فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الثلاثاء 29 مارس - 22:06 | |
| فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} حض على الجهاد. وهو يتضمن تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين الذين يسومونهم سوء العذاب ، ويفتنونهم عن الدين ؛ فأوجب تعالى الجهاد لإعلاء كلمته وإظهار دينه واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده ، وإن كان في ذلك تلف النفوس. وتخليص الأسارى واجب على جماعة المسلمين إما بالقتال وإما بالأموال ؛ وذلك أوجب لكونها دون النفوس إذ هي أهون منها. قال مالك : واجب على الناس أن يفدوا الأسارى بجميع أموالهم. وهذا لا خلاف فيه ؛ لقوله عليه السلام "فكوا العاني " وقد مضى في "البقرة". وكذلك قالوا : عليهم أن يواسوهم فإن المواساة دون المفاداة. فإن كان الأسير غنيا فهل يرجع عليه الفادي أم لا ؛ قولان للعلماء ، أصحهما الرجوع. الثانية : قوله تعالى : {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} عطف على اسم الله عز وجل ، أي وفي سبيل المستضعفين ، فإن خلاص المستضعفين من سبيل الله. وهذا اختيار الزجاج وقال الزهري. وقال محمد بن يزيد : أختار أن يكون المعنى وفي المستضعفين فيكون عطفا على السبيل ؛ أي وفي المستضعفين لاستنقاذهم ؛ فالسبيلان مختلفان. ويعني بالمستضعفين من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال كفرة قريش وأذاهم وهم المعنيون بقوله عليه السلام : "اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين" . وقال ابن عباس : كنت أنا وأمي من المستضعفين. في البخاري عنه {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} فقال : كنت أنا وأمي ممن عذر الله ، أنا من الولدان وأمي من النساء. الثالثة : قوله تعالى : {مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} القرية هنا مكة بإجماع من المتأولين. ووصفها بالظلم وإن كان الفعل للأهل لعلقة الضمير. وهذا كما تقول : مررت بالرجل الواسعة داره ، والكريم أبوه ، والحسنة جاريته. وإنما وصف الرجل بها للعلقة اللفظية (5/279) بينهما وهو الضمير ، فلو قلت : مررت بالرجل الكريم عمر ولم تجز المسألة ؛ لأن الكرم لعمرو فلا يجوز أن يجعل صفة لرجل إلا بعلقة وهي الهاء. ولا تثنى هذه الصفة ولا تجمع ، لأنها تقوم مقام الفعل ، فالمعنى أي التي ظلم أهلها ولهذا لم يقل الظالمين. وتقول : مررت برجلين كريم أبواهما حسنة جاريتاهما ، وبرجال كريم آباؤهم حسنة جواريهم. {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ} أي من عندك. {وَلِيّاً} أي من يستنقذنا {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} أي ينصرنا عليهم. 76- {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} قوله تعالى : {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي في طاعته. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} قال أبو عبيدة والكسائي : الطاغوت يذكر ويؤنث. قال أبو عبيد : وإنما ذكر وأنث لأنهم كانوا يسمون الكاهن والكاهنة طاغوتا. قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج قال : حدثنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله وسئل عن الطاغوت التي كانوا يتحاكمون إليها فقال : كانت في جهينة واحدة وفي أسلم واحدة ، وفي كل حي واحدة. قال أبو إسحاق : الدليل على أنه الشيطان قوله عز وجل : {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} أي مكره ومكر من اتبعه. ويقال : أراد به يوم بدر حين قال للمشركين {لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ} على ما يأتي. 77- {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا (5/280) الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} روى عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أن عبدالرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا : يا نبي الله ، كنا في عز ونحن مشركون ، فلما آمنا صرنا أذلة ؟ فقال : "إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم " . فلما حول الله تعالى إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا ، فنزلت الآية. أخرجه النسائي في سننه ، وقاله الكلبي. وقال مجاهد : هم يهود. قال الحسن : هي في المؤمنين ؛ لقوله : {يَخْشَوْنَ النَّاسَ} أي مشركي مكة {كَخَشْيَةِ اللَّهِ} فهي على ما طبع عليه البشر من المخافة لا على المخالفة. قال السدي : هم قوم أسلموا قبل فرض القتال فلما فرض كرهوه. وقيل : هو وصف للمنافقين ؛ والمعنى يخشون القتل من المشركين كما يخشون الموت من الله. {أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} أي عندهم وفي اعتقادهم. قلت : وهذا أشبه بسياق الآية ، لقوله : {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي هلا ، ولا يليها إلا الفعل. ومعاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابي كريم يعلم أن الآجال محدودة والأرزاق مقسومة ، بل كانوا لأوامر الله ممتثلين سامعين طائعين ، يرون الوصول إلى الدار الآجلة خيرا من المقام في الدار العاجلة ، على ما هو معروف من سيرتهم رضي الله عنهم. اللهم إلا أن يكون قائله ممن لم يرسخ في الإيمان قدمه ، ولا انشرح بالإسلام جنانه ، فإن أهل الإيمان متفاضلون فمنهم الكامل ومنهم الناقص ، وهو الذي تنفر نفسه عما يؤمر به فيما تلحقه فيه المشقة وتدركه فيه الشدة. والله أعلم. قوله تعالى : {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} ابتداء وخبر. وكذا {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} أي المعاصي ؛ وقد مضى القول في هذا في "البقرة" ومتاع الدنيا منفعتها والاستمتاع بلذاتها (5/281) وسماه قليلا لأنه لا بقاء له. وقال النبي صلى الله عليه وسلم "مثلي ومثل الدنيا كراكب قال قيلولة تحت شجرة ثم راح وتركها " وقد تقدم هذا المعنى في "البقرة "مستوفى. 78- {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} فيه أربع مسائل : الأولى : قوله تعالى : {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} شرط ومجازاة ، و"ما" زائدة وهذا الخطاب عام وإن كان المراد المنافقين أو ضعفة المؤمنين الذين قالوا : {لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي إلى أن نموت بآجالنا ، وهو أشبه المنافقين كما ذكرنا ، لقولهم لما أصيب أهل أحد ، قالوا : {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} فرد الله عليهم {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} قال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه. وواحد البروج برج ، وهو البناء المرتفع والقصر العظيم. قال طرفة يصف ناقة : كأنها برج رومي تكففها ... بان بشيد واجر وأحجار وقرأ طلحة بن سليمان "يدرككم "برفع الكاف على إضمار الفاء ، وهو قليل لم يأت إلا في الشعر نحو قوله : من يفعل الحسنات اللهُ يشكرها أراد فالله يشكرها. واختلف العلماء وأهل التأويل في المراد بهذه البروج ، فقال الأكثر وهو الأصح. إنه أراد البروج في الحصون التي في الأرض المبنية ، لأنها غاية البشر في التحصن والمنعة ، فمثل الله (5/282) لهم بها. وقال قتادة : في قصور محصنة. وقاله ابن جريج والجمهور ، ومنه قول عامر بن الطفيل للنبي صلى الله عليه وسلم : هل لك في حصن حصين ومنعة ؟ وقال مجاهد : البروج القصور. ابن عباس : البروج الحصون والآطام والقلاع. ومعنى "مشيدة "مطولة ، قال الزجاج والقتبي. عكرمة : المزينة بالشيد وهو الجص. قال قتادة : محصنة. والمشيد والمشيد سواء ، ومنه {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} والتشديد للتكثير. وقيل المشيد المطول ، والمشيد المطلي بالشيد. يقال : شاد البنيان وأشاد بذكره. وقال السدي : المراد بالبروج بروج في السماء الدنيا مبنية. وحكى هذا القول مكي عن مالك وأنه قال ألا ترى إلى قوله تعالى : {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} و {جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} . وحكاه ابن العربي أيضا عن ابن القاسم عن مالك. وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال : "في بروج مشيدة" معناه في قصور من حديد. قال ابن عطية : وهذا لا يعطيه ظاهر اللفظ. الثانية : هذه الآية ترد على القدرية في الآجال ، لقوله تعالى : {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} فعرفهم بذلك أن الآجال متى انقضت فلا بد من مفارقة الروح الجسد ، كان ذلك بقتل أو موت أو غير ذلك مما أجرى الله العادة بزهوقها به. وقالت المعتزلة : إن المقتول لو لم يقتله القاتل لعاش. وقد تقدم الرد عليهم في "آل عمران "ويأتي فوافقوا بقولهم هذا الكفار والمنافقين. الثالثة : اتخاذ البلاد وبنائها ليمتنع بها في حفظ الأموال والنفوس ، وهي سنة الله في عباده. وفي ذلك أدل دليل على رد قول من يقول : التوكل ترك الأسباب ، فإن اتخاذ البلاد من أكبر الأسباب وأعظمها وقد أمرنا بها ، واتخذها الأنبياء وحفروا حولها الخنادق عدة وزيادة في التمنع. وقد قيل للأحنف : ما حكمة السور ؟ فقال : ليردع السفيه حتى يأتي الحكيم فيحميه. (5/283) الرابعة : وإذا تنزلنا على قول مالك والسدي في أنها بروج السماء ، فبروج الفلك اثنا عشر برجا مشيدة من الرفع ، وهي الكواكب العظام. وقيل للكواكب بروج لظهورها ، من برج يبرج إذا ظهر وارتفع ؛ ومنه قوله : {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} وخلقها الله تعالى منازل للشمس والقمر وقدره فيها ، ورتب الأزمنة عليها ، وجعلها جنوبية وشمالية دليلا على المصالح وعلما على القبلة ، وطريقا إلى تحصيل آناء الليل وآناء النهار لمعرفة أوقات التهجد غير ذلك من أحوال المعاش. قوله تعالى : {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي إن يصب المنافقين خصب قالوا : هذا من عند الله. {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} أي جدب ومحل قالوا : هذا من عندك ، أي أصابنا ذلك بشؤمك وشؤم أصحابك. وقيل : الحسنة السلامة والأمن ، والسيئة الأمراض والخوف. وقيل : الحسنة الغنى ، والسيئة الفقر. وقيل : الحسنة النعمة والفتح والغنيمة يوم بدر ، والسيئة البلية والشدة والقتل يوم أحد. وقيل : الحسنة السراء ، والسيئة الضراء. هذه أقوال المفسرين وعلماء التأويل - ابن عباس وغيره - في الآية. وأنها نزلت في اليهود والمنافقين ، وذلك أنها لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عليهم قالوا : ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه. قال ابن عباس : ومعنى {مِنْ عِنْدِكَ} أي بسوء تدبيرك. وقيل : {مِنْ عِنْدِكَ} بشؤمك ، كما ذكرنا ، أي بشؤمك الذي لحقنا ، قالوه على جهة التطير. قال الله تعالى : {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي الشدة والرخاء والظفر والهزيمة من عند الله ، أي بقضاء الله وقدره. {فمال هؤلاء القوم} يعني المنافقين {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} أي ما شأنهم لا يفقهون أن كلا من عند الله. 79- {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} (5/284) قوله تعالى : {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} أي ما أصابك يا محمد من خصب ورخاء وصحة وسلامة فبفضل الله عليك وإحسانه إليك ، وما أصابك من جدب وشدة فبذنب أتيته عوقبت عليه. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. أي ما أصابكم يا معشر الناس من خصب واتساع رزق فمن تفضل الله عليكم ، وما أصابكم من جدب وضيق رزق فمن أنفسكم ؛ أي من أجل ذنوبكم وقع ذلك بكم. قال الحسن والسدي وغيرهما ؛ كما قال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} . وقد قيل : الخطاب للإنسان والمراد به الجنس ؛ كما قال تعالى : {وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} أي إن الناس لفي خسر ، ألا تراه استثنى منهم فقال {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} ولا يستثنى إلا من جملة أو جماعة. وعلى هذا التأويل يكون قوله {مَا أَصَابَكَ} استئنافا. وقيل : في الكلام حذف تقديره يقولون ؛ وعليه يكون الكلام متصلا ؛ والمعنى فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا حتى يقولوا ما أصابك من حسنة فمن الله. وقيل : إن ألف الاستفهام مضمرة ؛ والمعنى أفمن نفسك ؟ ومثله قوله تعالى : {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} والمعنى أو تلك نعمة ؟ وكذا قوله تعالى : {فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي} أي أهذا ربي ؟ قال أبو خراش الهذلي : رموني وقالوا يا خويلد لم تُرع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم أراد "أهم "فأضمر ألف الاستفهام وهو كثير وسيأتي. قال الأخفش "ما "بمعنى الذي. وقيل : هو شرط. قال النحاس : والصواب قول الأخفش ؛ لأنه نزل في شيء بعينه من الجدب ، وليس هذا من المعاصي في شيء ولو كان منها لكان وما أصبت من سيئة. وروى عبدالوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس وأبي وابن مسعود "ما أصابك من حسنة فمن الله وما (5/285) أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك "فهذه قراءة على التفسير ، وقد أثبتها بعض أهل الزيغ من القرآن ، والحديث بذلك عن ابن مسعود وأبي منقطع ؛ لأن مجاهدا لم ير عبدالله ولا أبيا. وعلى قول من قال : الحسنة الفتح والغنيمة يوم بدر ، والسيئة ما أصابهم يوم أحد ؛ أنهم عوقبوا عند خلاف الرماة الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحموا ظهره ولا يبرحوا من مكانهم ، فرأوا الهزيمة على قريش والمسلمون يغنمون أموالهم فتركوا مصافهم ، فنظر خالد بن الوليد وكان مع الكفار يومئذ ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انكشف من الرماة فأخذ سرية من الخيل ودار حتى صار خلف المسلمين وحمل عليهم ، ولم يكن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرماة إلا صاحب الراية ، حفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف حتى استشهد مكانه ؛ على ما تقدم في "آل عمران "بيانه. فأنزل الله تعالى نظير هذه الآية وهو قوله تعالى : {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} يعني يوم أحد {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} يعني يوم بدر {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} . ولا يجوز أن تكون الحسنة ههنا الطاعة والسيئة المعصية كما قالت القدرية ؛ إذ لو كان كذلك لكان ما أصبت كما قدمنا ، إذ هو بمعنى الفعل عندهم والكسب عندنا ، وإنما تكون الحسنة الطاعة والسيئة المعصية في نحو قوله : {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} وأما في هذه الآية فهي كما تقدم شرحنا له من الخصب والجدب والرخاء والشدة على نحو ما جاء في آية "الأعراف "وهي قوله تعالى : {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} . "بالسنين "بالجدب سنة بعد سنة ؛ حبس المطر عنهم فنقصت ثمارهم وغلت أسعارهم. {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} أي يتشاءمون بهم ويقولون هذا من أجل أتباعنا لك وطاعتنا إياك ؛ فرد الله عليهم بقوله : {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} يعني أن طائر البركة وطائر الشؤم من الخير والشر والنفع والضر من الله تعالى لا صنع فيه لمخلوق ؛ فكذلك قوله تعالى فيما أخبر عنهم أنهم يضيفونه للنبي صلى الله عليه وسلم (5/286) حيث قال : {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} كما قال : {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} وكما قال تعالى : {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} أي بقضاء الله وقدره وعلمه ، وآيات الكتاب يشهد بعضها لبعض. قال علماؤنا : ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يشك في أن كل شيء بقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته ؛ كما قال تعالى : {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} وقال تعالى : {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} مسألة : وقد تجاذب بعض جهال أهل السنة هذه الآية واحتج بها ؛ كما تجاذبها القدرية واحتجوا بها ، ووجه احتجاجهم بها أن القدرية يقولون : إن الحسنة ههنا الطاعة ، والسيئة المعصية ؛ قالوا : وقد نسب المعصية في قوله تعالى : {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} إلى الإنسان دون الله تعالى ؛ فهذا وجه تعلقهم بها. ووجه تعلق الآخرين منها قوله تعالى : {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} قالوا : فقد أضاف الحسنة والسيئة إلى نفسه دون خلقه. وهذه الآية إنما يتعلق بها الجهال من الفريقين جميعا ؛ لأنهم بنوا ذلك على أن السيئة هي المعصية ، وليست كذلك لما بيناه. والله أعلم. والقدرية إن قالوا "ما أصابك من حسنة "أي من طاعة "فمن الله "فليس هذا اعتقادهم ؛ لأن اعتقادهم الذي بنوا عليه مذهبهم أن الحسنة فعل المحسن والسيئة فعل المسيء. وأيضا فلو كان لهم فيها حجة لكان يقول : ما أصبت من حسنة وما أصبت من سيئة ؛ لأنه الفاعل للحسنة والسيئة جميعا ، فلا يضاف إليه إلا بفعله لهما لا بفعل غيره. نص على هذه المقالة الإمام أبو الحسن شبيب بن إبراهيم بن محمد بن حيدرة في كتابه المسمى بحز الغلاصم في إفحام المخاصم. قوله تعالى : {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} مصدر مؤكد ، ويجوز أن يكون المعنى ذا رسالة {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} نصب على البيان والباء زائدة ، أي كفى الله شهيدا على صدق رسالة نبيه وأنه صادق. (5/287) 80- {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} قوله تعالى : {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} أعلم الله تعالى أن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم طاعة له. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من أطاعني فقد أطاع الله ومن يعصني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني " في رواية. "ومن أطاع أميري ، ومن عصى أميري ". قوله تعالى : {وَمَنْ تَوَلَّى} أي أعرض {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} أي حافظا ورقيبا لأعمالهم ، إنما عليك البلاغ. وقال القتبي : محاسبا ؛ فنسخ الله هذا بآية السيف وأمره بقتال من خالف الله ورسوله. 81- {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} 82- {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} قوله تعالى : {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} أي أمرنا طاعة ، ويجوز "طاعة" بالنصب ، أي نطيع طاعة ، وهي قراءة نصر بن عاصم والحسن والجحدري. وهذا في المنافقين في قول أكثر المفسرين ؛ أي يقولون إذا كانوا عندك : أمرنا طاعة ، أو نطيع طاعة ، وقولهم هذا ليس بنافع ؛ لأن من لم يعتقد الطاعة ليس بمطيع حقيقة ، لأن الله تعالى لم يحقق طاعتهم بما أظهروه ، فلو كانت الطاعة بلا اعتقاد حقيقة لحكم بها لهم ؛ فثبت أن الطاعة بالاعتقاد مع وجودها. {فَإِذَا بَرَزُوا} أي خرجوا {مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} فذكر الطائفة لأنها في معنى (5/288) رجال. وأدغم الكوفيون التاء في الطاء ؛ لأنهما من مخرج واحد ، واستقبح ذلك الكسائي في الفعل وهو عند البصريين غير. قبيح. ومعنى "بيت "زور وموه. وقيل : غير وبدل وحرف ؛ أي بدلوا قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما عهده إليهم وأمرهم به.. والتبييت التبديل ؛ ومنه قول الشاعر : أتوني فلم أرض ما بيتوا ... وكانوا أتوني بأمر نكر لأنكح أيمهم منذرا ... وهل ينكح العبد حر لحر آخر : بيت قولي عبدالمليـ ... ـك قاتله الله عبدا كفورا وبيت الرجل الأمر إذا دبر ليلا ؛ قال الله تعالى : {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} . والعرب تقول : أمر بيت بليل إذا أحكم. وإنما خص الليل بذلك لأنه وقت يتفرغ فيه. قال الشاعر : أجمعوا أمرهم بليل فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء ومن هذا بيت الصيام. والبيوت : الماء يبيت ليلا. والبيوت : الأمر يبيت عليه صاحبه مهتما به ؛ قال الهذلي : وأجعل فقرتها عدة ... إذا خفت بيوت أمر عضال والتبييت والبيات أن يأتي العدو ليلا. وبات يفعل كذا إذا فعله ليلا ؛ كما يقال : ظل بالنهار. وبيت الشيء قدر. فإن قيل : فما وجه الحكمة في ابتدائه بذكر جملتهم ثم قال : "بيت طائفة منهم " ؟ قيل : إنما عبر عن حال من علم أنه بقي على كفره ونفاقه ، وصفح عمن علم أنه سيرجع عن ذلك. وقيل : إنما عبر عن حال من شهد وحار في أمره ، وأما من سمع وسكت فلم يذكره. والله أعلم. {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} أي يثبته في صحائف أعمالهم ليجازيهم عليه. وقال الزجاج : المعنى ينزله عليك في الكتاب. وفي هذه الآية دليل على أن (5/289) مجرد القول لا يفيد شيئا كما ذكرنا ؛ فإنهم قالوا : طاعة ، ولفظوا بها ولم يحقق الله طاعتهم ولا حكم لهم بصحتها ؛ لأنهم لم يعتقدوها. فثبت أنه لا يكون المطيع مطيعا إلا باعتقادها مع وجودها. {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} قوله تعالى : {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي لا تخبر بأسمائهم ؛ عن الضحاك ، يعني المنافقين. وقيل : لا تعاقبهم. {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} ثم أمره بالتوكل عليه والثقة به في النصر على عدوه. ويقال : إن هذا منسوخ بقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} قوله تعالى : {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} ثم عاب المنافقين بالإعراض عن التدبر في القرآن والتفكر فيه وفي معانيه. تدبرت الشيء فكرت في عاقبته. وفي الحديث : " لا تدابروا " أي لا يولي بعضكم بعضا دبره. وأدبر القوم مضى أمرهم إلى آخره. والتدبير أن يدبر الإنسان أمره كأنه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته. ودلت هذه الآية وقوله تعالى : {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} على وجوب التدبر في القرآن ليعرف معناه. فكان في هذا رد على فساد قول من قال : لا يؤخذ من تفسيره إلا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنع أن يتأول على ما يسوغه لسان العرب. وفيه دليل على الأمر بالنظر والاستدلال وإبطال التقليد ، وفيه دليل على إثبات القياس. قوله تعالى : {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} أي تفاوتا وتناقضا ؛ عن ابن عباس وقتادة وابن زيد. ولا يدخل في هذا اختلاف ألفاظ القراءات وألفاظ الأمثال والدلالات ومقادير السور والآيات. وإنما أراد اختلاف التناقض والتفاوت. وقيل : المعنى لو كان ما تخبرون به من عند غير الله لاختلف. وقيل : إنه ليس من متكلم يتكلم كلاما كثيرا إلا وجد في كلامه اختلاف كثير ؛ إما في الوصف واللفظ ؛ وإما في جودة المعنى ، وإما في التناقض ، وإما في الكذب. فأنزل الله عز وجل القرآن وأمرهم بتدبره ؛ لأنهم لا يجدون فيه اختلافا في وصف ولا ردا له في معنى ، ولا تناقضا ولا كذبا فيما يخبرون به من الغيوب وما يسرون. (5/290) 83- {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً} قوله تعالى : {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ} في "إذا "معنى الشرط ولا يجازى بها وإن زيدت عليها "ما "وهي قليلة الاستعمال. قال سيبويه. والجيد ما قال كعب بن زهير : وإذا ما تشاء تبعث منها ... مغرب الشمس ناشطا مذعورا يعني أن الجيد لا يجزم بإذا ما كما لم يجزم في هذا البيت ، وقد تقدم في أول "البقرة". والمعنى أنهم إذا سمعوا شيئا من الأمور فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم {أَوِ الْخَوْفِ} وهو ضد هذا {أَذَاعُوا بِهِ} أي أفشوه وأظهروه وتحدثوا به قبل أن يقفوا على حقيقته. فقيل : كان هذا من ضعفة المسلمين ؛ عن الحسن ؛ لأنهم كانوا يفشون أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويظنون أنهم لا شيء عليهم في ذلك. وقال الضحاك وابن زيد : هو في المنافقين فنهوا عن ذلك لما يلحقهم من الكذب في الإرجاف. قوله تعالى : {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} أي لم يحدثوا به ولم يفشوه حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يحدث به ويفشيه. أو أولو الأمر وهم أهل العلم والفقه ؛ عن الحسن وقتادة وغيرهما. السدي وابن زيد : الولاة. وقيل : أمراء السرايا. {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي يستخرجونه ، أي لعلموا ما ينبغي أن يفشى منه وما ينبغي أن يكتم. والاستنباط مأخوذ من استنبطت الماء إذا استخرجته. والنبط : الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر أول ما تحفر. وسمي النبط نبطا لأنهم (5/291) يستخرجون ما في الأرض. والاستنباط في اللغة الاستخراج ، وهو يدل على الاجتهاد إذا عدم النص والإجماع كما تقدم. قوله تعالى : {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} رفع بالابتداء عند سيبويه ، ولا يجوز أن يظهر الخبر عنده. والكوفيون يقولون : رفع بلولا. {لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً} في هذه الآية ثلاثة أقوال ؛ قال ابن عباس وغيره : المعنى أذاعوا به إلا قليلا منهم لم يذع ولم يفش. وقاله جماعة من النحويين : الكسائي والأخفش وأبو عبيد وأبو حاتم والطبري. وقيل : المعنى لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا منهم ؛ عن الحسن وغيره ، واختاره الزجاج قال : لأن هذا الاستنباط الأكثر يعرفه ؛ لأنه استعلام خبر. واختار الأول الفراء قال : لأن علم السرايا إذا ظهر علمه المستنبط وغيره ، والإذاعة تكون في مضى دون بعض. قال الكلبي عنه : فلذلك استحسنت الاستثناء من الإذاعة. قال النحاس : فهذان قولان على المجاز ، يريد أن في الكلام تقديما وتأخيرا. وقول ثالث بغير مجاز : يكون المعنى ولولا فضل الله عليكم ورحمته بأن بعث فيكم رسولا أقام فيكم الحجة لكفرتم وأشركتم إلا قليلا منكم فإنه كان يوحد. وفيه قول رابع - قال الضحاك : المعنى لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ، أي إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حدثوا أنفسهم بأمر من الشيطان إلا قليلا ، يعني الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى. وعلى هذا القول يكون قوله {إِلَّا قَلِيلاً} مستثنى من قوله {لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} . قال المهدوي : وأنكر هذا القول أكثر العلماء ، إذ لولا فضل الله ورحمته لاتبع الناس كلهم الشيطان. 84- {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً} قوله تعالى : {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} هذه الفاء متعلقة بقوله : {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً. فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي من أجل هذا فقاتل. (5/292) وقيل : هي متعلقة بقوله : {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَاتِلْ} . كأن هذا المعنى : لا تدع جهاد العدو والاستنصار عليهم للمستضعفين من المؤمنين ولو وحدك ؛ لأنه وعده بالنصر. قال الزجاج : أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهاد وإن قاتل وحده ؛ لأنه قد ضمن له النصرة. قال ابن عطية : "هذا ظاهر اللفظ ، إلا أنه لم يجئ في خبر قط أن القتال فرض عليه دون الأمة مدة ما ؛ فالمعنى والله أعلم أنه خطاب له في اللفظ ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه ؛ أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له ؛ {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} . ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يجاهد ولو وحده ؛ ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : "والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي " . وقول أبي بكر وقت الردة : ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي. وقيل : إن هذه الآية نزلت في موسم بدر الصغرى ؛ فإن أبا سفيان لما انصرف من أحد واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم موسم بدر الصغرى ؛ فلما جاء الميعاد خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين راكبا فلم يحضر أبو سفيان ولم يتفق قتال. وهذا على معنى ما قاله مجاهد كما تقدم في "آل عمران". ووجه النظم على هذا والاتصال بما قبل أنه وصف المنافقين بالتخليط وإيقاع الأراجيف ، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم وبالجد في القتال في سبيل الله وإن لم يساعده أحد على ذلك. قوله تعالى : {لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} {تُكَلَّفُ} مرفوع لأنه مستقبل ، ولم يجزم لأنه ليس علة للأول. وزعم الأخفش أنه يجوز جزمه. {إِلَّا نَفْسَكَ} خبر ما لم يسم فاعله ؛ والمعنى لا تلزم فعل غيرك ولا تؤاخذ به. قوله تعالى : {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} أي حضهم على الجهاد والقتال. يقال : حرضت فلانا على كذا إذا أمرته به. وحارض فلان على الأمر وأكب وواظب بمعنى واحد. (5/293) الثانية : {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} إطماع ، والإطماع من الله عز وجل واجب. على أن الطمع قد جاء في كلام العرب على الوجوب ؛ ومنه قوله تعالى : {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} . وقال ابن مقبل : ظني بهم كعسى وهم بتنوفة ... يتنازعون جوائز الأمثال قوله تعالى : {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً} أي صولة وأعظم سلطانا وأقدر بأسا على ما يريده. {وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً} أي عقوبة ؛ عن الحسن وغيره. قال ابن دريد : رماه الله بنكلة ، أي رماه بما ينكله. قال : ونكلت بالرجل تنكيلا من النكال. والمنكل الشيء الذي ينكل بالإنسان. قال : وأرم على أقفائهم بمنكل الثالثة : إن قال قائل : نحن نرى الكفار في بأس وشدة ، وقلتم : إن عسى بمعنى اليقين فأين ذلك الوعد ؟ قيل له : قد وجد هذا الوعد ولا يلزم وجوده على الاستمرار والدوام فمتى وجد ولو لحظة مثلا فقد صدق الوعد ؛ فكف الله بأس المشركين ببدر الصغرى ، وأخلفوا ما كانوا عاهدوه من الحرب والقتال {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} وبالحديبية أيضا عما راموه من الغدر وانتهاز الفرصة ، ففطن بهم المسلمون فخرجوا فأخذوهم أسرى ، وكان ذلك والسفراء يمشون بينهم في الصلح ، وهو المراد بقوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} على ما يأتي. وقد ألقى الله في قلوب الأحزاب الرعب وانصرفوا من غير قتل ولا قتال ؛ كما قال تعالى {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} . وخرج اليهود من ديارهم وأموالهم بغير قتال المؤمنين لهم ، فهذا كله بأس قد كفه الله عن المؤمنين ، مع أنه قد دخل من اليهود والنصارى العدد الكثير والجم الغفير تحت الجزية صاغرين وتركوا المحاربة داخرين ، فكف الله بأسهم عن المؤمنين. والحمد لله رب العالمين. (5/294) 85- {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً} فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : {مَنْ يَشْفَعْ} أصل الشفاعة والشفعة ونحوها من الشفع وهو الزوج في العدد ؛ ومنه الشفيع ؛ لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعا. ومنه ناقة شفوع إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة. وناقة شفيع إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها. والشفع ضم واحد إلى واحد. والشفعة ضم ملك الشريك إلى ملكك ؛ فالشفاعة إذا ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك ، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع وإيصال المنفعة إلى المشفوع له. الثانية : واختلف المتأولون في هذه الآية ؛ فقال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم هي في شفاعات الناس بينهم في حوائجهم ؛ فمن يشفع لينفع فله نصبب ، ومن يشفع ليضر فله كفل. وقيل : الشفاعة الحسنة هي في البر والطاعة ، والسيئة في المعاصي. فمن شفع شفاعة حسنة ليصلح بين اثنين استوجب الأجر ، ومن سعى بالنميمة والغيبة أثم ، وهذا قريب من الأول. وقيل : يعني بالشفاعة الحسنة الدعاء للمسلمين ، والسيئة الدعاء عليهم. وفي صحيح الخبر : "من دعا بظهر الغيب استجيب له وقال الملك آمين ولك بمثل ". هذا هو النصيب ، وكذلك في الشر ؛ بل يرجع شؤم دعائه عليه. وكانت اليهود تدعو على المسلمين. وقيل : المعنى من يكن شفعا لصاحبه في الجهاد يكن له نصيبه من الأجر ، ومن يكن شفعا لآخر في باطل يكن له نصيبه من الوزر. وعن الحسن أيضا : الحسنة ما يجوز في الدين ، والسيئة ما لا يجوز فيه. وكأن هذا القول جامع. والكفل الوزر والإثم ؛ عن الحسن وقتادة. السدي وابن زيد هو النصيب. واشتقاقه من الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه (5/295) لئلا يسقط. يقال : اكتفلت البعير إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه. ويقال له : اكتفل لأنه لم يستعمل الظهر كله بل استعمل نصيبا من الظهر. ويستعمل في النصيب من الخير والشر ، وفي كتاب الله تعالى {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} . والشافع يؤجر فيما يجوز وإن لم يشفع ؛ لأنه تعالى قال : {مَنْ يَشْفَعْ} ولم يقل يشفع. وفي صحيح مسلم "اشفعوا تؤجروا وليقض الله على لسان نبيه ما أحب". الثالثة : قوله تعالى : {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً} "مقيتا "معناه مقتدرا ؛ ومنه قول الزبير بن عبدالمطلب : وذي ضغن كففت النفس عنه ... وكنت على مساءته مقيتا أي قديرا. فالمعنى إن الله تعالى يعطي كل إنسان قوته ؛ ومنه قوله عليه السلام : "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقيت " . على من رواه هكذا ، أي من هو تحت قدرته وفي قبضته من عيال وغيره ؛ ذكره ابن عطية. يقول منه : قته أقوته قوتا ، وأقته أقيته إقاتة فأنا قائت ومقيت. وحكى الكسائي : أقات يقيت. وأما قول الشاعر : ... إني على الحساب مقيت فقال فيه الطبري : إنه من غير هذا المعنى المتقدم ، وإنه بمعنى الموقوف. وقال أبو عبيدة : المقيت الحافظ. وقال الكسائي : المقيت المقتدر. وقال النحاس : وقول أبي عبيدة أولى لأنه مشتق من القوت ، والقوت معناه مقدار ما يحفظ الإنسان. وقال الفراء : المقيت الذي يعطي كل رجل قوته. وجاء في الحديث : "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت " و "يقيت " ذكره الثعلبي : وحكى ابن فارس في المجمل : المقيت المقتدر ، والمقيت الحافظ والشاهد ، وما عنده قيت ليلة وقوت ليلة. والله أعلم. (5/296)
| |
|