فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الخميس 10 مارس - 2:06 | |
| السابعة عشرة : إن قيل : ما فائدة زيادة الواو في قوله : { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ } ، وكان ظاهر الكلام أن يقول : فإن لم يكن له ولد ورثه أبواه. قيل له : أراد بزيادتها الإخبار ليبين أنه أمر مستقر ثابت ، فيخبر عن ثبوته واستقراره ، فيكون حال الوالدين عند انفرادهما كحال الولدين ، للذكر مثل حظ الأنثيين. ويجتمع للأب بذلك فرضان السهم والتعصيب إذ يحجب الإخوة كالولد. وهذا عدل في الحكم ، ظاهر في الحكمة. والله أعلم. الثامنة عشرة : قوله تعالى : { فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } قرأ أهل الكوفة "فلإِمه الثلث" وهى لغة حكاها سيبويه. قال الكسائي : هي لغة كثير من هوازن وهذيل ؛ ولأن اللام لما كانت مكسورة وكانت متصلة بالحرف كرهوا ضمة بعد كسرة ، فأبدلوا من الضمة كسرة ؛ لأنه ليس في الكلام فعل. ومن ضم جاء به على الأصل ؛ ولأن اللام تنفصل لأنها داخلة على الاسم. قال جميعه النحاس. التاسعة عشرة : قوله تعالى : { فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ } الإخوة يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس ، وهذا هو حجب النقصان ، وسواء كان الإخوة أشقاء أو للأب أو للأم ، ولا سهم لهم. وروي عن ابن عباس أنه كان يقول : "السدس الذي حجب الإخوة الأم عنه هو للإخوة". وروي عنه مثل قول الناس "إنه للأب". قال قتادة : وإنما أخذه الأب دونهم ؛ لأنه يمونهم ويلي نكاحهم والنفقة عليهم. وأجمع أهل العلم على أن أخوين فصاعدا ذكرانا كانوا أو إناثا من أب وأم ، أو من أب أو من أم يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس ؛ إلا ما روي عن ابن عباس أن "الاثنين من الإخوة في حكم الواحد ، ولا يحجب الأم أقل من ثلاثة". وقد صار بعض الناس إلى أن الأخوات لا يحجبن الأم من الثلث إلى السدس ؛ لأن كتاب الله في الإخوة وليست قوة ميراث الإناث مثل قوة ميراث الذكور حتى تقتضي العبرة الإلحاق. قال الكيا الطبري : ومقتضى أقوالهم ألا يدخلن مع الإخوة ؛ فإن لفظ الإخوة بمطلقه لا يتناول الأخوات ، كما أن لفظ البنين لا يتناول البنات. وذلك يقتضي ألا تحجب الأم بالأخ الواحد والأخت من الثلث إلى السدس ؛ وهو خلاف إجماع (5/72) المسلمين. وإذا كن مرادات بالآية مع الإخوة كن مرادات على الانفراد. واستدل الجميع بأن أقل الجمع اثنان ؛ لأن التثنية جمع شيء إلى مثله ، فالمعنى يقتضي أنها جمع. وقال عليه السلام : "الاثنان فما فوقهما جماعة". وحكي عن سيبويه أنه قال : سألت الخليل عن قوله "ما أحسن وجوههما" ؟ فقال : الاثنان جماعة. وقد صح قول الشاعر : ومهمهين قذفين مرتين ... ظهراهما مثل ظهور الترسين وأنشد الأخفش : لما أتتنا المرأتان بالخبر ... فقلن إن الأمر فينا قد شهر وقال آخر : يحيى بالسلام غني قوم ... ويبخل بالسلام على الفقير أليس الموت بينهما سواء ... إذا ماتوا وصاروا في القبور ولما وقع الكلام في ذلك بين عثمان وابن عباس قال له عثمان : "إن قومك حجبوها - يعني قريشا - وهم أهل الفصاحة والبلاغة". وممن قال : "إن أقل الجمع ثلاثة" - وإن لم يقل به هنا - ابن مسعود والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم. والله أعلم. الموفية عشرين : قوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } قرأ ابن كثير "أبو عمرو وابن عامر وعاصم "يوصى" بفتح الصاد. الباقون بالكسر ، وكذلك الآخر. واختلفت الرواية فيهما عن عاصم. والكسر اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ؛ لأنه جرى ذكر الميت قبل هذا. قال الأخفش : وتصديق ذلك قوله تعالى : { يُوصِينَ } و { تُوصُونَ }. الحادية والعشرون : إن قيل : ما الحكمة في تقديم ذكر الوصية على ذكر الدين ، والدين مقدم عليها بإجماع. وقد روى الترمذي عن الحارث عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية ، وأنتم تقرون الوصية قبل الدين. قال : والعمل على هذا عند عامة (5/73) أهل العلم أنه يبدأ بالدين قبل الوصية. وروى الدارقطني من حديث عاصم بن ضمرة عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الدين قبل الوصية وليس لوارث وصية" . رواه عنهما أبو إسحاق الهمداني. فالجواب من أوجه خمسة : الأول : إنما قصد تقديم هذين الفصلين على الميراث ولم يقصد ترتيبهما في أنفسهما ؛ فلذلك تقدمت الوصية في اللفظ. جواب ثان : لما كانت الوصية أقل لزوما من الدين قدمها اهتماما بها ؛ كما قال تعالى : { لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً } . جواب ثالث : قدمها لكثرة وجودها ووقوعها ؛ فصارت كاللازم لكل ميت مع نص الشرع عليها ، وأخر الدين لشذوذه ، فإنه قد يكون وقد لا يكون. فبدأ بذكر الذي لا بد منه ، وعطف بالذي قد يقع أحيانا. ويقوى هذا : العطف بأو ، ولو كان الدين راتبا لكان العطف بالواو. جواب رابع : إنما قدمت الوصية إذ هي حظ مساكين وضعفاء ، وأخر الدين إذ هو حظ غريم يطلبه بقوة وسلطان وله فيه مقال. جواب خامس : لما كانت الوصية ينشئها من قبل نفسه قدمها ، والدين ثابت مؤدى ذكره أو لم يذكره. الثانية والعشرون : ولما ثبت هذا تعلق الشافعي بذلك في تقديم دين الزكاة والحج على الميراث فقال : إن الرجل إذا فرط في زكاته وجب أخذ ذلك من رأس ماله. وهذا ظاهر ببادئ الرأي ؛ لأنه حق من الحقوق فيلزم أداؤه عنه بعد الموت كحقوق الآدميين لا سيما والزكاة مصرفها إلى الآدمي. وقال أبو حنيفة ومالك : إن أوصى بها أديت من ثلثه ، وإن سكت عنها لم يخرج عنه شيء. قالوا : لأن ذلك موجب لترك الورثة فقراء ؛ إلا أنه قد يتعمد ترك الكل حتى إذا مات استغرق ذلك جميع ماله فلا يبقى للورثة حق. الثالثة والعشرون : قوله تعالى : { آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ } رفع بالابتداء والخبر مضمر ، تقديره : هم المقسوم عليهم وهم المعطون. الرابعة والعشرون : قوله تعالى : { لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } قيل : في الدنيا بالدعاء والصدقة ؛ كما جاء في الأثر "إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده". وفي الحديث الصحيح (5/74) "إذا مات الرجل انقطع عمله إلا من ثلاث - فذكر - أو ولد صالح يدعو له" . وقيل : "في الآخرة ؛ فقد يكون الابن أفضل فيشفع في أبيه" ؛ عن ابن عباس والحسن. وقال بعض المفسرين : إن الابن إذا كان أرفع من درجة أبيه في الآخرة سأل الله فرفع إليه أباه ، وكذلك الأب إذا كان أرفع من ابنه ؛ وسيأتي في "الطور" بيانه. وقيل : في الدنيا والآخرة ؛ قال ابن زيد. واللفظ يقتضي ذلك. الخامسة والعشرون : قوله تعالى : { فَرِيضَةً } نصب على المصدر المؤكد ، إذ معنى "يوصيكم" يفرض عليكم. وقال مكي وغيره : هي حال مؤكدة ؛ والعامل "يوصيكم" وذلك ضعيف. والآية متعلقة بما تقدم ؛ وذلك أنه عرف العباد أنهم كفوا مؤنة الاجتهاد في إيصاء القرابة مع اجتماعهم في القرابة ، أي أن الآباء والأبناء ينفع بعضهم بعضا في الدنيا بالتناصر والمواساة ، وفي الآخرة بالشفاعة. وإذا تقرر ذلك في الآباء والأبناء تقرر ذلك في جميع الأقارب ؛ فلو كان القسمة موكولة إلى الاجتهاد لوجوب النظر في غنى كل واحد منهم. وعند ذلك يخرج الأمر عن الضبط إذ قد يختلف الأمر ، فبين الرب تبارك وتعالى أن الأصلح للعبد ألا يوكل إلى اجتهاده في مقادير المواريث ، بل بين المقادير شرعا. { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً } أي بقسمة المواريث { حَكِيماً } حكم في قسمتها وبينها لأهلها. وقال الزجاج : "عليما" أي بالأشياء قبل خلقها "حكيما" فيما يقدره ويمضيه منها. وقال بعضهم : إن الله سبحانه لم يزل ولا يزال ، والخبر منه بالماضي كالخبر منه بالاستقبال. ومذهب سيبويه أنهم رأوا حكمة وعلما فقيل لهم : إن الله عز وجل كان كذلك لم يزل على ما رأيتم. السادسة والعشرون : قوله تعالى : { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } الخطاب للرجال. والولد هنا بنو الصلب وبنو بنيهم وإن سفلوا ، ذكرانا وإناثا واحدا فما زاد بإجماع. وأجمع العلماء على أن للزوج النصف مع عدم الولد أو ولد الولد ، وله مع وجوده الربع. وترث المرأة من زوجها الربع مع فقد الولد ، والثمن مع وجوده. وأجمعوا على أن (5/75) حكم الواحدة من الأزواج والثنتين والثلاث والأربع في الربع إن لم يكن له ولد ، وفي الثمن إن كان له ولد واحد ، وأنهن شركاء في ذلك ؛ لأن الله عز وجل لم يفرق بين حكم الواحدة منهن وبين حكم الجميع ، كما فرق بين حكم الواحدة من البنات والواحدة من الأخوات وبين حكم الجميع منهن. السابعة والعشرون : قوله تعالى : { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ } الكلالة مصدر ؛ من تكلله النسب أي أحاط به. وبه سمي الإكليل ، وهي منزلة من منازل القمر لإحاطتها بالقمر إذا احتل بها. ومنه الإكليل أيضا وهو التاج والعصابة المحيطة بالرأس. "فإذا مات الرجل وليس له ولد ولا والد فورثته كلالة". هذا قول أبي بكر الصديق وعمر وعلي وجمهور أهل العلم. وذكر يحيى بن آدم عن شريك وزهير وأبي الأحوص عن أبي إسحاق عن سليمان بن عبد قال : ما رأيتهم إلا وقد تواطؤوا وأجمعوا على أن الكلالة من مات ليس له ولد ولا والد. وهكذا قال صاحب كتاب العين وأبو منصور اللغوي وابن عرفة والقتبي وأبو عبيد وابن الأنباري. فالأب والابن طرفان للرجل ؛ فإذا ذهبا تكلله النسب. ومنه قيل : روضة مكللة إذا حفت بالنور. وأنشدوا : مسكنه روضة مكللة ... عم بها الأيهقان والذرق يعني نبتين. وقال امرؤ القيس : أصاح ترى برقا أريك وميضه ... كلمع اليدين في حبي مكلل فسموا القرابة كلالة ؛ لأنهم أطافوا بالميت من جوانبه وليسوا منه ولا هو منهم ، وإحاطتهم به أنهم ينتسبون معه. كما قال أعرابي : مالي كثير ويرثني كلالة متراخ نسبهم. وقال الفرزدق : ورثتم قناة المجد لا عن كلالة ... عن ابن مناف عبد شمس وهاشم (5/76) وقال آخر : وإن أبا المرء أحمى له ... ومولى الكلالة لا يغضب وقيل : إن الكلالة مأخوذة من الكلال وهو الإعياء ؛ فكأنه يصير الميراث إلى الوارث عن بعد وإعياء. قال الأعشى : فآليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من وجى حتى تلاقي محمدا وذكر أبو حاتم والأثرم عن أبى عبيدة قال : الكلالة كل من لم يرثه أب أو ابن أو أخ فهو عند العرب كلالة. قال أبو عمر : ذكر أبي عبيدة الأخ هنا مع الأب والابن في شرط الكلالة غلط لا وجه له ، ولم يذكره في شرط الكلالة غيره. وروي عن عمر بن الخطاب أن "الكلالة من لا ولد له خاصة" ؛ وروي عن أبي بكر ثم رجعا عنه. وقال ابن زيد : الكلالة الحي والميت جميعا. وعن عطاء : الكلالة المال. قال ابن العربي : وهذا قول طريف لا وجه له. قلت : له وجه متبين بالإعراب آنفا. وروي عن ابن الأعرابي أن الكلالة بنو العم الأباعد. وعن السدي أن الكلالة الميت. وعنه مثل قول الجمهور. وهذه الأقوال تتبين وجوهها بالإعراب ؛ فقرأ بعض الكوفيين "يورث كلالة" بكسر الراء وتشديدها. وقرأ الحسن وأيوب "يورث" بكسر الراء وتخفيفها ، على اختلاف عنهما. وعلى هاتين القراءتين لا تكون الكلالة إلا الورثة أو المال. كذلك حكى أصحاب المعاني ؛ فالأول من ورث ، والثاني من أورث. و"كلالة" مفعوله و"كان" بمعنى وقع. ومن قرأ "يورث" بفتح الراء احتمل أن تكون الكلالة المال ، والتقدير : يورث وراثة كلالة فتكون نعتا لمصدر محذوف. ويجوز أن تكون الكلالة اسما للورثة وهي خبر كان ؛ فالتقدير : ذا ورثة. ويجوز أن تكون تامة بمعنى وقع ، و"يورث" نعت لرجل ، و"رجل" رفع بكان ، و"كلالة" نصب على التفسير أو الحال ؛ على أن الكلالة هو الميت ، التقدير : وإن كان رجل يورث متكلل النسب إلى الميت. (5/77) الثامنة والعشرون : ذكر الله عز وجل في كتابه الكلالة في موضعين : آخر السورة وهنا ، ولم يذكر في الموضعين وارثا غير الإخوة. فأما هذه الآية فأجمع العلماء على أن الإخوة فيها عني بها الإخوة للأم ؛ لقوله تعالى : { فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } . وكان سعد بن أبي وقاص يقرأ "وله أخ أو أخت من أمه". ولا خلاف بين أهل العلم أن الإخوة للأب والأم أو الأب ليس ميراثهم كهذا ؛ فدل إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في آخر السورة هم إخوة المتوفى لأبيه وأمه أو لأبيه ؛ لقوله عز وجل { وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } . ولم يختلفوا أن ميراث الإخوة للأم ليس هكذا ؛ فدلت الآيتان أن الإخوة كلهم جميعا كلالة. وقال الشعبي : "الكلالة ما كان سوى الولد والوالد من الورثة إخوة أو غيرهم من العصبة". كذلك قال علي وابن مسعود وزيد وابن عباس ، وهو القول الأول الذي بدأنا به. قال الطبري : والصواب أن الكلالة هم الذين يرثون الميت من عدا ولده ووالده ، لصحة خبر جابر : فقلت يا رسول الله إنما يرثني كلالة ، أفأوصي بمالي كله ؟ قال : "لا". التاسعة والعشرون : قال أهل اللغة : يقال رجل كلالة وامرأة كلالة. ولا يثنى ولا يجمع ؛ لأنه مصدر كالوكالة والدلالة والسماحة والشجاعة. وأعاد ضمير مفرد في قوله : "وله أخ" ولم يقل لهما. ومضى ذكر الرجل والمرأة على عادة العرب إذا ذكرت اسمين ثم أخبرت عنهما وكانا في الحكم سواء ربما أضافت إلى أحدهما وربما أضافت إليهما جميعا ؛ تقول : من كان عنده غلام وجارية فليحسن إليه وإليها وإليهما وإليهم ؛ قال الله تعالى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ }. وقال تعالى : { إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا } ويجوز أولى بهم ؛ عن الفراء وغيره. ويقال في امرأة : مرأة ، وهو الأصل. وأخ أصله أخو ، يدل عليه أخوان ؛ فحذف منه وغير على غير قياس. قال الفراء ضم أول أخت ، لأن المحذوف منها واو ، وكسر أول بنت ؛ لأن المحذوف منها ياء. وهذا الحذف والتعليل على غير قياس أيضا. (5/78) الموفية الثلاثين : قوله تعالى : { فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } هذا التشريك يقتضي التسوية بين الذكر والأنثى وإن كثروا. وإذا كانوا يأخذون بالأم فلا يفضل الذكر على الأنثى. وهذا إجماع من العلماء ، وليس في الفرائض موضع يكون فيه الذكر والأنثى سواء إلا في ميراث الإخوة للأم. فإذا ماتت امرأة وتركت زوجها وأمها وأخاها لأمها فللزوج النصف وللأم الثلث وللأخ من الأم السدس. فإن تركت أخوين وأختين - والمسألة بحالها - فللزوج النصف وللأم السدس وللأخوين والأختين الثلث ، وقد تمت الفريضة. وعلى هذا عامة الصحابة ؛ لأنهم حجبوا الأم بالأخ والأخت من الثلث إلى السدس. وأما ابن عباس فإنه لم ير العول ولو جعل للأم الثلث لعالت المسألة ، وهو لا يرى ذلك. والعول مذكور في غير هذا الموضع ، ليس هذا موضعه. فإن تركت زوجها وإخوة لأم وأخا لأب وأم ؛ فللزوج النصف ، ولإخوتها لأمها الثلث ، وما بقي فلأخيها لأمها وأبيها. وهكذا من له فرض مسمى أعطيه ، والباقي للعصبة إن فضل. فإن تركت ستة إخوة مفترقين فهذه الحمارية ، وتسمى أيضا المشتركة. قال قوم : "للإخوة للأم الثلث ، وللزوج النصف ، وللأم السدس" ، وسقط الأخ والأخت من الأب والأم ، والأخ والأخت من الأب. روي عن علي وابن مسعود وأبي موسى والشعبي وشريك ويحيى بن آدم ، وبه قال أحمد بن حنبل واختاره ابن المنذر ؛ لأن الزوج والأم والأخوين للأم أصحاب فرائض مسماة ولم يبق للعصبة شيء. وقال قوم : "الأم واحدة ، وهب أن أباهم كان حمارا ! وأشركوا بينهم في الثلث" ؛ ولهذا سميت المشتركة والحمارية. روي هذا عن عمر وعثمان وابن مسعود أيضا وزيد بن ثابت ومسروق وشريح ، وبه قال مالك والشافعي وإسحاق. ولا تستقيم هذه المسألة أن لو كان الميت رجلا. فهذه جملة من علم الفرائض تضمنتها الآية ، والله الموفق للهداية. وكانت الوراثة في الجاهلية بالرجولية والقوة ، وكانوا يورثون الرجال دون النساء ؛ فأبطل الله عز وجل ذلك بقوله : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ } كما تقدم. وكانت الوراثة (5/79) أيضا في الجاهلية وبدء الإسلام بالمحالفة ، قال الله عز وجل : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } على ما يأتي بيانه. ثم صارت بعد المحالفة بالهجرة ؛ قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } وسيأتي. وهناك يأتي القول في ذوي الأرحام وميراثهم ، إن شاء الله تعالى. وسيأتي في سورة "النور" ميراث ابن الملاعنة وولد الزنا والمكاتب بحول الله تعالى. والجمهور من العلماء على أن الأسير المعلوم حياته أن ميراثه ثابت ؛ لأنه داخل في جملة المسلمين الذين أحكام الإسلام جارية عليهم. وقد روي عن سعيد بن المسيب أنه قال في الأسير في يد العدو : لا يرث. وقد تقدم ميراث المرتد في سورة "البقرة" والحمد لله. الحادية والثلاثين : قوله تعالى : { غَيْرَ مُضَارٍّ } نصب على الحال والعامل "يوصي". أي يوصي بها غير مضار ، أي غير مدخل الضرر على الورثة. أي لا ينبغي أن يوصي بدين ليس عليه ليضر بالورثة ؛ ولا يقر بدين. فالإضرار راجع إلى الوصية والدين ؛ أما رجوعه إلى الوصية فبأن يزيد على الثلث أو يوصي لوارث ، فإن زاد فإنه يرد ، إلا أن يجيزه الورثة ؛ لأن المنع لحقوقهم لا لحق الله تعالى. وإن أوصى لوارث فإنه يرجع ميراثا. وأجمع العلماء على أن الوصية للوارث لا تجوز. وقد تقدم هذا في "البقرة". وأما رجوعه إلى الدين فبالإقرار في حالة لا يجوز له فيها ؛ كما لو أقر في مرضه لوارثه أو لصديق ملاطف ؛ فإن ذلك لا يجوز عندنا. وروي عن الحسن أنه قرأ "غير مضار وصية من الله" على الإضافة. قال النحاس : وقد زعم بعض أهل اللغة أن هذا لحن ؛ لأن اسم الفاعل لا يضاف إلى المصدر. والقراءة حسنة على حذف ، والمعنى : غير مضار ذي وصية ، أي غير مضار بها ورثته في ميراثهم. وأجمع العلماء على أن إمراره بدين لغير وارث حال المرض جائز إذا لم يكن عليه دين في الصحة. الثانية والثلاثين : فإن كان عليه دين في الصحة ببينة وأقر لأجنبي بدين ؛ فقالت طائفة : يبدأ بدين الصحة ؛ هذا قول النخعي والكوفيين. قالوا : فإذا استوفاه صاحبه (5/80) فأصحاب الإقرار في المرض يتحاصون. وقالت طائفة : هما سواء إذا كان لغير وارث. هذا قول الشافعي وأبي ثور وأبي عبيد ، وذكر أبو عبيد إنه قول أهل المدينة ورواه عن الحسن. الثالثة والثلاثين : قد مضى في "البقرة" الوعيد في الإضرار في الوصية ووجوهها. وقد روى أبو داود من حديث شهر بن حوشب "وهو مطعون فيه" عن أبى هريرة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنه ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار" . قال : وقرأ علي أبو هريرة من ههنا { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ } حتى بلغ { ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }. وقال ابن عباس : "الإضرار في الوصية من الكبائر" ؛ ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أن مشهور مذهب مالك وابن القاسم أن الموصي لا يعد فعله مضارة في ثلثه ؛ لأن ذلك حقه فله التصرف فيه كيف شاء. وفي المذهب قوله : أن ذلك مضارة ترد. وبالله التوفيق. الرابعة والثلاثين : قوله تعالى : { وَصِيَّةً } نصب على المصدر في موضع الحال والعامل "يوصيكم" ويصح أن يعمل فيها "مضار" والمعنى أن يقع الضرر بها أو بسببها فأوقع عليها تجوزا ، قال ابن عطية ؛ وذكر أن الحسن بن أبي الحسن قرأ { غَيْرَ مُضَارِّ وَصِيَّةٍ } بالإضافة ؛ كما تقول : شجاع حرب. وبضة المتجرد ؛ في قول طرفة بن العبد. والمعنى على ما ذكرناه من التجوز في اللفظ لصحة المعنى. { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ } يعني عليم بأهل الميراث حليم على أهل الجهل منكم. وقرأ بعض المتقدمين "والله عليم حكيم" يعني حكيم بقسمة الميراث والوصية. الخامسة والثلاثين : قوله تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } و"تلك" بمعنى هذه ، أي هذه أحكام الله قد بينها لكم لتعرفوها وتعملوا بها. { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } في قسمة (5/81) المواريث فيقر بها ويعمل بها كما أمره الله تعالى { يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } جملة في موضع نصب على النعت لجنات. وقوله { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } يريد في قسمة المواريث فلم يقسمها ولم يعمل بها { وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ } أي يخالف أمره { يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا }. والعصيان إن أريد به الكفر فالخلود على بابه ، وإن أريد به الكبائر وتجاوز أوامر الله تعالى فالخلود مستعار لمدة ما. كما تقول : خلد الله ملكه. وقال زهير : ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا وقد تقدم هذا المعنى في غير موضع. وقرأ نافع وابن عامر "ندخله" بالنون في الموضعين ، على معنى الإضافة إلى نفسه سبحانه. الباقون بالياء كلاهما ؛ لأنه سبق ذكر اسم الله تعالى أي يدخله الله. 15- { وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } فيه ثمان مسائل : الأولى : لما ذكر الله تعالى في هذه السورة الإحسان إلى النساء وإيصال صدقاتهن إليهن ، وانجر الأمر إلى ذكر ميراثهن مع مواريث الرجال ، ذكر أيضا التغليظ عليهن فيما يأتين به من الفاحشة ، لئلا تتوهم المرأة أنه يسوغ لها ترك التعفف. الثانية : قوله تعالى : { وَاللَّاتِي } "اللاتي" جمع التي ، وهو اسم مبهم للمؤنث ، وهي معرفة ولا يجوز نزع الألف واللام منه للتنكير ، ولا يتم إلا بصلته ؛ وفيه ثلاث لغات كما تقدم. ويجمع أيضا "اللات" بحذف الياء وإبقاء الكسرة ؛ و"اللائي" بالهمزة وإثبات الياء ، و"اللاء" بكسر الهمزة وحذف الياء ، و"اللا" بحذف الهمزة. فإن (5/82) جمعت الجمع قلت في اللاتي : اللواتي ، وفي اللاء : اللوائي. وقد روي عنهم "اللوات" بحذف الياء وإبقاء الكسرة ؛ قال ابن الشجري. قال الجوهري : أنشد أبو عبيد : من اللواتي والتي واللات ... زعمن أن قد كبرت لدات واللوا بإسقاط التاء. وتصغير التي اللتيا بالفتح والتشديد ؛ قال الراجز : بعد اللتيا واللتيا والتي وبعض الشعراء أدخل على "التي" حرف النداء ، وحروف النداء لا تدخل على ما فيه الألف واللام إلا في قولنا : يا الله وحده ؛ فكأنه شبهها به من حيث كانت الألف واللام غير مفارقتين لها. وقال : من أجلك يالتي تيمت قلبي ... وأنت بخيلة بالود عني ويقال : وقع في اللتيا والتي ؛ وهما اسمان من أسماء الداهية. الثالثة : قوله تعالى : { يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ } الفاحشة في هذا الموضع الزنا ، والفاحشة الفعلة القبيحة ، وهي مصدر كالعاقبة والعافية. وقرأ ابن مسعود "بالفاحشة" بباء الجر. الرابعة : قوله تعالى : { مِنْ نِسَائِكُمْ } إضافة في معنى الإسلام وبيان حال المؤمنات ؛ كما قال { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } لأن الكافرة قد تكون من نساء المسلمين بنسب ولا يلحقها هذا الحكم. الخامسة : قوله تعالى : { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } أي من المسلمين ، فجعل الله الشهادة على الزنا خاصة أربعة تغليظا على المدعي وسترا على العباد. وتعديل الشهود بالأربعة في الزنا حكم ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن ؛ قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } وقال هنا : "فاستشهدوا عليهن أربعة منكم". وروى أبو داود عن جابر بن عبدالله قال : جاءت اليهود برجل وامرأة منهم قد زنيا فقال : النبي صلى الله عليه وسلم "ائتوني بأعلم رجلين منكم" فأتوه بابني صوريا فنشدهما : "كيف تجدان أمر هذين في التوراة ؟ " قالا : نجد في التوراة (5/83) إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما. قال : "فما يمنعكما أن ترجموهما" ؛ قالا : ذهب سلطاننا فكرهنا القتل ؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود ، فجاؤوا فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة ؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما. وقال قوم : إنما كان الشهود في الزنا أربعة ليترتب شاهدان على كل واحد من الزانيين كسائر الحقوق ؛ إذ هو حق يؤخذ من كل واحد منهما ؛ وهذا ضعيف ؛ فإن اليمين تدخل في الأموال واللوث في القسامة ولا مدخل لواحد منهما هنا. السادسة : ولا بد أن يكون الشهود ذكورا ؛ لقوله : "منكم" ولا خلاف فيه بين الأمة. وأن يكونوا عدولا ؛ لأن الله تعالى شرط العدالة في البيوع والرجعة ، وهذا أعظم ، وهو بذلك أولى. وهذا من حمل المطلق على المقيد بالدليل ، على ما هو مذكور في أصول الفقه. ولا يكونون ذمة ، وإن كان الحكم على ذمية ، وسيأتي ذلك في "المائدة" وتعلق أبو حنيفة بقوله : { أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } في أن الزوج إذا كان أحد الشهود في القذف لم يلاعن. وسيأتي بيانه في "النور" إن شاء الله تعالى. السابعة : قوله تعالى : { فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ } هذه أول عقوبات الزناة ؛ وكان هذا في ابتداء الإسلام ؛ قال عبادة بن الصامت والحسن ومجاهد حتى نسخ بالأذى الذي بعده ، ثم نسخ ذلك بآية "النور" وبالرجم في الثيب. وقالت فرقة : بل كان الإيذاء هو الأول ثم نسخ بالإمساك ، ولكن التلاوة أخرت وقدمت ؛ ذكره ابن فورك ، وهذا الإمساك والحبس في البيوت كان في صدر الإسلام قبل أن يكثر الجناة ، فلما كثروا وخشي قوتهم اتخذ لهم سجن ؛ قاله ابن العربي. (5/84) الثامنة : واختلف العلماء هل كان هذا السجن حدا أو وعدا بالحد على قولين : أحدهما : أنه توعد بالحد ، والثاني : أنه حد ؛ قال ابن عباس والحسن. زاد ابن زيد : وأنهم منعوا من النكاح حتى يموتوا عقوبة لهم حين طلبوا النكاح من غير وجهه. وهذا يدل على أنه كان حدا بل أشد ؛ غير أن ذلك الحكم كان ممدودا إلى غاية وهو الأذى في الآية الأخرى ، على اختلاف التأويلين في أيهما قبل ؛ وكلاهما ممدود إلى غاية وهي قوله عليه السلام في حديث عبادة بن الصامت : "خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" . وهذا نحو قوله تعالى : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } فإذا جاء الليل ارتفع حكم الصيام لانتهاء غايته لا لنسخه. هذا قول المحققين المتأخرين من الأصوليين ، فإن النسخ إنما يكون في القولين المتعارضين من كل وجه اللذين لا يمكن الجمع بينهما ، والجمع ممكن بين الحبس والتعيير والجلد والرجم ، وقد قال بعض العلماء : أن الأذى والتعيير باق مع الجلد ؛ لأنهما لا يتعارضان بل يحملان على شخص واحد. وأما الحبس فمنسوخ بإجماع ، وإطلاق المتقدمين النسخ على مثل هذا تجوز. والله أعلم. 16- { وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً } فيه سبع مسائل : الأولى : قوله تعالى : { وَالَّذَانِ } "اللذان" تثنية الذي ، وكان القياس أن يقال : اللذيان كرحيان ومصطفيان وشجيان. قال سيبويه : حذفت الياء ليفرق بين الأسماء المتمكنة والأسماء المبهمات. وقال أبو علي : حذفت الياء تخفيفا ، إذ قد أمن اللبس في اللذان ؛ لأن النون لا تنحذف ، ونون التثنية في الأسماء المتمكنة قد تنحذف مع الإضافة في رحياك ومصطفيا القوم ؛ فلو حذفت الياء لاشتبه المفرد بالاثنين. وقرأ ابن كثير "اللذان" بتشديد (5/85) النون ؛ وهي لغة قريش ؛ وعلته أنه جعل التشديد عوضا من ألف "ذا" على ما يأتي بيانه في سورة "القصص" عند قوله تعالى : { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ }. وفيها لغة أخرى "اللذا" بحذف النون. هذا قول الكوفيين. وقال البصريون : إنما حذفت النون لطول الاسم بالصلة. وكذلك قرأ "هذان" و"فذانك برهانان" بالتشديد فيهما. والباقون بالتخفيف. وشدد أبو عمرو "فذانك برهانان" وحدها. و"اللذان" رفع بالابتداء. قال سيبويه : المعنى وفيما يتلى عليكم اللذان يأتيانها ، أي الفاحشة { مِنْكُمْ } ودخلت الفاء في { فَآذُوهُمَا } لأن في الكلام معنى الأمر ؛ لأنه لما وصل الذي بالفعل تمكن فيه معنى الشرط ؛ إذ لا يقع عليه شيء بعينه ، فلما تمكن الشرط والإبهام فيه جرى مجرى الشرط فدخلت الفاء ، ولم يعمل فيه ما قبله من الإضمار كما لا يعمل في الشرط ما قبله ؛ فلما لم يحسن إضمار الفعل قبلهما لينصبا رفعا بالابتداء ؛ وهذا اختيار سيبويه. ويجوز النصب على تقدير إضمار فعل ، وهو الاختيار إذا كان في الكلام معنى الأمر والنهي نحو قولك : اللذين عندك فأكرمهما. الثانية : قوله تعالى : { فَآذُوهُمَا } قال قتادة والسدي : معناه التوبيخ والتعيير. وقالت فرقة : هو السب والجفاء دون تعيير. ابن عباس : النيل باللسان والضرب بالنعال. قال النحاس : وزعم قوم أنه منسوخ. قلت : رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : { وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ } { وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا } كان في أول الأمر فنسختهما الآية التي في "النور". قال النحاس : وقيل وهو أولى : إنه ليس بمنسوخ ، وأنه واجب أن يؤدبا بالتوبيخ فيقال لهما : فجرتما وفسقتما وخالفتما أمر الله عز وجل. الثالثة : واختلف العلماء في تأويل قوله تعالى : { وَاللَّاتِي } وقوله : { وَالَّذَانِ } فقال مجاهد وغيره : الآية الأولى في النساء عامة محصنات وغير محصنات ، والآية الثانية في الرجال خاصة. وبين لفظ التثنية صنفي الرجال من أحصن ومن لم يحصن ؛ فعقوبة النساء الحبس ، وعقوبة الرجال الأذى. وهذا قول يقتضيه اللفظ ، ويستوفي نص الكلام أصناف الزناة. ويؤيده من جهة اللفظ قوله في الأولى : { مِنْ نِسَائِكُمْ } وفي الثانية (5/86) { مِنْكُمْ } ؛ واختاره النحاس ورواه عن ابن عباس. وقال السدي وقتادة وغيرهما : الأولى في النساء المحصنات. يريد : ودخل معهن من أحصن من الرجال بالمعنى ، والثانية في الرجل والمرأة البكرين. قال ابن عطية : ومعنى هذا القول تام إلا أن لفظ الآية يقلق عنه. وقد رجحه الطبري ، وأباه النحاس وقال : تغليب المؤنث على المذكر بعيد ؛ لأنه لا يخرج الشيء إلى المجاز ومعناه صحيح في الحقيقة. وقيل : كان الإمساك للمرأة الزانية دون الرجل ؛ فخصت المرأة بالذكر في الإمساك ثم جمعا في الإيذاء. قال قتادة : كانت المرأة تحبس ويؤذيان جميعا ؛ وهذا لأن الرجل يحتاج إلى السعي والاكتساب. الرابعة : واختلف العلماء أيضا في القول بمقتضى حديث عبادة الذي هو بيان لأحكام الزناة على ما بيناه ؛ فقال بمقتضاه علي بن أبي طالب لا اختلاف عنه في ذلك ، وأنه جلد شراحة الهمدانية مائة ورجمها بعد ذلك ، وقال : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بهذا القول الحسن البصري والحسن بن صالح بن حي وإسحاق. وقال جماعة من العلماء : بل على الثيب الرجم بلا جلد. وهذا يروى عن عمر وهو قول الزهري والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وأحمد وأبي ثور ؛ متمسكين بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية ولم يجلدهما ، وبقوله عليه السلام لأنيس : "اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" ولم يذكر الجلد ؛ فلو كان مشروعا لما سكت عنه. قيل لهم : إنما سكت عنه ؛ لأنه ثابت بكتاب الله تعالى ، فليس يمتنع أن يسكت عنه لشهرته والتنصيص عليه في القرآن ؛ لأن قوله تعالى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } يعم جميع الزناة. والله أعلم. ويبين هذا فعل علي بأخذه عن الخلفاء رضي الله عنهم ولم ينكر عليه فقيل له : عملت بالمنسوخ وتركت الناسخ. وهذا واضح. الخامسة : واختلفوا في نفي البكر مع الجلد ؛ فالذي عليه الجمهور أنه ينفى مع الجلد ؛ قاله الخلفاء الراشدون : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، وهو قول ابن عمر رضوان الله عليهم أجمعين ، وبه قال عطاء وطاوس وسفيان ومالك وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. (5/87) | |
|