فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الأربعاء 23 مارس - 22:44 | |
| الثامنة والعشرون : واختلف العلماء هل طلب الماء شرط في صحة التيمم أم لا ؟ فظاهر مذهب مالك أن ذلك شرط ، وهو قول الشافعي. وذهب القاضي أبو محمد بن نصر إلى أن ذلك ليس بشرط في صحة التيمم ؛ وهو قول أبي حنيفة. وروي عن ابن عمر أنه كان يكون في السفر على غلوتين من طريقه فلا يعدل إليه. قال إسحاق : لا يلزمه الطلب إلا في موضعه ، وذكر حديث ابن عمر ، والأول أصح وهو المشهور من مذهب مالك في الموطأ لقوله تعالى : {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} وهذا يقتضي أن التيمم لا يستعمل إلا بعد طلب الماء. وأيضا من جهة القياس أن هذا بدل مأمور به عند العجز عن مبدله ، فلا يجزئ فعله إلا مع تيقن عدم مبدله ؛ كالصوم مع العتق في الكفارة. التاسعة والعشرون : وإذا ثبت هذا وعدم الماء ، فلا يخلو أن يغلب على ظن المكلف اليأس من وجوده في الوقت ، أو يغلب على ظنه وجوده ويقوى رجاؤه له ، أو يتساوى عنده الأمران ، فهذه ثلاثة أحوال : فالأول : يستحب له التيمم والصلاة في أول الوقت : لأنه إذا فاتته فضيلة الماء فإنه يستحب له أن يحرز فضيلة أول الوقت. الثاني : يتيمم وسط الوقت ؛ حكاه أصحاب مالك عنه ، فيؤخر الصلاة رجاء إدراك فضيلة الماء ما لم تفته فضيلة أول الوقت ، فإن فضيلة أول الوقت قد تدرك بوسطه لقربه منه. الثالث : يؤخر الصلاة إلى أن يجد الماء في آخر الوقت ؛ لأن فضيلة الماء أعظم من فضيلة أول الوقت ، لأن فضيلة أول الوقت مختلف فيها ، وفضيلة الماء متفق عليها ، وفضيلة أول الوقت يجوز تركها دون ضرورة ولا يجوز ترك فضيلة الماء إلا لضرورة ، والوقت في ذلك هو آخر الوقت المختار ؛ قال ابن حبيب. ولو علم الماء في آخر الوقت فتيمم في أوله وصلى فقد قال ابن القاسم : يجزئه ، فإن وجد الماء أعاد في الوقت خاصة. وقال عبدالملك بن الماجشون : إن وجد الماء بعد أعاد أبدا.(5/229) الموفية ثلاثين : والذي يراعى من وجود الماء أن يجد منه ما يكفيه لطهارته ، فإن وجد أقل من كفايته تيمم ولم يستعمل ما وجد منه. وهذا قول مالك وأصحابه ؛ وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه ، وهو قول أكثر العلماء ؛ لأن الله تعالى جعل فرضه أحد الشيئين ، إما الماء وإما التراب. فإن لم يكن الماء مغنيا عن التيمم كان غير موجود شرعا ؛ لأن المطلوب من وجود الكفاية. وقال الشافعي في القول الآخر : يستعمل ما معه من الماء ويتيمم ؛ لأنه واجد ماء فلم يتحقق شرط التيمم ؛ فإذا استعمله وفقد الماء تيمم لما لم يجد. واختلف قول الشافعي أيضا فيما إذا نسي الماء في رحله فتيمم ؛ والصحيح أنه يعيد ؛ لأنه إذا كان الماء عنده فهو واجد وإنما فرط. والقول الآخر لا يعيد ؛ وهو قول مالك ؛ لأنه إذا لم يعلمه فلم يجده. الحادية والثلاثون : وأجاز أبو حنيفة الوضوء بالماء المتغير ؛ لقوله تعالى : {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} فقال : هذا نفي في نكرة ، وهو يعم لغة ؛ فيكون مفيدا جواز الوضوء بالماء المتغير وغير المتغير ؛ لانطلاق اسم الماء عليه. قلنا : النفي في النكرة يعم كما قلتم ، ولكن في الجنس ، فهو عام في كل ماء كان من سماء أو نهر أو عين عذب أو ملح. فأما غير الجنس وهو المتغير فلا يدخل فيه ؛ كما لا يدخل فيه ماء الباقلاء ولا ماء الورد ، وسيأتي حكم المياه في "الفرقان" ، إن شاء الله تعالى. الثانية والثلاثون : وأجمعوا على أن الوضوء والاغتسال لا يجوز بشيء من الأشربة سوى النبيذ عند عدم الماء ؛ وقوله تعالى : {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} يرده. والحديث الذي فيه ذكر الوضوء بالنبيذ رواه ابن مسعود ، وليس بثابت ؛ لأن الذي رواه أبو زيد ، وهو مجهول لا يعرف بصحبة عبدالله ؛ قاله ابن المنذر وغيره. وسيأتي في "الفرقان "بيانه إن شاء الله تعالى. الثالثة والثلاثون : الماء الذي يبيح عدمه التيمم هو الطاهر المطهر الباقي على أوصاف خلقته. وقال بعض من ألف في أحكام القرآن لما قال تعالى : {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}(5/230) فإنما أباح التيمم عند عدم كل جزء من ماء ؛ لأنه لفظ منكر يتناول كل جزء منه ؛ سواء كان مخالطا لغيره أو منفردا بنفسه. ولا يمتنع أحد أن يقول في نبيذ التمر ماء ؛ فلما كان كذلك لم يجز التيمم مع وجوده. وهذا مذهب الكوفيين أبي حنيفة وأصحابه ؛ واستدلوا على ذلك بأخبار ضعيفة يأتي ذكرها في سورة "الفرقان" ، وهناك يأتي القول في الماء إن شاء الله تعالى. الرابعة والثلاثون : قوله تعالى : {فَتَيَمَّمُوا} التيمم مما خصت به هذه الأمة توسعة عليها ؛ قال صلى الله عليه وسلم : "فضلنا على الناس بثلاث جعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا" وذكر الحديث ، وقد تقدم ذكر نزوله ، وذلك بسبب القلادة حسبما بيناه. وقد تقدم ذكر الأسباب التي تبيحه ، والكلام ههنا في معناه لغة وشرعا ، وفي صفته وكيفيته وما يتيمم به وله ، ومن يجوز له التيمم ، وشروط التيمم إلى غير ذلك من أحكامه. فالتيمم لغة هو القصد. تيممت الشيء قصدته ، وتيممت الصعيد تعمدته ، وتيممته برمحي وسهمي أي قصدته دون من سواه. وأنشد الخليل : يممته الرمح شزرا ثم قلت له ... هذي البسالة لا لعب الزحاليق قال الخليل : من قال في هذا البيت أممته فقد أخطأ ؛ لأنه قال : "شزرا "ولا يكون الشزر إلا من ناحية ولم يقصد به أمامه. وقال امرؤ القيس : تيممتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال(5/231) وقال أيضا : تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها طامي آخر : إني كذاك إذا ما ساءني بلد ... يممت بعيري غيره بلدا وقال أعشى باهلة : تيممت قيسا وكم دونه ... من الأرض من مهمة ذي شزن وقال حميد بن ثور : سل الربع أنى يممت أم طارق ... وهل عادة للربع أن يتكلما وللشافعي رضي الله عنه : علمي معي حيثما يممت أحمله ... بطني وعاء له لا بطن صندوق قال ابن السكيت : قوله تعالى : {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} أي اقصدوا ؛ ثم كثر استعمالهم لهذه الكلمة حتى صار التيمم مسح الوجه واليدين بالتراب. وقال ابن الأنباري في قولهم : "قد تيمم الرجل "معناه قد مسح التراب على وجهه ويديه. قلت : وهذا هو التيمم الشرعي ، إذا كان المقصود به القربة. ويممت المريض فتيمم للصلاة. ورجل ميمم يظفر بكل ما يطلب ؛ عن الشيباني. وأنشد : إنا وجدنا أعصر بن سعد ... ميمم البيت رفيع المجد وقال آخر : أزهر لم يولد بنجم الشح ... ميمم البيت كريم السنح(5/232) الخامسة والثلاثون : لفظ التيمم ذكره الله تعالى في كتابه في "البقرة "وفي هذه السورة و"المائدة "والتي في هذه السورة هي آية التيمم. والله أعلم. وقال القاضي أبو بكر بن العربي : هذه معضلة ما وجدت لدائها من دواء عند أحد ؛ هما آيتان فيهما ذكر التيمم إحداهما في "النساء" والأخرى في "المائدة". فلا نعلم أية آية عنت عائشة بقولها : "فأنزل الله آية التيمم". ثم قال : وحديثها يدل على أن التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا مفعولا لهم. قلت : أما قوله : "فلا نعلم أية آية عنت عائشة "فهي هذه الآية على ما ذكرنا. والله أعلم. وقوله : "وحديثها يدل على أن التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا مفعولا لهم "في صحيح ولا خلاف فيه بين أهل السير ؛ لأنه معلوم أن غسل الجنابة لم يفترض قبل الوضوء ، كما أنه معلوم عند جميع أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم منذ افترضت عليه الصلاة بمكة لم يصل إلا بوضوء مثل وضوئنا اليوم. فدل على أن آية الوضوء إنما نزلت ليكون فرضها المتقدم متلوا في التنزيل. وفي قوله : "فنزلت آية التيمم "ولم يقل آية الوضوء ما يبين أن الذي طرأ لهم من العلم في ذلك الوقت حكم التيمم لا حكم الوضوء ؛ وهذا بين لا إشكال فيه. السادسة والثلاثون : التيمم يلزم كل مكلف لزمته الصلاة إذا عدم الماء ودخل ، وقت الصلاة. وقال أبو حنيفة وصاحباه والمزني صاحب الشافعي : يجوز قبله ؛ لأن طلب الماء عندهم ليس بشرط قياسا على النافلة ؛ فلما جاز التيمم للنافلة دون طلب الماء جاز أيضا للفريضة. واستدلوا من السنة بقوله عليه السلام لأبي ذر : "الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج" . فسمى عليه السلام الصعيد وضوءا كما يسمى الماء ؛ فحكمه إذا حكم الماء. والله أعلم. ودليلنا قوله تعالى : {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} ولا يقال : لم يجد الماء إلا لمن طلب ولم يجد. وقد تقدم هذا المعنى ؛ ولأنها طهارة ضرورة كالمستحاضة ؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "فأينما أدركتك الصلاة تيممت وصليت". وهو قول الشافعي وأحمد ، وهو مروي عن علي وابن عمر وابن عباس.(5/233) السابعة والثلاثون : وأجمع العلماء على أن التيمم لا يرفع الجنابة ولا الحدث ، وأن المتيمم لهما إذا وجد الماء عاد جنبا كما كان أو محدثا ؛ لقوله عليه السلام لأبي ذر : "إذا وجدت الماء فأمسه جلدك" إلا شيء روي عن أبي سلمة بن عبدالرحمن ، رواه ابن جريج وعبدالحميد بن جبير بن شيبة عنه ؛ ورواه ابن أبي ذئب عن عبدالرحمن بن حرملة عنه قال في الجنب المتيمم يجد الماء وهو على طهارته : لا يحتاج إلى غسل ولا وضوء حتى يحدث. وقد روي عنه فيمن تيمم وصلى ثم وجد الماء في الوقت أنه يتوضأ ويعيد تلك الصلاة. قال ابن عبدالبر : وهذا تناقض وقلة روية. ولم يكن أبو سلمة عندهم يفقه كفقه أصحابه التابعين بالمدينة. الثامنة والثلاثون : وأجمعوا على أن من تيمم على ثم وجد الماء قبل الدخول في الصلاة بطل تيممه ؛ وعليه استعمال الماء. والجمهور على أن من تيمم وصلى وفرغ من صلاته ، وقد كان اجتهد في طلبه الماء ولم يكن في رحله أن صلاته تامة ؛ لأنه أدى فرضه كما أمر. فغير جائز أن توجب عليه الإعادة بغير حجة. ومنهم من استحب له أن يعيد في الوقت إذا توضأ واغتسل. وروي عن طاوس وعطاء والقاسم بن محمد ومكحول وابن سيرين والزهري وربيعة كلهم يقول : يعيد الصلاة. واستحب الأوزاعي ذلك وقال : ليس بواجب ؛ لما رواه أبو سعيد الخدري قال : خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدا طيبا فصليا ، ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة بالوضوء ولم يعد الآخر ، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد : "أصبت السنة وأجزأتك صلاتك" وقال للذي توضأ وأعاد : "لك الأجر مرتين" . أخرجه أبو داود وقال : وغير ابن نافع يرويه عن الليث عن عميرة بن أبي ناجية عن بكر بن سوادة عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أبي سعيد في هذا الإسناد ليس بمحفوظ. وأخرجه الدارقطني وقال فيه : ثم وجد الماء بعد [في] الوقت.(5/234) التاسعة والثلاثون : واختلف العلماء إذا وجد الماء بعد دخوله في الصلاة ؛ فقال مالك : ليس عليه قطع الصلاة واستعمال الماء وليتم صلاته وليتوضأ لما يستقبل ؛ وبهذا قال الشافعي واختاره ابن المنذر. وقال أبو حنيفة وجماعة منهم أحمد بن حنبل والمزني : يقطع ويتوضأ ويستأنف الصلاة لوجود الماء. وحجتهم أن التيمم لما بطل بوجود الماء قبل الصلاة فكذلك يبطل ما بقي منها ، وإذا بطل بعضها بطل كلها ؛ لإجماع العلماء على أن المعتدة بالشهور لا يبقى عليها إلا أقلها ثم تحيض أنها تستقبل عدتها بالحيض. قالوا : والذي يطرأ عليه الماء وهو في الصلاة كذلك قياسا ونظرا. ودليلنا قوله تعالى : {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}. وقد اتفق الجميع على جواز الدخول في. الصلاة بالتيمم عند عدم الماء ، واختلفوا في قطعها إذا رئي الماء ؛ ولم تثبت سنة بقطعها ولا إجماع. ومن حجتهم أيضا أن من وجب عليه الصوم في ظهار أو قتل فصام منه أكثره ثم وجد رقبة لا يلغي صومه ولا يعود إلى الرقبة. وكذلك من دخل في الصلاة بالتيمم لا يقطعها ولا يعود إلى الوضوء بالماء. الموفية أربعين : واختلفوا هل يصلى به صلوات أم يلزم التيمم لكل صلاة فرض ونفل ؛ فقال شريك بن عبدالله القاضي : يتيمم لكل صلاة نافلة وفريضة. وقال مالك : لكل فريضة ؛ لأن عليه أن يبتغي الماء لكل صلاة ، فمن ابتغى الماء فلم يجده فإنه يتيمم. وقال أبو حنيفة والثوري والليث والحسن بن حي وداود : يصلي ما شاء بتيمم واحد ما لم يحدث ؛ لأنه طاهر ما لم يجد الماء ؛ وليس عليه طلب الماء إذا يئس منه. وما قلناه أصح ؛ لأن الله عز وجل أوجب على كل قائم إلى الصلاة طلب الماء ، وأوجب عند عدمه التيمم لاستباحة الصلاة قبل خروج الوقت ، فهي طهارة ضرورة ناقصة بدليل إجماع المسلمين على بطلانها بوجود الماء وإن لم يحدث ؛ وليس كذلك الطهارة بالماء. وقد ينبني هذا الخلاف أيضا في جواز التيمم قبل دخول الوقت ؛ فالشافعي وأهل المقالة الأولى لا يجوزونه ؛ لأنه لما قال الله تعالى : {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} ظهر منه تعلق أجزاء التيمم بالحاجة ، ولا حاجة قبل الوقت. وعلى هذا لا يصلى فرضين بتيمم واحد ، وهذا بين. واختلف علماؤنا فيمن صلى صلاتي فرض(5/235) بتيمم واحد ؛ فروى يحيى بن يحيى عن ابن القاسم : يعيد الثانية ما دام في الوقت. وروى أبو زيد بن أبي الغمر عنه : يعيد أبدا. وكذلك روي عن مطرف وابن الماجشون يعيد الثانية أبدا. وهذا الذي يناظر عليه أصحابنا ؛ لأن طلب الماء شرط. وذكر ابن عبدوس أن ابن نافع روى عن مالك في الذي يجمع بين الصلاتين أنه يتيمم لكل صلاة. وقال أبو الفرج فيمن ذكر صلوات : إن قضاهن بتيمم واحد فلا شيء عليه وذلك جائز له. وهذا على أن طلب الماء ليس بشرط. والأول أصح. والله أعلم. الحادية والأربعون : قوله تعالى : {صَعِيداً طَيِّباً} الصعيد : وجه الأرض كان عليه تراب أو لم يكن ؛ قاله الخليل وابن الأعرابي والزجاج. قال الزجاج : لا أعلم فيه خلافا بين أهل اللغة ، قال الله تعالى : {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} أي أرضا غليظة لا تنبت شيئا. وقال تعالى {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} . ومنه قول ذي الرمة : كأنه بالضحى ترمي الصعيد به ... دبابة في عظام الرأس خرطوم وإنما سمي صعيدا لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض. وجمع الصعيد صعدات ؛ ومنه الحديث "إياكم والجلوس في الصعدات ". واختلف العلماء فيه من أجل تقييده بالطيب ؛ فقالت طائفة : يتيمم بوجه الأرض كله ترابا كان أو رملا أو حجارة أو معدنا أو سبخة. هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والثوري والطبري. و"طيبا "معناه طاهرا. وقالت فرقة : "طيبا "حلالا ؛ وهذا قلق. وقال الشافعي وأبو يوسف : الصعيد التراب المنبت وهو الطيب ؛ قال الله تعالى : {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} فلا يجوز التيمم عندهم على غيره. وقال الشافعي : لا يقع الصعيد إلا على تراب ذي غبار. وذكر عبدالرزاق عن ابن عباس أنه سئل أي الصعيد أطيب ؟ فقال : الحرث. قال أبو عمر : وفي قول ابن عباس هذا ما يدل على أن الصعيد يكون غير أرض الحرث. وقال علي رضي الله عنه : هو التراب(5/236) خاصة. وفي كتاب الخليل : تيمم بالصعيد ، أي خذ من غباره ؛ حكاه ابن فارس. وهو يقتضي التيمم بالتراب فإن الحجر الصلد لا غبار عليه. وقال الكيا الطبري : واشترط الشافعي أن يعلق التراب باليد ويتيمم به نقلا إلى أعضاء التيمم ، كالماء ينقل إلى أعضاء الوضوء. قال الكيا : ولا شك أن لفظ الصعيد ليس نصا فيما قال الشافعي ، إلا أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا " بين ذلك. قلت : فاستدل أصحاب هذه المقالة بقوله عليه السلام : "وجعلت تربتها لنا طهورا " وقالوا : هذا من باب المطلق والمقيد وليس كذلك ، وإنما هو من باب النص على بعض أشخاص العموم ، كما قال تعالى : {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} وقد ذكرناه في "البقرة" عند قوله : {وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} . وقد حكى أهل اللغة أن الصعيد اسم لوجه الأرض كما ذكرنا ، وهو نص القرآن كما بينا ، وليس بعد بيان الله بيان. وقال صلى الله عليه وسلم للجنب : "عليك بالصعيد فإنه يكفيك " وسيأتي. في "صعيدا "على هذا ظرف مكان. ومن جعله للتراب فهو مفعول به بتقدير حذف الباء أي بصعيد. و"طيبا "نعت له. ومن جعل "طيبا "بمعنى حلالا نصبه على الحال أو المصدر. الثانية والأربعون : وإذا تقرر هذا فاعلم أن مكان الإجماع مما ذكرناه أن يتيمم الرجل على تراب منبت طاهر غير منقول ولا مغصوب. ومكان الإجماع في المنع أن يتيمم الرجل على الذهب الصرف والفضة والياقوت والزمرد والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما ، أو على النجاسات. واختلف في غير هذا كالمعادن ؛ فأجيز وهو مذهب مالك وغيره. ومنع وهو مذهب الشافعي وغيره. وقال ابن خويز منداد : ويجوز عند مالك التيمم على الحشيش إذا كان دون الأرض ، واختلف عنه في التيمم على الثلج ففي المدونة والمبسوط جوازه ؛ وفي غيرهما منعه. واختلف المذهب في التيمم على العود ؛ فالجمهور على المنع. وفي مختصر الوقار أنه جائز.(5/237) وقيل : بالفرق بين أن يكون منفصلا أو متصلا فأجيز على المتصل ومنع في المنفصل. وذكر الثعلبي أن مالكا قال : لو ضرب بيده على شجرة ثم مسح بها أجزأه. قال : وقال الأوزاعي والثوري : يجوز بالأرض وكل ما عليها من الشجر والحجر والمدر وغيرها ، حتى قالا : لو ضرب بيده عاف الجمد والثلج أجزأه. قال ابن عطية : وأما التراب المنقول من طين أو غيره فجمهور المذهب على جواز التيمم به ، وفي المذهب المنع وهو في غير المذهب أكثر ، وأما ما طبخ كالجص والآجر ففيه في المذهب قولان : الإجازة والمنع ؛ وفي التيمم على الجدار خلاف. قلت : والصحيح الجواز لحديث أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري قال : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه ، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ، ثم رد عليه السلام. أخرجه البخاري. وهو دليل على صحة التيمم بغبر التراب كما يقول مالك ومن وافقه. ويرد على الشافعي ومن تابعه في أن الممسوح به تراب طاهر ذو غبار يعلق باليد. وذكر النقاش عن ابن علية وابن كيسان أنهما أجازا التيمم بالمسك والزعفران. قال ابن عطية : وهذا خطأ بحت من جهات. قال أبو عمر : وجماعة العلماء على إجازة التيمم بالسباخ إلا إسحاق بن راهويه. وروي عن ابن عباس فيمن أدركه التيمم وهو في طين قال : يأخذ من الطين فيطلي به بعض جسده ، فإذا جف تيمم به. وقال الثوري وأحمد : يجوز التيمم بغبار اللبد. قال الثعلبي : وأجاز أبو حنيفة التيمم بالكحل والزرنيخ والنورة والجص والجوهر المسحوق. قال : فإذا تيمم بسحالة الذهب والفضة والصفر والنحاس والرصاص لم يجزه ؛ لأنه ليس من جنس الأرض. الثالثة والأربعون : قوله تعالى : {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} المسح لفظ مشترك يكون بمعنى الجماع ، يقال : مسح الرجل المرأة إذا جامعها. والمسح : مسح الشيء بالسيف(5/238) وقطعه به. ومسحت الإبل يومها إذا سارت. والمسحاء المرأة الرسحاء التي لا إست لها. وبفلان مسحة من جمال. والمراد هنا بالمسح عبارة عن جر اليد على الممسوح خاصة ، فإن كان بآلة فهو عبارة عن نقل الآلة إلى اليد وجرها على الممسوح ، وهو مقتضى قوله تعالى في آية المائدة : {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}. فقوله "منه "يدل على أنه لا بد من نقل التراب إلى محل التيمم. وهو مذهب الشافعي ولا نشترطه نحن ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وضع يديه على الأرض ورفعهما نفخ فيهما ؛ وفي رواية : نفض. وذلك يدل على عدم اشتراط الآلة ؛ يوضحه تيممه على الجدار. قال الشافعي : لما لم يكن بد في مسح الرأس بالماء من بلل ينقل إلى الرأس ، فكذلك المسح بالتراب لا بد من النقل. ولا خلاف في أن حكم الوجه في التيمم والوضوء الاستيعاب وتتبع مواضعه ؛ وأجاز بعضهم ألا يتتبع كالغضون في الخفين وما بين الأصابع في الرأس ، وهو في المذهب قول محمد بن مسلمة ؛ حكاه ابن عطية. وقال الله عز وجل : {بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} فبدأ بالوجه قبل اليدين وبه قال الجمهور. ووقع في البخاري من حديث عمار في "باب التيمم ضربة "ذكر اليدين قبل الوجه. وقال بعض أهل العلم قياسا على تنكيس الوضوء. الرابعة والأربعون : واختلف العلماء أين يبلغ بالتيمم في اليدين ؛ فقال ابن شهاب : إلى المناكب. وروي عن أبي بكر الصديق. وفي مصنف أبي داود عن الأعمش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح إلى أنصاف ذراعيه. قال ابن عطية : ولم يقل أحد بهذا الحديث فيما حفظت. وقيل : يبلغ به إلى المرفقين قياسا على الوضوء. وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري وابن أبي سلمة والليث كلهم يرون بلوغ المرفقين بالتيمم فرضا واجبا. وبه قال محمد بن عبدالله بن عبدالحكم وابن نافع ، وإليه ذهب إسماعيل القاضي. قال ابن نافع : من تيمم إلى الكوعين أعاد الصلاة أبدا وقال مالك في المدونة : يعيد في الوقت. وروى التيمم إلى المرفقين عن النبي صلى الله عليه وسلم جابر بن عبدالله وابن عمر(5/239) وبه كان يقول. قال الدارقطني : سئل قتادة عن التيمم في السفر فقال : كان ابن عمر يقول إلى المرفقين. وكان الحسن وإبراهيم النخعي يقولان إلى المرفقين. قال : وحدثني محدث عن الشعبي عن عبدالرحمن بن أبزى عن عمار بن ياسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إلى المرفقين " . قال أبو إسحاق : فذكرته لأحمد بن حنبل فعجب منه وقال ما أحسنه !. وقالت طائفة : يبلغ به إلى الكوعين وهما الرسغان. روي عن علي بن أبي طالب والأوزاعي وعطاء والشعبي في رواية ، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي والطبري. وروي عن مالك وهو قول الشافعي في القديم. وقال مكحول : اجتمعت أنا والزهري فتذاكرنا التيمم فقال الزهري : المسح إلى الآباط. فقلت : عمن أخذت هذا ؟ فقال : عن كتاب الله عز وجل ، إن الله تعالى يقول : {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} فهي يد كلها. قلت له : فإن الله تعالى يقول : {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فمن أين تقطع اليد ؟ قال : فخصمته. وحكي عن الدراوردي أن الكوعين فرض والآباط فضيلة. قال ابن عطية : هذا قول لا يعضده قياس ولا دليل ، وإنما عمم قوم لفظ اليد فأوجبوه من المنكب : وقاس قوم على الوضوء فأوجبوه من المرافق وههنا جمهور الأمة ، ووقف قوم مع الحديث في الكوعين ، وقيس أيضا على القطع إذ هو حكم شرعي وتطهير كما هذا تطهير ، ووقف قوم مع حديث عمار في الكفين. وهو قول الشعبي. الخامسة والأربعون : واختلف العلماء أيضا هل يكفي في التيمم ضربة واحدة أم لا ؟ فذهب مالك في المدونة أن التيمم بضربتين : ضربة للوجه وضربة لليدين ؛ وهو قول الأوزاعي والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم ، والثوري والليث وابن أبي سلمة. ورواه جابر بن عبدالله وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن أبي الجهم : التيمم بضربة واحدة. وروي عن الأوزاعي في الأشهر عنه ؛ وهو قول عطاء والشعبي في رواية. وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وداود والطبري. وهو أثبت ما روي في ذلك من حديث عمار. قال مالك في كتاب محمد : إن تيمم بضربة واحدة أجزأه. وقال ابن نافع : يعيد أبدا. قال أبو عمر وقال ابن(5/240) أبي ليلى والحسن بن حي : ضربتان ؛ يمسح بكل ضربة منهما وجهه وذراعيه ومرفقيه. ولم يقل بذلك أحد من أهل العلم غيرهما. قال أبو عمر : لما اختلفت الآثار في كيفية التيمم وتعارضت كان الواجب في ذلك الرجوع إلى ظاهر الكتاب ، وهو يدل على ضربتين ضربة للوجه ، ولليدين أخرى إلى المرفقين ، قياسا على الوضوء واتباعا لفعل ابن عمر ؛ فإنه من لا يدفع علمه بكتاب الله. ولو ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء وجب الوقوف عنده. وبالله التوفيق. قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} أي لم يزل كائنا يقبل العفو وهو السهل ، ويغفر الذنب أي يستر عقوبته فلا يعاقب. 44- {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} 45- {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً} 46- {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} 47- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} 48- {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} 49- {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}(5/241) 50- {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً} 51- {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} 52- {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} 53- {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ} إلى قوله تعالى : {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} الآية. نزلت في يهود المدينة وما والاها. قال ابن إسحاق : وكان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء يهود ، إذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه وقال : أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك ؛ ثم طعن في الإسلام وعابه فأنزل الله عز وجل {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ} إلى قوله {قَلِيلاً}. ومعنى {يَشْتَرُونَ} يستبدلون فهو في موضع نصب على الحال ، وفي الكلام حذف تقديره يشترون الضلالة بالهدى ؛ كما قال تعالى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} قاله القتبي وغيره. {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} عطف عليه ، والمعنى تضلوا طريق الحق. وقرأ الحسن : "تضلوا "بفتح الضاد أي عن السبيل. قوله تعالى : {والله أعلم بأعدائكم} يريد منكم ؛ فلا تستصحبوهم فإنهم أعداؤكم. ويجوز أن يكون "أعلم " بمعنى عليم ؛ كقوله تعالى : {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أي هين. {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً} الباء زائدة ؛ زيدت لأن المعنى اكتفوا بالله فهو يكفيكم أعداءكم. و"وليا "و "نصيرا" نصب على البيان ، وإن شئت على الحال. قوله تعالى : {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} قال الزجاج : إن جعلت "من "متعلقة بما قبل فلا يوقف على قول "نصيرا" ، وإن جعلت منقطعة فيجوز الوقف على "نصيرا "والتقدير(5/242) من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم ؛ ثم حذف. وهذا مذهب سيبويه ، وأنشد النحويون : لو قلت ما في قومها لم تيثم ... يفضلها في حسب ومبسم قالوا : المعنى لو قلت ما في قومها أحد يفضلها ؛ ثم حذف. وقال الفراء : المحذوف "من" المعنى : من الذين هادوا من يحرفون. وهذا كقوله تعالى : {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} أي من له. وقال ذو الرمة : فظلوا ومنهم دمعه سابق له ... وآخر يذري عبرة العين بالهمل يريد ومنهم من دمعه ، فحذف الموصول. وأنكره المبرد والزجاج ؛ لأن حذف الموصول كحذف بعض الكلمة. {يُحَرِّفُونَ} يتأولونه على غير تأويله. وذمهم الله تعالى بذلك لأنهم يفعلونه متعمدين. وقيل : {عَنْ مَوَاضِعِهِ} يعني صفة النبي صلى الله عليه وسلم. {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} أي سمعنا قولك وعصينا أمرك. {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} قال ابن عباس : كانوا يقولون النبي صلى الله عليه وسلم : اسمع لا سمعت ، هذا مرادهم - لعنهم الله - وهم يظهرون أنهم يريدون اسمع غير مسمع مكروها ولا أذى. وقال الحسن ومجاهد. معناه غير مسمع منك ، أي مقبول ولا مجاب إلى ما تقول. قال النحاس : ولو كان كذلك لكان غير مسموع منك. وتقدم القول في {وَرَاعِنَا} . ومعنى {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ} أي يلوون ألسنتهم عن الحق أي يميلونها إلى ما في قلوبهم. وأصل اللي الفتل ، وهو نصب على المصدر ، وإن شئت كان مفعولا من أجله. وأصله لويا ثم أدغمت الواو في الياء. "وطعنا" معطوف عليه أي يطعنون في الدين ، أي يقولون لأصحابهم لو كان نبيا لدرى أننا نسبه ، فأظهر الله تعالى نبيه على ذلك فكان من علامات نبوته ، ونهاهم عن هذا القول. ومعنى {وَأَقْوَمَ} أصوب لهم(5/243) في الرأي. {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} أي إلا إيمانا قليلا لا يستحقون به اسم الإيمان. وقيل : معناه لا يؤمنون إلا قليلا منهم ؛ وهذا بعيد لأنه عز وجل قد أخبر عنهم أنه لعنهم بكفرهم. قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا} قال ابن إسحاق : كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود منهم عبدالله بن صوريا الأعور وكعب بن أسد فقال لهم : "يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق " قالوا : ما نعرف ذلك يا محمد. وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر ؛ فأنزل الله عز وجل فيهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً} إلى آخر الآية. قوله تعالى : {مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ} نصب على الحال. {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً} الطمس استئصال أثر الشيء ؛ ومنه قوله تعالى : {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} . ونطمس ونطمس بكسر الميم وضمها في المستقبل لغتان. ويقال في الكلام : طسم يطسم ويطسم بمعنى طمس ؛ يقال : طمس الأثر وطسم أي أمحى ، كله لغات ؛ ومنه قوله تعالى : {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} أي أهلكها ؛ عن ابن عرفة. ويقال : طمسته فطمس لازم ومتعد. وطمس الله بصره ، وهو مطموس البصر إذا ذهب أثر العين ؛ ومنه قوله تعالى : {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} يقول أعميناهم. واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية ؛ هل هو حقيقة فيجعل الوجه كالقفا فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين. أو ذلك عبارة عن الضلال في قلوبهم وسلبهم التوفيق ؟ قولان. روي عن أبي بن كعب أنه قال : {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ} من قبل أن نضلكم إضلالا لا تهتدون بعده. يذهب إلى أنه تمثيل وأنهم إن لم يؤمنوا فعل هذا بهم عقوبة. وقال قتادة : معناه من قبل أن نجعل الوجوه أقفاء. أي يذهب بالأنف والشفاه والأعين والحواجب ؛ هذا معناه عند أهل اللغة. وروي عن ابن عباس وعطية العوفي : أن الطمس أن تزال العينان خاصة وترد في القفا ؛ فيكون ذلك ردا على الدبر ويمشي القهقرى. وقال مالك(5/244) رحمه الله : كان أول إسلام كعب الأحبار أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا} فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته فأسلم مكانه وقال : والله لقد خفت ألا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي. وكذلك فعل عبدالله بن سلام ، لما نزلت هذه الآية وسمعها أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله وأسلم وقال : يا رسول الله ، ما كنت أدرى أن أصل إليك حتى يحول وجهي في قفاي. فإن قيل : كيف جاز أن يهددهم بطمس الوجه إن لم يؤمنوا ثم لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم ؛ فقيل : إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين. وقال المبرد : الوعيد باق منتظر. وقال : لا بد من طمس في اليهود ومسخ قبل يوم القيامة. قوله تعالى : {أَوْ نَلْعَنَهُمْ} أي أصحاب الوجوه {كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} أي نمسخهم قردة وخنازير ؛ عن الحسن وقتادة. وقيل : هو خروج من الخطاب إلى الغيبة {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} أي كائنا موجودا. ويراد بالأمر المأمور فهو مصدر وقع موقع المفعول ؛ فالمعنى أنه متى أراده أوجده. وقيل : معناه أن كل أمر أخبر بكونه فهو كائن على ما أخبر به. قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا : {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} فقال له رجل : يا رسول الله والشرك ! فنزل {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . وهذا من المحكم المتفق عليه الذي لا اختلاف فيه بين الأمة. {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} من المتشابه الذي قد تكلم العلماء فيه. فقال محمد بن جرير الطبري : قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه ذنبه ، وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شركا بالله تعالى. وقال بعضهم : قد بين الله تعالى ذلك بقول : {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} فاعلم أنه يشاء أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر ولا يغفرها لمن أتى الكبائر. وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه الآية ناسخة للتي في آخر "الفرقان". قال زيد بن ثابت : نزلت سورة "النساء "بعد "الفرقان "بستة أشهر ، والصحيح أن لا نسخ ؛ لأن النسخ في الأخبار(5/245) يستحيل. وسيأتي بيان الجمع بين الآي في هذه السورة وفي "الفرقان "إن شاء الله تعالى. وفي الترمذي عن علي بن أبي طالب قال : ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} قال : هذا حديث حسن غريب. قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} هذا اللفظ عام في ظاهره ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد اليهود. واختلفوا في المعنى الذي زكوا به أنفسهم ؛ فقال قتادة والحسن : ذلك قولهم : {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} ، وقولهم : {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} وقال الضحاك والسدي : قولهم لا ذنوب لنا وما فعلناه نهارا غفر لنا ليلا وما فعلناه ليلا غفر لنا نهارا ، ونحن كالأطفال في عدم الذنوب. وقال مجاهد وأبو مالك وعكرمة : تقديمهم الصغار للصلاة ؛ لأنهم لا ذنوب عليهم. وهذا يبعد من مقصد الآية. وقال ابن عباس : ذلك قولهم آباؤنا الذين ماتوا يشفعون لنا ويزكوننا. وقال عبدالله بن مسعود : ذلك ثناء بعضهم على بعض. وهذا أحسن ما قيل ؛ فإنه الظاهر من معنى الآية ، والتزكية : التطهير والتبرية من الذنوب. هذه الآية وقوله تعالى : {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} يقتضي الغض من المزكي لنفسه بلسانه ، والإعلام بأن الزاكي المزكى من حسنت أفعاله وزكاه الله عز وجل فلا عبرة بتزكية الإنسان نفسه ، وإنما العبرة بتزكية الله له. وفي صحيح مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال : سميت ابنتي برة ؛ فقالت لي زينب بنت أبي سلمة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم ، وسميت برة ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم " فقالوا : بم نسميها ؟ فقال : "سموها زينب " . فقد دل الكتاب والسنة على المنع من تزكية الإنسان نفسه ، ويجري هذا المجرى ما قد كثر في هذه الديار المصرية من نعتهم أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية ؛ كزكي الدين ومحي الدين وما أشبه ذلك ، لكن لما كثرت قبائح المسمين بهذه الأسماء ظهر تخلف هذه النعوت عن أصلها فصارت لا تفيد شيئا .(5/246)
| |
|