البتي. وذكر الطبري أن عبدالله بن الزبير قطع في درهم. وقول سابع : وهو أن اليد تقطع في كل ما له قيمة على ظاهر الآية ؛ هذا قول الخوارج ، وروي عن الحسن البصري ، وهي إحدى الروايات الثلاث عنه ، والثانية كما روي عن عمر ، والثالثة حكاها قتادة عنه أنه قال : تذاكرنا القطع في كم يكون على عهد زياد ؟ فاتفق رأينا على درهمين. وهذه أقوال متكافئة والصحيح منها ما قدمناه لك ؛ فإن قيل : قد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده" وهذا موافق لظاهر الآية في القطع في القليل والكثير ؛ فالجواب أن هذا خرج مخرج التحذير بالقليل عن الكثير ، كما جاء في معرض الترغيب بالقليل مجرى الكثير في قوله عليه السلام : "من بنى لله مسجدا ولو مثل مفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة" .(6/161) وقيل : إن ذلك مجاز من وجه آخر ؛ وذلك أنه إذا رضى بسرقة القليل سرق الكثير فقطعت يده. وأحسن من هذا ما قاله الأعمش وذكره البخاري في آخر الحديث كالتفسير قال : كانوا يرون أنه بيض الحديد ، والحبل كانوا يرون أنه منها ما يساوي دراهم. قلت : كحبال السفينة وشبه ذلك. والله أعلم. الثانية- اتفق جمهور الناس على أن القطع لا يكون إلا على من أخرج من حرز ما يجب فيه القطع. وقال الحسن بن أبي الحسن : إذا جمع الثياب في البيت. وقال الحسن بن أبي الحسن أيضا في قول آخر مثل قول سائر أهل العلم فصار اتفاقا صحيحا. والحمد لله. الثالثة- الحرز هو ما نصب عادة لحفظ أموال الناس ، وهو يختلف في كل شيء بحسب حاله على ما يأتي بيانه. قال ابن المنذر : ليس في هذا الباب خبر ثابت لا مقال فيه لأهل العلم ، وإنما ذلك كالإجماع من أهل العلم. وحكي عن الحسن وأهل الظاهر أنهم لم يشترطوا الحرز. وفي الموطأ لمالك عن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي حسين المكي ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن" قال أبو عمر : هذا حديث يتصل معناه من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص وغيره ، وعبدالله هذا ثقة عند الجميع ، وكان أحمد يثني عليه. وعن عبدالله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الثمر المعلق فقال : "من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ومن خرج بشيء منه فعليه القطع ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة" وفي رواية. "وجلدات نكال" بدل "والعقوبة" . قال العلماء : ثم نسخ الجلد وجعل مكانه القطع. قال أبو عمر : قول "غرامة مثليه" منسوخ لا أعلم أحد من الفقهاء قال به إلا ما جاء عن عمر في دقيق حاطب بن أبي بلتعة ؛ خرج مالك ؛ ورواية عن أحمد بن حنبل. والذي عليه الناس في الغرم بالمثل ؛ (6/162) لقوله تعالى : {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وروى أبو داود عن صفوان بن أمية قال : كنت نائما في المسجد على خميصة لي ثمن ثلاثين درهما ، فجاء رجل فاختلسها مني ، فأخذ الرجل فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به ليقطع ، قال : فأتيته فقلت أتقطع من أجل ثلاثين درهما ؟ أنا أبيعه وأنسئه ثمنها ؛ قال : "فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به" ؟ . ومن جهة النظر أن الأموال خلقت مهيأة للانتفاع بها للخلق أجمعين ، ثم الحكمة الأولية حكمت فيها بالاختصاص الذي هو الملك شرعا ، وبغيت الأطماع متعلقة بها ، والآمال محومة عليها ؛ فتكفها المروءة والديانة في أقل الخلق ، ويكفها الصون والحرز عن أكثرهم ، فإذا أحرزها مالك فقد اجتمع فيها الصون والحرز الذي هو غاية الإمكان للإنسان ؛ فإذا هتكا فحشت الجريمة فعظمت العقوبة ، وإذا هتك أحد الصونين وهو الملك وجب الضمان والأدب. الرابعة- فإذا اجتمع جماعة فاشتركوا في إخراج نصاب من حرزه ، فلا يخلو ، إما أن يكون بعضهم ممن يقدر على إخراجه ، أولا إلا بتعاونهم ، فإذا كان الأول فاختلف فيه علماؤنا على قولين : أحدهما يقطع فيه ، والثاني لا يقطع فيه ؛ وبه قال أبو حنيفة والشافعي ؛ قالا : لا يقطع في السرقة المشتركون إلا بشرط أن يجب لكل واحد من حصته نصاب ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا" وكل واحد من هؤلاء لم يسرق نصابا فلا قطع عليهم. ووجه القطع في إحدى الروايتين أن الاشتراك في الجناية لا يسقط عقوبتها كالاشتراك في القتل ؛ قال ابن العربي : وما أقرب ما بينهما فإنا إنما قتلنا الجماعة بالواحد صيانة للدماء ؛ لئلا يتعاون على سفكها الأعداء ، فكذلك في الأموال مثله ؛ لا سيما وقد ساعدنا الشافعي على أن الجماعة إذا اشتركوا في قطع يد رجل قطعوا ولا فرق بينهما. وإن كان الثاني وهو مما لا يمكن إخراجه إلا بالتعاون فإنه يقطع جميعهم بالاتفاق من العلماء ؛ ذكره ابن العربي.(6/163) | |
|