فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الخميس 3 مارس - 0:41 | |
|
أي بما فعلوا من القعود في التخلف عن الغزو وجاؤوا به من العذر. ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه وحلفوا ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ؛ فنزلت {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} الآية. وفي الصحيحين أيضا أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له : لئن كان كل امرئ منا فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون. فقال ابن عباس : مالكم ولهذه الآية! إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب. ثم تلا ابن عباس {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} و {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} . وقال ابن عباس : سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه ، وأخبروه بغيره ؛ فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم إياه ، وما سألهم عنه. وقال محمد بن كعب القرظي : نزلت في علماء بني إسرائيل الذين كتموا الحق ، وأتوا ملوكهم من العلم ما يوافقهم في باطلهم ، {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} أي بما أعطاهم الملوك من الدنيا ؛ فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فأخبر أن لهم عذابا أليما بما أفسدوا من الدين على عباد الله. وقال الضحاك : إن اليهود كانوا يقولون للملوك إنا نجد في كتابنا أن الله يبعث نبينا في آخر الزمان يختم به النبوة ؛ فلما بعثه الله سألهم الملوك أهو هذا الذي تجدونه في كتابكم ؟ فقال اليهود طمعا في أموال الملوك : هو غير ذلك ، فأعطاهم الملوك الخزائن ؛ فقال الله تعالى : {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} الملوك من الكذب حتى يأخذوا عرض الدنيا. والحديث الأول خلاف مقتضى الحديث الثاني. ويحتمل أن يكون نزولها على السببين (4/306) ________________________________________ لاجتماعهما في زمن واحد ، فكانت جوابا للفريقين. والله أعلم. وقوله : واستحمدوا بذلك إليه ، أي طلبوا أن يحمدوا. وقول مروان : لئن كان كل امرئ منا إلخ دليل على أن للعموم صيغا مخصوصة ، وأن "الذين" منها. وهذا مقطوع به من تفهم ذلك من القرآن والسنة. وقوله تعالى : {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} إذا كانت الآية في أهل الكتاب لا في المنافقين المتخلفين ؛ لأنهم كانوا يقولون : نحن على دين إبراهيم ولم يكونوا على دينه ، وكانوا يقولون : نحن أهل الصلاة والصوم والكتاب ؛ يريدون أن يحمدوا بذلك. و"الذين" فاعل بيحسبن بالياء. وهي قراءة نافع وابن عامر وابن كثير وأبي عمرو ؛ أي لا يحسبن الفارحون فرحهم منجيا لهم من العذاب. وقيل : المفعول الأول محذوف ، وهو أنفسهم. والثاني "بمفازة". وقرأ الكوفيون "تحسبن" بالتاء على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ أي لا تحسبن يا محمد الفارحين بمفازة من العذاب. وقوله {فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ} بالتاء وفتح الباء ، إعادة تأكيد ، ومفعوله الأول الهاء والميم ، والمفعول الثاني محذوف ؛ أي كذلك ، والفاء عاطفة أو زائدة على بدل الفعل الثاني من الأول. وقرأ الضحاك وعيسى بن عمر بالتاء وضم الباء "فلا تحسبنهم" أراد محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقرأ مجاهد وابن كثير وأبو عمرو ويحيى بن يعمر بالياء وضم الباء خبرا عن الفارحين ؛ أي فلا يحسبن أنفسهم ؛ "بمفازة" المفعول الثاني. ويكون "فلا يحسبنهم" تأكيدا. وقيل : "الذين" فاعل بـ "يحسبن" ومفعولاها محذوفان لدلالة "يحسبنهم" عليه ؛ كما قال الشاعر : بأي كتاب أم بأية آية ... ترى حبهم عارا على وتحسب استغنى بذكر مفعول الواحد عن ذكر مفعول ، الثاني ، و"بمفازة" الثاني ، وهو بدل من الفعل الأول فأغنى لإبداله منه عن ذكر مفعوليه ، والفاء زائدة. وقيل : قد تجيء هذه الأفعال ملغاة لا في حكم الجمل المفيدة نحو قول الشاعر : وما خلت أبقى بيننا من مودة ... عراض المذاكي المسنفات القلائصا (4/307) ________________________________________ المذاكي : الخيل التي قد أتي عليها بعد قروحها سنة أو سنتان ؛ الواحد مذك ، مثل المخلف من الإبل ؛ وفي المثل جري المذكيات غلاب ، والمسنفات اسم مفعول ؛ يقال : سنفت البعير أسنفه سنفا إذا كففته بزمامه وأنت راكبه ، وأسنف البعير لغة في سنفه ، وأسنف البعير بنفسه إذا رفع رأسه ؛ يتعدى ولا يتعدى. وكانت العرب تركب الإبل وتجنب الخيل ؛ تقول : الحرب لا تبقي مودة. وقال كعب بن أبي سلمى : أرجو وآمل أن تدنو موتها ... وما إخال لدنيا منك تنويل وقرأ جمهور القراء السبعة وغيرهم "أتوا" بقصر الألف ، أي بما جاؤوا به من الكذب والكتمان. وقرأ مروان بن الحكم والأعمش وإبراهيم النخعي "آتوا" بالمد ، بمعنى أعطوا : وقرأ سعيد بن جبير "أوتوا" على ما لم يسو فاعله ؛ أي أعطوا. والمفازة المنجاة ، مفعلة من فاز يفوز إذا نجا ؛ أي ليسوا بفائزين. وسمي موضع المخاوف مفازة على جهة التفاؤل ؛ قاله الأصمعي. وقيل : لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك ؛ تقول العرب : فوز الرجل إذا مات. قال ثعلب : حكيت لابن الأعرابي قول الأصمعي فقال أخطأ ، قال لي أبو المكارم : إنما سميت مفازة ؛ لأن من قطعها فاز. وقال الأصمعي : سمي اللديغ سليما تفاؤلا. قال ابن الأعرابي : لأنه مستسلم لما أصابه. وقيل : لا تحسبنهم بمكان بعيد من العذاب ؛ لأن الفوز التباعد عن المكروه. والله أعلم. الآية : 189 {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} هذا احتجاج على الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ، وتكذيب لهم. وقيل : المعنى لا تظنن الفرحين ينجون من العذاب ؛ فإن لله كل شيء ، وهم في قبضة القدير ؛ فيكون معطوفا على ، الكلام الأول ، أي إنهم لا ينجون من عذابه ، يأخذهم متى شاء. {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} أي ممكن {قَدِيرٌ} وقد مضى في "البقرة". (4/308) ________________________________________ الآية : 190 {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} الآية : 191 {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} الآية : 192 {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} الآية : 193 {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} الآية : 194 {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} الآية : 195 { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} الآية : 196 {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} الآية : 197 {متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد} الآية : 198 {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} الآية : 199 { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} الآية : 200 {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4/309) ________________________________________ فيه خمس وعشرون مسألة : - الأولى : قوله تعالى : {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} تقدم معنى هذه الآية في "البقرة" في غير موضع. فختم تعالى هذه السورة بالأمر بالنظر والاستدلال في آياته ؛ إذ لا تصدر إلا عن حي قيوم قدير وقدوس سلام غني عن العالمين ؛ حتى يكون إيمانهم مستندا إلى اليقين لا إلى التقليد. {لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} الذين يستعملون عقولهم في تأمل الدلائل. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لما نزلت هذه الآية على النبي قام يصلى ، فأتاه بلال يؤذنه بالصلاة ، فرآه يبكي فقال : يا رسول الله ، أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! فقال : "يا بلال ، أفلا أكون عبدا شكورا ولقد أنزل الله على الليلة آية {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} - ثم قال : "ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها" . الثانية : قال العلماء : يستحب لمن انتبه من نومه أن يمسح على وجهه ، ويستفتح قيامه بقراءة هذه العشر الآيات اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما وسيأتي ؛ ثم يصلي ما كتب له ، فيجمع بين التفكر والعمل ، وهو أفضل العمل على ما يأتي بيانه في هذه الآية بعد هذا. وروي عن أب هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة "آل عمران" كل ليلة ، خرجه أبو نصر الوائلي السجستاني الحافظ في كتاب "الإبانة" من حديث سليمان بن موسى عن مظاهر بن أسلم المخزومي عن المقبري عن أبي هريرة. وقد تقدم أول السورة عن عثمان قال : من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة. الثالثة : قوله تعالى : {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} ذكر تعالى ثلاث هيئات لا يخلو ابن آدم منها في غالب أمره ، فكأنها تحصر زمانه. ومن هذا المعنى قول عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل (4/310) ________________________________________ أحيانه. أخرجه مسلم. فدخل في ذلك كونه على الخلاء وغير ذلك. وقد اختلف العلماء في هذا ؛ فأجاز ذلك عبدالله بن عمرو وابن سيرين والنخعي ، وكره ذلك ابن عباس وعطاء والشعبي. والأول أصح لعموم الآية والحديث. قال النخعي : لا بأس بذكر. الله في الخلاء فإنه يصعد. المعنى : تصعد به الملائكة مكتوبا في صحفهم ؛ فحذف المضاف. دليله قوله تعالى : {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق : 18]. وقال : {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار : 10 - 11]. لأن الله عز وجل أمر عباده بالذكر على كل حال ولم يستثن فقال : {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب : 41] وقال : {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة : 152] وقال : {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف : 3] فع. فذاكر الله تعالى على كل حالاته مثاب مأجور إن شاء الله تعالى. وذكر أبو نعيم قال : حدثنا أبو بكر بن مالك حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه عن كعب الأحبار قال قال موسى عليه السلام : "يا رب أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك قال : يا موسى أنا جليس من ذكرني قال : يا رب فإنا نكون من الحال على حال نجلك ونعظمك أن نذكرك قال : وما هي ؟ قال : الجنابة والغائط قال : يا موسى اذكرني على كل حال". وكراهية من كره ذلك إما لتنزيه ذكر الله تعالى في المواضع المرغوب عن ذكره فيها ككراهية قراءة القرآن في الحمام ، وإما إبقاء على الكرام الكاتبين على أن يحلهم موضع الأقذار والأنجاس لكتابة ما يلفظ به. والله أعلم. و {قِيَاماً وَقُعُوداً} نصب على الحال. {وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} في موضع الحال ؛ أي ومضطجعين ومثله قوله تعالى : {دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً} [يونس : 12] على العكس ؛ أي دعانا مضطجعا على جنبه. وذهب ، جماعة من المفسرين منهم الحسن وغيره إلى أن قوله {يَذْكُرُونَ اللَّهَ} إلى آخره ، إنما هو عبارة عن الصلاة ؛ أي لا يضيعونها ، ففي حال العذر يصلونها قعودا أو على جنوبهم. وهي مثل قوله تعالى : {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء : 103] في قول ابن مسعود على ، ما يأتي بيانه. وإذا كانت الآية في الصلاة ففقهها أن الإنسان يصلى قائما ، فإن لم يستطع فقاعدا ، فإن لم يستطع فعلى جنبه ؛ كما ثبت عن عمران (4/311) ________________________________________ بن حصين قال : كان بي البواسير فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال : "صل قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب " رواه الأئمة : وقد كان صلى الله عليه وسلم يصلي قاعدا قبل موته بعام في النافلة ؛ على ما في صحيح مسلم. وروى النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي متربعا. قال أبو عبدالرحمن : لا أعلم أحد روى هذا الحديث غير أبي داود الحفري وهو ثقة ، ولا أحسب هذا الحديث إلا خطأ. والله أعلم. الرابعة : واختلف العلماء في كيفية صلاة المريض والقاعد وهيئتها ؛ فذكر ابن عبدالحكم عن مالك أنه يتربع في قيامه ، وقال البويطي عن الشافعي فإذا أراد السجود تهيأ للسجود على قدر ما يطيق ، قال : وكذلك المتنفل. ونحوه قول الثوري ، وكذلك قال الليث وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد. وقال الشافعي في رواية المزني : يجلس في صلاته كلها كجلوس التشهد. وروى هذا عن مالك وأصحابه ؛ والأول المشهور وهو ظاهر المدونة. وقال أبو حنيفة وزفر : يجلس كجلوس التشهد ، وكذلك يركع سجد. الخامسة : قال : فإن لم يستطع القعود صلى على جنبه أو ظهره على التخيير ؛ هذا مذهب المدونة وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم يصلي على ظهره ، فإن لم يستطع فعلى جنبه الأيمن ثم على جنبه الأيسر. وفي كتاب ابن المواز عكسه ، يصلي على جنبه الأيمن ، وإلا فعلى الأيسر ، وإلا فعلى الظهر. وقال سحنون : يصلي على الأيمن كما يجعل في لحده ، وإلا فعلى ظهره وإلا فعلى الأيسر. وقال مالك وأبو حنيفة : إذا صلى مضطجعا تكون رجلاه مما يلي القبلة. والشافعي والثوري : يصلي على جنبه ووجهه إلى القبلة. السادسة : فإن قوي لخفة المرض وهو في الصلاة ؛ قال ابن القاسم : إنه يقوم فيما بقي من صلاته ويبني على ما مضى ؛ وهو قول الشافعي وزفر والطبري. وقال أبو حنيفة (4/312) ________________________________________ وصاحباه يعقوب ومحمد فيمن صلى مضطجعا ركعة ثم صح : إنه يستقبل الصلاة من أولها ، ولو كان قاعدا يركع ويسجد ثم صح بنى في قول أبي حنيفة ولم يبن في قول محمد. وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا افتتح الصلاة قائما ثم صار إلى حد الإيماء فليبن ؛ وروي عن أبي يوسف. وقال مالك في المريض الذي لا يستطيع الركوع ولا السجود وهو يستطيع القيام والجلوس : إنه يصلي قائما ويومئ إلى الركوع ، فإذا أراد السجود جلس وأومأ إلى السجود ؛ وهو قول أبي يوسف وقياس قول الشافعي وقال ، أبو حنيفة وأصحابه : يصلي قاعدا. السابعة : وأما صلاة الراقد الصحيح فروي عن حديث عمران بن حصين زيادة ليست موجودة في غيره ، وهي "صلاة الراقد مثل نصف صلاة القاعد". قال أبو عمر : وجمهور أهل العلم لا يجيزون النافل مضطجعا ؛ وهو حديث لم يروه إلا حسين المعلم وهو حسين بن ذكوان عن عبدالله بن بريدة عن عمران بن حصين ، وقد اختلف على حسين في إسناده ومتنه اختلافا يوجب التوقف عنه ، وإن صح فلا أدري ما وجهه ؛ فإن كان أحد من أهل العلم قد أجاز النافلة مضطجعا لمن قدر على القعود أو على القيام فوجهه هذه الزيادة في هذا الخبر ، وهي حجة لمن ذهب إلى ذلك. لان أجمعوا على كراهة النافلة راقدا لمن قدر على القعود أو القيام ، فحديث حسين هذا إما غلط وإما منسوخ وقيل : المراد بالآية الذين يستدلون بخلق السموات والأرض على أن المتغير لا بد له من مغير ، وذلك المغير يجب أن يكون قادرا على الكمال ، وله أن يبعث الرسل ، فإن بعث رسولا ودل على صدقه بمعجزة واحدة لم يبق لأحد عذر ؛ فهؤلاء الذين يذكرون الله على كل حال. والله أعلم. الثامنة : قوله تعالى : {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} قد بينا معنى {ويَذْكُرُونَ} وهو إما ذكر باللسان وإما الصلاة فرضها ونفلها ؛ فعطف تعالى عبادة أخرى على إحداهما بعبادة أخرى ، وهي التفكر في قدرة الله تعالى ومخلوقاته والعبر الذي بث ؛ ليكون ذلك أزيد بصائرهم : وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد (4/313) ________________________________________ وقيل : "يتفكرون" عطف على الحال. وقيل : يكون منقطعا ؛ والأول أشبه. والفكرة : تردد القلب في الشيء ؛ يقال : تفكر ، ورجل فكير كثير الفكر ، ومر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله فقال : "تفكروا في الخلق ، ولا تتفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرون قدره" وإنما التفكر والاعتبار وانبساط الذهن في المخلوقات كما قال : {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} . وحكي أن سفيان الثوري رضي الله عنه صلى خلف المقام ركعتين ، ثم رفع رأسه إلى السماء فلما رأى الكواكب غشي عليه ، وكان يبول الدم من طول حزنه وفكرته. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال أشهد أن لك ربا وخالقا اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له" وقال صلى الله عليه وسلم : "لا عبادة كتفكر" . وروي عنه عليه السلام قال : "تفكر ساعة خير من عبادة سنة" . وروى ابن القاسم عن مالك قال : قيل لأم الدرداء : ما كان أكثر شأن أبي الدرداء ؟ قالت : كان أكثر شأنه التفكر. قيل له : أفترى التفكر عمل من الأعمال ؟ قال : نعم ، هو اليقين. وقيل لابن المسيب في الصلاة بين الظهر والعصر ، قال : ليست هذه عبادة ، إنما العبادة الورع عما حرم الله والتفكر في أمر الله. وقال الحسن : تفكر ساعة خير من قيام ليلة ؛ وقال ابن العباس وأبو الدرداء. وقال الحسن : الفكرة مرآة المؤمن ينظر فيها إلى حسناته وسيئاته. ومما يتفكر فيه مخاوف الآخرة من الحشر والنشر والجنة ونعيمها والنار وعذابها. ويروى أن أبا سليمان الداراني رضي الله عنه أخذ قدح الماء ليتوضأ لصلاة الليل وعنده ضيف ، فرآه لما أدخل أصبعه في أذن القدح أقام لذلك متفكرا حتى طلع الفجر ؛ فقال له : ما هذا يا أبا سليمان ؟ قال : إني لما طرحت أصبعي في أذن القدح تفكرت في قول الله تعالى {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ} [المؤمن : 71] تفكرت ، في حالي وكيف أتلقى الغل إن طرح في عنقي يوم القيامة ، فما زلت في ذلك حتى أصبحت. قال ابن عطية : "وهذا نهاية الخوف ، وخير الأمور أوساطها ، وليس علماء الأمة الذين هم الحجة على هذا المنهاج ، وقراءة علم كتاب الله تعالى ومعاني سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (4/314) ________________________________________ لمن يفهم ويرجى نفعه أفضل من هذا". قال ابن العربي : اختلف الناس أي العملين أفضل : التفكر أم الصلاة ؛ فذهب الصوفية إلى أن التفكر أفضل ؛ فإنه يثمر المعرفة وهو أفضل ، المقامات الشرعية. وذهب الفقهاء إلى أن الصلاة أفضل ؛ لما ورد في الحديث من الحث عليها والدعاء إليها والترغيب فيها. وفي الصحيحين عن ابن عباس أنه بات عند خالته ميمونة ، وفيه : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح النوم عن وجهه ثم قرأ الآيات العشر الخواتم من سورة آل عمران ، وقام إلى شن معلق فتوضأ وضوءا خفيفا ثم صلى ثلاث عشرة ركعة ؛ الحديث. فانظروا رحمكم الله إلى جمعه بين التفكر في المخلوقات ثم إقباله على صلاته بعده ؛ وهذه السنة هي التي يعتمد عليها. فأما طريقة الصوفية أن يكون الشيخ منهم يوما وليلة وشهرا مفكرا لا يفتر ؛ فطريقة بعيدة عن الصواب غير لائقة بالبشر ، ولا مستمرة على السنن. قال ابن عطية : وحدثني أبي عن بعض علماء المشرق قال : كنت بائتا في مسجد الأقدام بمصر فصليت العتمة فرأيت رجلا قد اضطجع في كساء له مسجى بكسائه حتى أصبح ، وصلينا نحن تلك الليلة ؛ فلما أقيمت صلاة الصبح قام ذلك الرجل فاستقبل القبلة وصلى مع الناس ، فاستعظمت جراءته في الصلاة بغير وضوء ؛ فلما فرغت الصلاة خرج فتبعته لأعظه ، فلما دنوت منه سمعته ينشد شعرا : مسجى الجسم غائب حاضر ... منتبه القلب صامت ذاكر منقبض في الغيوب منبسط ... كذاك من كان عارفا ذاكر يبيت في ليله أخا فكر ... فهو مدى الليل نائم ماهر قال : فعلمت أنه ممن يعبد بالفكرة ، فانصرفت عنه. التاسعة : قوله تعالى : {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} أي يقولون : ما خلقته عبثا وهزلا ، بل خلقته دليلا على قدرتك وحكمتك. والباطل : الزائل الذاهب. ومنه قول لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل (4/315) ________________________________________ أي زائل. و"باطلا" نصب لأنه نعت مصدر محذوف ؛ أي خلقا باطلا وقيل : أنتصب على نزع الخافض ، أي ما خلقتها للباطل. وقيل : على المفعول الثاني ، ويكون خلق بمعنى جعل. {سُبْحَانَكَ} أسند النحاس عن موسى بن طلحة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى "سبحان الله" فقال : "تنزيه الله عن السوء " وقد تقدم في "البقرة" معناه مستوفى. {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} أجرنا من عذابها ، وقد تقدم. العاشرة : قوله تعالى : {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} أي أذللته وأهنته. وقال المفضل أي أهلكته ؛ وأنشد : أخزى الإله من الصليب عبيده ... واللابسين قلانس الرهبان وقيل : فضحته وأبعدته ؛ يقال : أخزاه الله : أبعده ومقته. والاسم الخزي. قال ابن السكيت : خزي يخزي خزيا إذا وقع في بلية. وقد تمسك بهذه الآية أصحاب الوعيد وقالوا : من أدخل النار ينبغي إلا يكون مؤمنا ؛ لقوله تعالى : {فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} " فإن الله يقول : {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم : 8]. وما قالوه مردود ؛ لقيام الأدلة على أن من ارتكب كبيرة لا يزول عنه اسم الإيمان ، كما تقدم ويأتي. والمراد من قوله : {مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ} من تخلد في النار ؛ قاله أنس بن مالك. وقال قتادة : تدخل مقلوب تخلد ، ولا نقول كما قال أهل حروراء. وقال سعيد بن المسيب : الآية خاصة في قوم لا يخرجون من النار ؛ ولهذا قال : {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} أي الكفار. وقال أهل المعاني ، : الخزي يحتمل أن يكون بمعنى الحياء ؛ يقال : خزي يخزى إذا استحيا ، فهو خزيان. قال ذو الرمة : خزاية أدركته عند جولته ... من جانب الحيل مخلوطا بها الغضب فخزي المؤمنين يومئذ استحياؤهم في دخول النار من سائر أهل الأديان إلى أن يخرجوا منها. والخزي للكافرين هو إهلاكهم فيها من غير موت ؛ والمؤمنون يموتون ، فافترقوا. كذا ثبت في صحيح السنة من حديث أبي سعيد الخدري ، أخرجه مسلم ، وقد تقدم ويأتي. (4/316) ________________________________________ الحادية عشرة : قوله تعالى : {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ} أي محمدا صلى الله عليه وسلم ؛ قاله ابن مسعود وابن عباس وأكثر المفسرين. وقال قتادة ومحمد بن كعب القرظي : هو القرآن ، وليس كلهم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم. دليل هذا القول ما أخبر الله تعالى عن مؤمني الجن إذ قالوا : {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن : 1 - 2]. وأجاب الأولون فقالوا : من سمع القرآن فكأنما لقي النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وهذا صحيح معنى. وأن من {أَنْ آمِنُوا} في موضع نصب على حذف حرف الخفض ، أي بأن أمنوا. وفي الكلام تقديم وتأخير ، أي سمعنا مناديا للإيمان ينادي ؛ عن أبي عبيدة. وقيل : اللام بمعنى إلى ، أي إلى الإيمان ؛ كقوله : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [المجادلة : 8]. وقوله : {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة : 5] وقوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف : 43] أي إلى هذا ، ومثله كثير. وقيل : هي لام أجل ، أي لأجل الإيمان. الثانية عشرة : قوله تعالى : {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} تأكيد ومبالغة في الدعاء. ومعنى اللفظين واحد ؛ فإن الغفر والكفر : الستر. "وتوفنا مع الأبرار" أي أبرارا مع الأنبياء ، أي في جملتهم. واحدهم وبر وبار وأصله من الاتساع ؛ فكأن البر متسع في طاعة الله ومتسعة له رحمة الله. الثالثة عشرة : قوله تعالى : {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} أي على ألسنة رسلك ؛ مثل {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} . وقرأ الأعمش والزهري {رُسُلِكَ} بالتخفيف ، وهو ما ذكر من استغفار الأنبياء والملائكة للمؤمنين ؛ والملائكة يستغفرون لمن في الأرض. وما ذكر من دعاء نوح للمؤمنين ودعاء إبراهيم واستغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأمته. {وَلا تُخْزِنَا} أي لا تعذبنا ولا تهلكنا ولا تفضحنا ، ولا تهنا ولا تبعدنا ولا تمقتنا يوم القيامة "إنك لا تخلف الميعاد". إن قيل : ما وجه قولهم { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} [آل عمران : 194] وقد علموا أنه لا يخلف الميعاد ؛ فالجواب من ثلاثة أوجه : الأول : أن الله سبحانه وعد من آمن بالجنة ، فسألوا أن يكونوا ممن وعد بذلك دون الخزي : والعقاب. (4/317) ________________________________________ الثاني : أنهم دعوا بهذا الدعاء على جهة العبادة والخضوع ؛ والدعاء مخ العبادة. وهذا كقوله {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء : 112] وإن كان هو لا يقضي إلا بالحق. الثالث : سألوا أن يعطوا ما وعدوا به من النصر على عدوهم معجلا ؛ لأنها حكاية عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فسألوه ذلك إعزازا للدين. والله أعلم. وروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من وعده الله عز وجل على عمل ثوابا فهو منجز له رحمة ومن وعده على عمل عقابا فهو فيه بالخيار" . والعرب تذم بالمخالفة في الوعد وتمدح بذلك في الوعيد ؛ حتى قال قائلهم : ولا يرهب ابن العم ما عشت صولتي ... ولا أختفي من خشية المتهدد وإني متى أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي الرابعة عشرة : قوله تعالى : {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} أي أجابهم. قال الحسن : ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى استجاب لهم. وقال جعفر الصادق : من حزبه أمر فقال خمس مرات ربنا أنجاه لله مما يخاف وأعطاه ما أراد. قيل : وكيف ذلك ؟ قال : اقرؤوا إن شئتم {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} إلى قوله : {لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران : 191 - 194]. الخامسة عشرة : قوله تعالى : {أَنِّي} أي بأني. وقرأ عيسى بن عمر "إني" بكسر الهمزة ، أي فقال : إني. وروى الحاكم أبو عبدالله في صحيحه عن أم سلمة أنها قالت : يا رسول الله ، ألا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء ؟ فأنزل الله تعالى : {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} الآية. وأخرجه الترمذي. ودخلت "من" للتأكيد ؛ لأن قبلها حرف نفي. وقال الكوفيون : هي للتفسير ولا يجوز حذفها ؛ لأنها دخلت لمعنى لا يصلح الكلام إلا به ، وإنما تحذف إذا كان تأكيدا للجحد. {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} ابتداء وخبر ، أي دينكم واحد. وقيل : بعضكم من بعض في الثواب والأحكام والنصرة وشبه ذلك. وقال الضحاك : رجالكم شكل نسائكم في الطاعة ، ونساؤكم شكل رجالكم في الطاعة ؛ نظيرها قوله (4/318) ________________________________________ عز وجل : {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة : 71]. ويقال : فلان مني ، أي على مذهبي وخلقي. السادسة عشرة : قوله تعالى : {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا} ابتداء وخبر ، أي هجروا أوطانهم وساروا إلى المدينة. {وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} في طاعة الله عز وجل. { وَقَاتَلُوا} أي وقاتلوا أعدائي. {وَقُتِلُوا} أي في سبيلي. وقرأ ابن كثير وابن عامر : {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} على التكثير. وقرأ الأعمش "وقتلوا وقاتلوا" لأن الواو لا تدل على أن الثاني بعد الأول. وقيل : في الكلام إضمار قد ، أي قتلوا وقد قاتلوا ؛ ومنه قول الشاعر : تصابى وأمسى علاه الكبر أي وقد علاه الكبر. وقيل : أي وقد قاتل من بقي منهم ؛ تقول العرب : قتلنا بني تميم ، وإنما قتل بعضهم. وقال امرؤ القيس : فإن تقاتلونا نقتلكم وقرأ عمر بن عبدالعزيز : "وقتلوا وقتلوا" خفيفة بغير ألف. {لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي لأسترنها عليهم في الآخرة ، فلا أوبخهم بها ولا أعاقبهم عليها. {ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} مصدر مؤكد عند البصريين ؛ لأن معنى {وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} لأثيبنهم ثوابا. الكسائي : انتصب على القطع. الفراء : على التفسير. {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} أي حسن الجزاء ؛ وهو ما يرجع على العامل من جراء عمله ؛ من ثاب يثوب. السابعة عشرة : قوله تعالى : {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} قيل : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد الأمة. وقيل : للجميع. وذلك أن المسلمين قالوا : هؤلاء الكفار لهم تجائر وأموال واضطراب في البلاد ، وقد هلكنا نحن من الجوع ؛ فنزلت هذه الآية. أي لا يغرنكم سلامتهم بتقلبهم في أسفارهم. {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} أي تقلبهم متاع قليل. وقرأ يعقوب {يَغُرَّنَّكَ} ساكنة النون ؛ وأنشد : لا يغرنك عشاء ساكن ... قد يوافي بالمنيات السحر (4/319) ________________________________________ ونظير هذه الآية قوله تعالى : {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [المؤمن : 4]. والمتاع : ما يعجل الانتفاع به ؛ وسماه قليلا لأنه فان ، وكل فان وإن كان كثيرا فهو قليل. وفي صحيح الترمذي عن المستورد الفهري قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم ، فلينظر بماذا يرجع". قيل : "يرجع" بالياء والتاء. {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} أي بئس ما مهدوا لأنفسهم بكفرهم ، وما مهد الله لهم من النار. الثامنة عشرة : -في هذه الآية وأمثالها كقوله : {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ} [آل عمران : 178] الآية. {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف : 183]. {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنون : 55]. {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف : 182] دليل على أن الكفار غير. منعم عليهم في الدنيا ؛ لأن حقيقة النعمة الخلوص من شوائب الضرر العاجلة والآجلة ، ونعم الكفار. مشوبة بالآلام والعقوبات ، فصار كمن قدم بين يدي غيره حلاوة من عسل فيها السم ، فهو وإن استلذ آكله لا يقال : أنعم عليه ؛ لأن فيه هلاك روحه. ذهب إلى هذا جماعة من العلماء ، وهو قول الشيخ أبي الحسن الأشعري. وذهب جماعة منهم سيف السنة ولسان الأمة القاضي أبو بكر : إلى أن الله أنعم عليهم في الدنيا. قالوا : وأصل النعمة من النعمة بفتح النون ، وهي لين العيش ؛ ومنه قوله تعالى : {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان : 27]. يقال : دقيق ناعم ، إذا بولغ في طحنه وأجيد سحقه. وهذا هو الصحيح ، والدليل عليه أن الله تعالى أوجب على الكفار أن يشكروه وعلى جميع المكلفين فقال : {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ} [الأعراف : 74]. {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} [البقرة : 172] والشكر لا يكون إلا على نعمة. وقال : {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص : 77] وهذا خطاب لقارون. وقال : {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} [النحل : 112] الآية. فنبه سبحانه أنه قد أنعم عليهم نعمة دنياوية فجحدوها. وقال : {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل : 83] وقال : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [فاطر : 3]. وهذا عام (4/320) ________________________________________ في الكفار وغيرهم. فأما إذا قدم لغيره طعاما فيه سم فقد رفق به في الحال ؛ إذ لم يجرعه السم بحتا ؛ بل دسه في الحلاوة ، فلا يستبعد أن يقال : قد أنعم عليه ، وإذا ثبت هذا فالنعم ضربان : نعم نفع ونعم دفع ؛ فنعم النفع ما وصل إليهم من فنون اللذات ، ونعم الدفع ما صرف عنهم من أنواع الآفات. فعلى هذا قد أنعم على الكفار نعم الدفع قولا واحدا ؛ وهو ما زوي عنهم من الآلام والأسقام ، ولا خلاف بينهم في أنه لم ينعم عليهم نعمة دينه. والحمد لله. التاسعة عشرة : قوله تعالى : {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} استدراك بعد كلام تقدم فيه معنى النفي ؛ لأن معنى ما تقدم ليس لهم في تقلبهم في البلاد كبير الانتفاع ، لكن المتقون لهم الانتفاع الكبير والخلد الدائم. فموضع "لكن" رفع بالابتداء. وقرأ يزيد بن القعقاع "لكن" بتشديد النون. الموفيه عشرين : قوله تعالى : { نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} نزلا مثل ثوابا عند البصريين ، وعند الكسائي يكون مصدرا. الفراء : هو مفسر. وقرأ الحسن والنخعي {نُزُلاً} بتخفيف الزاي استثقالا لضمتين ، وثقله الباقون. والنزل ما يهيأ للنزيل ، والنزيل الضيف. قال الشاعر : نزيل القوم أعظمهم حقوقا ... وحق الله في حق النزيل والجمع الأنزال. وحظ نزيل : مجتمع. والنزل : أيضا الريع ؛ يقال ؛ طعام النزل والنزل. الحادية والعشرين : قلت : ولعل النزل - والله أعلم - ما جاء في صحيح مسلم من حديث ثوبان مولى وسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الحبر الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم : أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هم في الظلمة دون الجسر" قال : فمن أول الناس إجازة ؟ قال : "فقراء المهاجرين" قال اليهودي : فما تحفتهم حين يدخلون الجنة ؟ قال "زيادة كبد النون" قال : فما غذاؤهم على إثرها ؟ فقال : "ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها" قال : فما شرابهم عليه ؟ قال : "من عين فيها تسمى سلسبيلا" وذكر الحديث. قال أهل (4/321) ________________________________________ اللغة : والتحفة ما يتحف به الإنسان من الفواكه. والطرف محاسنه وملاطفه ، وهذا مطابق لما ذكرناه في النزل ، والله أعلم. وزيادة الكبد : قطعة منه كالأصبع. قال الهروي : {نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي ثوابا. وقيل رزقا ."{وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} أي مما يتقلب به الكفار في الدنيا. والله أعلم. الثانية والعشرين : قوله تعالى : {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} قال جابر بن عبدالله وأنس وابن عباس وقتادة والحسن : نزلت في النجاشي ، وذلك أنه لما مات نعاه جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال النبي لأصحابه : "قوموا فصلوا على أخيكم النجاشي" ؛ فقال بعضهم لبعض : يأمرنا أن نصلي على علج من علوج الحبشة ؛ فأنزل الله تعالى {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} . قال الضحاك : {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} القرآن. {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} التوراة والإنجيل. وفي التنزيل : {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص : 54]. وفي صحيح مسلم : "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين - فذكر - رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران" وذكر الحديث. وقد تقدم في "البقرة" الصلاة عليه وما للعلماء في الصلاة على الميت الغائب ، فلا معنى للإعادة. وقال مجاهد وابن جريج وابن زيد : نزلت في مؤمني أهل الكتاب ، وهذا عام والنجاشي واحد منهم. واسمه أصحمة ، وهو بالعربية عطية. {خَاشِعِينَ} أذلة ، ونصب على الحال من المضمر الذي في "يؤمن". وقيل : من الضمير في "إليهم" أو في "إليكم". وما في الآية بين ، وقد تقدم. الثالثة والعشرين : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} ختم تعالى السورة بما تضمنته هذه الآية العاشرة من الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء والفوز بنعيم الآخرة ؛ فحض على الصبر على الطاعات وعن الشهوات ، والصبر الحبس ، وقد تقدم في "البقرة" بيانه. وأمر بالمصابرة فقيل : معناه مصابرة الأعداء ؛ قاله زيد بن أسلم. (4/322)
| |
|