فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الأربعاء 16 مارس - 22:25 | |
| العاشرة : قوله تعالى : {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} ابتداء وخبر ؛ كقولك زيد في الدار. والمعنى أنتم بنو آدم. وقيل : أنتم مؤمنون. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ؛ المعنى : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فلينكح بعضكم من بعض : هذا فتاة هذا ، وهذا فتاة هذا. فبعضكم على هذا التقدير مرفوع بفعله وهو فلينكح. والمقصود بهذا الكلام توطئة نفوس العرب التي كانت تستهجن ولد الأمة وتعيره وتسميه الهجين ، فلما جاء الشرع بجواز نكاحها علموا أن ذلك التهجين لا معنى له ، وإنما انحطت الأمة فلم يجز للحر التزوج بها إلا عند الضرورة ؛ لأنه تسبب إلى إرقاق الولد ، وأن الأمة لا تفرغ للزوج على الدوام ، لأنها مشغولة بخدمة المولى. الحادية عشرة : قوله تعالى : {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} أي بولاية أربابهن المالكين وإذنهم. وكذلك العبد لا ينكح إلا بإذن سيده ؛ لأن العبد مملوك لا أمر له ، وبدنه كله مستغرق ، لكن الفرق بينهما أن العبد إذا تزوج بغير إذن سيده فإن أجازه السيد جاز ؛ هذا مذهب مالك وأصحاب الرأي ، وهو قول الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب وشريح والشعبي. والأمة إذا تزوجت بغير إذن أهلها فسخ ولم يجز بإجازة السيد ؛ لأن نقصان الأنوثة في الأمة يمنع من انعقاد النكاح البتة. وقالت طائفة : إذا نكح العبد بغير إذن سيده فسخ نكاحه ؛ هذا قول الشافعي والأوزاعي وداود بن علي ، قالوا : لا تجوز إجازة المولى إن لم يحضره ؛ لأن العقد الفاسد لا تصح إجازته ، فإن أراد النكاح استقبله على سنته. وقد أجمع علماء المسلمين على أنه لا يجوز نكاح العبد بغير إذن سيده. وقد كان ابن عمر يعد العبد بذلك زانيا ويحده ؛ وهو قول أبي ثور. وذكر عبدالرزاق عن عبدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ، وعن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه أخذ عبدا له نكح بغير إذنه فضربه الحد وفرق بينهما وأبطل صداقها. قال : وأخبرنا ابن جريج عن موسى بن عقبة أنه أخبره عن نافع عن ابن عمر أنه كان يرى نكاح العبد بغير إذن وليه زنى ، ويرى عليه الحد ، (5/141) ويعاقب الذين أنكحوهما. قال : وأخبرنا ابن جريج عن عبدالله بن محمد بن عقيل قال : سمعت جابر بن عبدالله يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أيما عبد نكح بغير إذن سيده فهو عاهر" . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : هو نكاح حرام ؛ فإن نكح بإذن سيده فالطلاق بيد من يستحل الفرج. قال أبو عمر : على هذا مذهب جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق ، ولم يختلف عن ابن عباس أن الطلاق بيد السيد ؛ وتابعه على ذلك جابر بن زيد وفرقة. وهو عند العلماء شذوذ لا يعرج عليه ، وأظن ابن عباس تأول في ذلك قول الله تعالى : {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} . وأجمع أهل العلم على أن نكاح العبد جائز بإذن مولاه ؛ فإن نكح نكاحا فاسدا فقال الشافعي : إن لم يكن دخل فلا شيء لها ، لأن كان دخل فعليه المهر إذا عتق ؛ هذا هو الصحيح من مذهبه ، وهو قول أبي يوسف ومحمد لا مهر عليه حتى يعتق. وقال أبو حنيفة : إن دخل عليها فلها المهر. وقال مالك والشافعي : إذا كان عبد بين رجلين فأذن له أحدهما في النكاح فنكح فالنكاح باطل ، فأما الأمة إذا أذنت أهلها في النكاح فأذنوا جاز ، وإن لم تباشر العقد لكن تولي من يعقده عليها. الثانية عشرة : قوله تعالى : {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} دليل على وجوب المهر في النكاح ، وأنه للأمة. {بِالْمَعْرُوفِ} معناه بالشرع والسنة ، وهذا يقتضي أنهن أحق بمهورهن من السادة ، وهو مذهب مالك. قال في كتاب الرهون : ليس للسيد أن يأخذ مهر أمته ويدعها بلا جهاز. وقال الشافعي : الصداق للسيد ؛ لأنه عوض فلا يكون للأمة. أصله إجازة المنفعة في الرقبة ، وإنما ذكرت لأن المهر وجب بسببها. وذكر القاضي إسماعيل في أحكامه : زعم بعض العراقيين إذا زوج أمته من عبده فلا مهر. وهذا خلاف الكتاب والسنة وأطنب فيه. الثالثة عشرة : قوله تعالى : {مُحْصَنَاتٍ} أي عفائف. وقرأ الكسائي "محصنات" بكسر الصاد في جميع القرآن ، إلا في قوله تعالى : {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} . وقرأ الباقون بالنصب في جميع القرآن. ثم قال : {غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} أي غير زوان ، أي معلنات بالزنى ؛ لأن أهل الجاهلية كان فيهم الزواني في العلانية ، ولهن رايات منصوبات كراية البيطار. (5/142) {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} أصدقاء على الفاحشة ، واحدهم خدن وخدين ، وهو الذي يخادنك ، ورجل خدنة ، إذا اتخذ أخذانا أي أصحابا ، عن أبي زيد. وقيل : المسافحة المجاهرة بالزنى ، أي التي تكري نفسها لذلك. وذات الخدن هي التي تزني سرا. وقيل : المسافحة المبذولة ، وذات الخدن التي تزني بواحد. وكانت العرب تعيب الإعلان بالزنى ، ولا تعيب اتخاذ الأخدان ، ثم رفع الإسلام جميع ذلك ، وفي ذلك نزل قوله تعالى : {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} ؛ عن ابن عباس وغيره. الرابعة عشرة : قوله تعالى : {فَإِذَا أُحْصِنَّ} قراءة عاصم وحمزة والكسائي بفتح الهمزة. الباقون بضمها. فبالفتح معناه أسلمن ، وبالضم زوجن. فإذا زنت الأمة المسلمة جلدت نصف جلد الحرة ؛ وإسلامها هو إحصانها في قول الجمهور ، ابن مسعود والشعبي والزهري وغيرهم. وعليه فلا تحد كافرة إذا زنت ، وهو قول الشافعي فيما ذكر ابن المنذر. وقال آخرون : إحصانها التزوج بحر. فإذا زنت الأمة المسلمة التي لم تتزوج فلا حد عليها ، قال سعيد بن جبير والحسن وقتادة ، وروي عن ابن عباس وأبي الدرداء ، وبه قال أبو عبيد. قال : وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سئل عن حد الأمة فقال : إن الأمة ألقت فروة رأسها من وراء الدار. قال الأصمعي : الفروة جلدة الرأس. قال أبو عبيدة : وهو لم يرد الفروة بعينها ، وكيف تلقى جلدة رأسها من وراء الدار ، ولكن هذا مثل ! إنما أراد بالفروة القناع ، يقول ليس عليها قناع ولا حجاب ، وأنها تخرج إلى كل موضع يرسلها أهلها إليه ، لا تقدر على الامتناع من ذلك ؛ فتصير حيث لا تقدر على الامتناع من الفجور ، مثل رعاية الغنم وأداء الضريبة ونحو ذلك ؛ فكأنه رأى أن لا حد عليها إذا فجرت ؛ لهذا المعنى. وقالت فرقة : إحصانها التزوج ، إلا أن الحد واجب على الأمة المسلمة غير المتزوجة بالسنة ، كما في صحيح البخاري ومسلم أنه قيل : يا رسول الله ، الأمة إذا زنت ولم تحصن ؟ فأوجب عليها الحد. قال الزهري : فالمتزوجة محدودة بالقرآن ، والمسلمة غير المتزوجة محدودة بالحديث. قال القاضي إسماعيل في قول من قال "إذا أحصن" أسلمن : بعد ؛ لأن ذكر (5/143) الإيمان قد تقدم لهن في قوله تعالى : {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} . وأما من قال : "إذا أحصن" تزوجن ، وأنه لا حد على الأمة حتى تتزوج ؛ فإنهم ذهبوا إلى ظاهر القرآن وأحسبهم لم يعلموا هذا الحديث. والأمر عندنا أن الأمة إذا. زنت وقد أحصنت مجلودة بكتاب الله ، وإذا زنت ولم تحصن مجلودة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ولا رجم عليها ؛ لأن الرجم لا يتنصف. قال أبو عمر : ظاهر قول الله عز وجل يقتضي ألا حد على أمة وإن كانت مسلمة إلا بعد التزويج ، ثم جاءت السنة بجلدها وإن لم تحصن ، فكان ذلك زيادة بيان. قلت : ظهر المؤمن حمى لا يستباح إلا بيقين ، ولا يقين مع الاختلاف ، لولا ما جاء في صحيح السنة من الجلد في ذلك. والله أعلم. وقال أبو ثور فيما ذكر ابن المنذر : وإن كانوا اختلفوا في رجمهما فإنهما يرجمان إذا كانا محصنين ، وإن كان إجماع فالإجماع أولى. الخامسة عشرة : واختلف العلماء فيمن يقيم الحد عليهما ؛ فقال ابن شهاب : مضت السنة أن يحد العبد والأمة أهلوهم في الزنى ، إلا أن يرفع أمرهم إلى السلطان فليس لأحد أن يفتات عليه ؛ وهو مقتضى قوله عليه السلام : "إذا زنت أمة أحدكم فليحدها الحد" . وقال علي رضي الله عنه في خطبته : يا أيها الناس ، أقيموا على أرقامكم الحد ، من أحصن منهم ومن لم يحصن ، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها ، فإذا هي حديث عهد بنفاس ، فخشيت إن أنا جلدتها أقتلها ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : "أحسنت" . أخرجه مسلم موقوفا عن علي. وأسنده النسائي وقال فيه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم من أحصن منهم ومن لم يحصن" وهذا نص في إقامة السادة الحدود على المماليك من أحصن منهم ومن لم يحصن. قال مالك رضي الله عنه : يحد المولى عبده في الزنى وشرب الخمر والقذف إذا شهد عنده الشهود بذلك ، ولا يقطعه في السرقة ، وإنما يقطعه الإمام ؛ وهو قول الليث. وروي عن جماعة من الصحابة أنهم أقاموا الحدود على عبيدهم ، منهم ابن عمر وأنس ، ولا مخالف لهم من الصحابة. وروي عن ابن أبي ليلى أنه قال : أدركت بقايا الأنصار يضربون الوليدة من ولائدهم إذا (5/144) زنت ، في مجالسهم. وقال أبو حنيفة : يقيم الحدود على العبيد والإماء السلطان دون المولى في الزنى وسائر الحدود ؛ وهو قول الحسن بن حي. وقال الشافعي : يحده المولى في كل حد ويقطعه ؛ واحتج بالأحاديث التي ذكرنا. وقال الثوري والأوزاعي : يحده في الزنى ؛ وهو مقتضى الأحاديث ، والله أعلم. وقد مضى القول في تغريب العبيد في هذه السورة. السادسة عشرة : فإن زنت الأمة ثم عتقت قبل أن يحدها سيدها لم يكن له سبيل إلى حدها ، والسلطان يجلدها إذا ثبت ذلك عنده ؛ فإن زنت ثم تزوجت لم يكن لسيدها أن يجلدها أيضا لحق الزوج ؛ إذ قد يضره ذلك. وهذا مذهب مالك إذا لم يكن الزوج ملكا للسيد ، فلو كان ، جاز للسيد ذلك لأن حقهما حقه. السابعة عشرة : فإن أقر العبد بالزنى وأنكره المولى فإن الحد يجب على العبد لإقراره ، ولا التفات لما أنكره المولى ، وهذا مجمع عليه بين العلماء. وكذلك المدبر وأم الولد والمكاتب والمعتق بعضه. وأجمعوا أيضا على أن الأمة إذا زنت ثم أعتقت حدت حد الإماء ؛ وإذا زنت وهي لا تعلم بالعتق ثم علمت وقد حدت أقيم عليها تمام حد الحرة ؛ ذكره ابن المنذر. الثامنة عشرة : واختلفوا في عفو السيد عن عبده وأمته إذا زنيا ؛ فكان الحسن البصري يقول : له أن يعفو. وقال غير الحسن : لا يسعه إلا إقامة الحد ، كما لا يسع السلطان أن يعفو عن حد إذا علمه ، لم يسع السيد كذلك أن يعفو عن أمته إذا وجب عليها الحد ؛ وهذا على مذهب أبي ثور. قال ابن المنذر : وبه نقول. التاسعة عشرة : قوله تعالى : {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} أي الجلد ويعني بالمحصنات ههنا الأبكار الحرائر ؛ لأن الثيب عليها الرجم لا يتبعض ، وإنما قيل للبكر محصنة وإن لم تكن متزوجة ؛ لأن الإحصان يكون بها ؛ كما يقال : أضحية قبل أن يضحي بها ؛ وكما يقال للبقرة : مثيرة قبل أن تثير. وقيل : "المحصنات" المتزوجات ؛ لأن عليها الضرب والرجم في الحديث ، والرجم لا يتبعض فصار عليهن نصف الضرب. والفائدة في نقصان حدهن أنهن أضعف من الحرائر. ويقال : إنهن لا يصلن إلى مرادهن كما تصل الحرائر. وقيل : (5/145) لأن العقوبة تجب على قدر النعمة ؛ ألا ترى أن الله تعالى قال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم : {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} فلما كانت نعمتهن أكثر جعل عقوبتهن أشد ، وكذلك الإماء لما كانت نعمتهن أقل فعقوبتهن أقل. وذكر في الآية حد الإماء خاصة ، ولم يذكر حد العبيد ؛ ولكن حد العبيد والإماء سواء ؛ خمسون جلدة في الزنى ، وفي القذف وشرب الخمر أربعون ؛ لأن حد الأمة إنما نقص لنقصان الرق فدخل الذكور من العبيد في ذلك بعلة المملوكية ، كما دخل الإماء تحت قوله عليه السلام : "من أعتق شركا له في عبد" . وهذا الذي يسميه العلماء القياس في معنى الأصل ؛ ومنه قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} . فدخل في ذلك المحصنين قطعا ؛ على ما يأتي بيانه في سورة "النور" إن شاء الله تعالى. الموفية عشرين : وأجمع العلماء على أن بيع الأمة الزانية ليس بيعها بواجب لازم على ربها ، وإن اختاروا له ذلك ؛ لقوله عليه السلام : "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليبعها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر". أخرجه مسلم عن أبي هريرة. وقال أهل الظاهر بوجوب بيعها في الرابعة. منهم داود وغيره ؛ لقوله "فليبعها" وقوله : "ثم بيعوها ولو بضفير". قال ابن شهاب : فلا أدري بعد الثالثة أو الرابعة ؛ والضفير الحبل. فإذا باعها بزناها ؛ لأنه عيب فلا يحل أن يكتم. فإن يكتم. فإن قيل : إذا كان مقصود الحديث إبعاد الزانية ووجب على بائعها التعريف بزناها فلا ينبغي لأحد أن يشتريها ؛ لأنها مما قد أمرنا بإبعادها. فالجواب أنها مال ولا تضاع ؛ للنهي عن إضاعة المال ، ولا تسيب ؛ لأن ذلك إغراء لها بالزنى وتمكين منه ، ولا تحبس دائما ، فإن فيه تعطيل منفعتها على سيدها فلم يبق إلا بيعها. ولعل السيد الثاني يعفها بالوطء أو يبالغ في التحرز فيمنعها من ذلك. وعلى الجملة فعند تبدل الملاك تختلف عليها الأحوال. والله أعلم. (5/146) الحادية وعشرين : قوله تعالى : {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أي الصبر على العزبة خير من نكاح الأمة ، لأنه يفضي إلى إرقاق الولد ، والغض من النفس والصبر على مكارم الأخلاق أولى من البذالة. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : أيما حر تزوج بأمة فقد أرق نصفه. يعني يصير ولده رقيقا ؛ فالصبر عن ذلك أفضل لكيلا يرق الولد. وقال سعيد بن جبير : ما نكاح الأمة من الزنى إلا قريب ، قال الله تعالى : {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ، أي عن نكاح الإماء. وفي سنن ابن ماجة عن الضحاك بن مزاحم قال : سمعت أنس بن مالك يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر" . ورواه أبو إسحاق الثعلبي من حديث يونس بن مرداس ، وكان خادما لأنس ، وزاد : فقال أبو هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "الحراير صلاح البيت والإماء هلاك البيت - أو قال - فساد البيت". 26- {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي ليبين لكم أمر دينكم ومصالح أمركم ، وما يحل لكم وما يحرم عليكم. وذلك يدل على امتناع خلو واقعة عن حكم الله تعالى ؛ ومنه قوله تعالى : {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} على ما يأتي. وقال بعد هذا : {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} فجاء هذا "بأن" والأول باللام. فقال الفراء : العرب تعاقب بين لام كي وأن ؛ فتأتي باللام التي على معنى "كي" في موضع "أن" في أردت وأمرت ؛ فيقولون : أردت أن تفعل ، وأردت تفعل ؛ لأنهما يطلبان المستقبل. ولا يجوز ظننت لتفعل ؛ لأنك تقول ظننت أن قد قمت. وفي التنزيل {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} . {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} . قال الشاعر : (5/147) أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل يريد أن أنسى. قال النحاس : وخطأ الزجاج هذا القول وقال : لو كانت اللام بمعنى "أن" لدخلت عليها لام أخرى ؛ كما تقول : جئت كي تكرمني ، ثم تقول جئت لكي تكرمني. وأنشدنا : أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوفود شهود قال : والتقدير إرادته ليبين لكم. قال النحاس : وزاد الأمر على هذا حتى سماها بعض القراء لام أن ؛ وقيل : المعنى يريد الله هذا من أجل أن يبين لكم. قوله تعالى : {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي من أهل الحق. وقيل : معنى "يهديكم" يبين لكم طرق الذين من قبلكم من أهل الحق وأهل الباطل. وقال بعض أهل النظر : في هذا دليل على أن كل ما حرم الله قبل هذه الآية علينا فقد حرم على من كان قبلنا. قال النحاس : وهذا غلط ؛ لأنه يكون المعنى ويبين لكم أمر من كان قبلكم ممن كان يجتنب ما نهي عنه ، وقد يكون ويبين لكم كما بين لمن كان قبلكم من الأنبياء فلا يومي به إلى هذا بعينه. ويقال : إن قوله {يُرِيدُ اللَّهُ} ابتداء القصة ، أي يريد الله أن يبين لكم كيفية طاعته. {وَيَهْدِيَكُمْ} يعرفكم {سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أنهم لما تركوا أمري كيف عاقبتهم ، وأنتم إذا فعلتم ذلك لا أعاقبكم ولكني أتوب عليكم. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بمن تاب {حَكِيمٌ} بقبول التوبة. 27- {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} 28- {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} قوله تعالى : {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} ابتداء وخبر. و"أن" في موضع نصب بـ "يريد" وكذلك {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} ؛ فـ " أن يخفف " في موضع نصب بـ "يريد" (5/148) والمعنى : يريد توبتكم ، أي يقبلها فيتجاوز عن ذنوبكم ويريد التخفيف عنكم. قيل : هذا في جميع أحكام الشرع ، وهو الصحيح. وقيل : المراد بالتخفيف نكاح الأمة ، أي لما علمنا ضعفكم عن الصبر عن النساء خففنا عنكم بإباحة الإماء ؛ قال مجاهد وابن زيد وطاوس. قال طاوس : ليس يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر النساء. واختلف في تعيين المتبعين للشهوات ؛ فقال مجاهد : هم الزناة. السدي : هم اليهود والنصارى. وقالت فرقة : هم اليهود خاصة ؛ لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب. وقال ابن زيد : ذلك على العموم ، وهو الأصح. والميل : العدول عن طريق الاستواء ؛ فمن كان عليها أحب أن يكون أمثاله عليها حتى لا تلحقه معرة. قوله تعالى : {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} نصب على الحال ؛ والمعنى أن هواه يستميله وشهوته وغضبه يستخفانه ، وهذا أشد الضعف فأحتاج إلى التخفيف. وقال طاوس : ذلك في أمر النساء خاصة. وروي عن ابن عباس أنه قرأ "وخلق الإنسان ضعيفا" أي وخلق الله الإنسان ضعيفا ، أي لا يصبر عن النساء. قال ابن املسيب : لقد أتى علي ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني وأنا أعشو بالأخرى وصاحبي أعمى أصم - يعني ذكره - وإني أخاف من فتنة النساء. ونحوه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، قال عبادة : ألا تروني لا أقوم إلا رفدا ولا آكل إلا ما لوق لي - قال يحيى : يعني لين وسخن - وقد مات صاحبي منذ زمان - قال يحيى : يعني ذكره - وما يسرني أني خلوت بامرأة لا تحل لي ، وأن لي ما تطلع عليه الشمس مخافة أن يأتيني الشيطان فيحركه علي ، إنه لا سمع له ولا بصره. 29- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} (5/149) فيه تسع مسائل : الأولى : قوله تعالى : {بِالْبَاطِلِ} أي بغير حق. ووجوه ذلك تكثر على ما بيناه ؛ وقد قدمنا معناه في البقرة. ومن أكل المال بالباطل بيع العربان ؛ وهو أن يأخذ منك السلعة أو يكتري منك الدابة ويعطيك درهما فما فوقه ، على أنه إن اشتراها أو ركب الدابة فهو من ثمن السلعة أو كراء الدابة ؛ وإن ترك ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطاك فهو لك. فهذا لا يصلح ولا يجوز عند جماعة فقهاء الأمصار من الحجازيين والعراقيين ، لأنه من باب بيع القمار والغرر والمخاطرة ، وأكل المال بالباطل بغير عوض ولا هبة ، وذلك باطل بإجماع. وبيع العربان مفسوخ إذا وقع على هذا الوجه قبل القبض وبعده ، وترد السلعة إن كانت قائمة ، فإن فاتت رد قيمتها يوم قبضها. وقد روي عن قوم منهم ابن سيرين ومجاهد ونافع بن عبدالحارث وزيد بن أسلم أنهم أجازوا بيع العربان على ما وصفنا. وكان زيد بن أسلم يقول : أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر : هذا لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه يصح ، وإنما ذكره عبدالرزاق عن الأسلمي عن زيد بن أسلم مرسلا ؛ وهذا ومثله ليس حجة. ويحتمل أن يكون بيع العربان الجائز على ما تأوله مالك والفقهاء معه ؛ وذلك أن يعربنه ثم يحسب عربانه من الثمن إذا اختار تمام البيع. وهذا لا خلاف في جوازه عن مالك وغيره ؛ وفي موطأ مالك عن الثقة عنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع العربان". قال أبو عمر : قد تكلم الناس في الثقة عنده في هذا الموضع ، وأشبه ما قيل نيه : أنه أخذه عن ابن لهيعة أو عن ابن وهب عن ابن لهيعة ؛ لأن ابن لهيعة سمعه من عمرو بن شعيب ورواه عنه. حدث به عن ابن لهيعة ابن وهب وغيره ، وابن لهيعة أحد العلماء إلا أنه يقال : إنه احترقت كتبه فكان إذا حدث بعد ذلك من حفظه غلط. وما رواه عنه ابن المبارك وابن وهب فهو عند بعضهم صحيح. ومنهم من يضعف حديثه كله. ، وكان عنده علم واسع وكان كثير الحديث ، إلا أن حال عندهم كما وصفنا. (5/150) الثانية : قوله تعالى : {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} هذا استثناء منقطع ، أي ولكن تجارة عن تراض. والتجارة هي البيع والشراء ؛ وهذا مثل قوله تعالى : {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} على ما تقدم. وقرئ "تجارة" ، بالرفع أي إلا أن تقع تجارة ؛ وعليه أنشد سيبويه : فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... إذا كان يوم ذو كواكب أشهب وتسمى هذه كان التامة ؛ لأنها تمت بفاعلها ولم تحتج إلى مفعول. وقرئ "تجارة" بالنصب ؛ فتكون كان ناقصة ؛ لأنها لا تتم بالاسم دون الخبر ، فاسمها مضمر فيها ، وإن شئت قدرته ، أي إلا أن تكون الأموال أموال تجارة ؛ فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وقد تقدم هذا ؛ ومنه قوله تعالى : {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} . الثالثة : قوله تعالى : {تِجَارَةً} التجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة ؛ ومنه الأجر الذي يعطيه البارئ سبحانه العبد عوضا عن الأعمال الصالحة التي هي بعض من فعله ؛ قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} . وقال تعالى : {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} . وقال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} الآية. فسمى ذلك كله بيعا وشراء على وجه المجاز ، تشبيها بعقود الأشرية والبياعات التي تحصل بها الأغراض ، وهي نوعان : تقلب في الحضر من غير نقلة ولا سفر ، وهذا تربص واحتكار قد رغب عنه أولو الأقدار ، وزهد فيه ذوو الأخطار. والثاني تقلب المال بالأسفار ونقله إلى الأمصار ، فهذا أليق بأهل المروءة ، وأعم جدوى ومنفعة ، غير أنه أكثر خطرا وأعظم غررا. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن المسافر وماله لعلى قلت إلا ما وقى الله" . يعني على خطر. وقيل : في التوراة يا ابن آدم ، أحدث سفرا أحدث لك رزقا. الطبري : وهذه الآية أدل دليل على فساد قول. (5/151) الرابعة : اعلم أن كل معاوضة تجارة على أي وجه كان العوض إلا أن قوله "بالباطل" أخرج منها كل عوض لا يجوز شرعا من ربا أو جهالة أو تقدير عوض فاسد كالخمر والخنزير وغير ذلك. وخرج منها أيضا كل عقد جائز لا عوض فيه ؛ كالقرض والصدقة والهبة لا للثواب. وجازت عقود التبرعات بأدلة أخرى مذكورة في مواضعها. فهذان طرفان متفق عليهما. وخرج منها أيضا دعاء أخيك إياك إلى طعامه. روى أبو داود عن ابن عباس في قوله تعالى : {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فكان الرجل يحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية ؛ فنسخ ذلك بالآية الأخرى التي في "النور" ؛ فقال : {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} إلى قوله {أَشْتَاتاً} ؛ فكان الرجل الغني يدعو الرجل من أهله إلى طعامه فيقول : إني لأجنح أن آكل منه - والتجنح الحرج ويقول : المسكين أحق به مني. فأحل في ذلك أن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ، وأحل طعام أهل الكتاب. الخامسة : لو اشتريت من السوق شيئا ؛ فقال لك صاحبه قبل الشراء : ذقه وأنت في حل ؛ فلا تأكل منه ؛ لأن إذنه بالأكل لأجل الشراء ؛ فربما لا يقع بينكما شراء فيكون ذلك شبهة ، ولكن لو وصف لك صفة فاشتريته فلم تجده على تلك الصفة فأنت بالخيار. السادسة : والجمهور على جواز الغبن في التجارة ؛ مثل أن يبيع رجل ياقوتة به بدرهم وهي تساوي مائة فذلك جائز ، وأن المالك الصحيح الملك جائز له أن يبيع ماله الكثير بالتافه اليسير ، وهذا ما لا اختلاف فيه بين العلماء إذا عرف قدر ذلك ، كما تجوز الهبة لو وهب. واختلفوا فيه إذا لم يعرف قدر ذلك ؛ فقال قوم : عرف قدر ذلك أو لم يعرف فهو جائز إذا كان رشيدا حرا بالغا. وقالت فرقة : الغبن إذا تجاوز الثلث مردود ، وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات ، وأما المتفاحش الفادح فلا ؛ وقال ابن وهب من أصحاب (5/152) مالك رحمه الله. والأول أصح ؛ لقوله عليه السلام في حديث الأمة الزانية. "فليبعها ولو بضفير" وقوله عليه السلام لعمر : "لا تبتعه يعني القرس - ولو أعطاكه بدرهم واحد" وقوله عليه السلام : "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" وقوله عليه السلام : "لا يبع حاضر لباد" وليس فيها تفصيل بين القليل والكثير من ثلث ولا غيره. السابعة : قوله تعالى : {عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} أي عن رضى ، إلا أنها جاءت من المفاعلة إذ التجارة من اثنين. واختلف العلماء في التراضي ؛ فقالت طائفة : تمامه وجزمه بافتراق الأبدان بعد عقدة البيع ، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه : اختر ؛ فيقول : قد اخترت ، وذلك بعد العقدة أيضا فينجزم أيضا وإن لم يتفرقا ؛ قاله جماعة من الصحابة والتابعين ، وبه قال الشافعي والثوري والأوزاعي والليث وابن عيينة وإسحاق وغيرهم. قال الأوزاعي : هما بالخيار ما لم يتفرقا ؛ إلا بيوعا ثلاثة : بيع السلطان المغانم ، والشركة في الميراث ، والشركة في التجارة ؛ فإذا صافقه في هذه الثلاثة فقد وجب البيع وليسا فيه بالخيار. وقال : وحد التفرقة أن يتوارى كل واحد منهما عن صاحبه ؛ وهو قول أهل الشام. وقال الليث : التفرق أن يقوم أحدهما. وكان أحمد بن حنبل يقول : هما بالخيار أبدا ما لم يتفرقا بأبدانهما ، وسواء قالا : اخترنا أو لم يقولاه حتى يفترقا بأبدانهما من مكانهما ؛ وقال الشافعي أيضا. وهو الصحيح في هذا الباب للأحاديث الواردة في ذلك. وهو مروي عن ابن عمر وأبي برزة وجماعة من العلماء. وقال مالك وأبو حنيفة : تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة فينجزم العقد بذلك ويرتفع الخيار. قال محمد بن الحسن : معنى قوله في الحديث "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" أن البائع إذا قال : قد بعتك ، فله أن يرجع ما لم يقل المشتري قد قبلت. وهو قول أبي حنيفة ، ونص مذهب مالك أيضا ، حكاه ابن خويز منداد. وقيل : ليس له أن يرجع. وقد مضى في "البقرة". واحتج (5/153) الأولون بما ثبت من حديث سمرة بن جندب وأبي برزة وابن عمر وعبدالله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وحكيم بن حزام وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه أختر" . رواه أيوب عن نافع عن ابن عمر ؛ فقوله عليه السلام في هذه الرواية : "أو يقول أحدهما لصاحبه اختر" هو معنى الرواية الأخرى "إلا بيع الخيار" وقوله : "إلا أن يكون بيعهما عن خيار" ونحوه. أي يقول أحدهما بعد تمام البيع لصاحبه : اختر إنفاذ البيع أو فسخه ؛ فإن اختار إمضاء البيع تم البيع بينهم وإن لم يتفرقا. وكان ابن عمر وهو راوي الحديث إذا بايع أحدا وأحب أن ينفذ البيع مشى قليلا ثم رجع. وفي الأصول : إن من روى حديثا فهو أعلم بتأويله ، لا سيما الصحابة إذ هم أعلم بالمنال وأقعد بالحال. وروى أبو داود والدارقطني عن أبي الوضيء قال : كنا في سفر في عسكر فأتى رجل معه فرس فقال له رجل منا : أتبيع هذا الفرس بهذا الغلام ؟ قال : نعم ؛ فباعه ثم بات معنا ، فلما أصبح قام إلى فرسه ، فقال له صاحبنا : مالك والفرس ! أليس قد بعتنيها ؟ فقال : ما لي في هذا البيع من حاجة. فقال : مالك ذلك ، لقد بعتني. فقال لهما القوم : هذا أبو برزة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتياه ؛ فقال لهما : أترضيان بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالا : نعم. فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" وإني لا أراكما افترقتما. فهذان صحابيان قد علما مخرج الحديث وعملا بمقتضاه ، بل هذا كان عمل الصحابة. قال سالم : قال ابن عمر : كنا إذا تبايعنا كان كل واحد منا بالخيار ما لم يفرق المتبايعان. قال : فتبايعت أنا وعثمان فبعته مالي بالوادي بمال له بخيبر ؛ قال : فلما بعته طفقت أنكص القهقرى ، خشية أن يرادني عثمان البيع قبل أن أفارقه. أخرجه الدارقطني ثم قال : إن أهل اللغة فرقوا بين فرقت مخففا وفرقت مثقلا ؛ فجعلوه بالتخفيف في الكلام وبالتثقيل في الأبدان. قال أحمد بن يحيى ثعلب : أخبرني ابن الأعرابي عن المفضل قال : يقال فرقت بين الكلامين مخففا فافترقا وفرقت بين اثنين مشددا فتفرقا ؛ فجعل الافتراق في القول ، والتفرق في الأبدان. (5/154) | |
|