فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الأربعاء 2 مارس - 1:21 | |
| ________________________________________ قلت : وهذا ليس بشيء ؛ لما تقدم بيانه من الإعراب ، ولصحة القراءة وثبوتها نقلا. وقرأ يحيى بن وثاب "إنما نملي لهم" بكسر إن فيهما جميعا. قال أبو جعفر : وقراءة يحيي حسنة. كما تقول : حسبت عمرا أبوه خالد. قال أبو حاتم وسمعت الأخفش يذكر كسر "إن" يحتج به لأهل القدر ؛ لأنه كان منهم. ويجعل على التقديم والتأخير "ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم". قال : ورأيت في مصحف في المسجد الجامع قد زادوا فيه حرفا فصار "إنما نملي لهم إيمانا" فنظر إليه يعقوب القارئ فتبين اللحن فحكه. والآية نص في بطلان مذهب القدرية ؛ لأنه أخبر أنه يطيل أعمارهم ليزدادوا الكفر بعمل المعاصي ، وتوالي أمثاله على القلب. كما تقدم بيانه في ضده وهو الإيمان. وعن ابن عباس قال : ما من بر ولا فاجر إلا والموت خير له ثم تلا {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} وتلا {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} أخرجه رزين. الآية : 179 {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} قال أبو العالية : سأل المؤمنون أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق ؛ فأنزل الله عز وجل {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} الآية. واختلفوا من المخاطب بالآية على أقوال. فقال ابن عباس والضحاك ومقاتل والكلبّي وأكثر المفسرين : الخطاب للكفار والمنافقين. أي ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الكفر والنفاق وعداوة النبّي صلى الله عليه وسلم. قال الكلبّي : إن قريشا من أهل مكة قالوا للنبّي صلى الله عليه وسلم : الرجل منا تزعم أنه في النار ، وأنه إذا ترك ديننا واتبع دينك قلت هو من أهل الجنة! فأخبرنا عن هذا من أين هو ؟ وأخبرنا من يأتيك منا ؟ ومن لم يأتك ؟ . فأنزل الله عز وجل {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ (4/288) ________________________________________ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} من الكفر والنفاق {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} وقيل : هو خطاب للمشركين. والمراد بالمؤمنين في قوله : {لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ} من في الأصلاب والأرحام ممن يؤمن. أي ما كان الله ليذر أولادكم الذين حكم لهم بالإيمان على ما أنتم عليه من الشرك ، حتى يفرق بينكم وبينهم ؛ وعلى هذا {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ} كلام مستأنف. وهو قول ابن عباس وأكثر المفسرين. وقيل : الخطاب للمؤمنين. أي وما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمن بالمنافق ، حتى يميز بينكم بالمحنة والتكليف ؛ فتعرفوا المنافق الخبيث ، والمؤمن الطيب. وقد ميز يوم أحد بين الفريقين. وهذا قول أكثر أهل المعاني. {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} يا معشر المؤمنين. أي ما كان الله ليعين لكم المنافقين حتى تعرفوهم ، ولكن يظهر ذلك لكم بالتكليف والمحنة ، وقد ظهر ذلك في يوم أحد ؛ فإن المنافقين تخلفوا وأظهروا الشماتة ، فما كنتم تعرفون هذا الغيب قبل هذا ، فالآن قد أطلع الله محمدا عليه السلام وصحبه على ذلك. وقيل : معنى {لِيُطْلِعَكُمْ} أي وما كان الله ليعلمكم ما يكون منهم. فقوله : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} على هذا متصل ، وعلى القولين الأولين منقطع. وذلك أن الكفار لما قالوا : لم لم يوح إلينا ؟ قال : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} أي على من يستحق النبوة ، حتى يكون الوحي باختياركم. {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي} أي يختار. {مِنْ رُسُلِهِ} لإطلاع غيبه {مَنْ يَشَاءُ} يقال : طلعت على كذا واطلعت عليه ، وأطلعت عليه غيري ؛ فهو لازم ومتعد. وقرئ "حتى يميِّز" بالتشديد من ميز ، وكذا في "الأنفال" وهي قراءة حمزة. والباقون "يميز" بالتخفيف من ماز يميز. يقال : مزت الشيء بعضه من بعض أميزه ميزا ، وميزته تمييزا. قال أبو معاذ : مزت الشيء أميزه ميزا إذا فرقت بين شيئين. فإن كانت أشياء قلت : ميزتها تمييزا. ومثله إذا جعلت الواحد شيئين قلت : فرقت بينهما ، مخففا ؛ ومنه فرق الشعر. فإن جعلته أشياء قلت : فرقته تفريقا. قلت : ومنه امتاز القوم ، تميز بعضهم عن بعض. ويكاد يتميز : يتقطع ؛ وبهذا فسر قوله تعالى : {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك : 8] وفي الخبر "من ماز أذى عن الطريق فهو له صدقة". (4/289) ________________________________________ قوله تعالى : {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} يقال : إن الكفار لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم من يؤمن منهم ، فأنزل الله {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} يعني لا تشتغلوا بما لا يعنيكم ، واشتغلوا بما يعنيكم وهو الإيمان. {فَآمِنُوا} أي صدقوا ، أي عليكم التصديق لا التشوف إلى اطلاع الغيب. {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي الجنة. ويذكر أن رجلا كان عند الحجاج بن يوسف الثقفي منجما ؛ فأخذ الحجاج حصيات بيده قد عرف عددها فقال للمنجم : كم في يدي ؟ فحسب فأصاب المنجم. فأغفله الحجاج وأخذ حصيات لم يعدهن فقال للمنجم : كم في يدي ؟ فحسب فأخطأ ، ثم حسب أيضا فأخطأ ؛ فقال : أيها الأمير ، أظنك لا تعرف عدد ما في يدك ؟ قال لا : قال : فما الفرق بينهما ؟ فقال : إن ذاك أحصيته فخرج عن حد الغيب ، فحسبت فأصبت ، وإن هذا لم تعرف عددها فصار غيبا ، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى. وسيأتي هذا الباب في "الأنعام" إن شاء الله تعالى. الآية : 180 {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فيه أربع مسائل : - الأولى : -قوله تعالى : {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ} "الذين" في موضع رفع ، والمفعول الأول محذوف. قال الخليل وسيبويه والفراء المعنى البخل خيرا لهم ، أي لا يحسبن الباخلون البخل خيرا لهم. وإنما حذف لدلالة يبخلون على البخل ؛ وهو كقوله : من صدق كان خيرا له. أي كان له الصدق خيرا له. ومن هذا قول الشاعر : إذا نهي السفيه جرى إليه ... وخالف والسفيه إلى خلاف فالمعنى : جرى : إلى السفه ؛ فالسفيه دل على السفه. وأما قراءة حمزة بالتاء فبعيدة جدا ؛ قاله النحاس. وجوازها أن يكون التقدير : لا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيرا لهم. قال (4/290) ________________________________________ الزجاج : وهي مثل {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} . و {هُوَ} في قوله {هُوَ خَيْراً لَهُمْ} فاصلة عند البصريين. وهي العماد عند الكوفيين. قال النحاس : ويجوز في العربية "هو خير لهم" ابتداء وخبر. الثانية : قوله تعالى : {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} ابتداء وخبر ، أي البخل شر لهم. والسين في {سَيُطَوَّقُونَ} سين الوعيد ، أي سوف يطوقون ؛ قاله المبرد. وهذه الآية نزلت في البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله ، وأداء الزكاة المفروضة. وهذه كقوله : {وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة : 34] الآية. ذهب إلى هذا جماعة من المتأولين ، منهم ابن مسعود وابن عباس وأبو وائل وأبو مالك والسدي والشعبي قالوا : ومعنى {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ} هو الذي ورد في الحديث عن أبي هريرة عن النبّي صلى الله عليه وسلم قال : "من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ثم يقول أنا مالك أنا كنزك - ثم تلا هذه الآية – {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} الآية". أخرجه النسائي. وخرجه ابن ماجه عن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاع أقرع حتى يطوق به في عنقه" ثم قرأ علينا النبي صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله تعالى : {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل ما عنده فيبخل به عليه إلا أخرج له يوم القيامة شجاع من النار يتلمظ حتى يطوقه" . وقال ابن عباس أيضا : إنما نزلت في أهل الكتاب وبخلهم ببيان ما علموه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ذلك مجاهد وجماعة من أهل العلم. ومعنى "سيطوقون" على هذا التأويل سيحملون عقاب ما بخلوا به ؛ فهو من الطاقة كما قال تعالى : {وَعَلَى الَّذِينَ (4/291) ________________________________________ يُطِيقُونَهُ} [البقرة : 184] وليس من التطويق. وقال إبراهيم النخعي : معنى {سَيُطَوَّقُونَ} سيجعل لهم يوم القيامة طوق من النار. وهذا يجري مع التأويل الأول أي قول السدي. وقيل : يلزمون أعمالهم كما يلزم الطوق العنق ؛ يقال : طوق فلان عمله طوق الحمامة ، أي ألزم عمله. وقد قال تعالى : {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء : 13]. ومن هذا المعنى قول عبدالله بن جحش لأبي سفيان : أبلغ أبا سفيان عن ... أمر عواقبه ندامه دار ابن عمك بعتها ... تقتضي بها عنك الغرامه وحليفكم بالله رب ... الناس مجتهد القسامة اذهب بها أذهب بها ... طوقتها طوق الحمامة وهذا يجري مع التأويل الثاني. والبخل والبخل في اللغة أن يمنع الإنسال الحق الواجب عليه. فأما من منع مالا يجب عليه فليس ببخيل ؛ لأنه لا يذم بذلك. وأهل الحجاز يقولون : يبخلون وقد بخلوا. وسائر العرب يقولون : بخلوا يبخلون ؛ حكاه النحاس. وبخل يبخل بخلا وبخلا ؛ عن ابن فارس. الثالثة : في ثمرة البخل وفائدته. وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار : "من سيدكم ؟ " قالوا الجد بن قيس على بخل فيه. فقال صلى الله عليه وسلم : "وأي داء أدوى من البخل" قالوا : وكيف ذاك يا رسول الله ؟ قال : " إن قوما نزلوا بساحل البحر فكرهوا لبخلهم نزول الأضياف بهم فقالوا : ليبعد الرجال منا عن النساء حتى يعتذر الرجال إلى الأضياف ببعد النساء ؛ وتعتذر النساء ببعد الرجال ؛ ففعلوا وطال ذلك بهم فاشتغل الرجال بالرجال والنساء بالنساء" ذكره الماوردي في كتاب "أدب الدنيا والدين". والله أعلم. (4/292) ________________________________________ الرابعة : -واختلف في البخل والشح ؛ هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين. فقيل : البخل الامتناع من إخراج ما حصل عندك. والشح : الحرص على تحصيل ما ليس عندك. وقيل : إن الشح هو البخل مع حرص. وهو الصحيح لما رواه مسلم عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم" . وهذا يرد قول من قال : إن البخل منع الواجب ، والشح منع المستحب. إذ لو كان الشح منع المستحب لما دخل تحت هذا الوعيد العظيم ، والذم الشديد الذي فيه هلاك الدنيا والآخرة. ويؤيد هذا المعنى ما رواه النسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري رجل مسلم أبدأ ولا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل مسلم أبدا" . وهذا يدل على أن الشح أشد في الذم من البخل ؛ إلا أنه قد جاء ما يدل على مساواتهما وهو قوله - وقد سئل ؛ أيكون المؤمن بخيلا ؟ قال : "لا" وذكر الماوردي في كتاب "أدب الدنيا والدين" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار : "من سيدكم" قالوا : الجد بن قيس عل بخل فيه ؛ الحديث. وقد تقدم. قوله تعالى : {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أخبر تعالى ببقائه ودوام ملكه. وأنه في الأبد كهو في الأزل غني عن العالمين ، فيرث الأرض بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم ؛ فتبقى الأملاك والأموال لا مدعى فيها. فجرى هذا مجرى الوراثة في عادة الخلق ، وليس هذا بميراث في الحقيقة ؛ لأن الوارث في الحقيقة هو الذي يرث شيئا لم يكن ملكه من قبل ، والله سبحانه وتعالى مالك السموات والأرض وما بينهما ، وكانت السموات وما فيها ، والأرض وما فيها له ، وإن الأموال كانت عارية عند أربابها ؛ فإذا ماتوا ردت العارية إلى صاحبها الذي كانت له في الأصل. ونظير هذه الآية قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} [مريم : 40] الآية. والمعنى في الآيتين أن الله تعالى أمر عباده بأن ينفقوا ولا يبخلوا قبل أن يموتوا ويتركوا ذلك ميراثا لله تعالى ، ولا ينفعهم إلا ما أنفقوا. (4/293) ________________________________________ الآية : 181 {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} الآية : 182 {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} قوله تعالى : {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} ذكر تعالى قبيح قول الكفار ولا سيما اليهود. وقال أهل التفسير : لما أنزل الله {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة : 245] قال قوم من اليهود - منهم حيي بن أخطب ؛ في قول الحسن. وقال عكرمة وغيره : هو فنحاص بن عازوراء - إن الله فقير ونحن أغنياء يقترض منا. وإنما قالوا هذا تمويها على ضعفائهم ، لا أنهم يعتقدون هذا ؛ لأنهم أهل كتاب. ولكنهم كفروا بهذا القول ؛ لأنهم أرادوا تشكيك الضعفاء منهم ومن المؤمنين ، وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم. أي إنه فقير على قول محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه اقترض منا. {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} سنجازيهم عليه. وقيل : سنكتبه في صحائف أعمالهم ، أي نأمر الحفظة بإثبات قولهم حتى يقرؤوه يوم القيامة في كتبهم التي يؤتونها ؛ حتى يكون أوكد للحجة عليهم. وهذا كقوله : {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء : 94]. وقيل : مقصود الكتابة الحفظ ، أي سنحفظ ما قالوا لنجازيهم. "وما" في قوله "ما قالوا" في موضع نصب بـ "سنكتب". وقرأ الأعمش وحمزة "سيكتب" بالياء ؛ فيكون "ما" اسم ما لم يسم فاعله. واعتبر حمزة ذلك بقراءة ابن مسعود : {وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} . قوله تعالى : {وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ} أي ونكتب قتلهم الأنبياء ، أي رضاهم بالقتل. والمراد قتل أسلافهم الأنبياء ؛ لكن لما رضوا بذلك صحت الإضافة إليهم. وحسن رجل عند الشعبي ، قتل عثمان رضي الله عنه فقال له الشعبي : شركت في دمه. فجعل الرضا بالقتل قتلا ؛ رضي الله عنه. (4/294) ________________________________________ قلت : وهذه مسألة عظمى ، حيث يكون الرضا بالمعصية معصية. وقد روى أبو داود عن ، العرس بن عميرة الكندي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها - وقال مرة فأنكرها - كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها". وهذا نص. قوله تعالى : {بِغَيْرِ حَقٍّ} تقدم معناه في البقرة. {وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} أي يقال لهم في جهنم ، أو عند الموت ، أو عند الحساب هذا. ثم هذا القول من الله تعالى ، أو من الملائكة ؛ قولان. وقراءة ابن مسعود "ويقال". والحريق اسم للملتهبة من النار ، والنار تشمل الملتهبة وغير الملتهبة. قوله تعالى : {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أي ذلك العذاب بما سلف من الذنوب. وخص الأيدي بالذكر ليدل على تولي الفعل ومباشرته ؛ إذ قد يضاف الفعل إلى الإنسان بمعنى أنه أمر به ؛ كقوله : {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} [القصص : 4] وأصل {أَيْدِيكُمْ} أيديكم فحذفت الضمة لثقلها. والله أعلم. الآية : 183 {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الآية : 184 {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} قوله تعالى : {الَّذِينَ} في موضع خفض بدلا من "الذين" في قوله عز وجل {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا} أو نعت "للعبيد" أو خبر ابتداء ، أي هم الذين قالوا. وقال الكلب وغيره. نزلت في كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصيف ، ووهب بن يهوذا وفنحاص بن عازوراء وجماعة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقالوا له : أتزعم أن الله أرسلك إلينا ، وإنه أنزل علينا كتابا عهد إلينا فيه ألا نؤمن لرسول يزعم أنه من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، فإن جئنا به صدقناك. فأنزل الله هذه الآية. فقيل : كان هذا في التوراة ، ولكن كان تمام الكلام : حتى يأتيكم المسيح ومحمد فإذا أتياكم فآمنوا بهما من غير قربان. (4/295) ________________________________________ وقيل : كان أمر القرابين ثابتا إلى أن نسخت على لسان عيسى ابن مريم. وكان النبي منهم يذبح ويدعو فتنزل نار بيضاء لها دوي وحفيف لا دخان لها ، فتأكل القربان. فكان هذا القول دعوى من اليهود ؛ إذ كان ثم استثناء فأخفوه ، أو نسخ ، فكانوا في تمسكهم بذلك متعنتين ، ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم دليل قاطع في إبطال دعواهم ، وكذلك معجزات عيسى ؛ ومن وجب صدقه وجب تصديقه. ثم قال تعالى : إقامة للحجة عليهم. {قُلْ} يا محمد {قَدْ جَاءَكُمْ} يا معشر اليهود {رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} من القربان {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يعني زكريا ويحيى وشعيا ، وسائر من قتلوا من الأنبياء عليهم السلام ولم تؤمنوا بهم. أراد بذلك أسلافهم. وهذه الآية هي التي تلاها عامر الشعبي رضي الله عنه ، فاحتج بها على الذي حسن قتل عثمان رضي الله عنه كما بيناه. وإن الله تعالى سمى اليهود قتلة لرضاهم بفعل أسلافهم ، وإن كان بينهم نحو من سبعمائة سنة. والقربان ما يتقرب به إلى الله تعالى من نسك وصدقة وعمل صالح ؛ وهو فعلان من القربة. ويكون اسما ومصدرا ؛ فمثال الاسم السلطان والبرهان. والمصدر العدوان والخسران. وكان عيسى بن عمر يقرأ "بقربان" بضم الراء اتباعا لضمة القاف ؛ كما قيل في جمع ظلمة : ظلمات ، وفي حجرة حجرات. ثم قال تعالى معزيا لنبيه ومؤنسا له. {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالدلالات. {وَالزُّبُرِ} أي الكتب المزبورة ، يعني المكتوبة. والزبر جمع زبور وهو الكتاب. وأصله من زبرت أي كتبت. وكل زبور فهو كتاب ؛ قال امرؤ القيس : لمن طلل أبصرته فشجاني ... كخط زبور في عسيب يماني وأنا أعرف تزبرتي أي كتابتي. وقيل : الزبور من الزبر بمعنى الزجر. وزبرت الرجل انتهرته. وزبرت البئر : طويتها بالحجارة. وقرأ ابن عامر {بالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} بزيادة باء في الكلمتين. وكذلك هو في مصاحف أهل الشام. {وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} أي الواضح المضيء ؛ من قولك : أنرت الشيء أنيره ، أي أوضحته : يقال : نار الشيء وأناره ونوره واستناره بمعنى ، (4/296) ________________________________________ وكل واحد منهما لازم ومتعد. وجمع بين الزبر والكتاب - وهما بمعنى - لاختلاف لفظهما ، وأصلها كما ذكرنا. الآية : 185 {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} فيه سبع مسائل : - الأولى : -لما أخبر جل وتعالى عن الباخلين وكفرهم في قولهم : "إن الله فقير ونحن أغنياء" وأمر المؤمنين بالصبر على أذاهم في قوله : {لَتُبْلَوُنَّ} [آل عمران : 186] الآية - بين أن ذلك مما ينقضي ولا يدوم ؛ فإن أمد الدنيا قريب ، ويوم القيامة يوم الجزاء. "ذائقة الموت" من الذوق ، وهذا مما لا محيص عنه للإنسان ، ولا محيد عنه لحيوان. وقد قال أمية بن أبي الصلت : من لم يمت عبطة يمت هرما ... للموت كأس والمرء ذائقها وقال آخر : الموت باب وكل الناس داخله ... فليت شعري بعد الباب ما الدار الثانية : -قراءة العامة {ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} بالإضافة. وقرأ الأعمش ويحيى وابن أبي إسحاق "ذائقة الموت" بالتنوين ونصب الموت. قالوا : لأنها لم تذق بعد. وذلك أن اسم الفاعل على ضربين : أحدهما أن يكون بمعنى المضي. والثاني بمعنى الاستقبال ؛ فإن أردت الأول لم يكن فيه إلا الإضافة إلى ما بعده ؛ كقولك : هذا ضارب زيد أمس ، وقاتل بكر أمس ؛ لأنه يجري مجرى الاسم الجامد وهو العلم ، نحو غلام زيد ، وصاحب بكر. قال الشاعر : الحافظ عورة العشيرة ... لا يأتيهم من ورائهم وكف (4/297) ________________________________________ وإن أردت الثاني جاز الجر. والنصب والتنوين فيما هذا سبيله هو الأصل ؛ لأنه يجري مجرى الفعل المضارع فإن كان الفعل غير متعد ، لم يتعد نحو قاتم زيد. وإن كان متعديا عديته ونصبت به ، فتقول. زيد ضارب عمروا بمعنى يضرب عمروا. ويجوز حذف التنوين والإضافة تخفيفا ، كما قال المرار" : سل الهموم بكل معطي رأسه ... ناج مخالط صهبة متعيس مغتال أحبله مبين عنقه ... في منكب زبن المطي عرندس فحذف التنوين تخفيفا ، والأصل : معط رأسه بالتنوين والنصب ، ومثل هذا أيضا في التنزيل قوله تعالى { هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} [الزمر : 38] وما كان مثله. الثالثة : -ثم اعلم أن للموت أسبابا وأمارات ، فمن علامات موت المؤمن عرق الجبين. أخرجه النسائي من حديث بريدة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "المؤمن يموت بعرق الجبين" . وقد بيناه في "التذكرة" فإذا احتضر لقن الشهادة ؛ لقوله عليه السلام : " لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" لتكون آخر كلامه فيختم له بالشهادة ؛ ولا يعاد عليه منها لئلا يضجر. ويستحب قراءة "يس" ذلك الوقت ؛ لقوله عليه السلام : "اقرؤوا يس على موتاكم" أخرجه أبو داود. وذكر الآجري في كتاب النصيحة من حديث أم الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من ميت يقرأ عنده سورة يس إلا هون عليه الموت" . فإذا قضي وتبع البصر الروح كما أخبر صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وارتفعت العبادات وزال التكليف ، توجهت على الأحياء أحكام ؛ منها تغميضه ، وإعلام إخوانه الصلحاء بموته ؛ وكرهه قوم وقالوا : هو من النعي. والأول أصح ، وقد بيناه في غير هذا الموضع. ومنها الأخذ في تجهيزه بالغسل والدفن لئلا يسرع إليه التغير ؛ قال صلى الله عليه وسلم لقوم أخروا دفن ميتهم : "عجلوا بدفن جيفتكم" وقال : "أسرعوا بالجنازة" الحديث ، وسيأتي. (4/298) ________________________________________ الثالثة : فأما غسله فهو سنة لجميع المسلمين حاشا الشهيد على ما تقدم. قيل : غسله واجب قاله القاضي عبدالوهاب. والأول : مذهب الكتاب ، وعلى هذين القولين العلماء. وسبب الخلاف قوله عليه السلام لأم عطية في غسلها ابنته زينب ، على ما في كتاب مسلم. وقيل : هي أم كلثوم ، على ما في كتاب أبي داود : "اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك" الحديث. وهو الأصل عند العلماء في غسل الموتى. فقيل : المراد بهذا الأمر بيان حكم الغسل فيكون واجبا. وقيل : المقصود منه تعليم كيفية الغسل فلا يكون فيه ما يدل على الوجوب. قالوا ويدل عليه قوله : "إن رأيتن ذلك" وهذا يقتضي إخراج ظاهر الأمر عن الوجوب ؛ لأنه فوضه إلى نظرهن. قيل لهم : هذا فيه بعد ؛ لأن ردك "إن رأيتن" إلى الأمر ، ليس السابق إلى الفهم بل السابق رجوع هذا الشرط إلى أقرب مذكور ، وهو "أكثر من ذلك" أو إلى التخيير في الأعداد. وعلى الجملة فلا خلاف في أن غسل الميت مشروع معمول به في الشريعة لا يترك. وصفته كصفة غسل الجنابة على ما هو معروف. ولا يجاوز السبع غسلات في غسل الميت بإجماع ؛ على ما حكاه أبو عمر. فإن خرج منه شيء بعد السبع غسل الموضع وحده ، وحكمه حكم الجنب إذا أحدث بعد غسله. فإذا فرغ من غسله كفنه في ثيابه. الرابعة : -والتكفين واجب عند عامة العلماء ، فإن كان له مال فمن رأس ماله عند عامة العلماء إلا ما حكي عن طاوس أنه قال : من الثلث كان المال قليلا أو كثيرا. فإن كان الميت ممن تلزم غيره نفقته في حياته من سيد إن كان عبدا أو أب أو زوج أو ابن ؛ فعلى السيد باتفاق ، وعلى الزوج والأب والابن باختلاف. ثم على بيت المال أو على جماعة المسلمين على الكفاية. والذي يتعين منه بتعيين الفرض ستر العورة ؛ فإن كان فيه فضل غير أنه لا يعم جميع الجسد غطى رأسه ووجهه إكراما لوجهه وسترا لما يظهر من تغير محاسنه. والأصل في هذا قصة مصعب بن عمير ، فإنه ترك يوم أحد نمرة كان (4/299) ________________________________________ إذا غطى رأسه خرجت رجلاه ، وإذا غطي رجلاه خرج رأسه ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ضعوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر" أخرج الحديث مسلم. والوتر مستحب عند كافة العلماء في الكفن ، وكلهم مجمعون على أنه ليس فيه حد. والمستحب منه البياض قال صلى الله عليه وسلم : "البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم" أخرجه أبو داود. وكفن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف. والكفن في غير البياض جائز إلا أن يكون حريرا أو خزا. فإن تشاح الورثة في الكفن قضي عليهم في مثل لباسه في جمعته وأعياده قال صلى الله عليه وسلم : "إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه" أخرجه مسلم. إلا أن يوصي بأقل من ذلك. فإن أوصى بسرف قيل : يبطل الزائد. وقيل : يكون في الثلث. والأول أصح ؛ لقوله تعالى : {وَلا تُسْرِفُوا} [الأنعام : 141]. وقال أبو بكر : إنه للمهلة. فإذا فرغ من غسله وتكفينه ووضع على سريره واحتمله الرجال على أعناقهم وهي : الخامسة - فالحكم الإسراع في المشي ؛ لقوله عليه السلام : "أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم" . لا كما يفعله اليوم الجهال في المشي رويدا والوقوف بها المرة بعد المرة ، وقراءة القرآن بالألحان إلى ما لا يحل ولا يجوز حسب ما يفعله أهل الديار المصرية بموتاهم. روى النسائي : أخبرنا محمد بن عبدالأعلى قال حدثنا خالد قال أنبأنا عيينة بن عبدالرحمن قال حدثني أبي قال : شهدت جنازة عبدالرحمن بن سمرة وخرج زياد يمشي بين يدي السرير ، فجعل رجال من أهل عبدالرحمن ومواليهم يستقبلون السرير ويمشون على أعقابهم ويقولون : رويدا رويدا ، بارك الله فيكم! فكانوا يدبون دبيبا ، حتى إذا كنا ببعض طريق المريد لحقنا أبو بكرة رضي الله عنه على بغلة فلما (4/300) ________________________________________ رأى الذين يصنعون حمل عليهم ببغلته وأهوى إليهم بالسوط فقال : خلوا! فوالذي أكرم وجه أبي القاسم صلى الله عليه وسلم لقد رأينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنها لنكاد نرمل بها رملا ، فانبسط القوم. وروى أبو ماجدة عن ابن مسعود قال سألنا نبينا صلى الله عليه سلم عن المشي مع الجنازة فقال : "دون الخبب إن يكن خيرا يعجل إليه وإن يكن غير ذلك فبعدا لأهل النار " الحديث. قال أبو عمر : والذي عليه جماعة العلماء في ذلك الإسراع فوق السجية قليلا ، والعجلة أحب إليهم من الإبطاء. ويكره الإسراع الذي يشق على ضعفة الناس ممن يتبعها. وقال إبراهيم النخعي : بطئوا بها قليلا ولا تدبوا دبيب اليهود والنصارى. وقد تأول قوم الإسراع في حديث أبي هريرة تعجيل الدفن لا المشي ، وليس بشيء لما ذكرنا. وبالله التوفيق. السادسة - وأما الصلاة عليه فهي واجبة على الكفاية كالجهاد. هذا هو المشهور من مذاهب العلماء : مالك وغيره ؛ لقوله في النجاشي : "قوموا فصلوا عليه ". وقال أصبغ : إنها سنة. وروى عن مالك. وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان في "براءة". السابعة - وأما دفنه في التراب ودسه وستره فذلك واجب ؛ لقوله تعالى : {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة : 31]. وهناك يذكر حكم بنيان القبر وما يستحب منه ، وكيفية جعل الميت فيه. ويأتي في "الكهف" حكم بناء المسجد عليه ، إن شاء الله تعالى. فهذه جملة من أحكام الموتى وما يجب لهم على الأحياء. وعن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا" أخرجه مسلم. وفي سنن النسائي عنها أيضا قالت : ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم هالك بسوء فقال : "لا تذكروا هلكاكم إلا بخير" . (4/301) ________________________________________ قوله تعالى : {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فأجر المؤمن ثواب ، وأجر الكافر عقاب ، ولم يعتد بالنعمة والبلية في الدنيا أجرا وجزاء ؛ لأنها عرصة الفناء. {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ} أي أبعد. { وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} ظفر بما يرجو ، ونجا مما يخاف. وروى الأعمش عن زيد بن وهب عن عبدالرحمن بن عبد رب الكعبة عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من سره أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه" . عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرؤوا إن شئتم {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} . قوله تعالى : {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} أي تغر المؤمن وتخدعه فيظن طول البقاء وهي فانية. والمتاع ما يتمتع به وينتفع ؛ كالفأس والقدر والقصعة ثم يزول ولا يبقى ملكه ؛ قاله أكثر المفسرين. قال الحسن : كخضرة النبات ، ولعب البنات لا حاصل له. وقال قتادة : هي متاع متروك توشك أن تضمحل بأهلها ؛ فينبغي للإنسان أن يأخذ من هذا المتاع بطاعة الله سبحانه ما استطاع. ولقد أحسن من قال : هي الدار دار الأذى والقذى ... ودار الفناء ودار الغير فلو نلتها بحذافيرها ... لمت ولم تقض منها الوطر أيا من يؤمل طول الخلود ... وطول الخلود عليه ضرر إذا أنت سبت وبان الشباب ... فلا خير في العيش بعد الكبر والغرور "بفتح الغين" الشيطان ؛ يغر الناس بالتمنية والمواعيد الكاذبة. قال ابن عرفة : الغرور ما رأيت له ظاهرا تحبه ، وفيه باطن مكروه أو مجهول. والشيطان غرور ؛ لأنه يحمل على محاب النفس ، ووراء ذلك ما يسوء. قال : ومن هذا بيع الغرر ، وهو ما كان له ظاهر بيع يغر وباطن مجهول. (4/302) ________________________________________ الآية : 186 {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته والمعنى : لتختبرن ولتمتحنن في أموالكم بالمصائب والأرزاء بالإنفاق في سبيل الله وسائر تكاليف الشرع. والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض وفقد الأحباب. وبدأ بذكر الأموال لكثرة المصائب بها. {وَلَتَسْمَعُنَّ} إن قيل : لم ثبتت الواو في {لَتُبْلَوُنَّ} وحذفت من {وَلَتَسْمَعُنَّ} ؛ فالجواب أن الواو في "لتبلون" قبلها فتحة فحركت لالتقاء الساكنين ، وخصت بالضمة لأنها واو الجمع ، ولم يجز حذفها لأنها ليس قبلها ما يدل عليها ، وحذفت من {وَلَتَسْمَعُنَّ} لأن قبلها ما يدل عليها. ولا يجوز همز الواو في "لتبلون" لأن حركتها عارضة ؛ قال النحاس وغيره. ويقال للواحد من المذكر : لتبلين يا رجل. وللاثنين : لتبليان يا رجلان. ولجماعة الرجال : لتبلون. ونزلت بسبب أن أبا بكر رضي الله عنه سمع يهوديا يقول : إن الله فقير ونحن أغنياء. ردا على القرآن واستخفافا به حين أنزل الله {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة : 245] فلطمه ؛ فشكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت. قيل : إن قائلها فنحاص اليهودي ؛ عن عكرمة. الزهري : هو كعب بن الأشرف نزلت بسببه ؛ وكان شاعرا ، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ويؤلب عليه كفار قريش ، ويشبب بنساء المسلمين حتى بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة وأصحابه فقتله القتلة المشهورة في السير وصحيح الخبر. وقيل غير هذا. وكان صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان بها اليهود والمشركون ، فكان هو وأصحابه يسمعون أذى كثيرا. ، في الصحيحين أنه عليه السلام مر بابن أبي وهو عليه السلام على حمار فدعاه إلى الله تعالى فقال ابن أبي : إن كان ما تقول حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا! ارجع إلى رحلك ، فمن جاءك فاقصص عليه. وقبض على أنفه لئلا يصيبه غبار الحمار ، فقال (4/303) ________________________________________ ابن رواحة : نعم يا رسول الله ، فاغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك. واستب المشركون الذين كانوا حول ابن أبي والمسلمون ، وما زال النبي صلى الله عليه وسلم يسكنهم حتى سكنوا. ثم دخل على سعد بن عبادة يعوده وهو مريض ، فقال : "ألم تسمع ما قال فلان " فقال سعد : أعف عنه واصفح ، فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاءك الله بالحق الذي نزل ، وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة ؛ فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق به ، فذلك فعل به ما رأيت. فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزلت هذه الآية. قيل : هذا أن قبل نزول القتال ، وندب الله عباده إلى الصبر والتقوى وأخبر أنه من عزم الأمور. وكذا في البخاري في سياق الحديث ، إن ذلك كان قبل نزول القتال. والأظهر أنه ليس بمنسوخ ؛ فإن الجدال بالأحسن والمداراة أبدا مندوب إليها ، وكان عليه السلام مع الأمر بالقتال يوادع اليهود ويداريهم ، ويصفح عن المنافقين ، وهذا بين. ومعنى "عزم الأمور" شدها وصلابتها. وقد تقدم. الآية : 187 {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} فيه مسألتان : - الأولى : -قوله تعالى : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} هذا متصل بذكر اليهود ؛ فإنهم أمروا بالإيمان بمحمد عليه السلام وبيان أمره ، فكتموا نعته. فالآية توبيخ لهم ، ثم مع ذلك هو خبر عام لهم ولغيرهم. قال الحسن وقتادة : هي في كل من أوتي علم شيء من الكتاب. فمن علم شيئا فليعلمه ، وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة. وقال محمد بن كعب : لا يحل لعالم أن يسكت على علمه ، ولا للجاهل أن يسكت على جهله ؛ قال الله تعالى : {وَإِذْ أَخَذَ (4/304) ________________________________________ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الآية. وقال : {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل : 42]. وقال أبو هريرة : لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء ؛ ثم تلا هذه الآية {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . وقال الحسن بن عمارة : أتيت الزهري بعد ما ترك الحديث ، فألفيته على بابه فقلت : إن رأيت أن تحدثني. فقال : أما علمت أني تركت الحديث ؟ فقلت : إما أن تحدثني وإما أن أحدثك. قال حدثني. قلت : حدثني الحكم بن عتيبة عن يحيى بن الجزار قال سمعت علي بن أبي طالب يقول : ما أخذ الله على الجاهلين أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء أن يعلموا. قال : فحدثني أربعين حديثا. الثانية : -الهاء في قوله : {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} ترجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإن لم يجر له ذكر. وقيل : ترجع إلى الكتاب ؛ ويدخل فيه بيان أمر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه في الكتاب. "ولا تكتمونه" ولم يقل تكتمنه لأنه في معنى الحال ، أي لتبيننه غير كاتمين. وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وأهل مكة "لتبيننه" بالتاء على حكاية الخطاب. والباقون بالياء لأنهم غيب. وقرأ ابن عباس "وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ليبيننه". فيجيء قوله {فَنَبَذُوهُ} عائدا على الناس الذين بين لهم الأنبياء. وفي قراءة ابن مسعود "ليبينونه" دون النون الثقيلة. والنبذ الطرح. وقد تقدم بيانه في "البقرة". "وراء ظهورهم" مبالغة في الإطراح ، ومنه {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً} [هود : 92] وقد تقدم في "البقرة" بيانه أيضا. وتقدم معنى قوله : {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} في "البقرة" فلا معنى لإعادته. {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} تقدم أيضا. والحمد لله. الآية : 188 {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4/305)
| |
|