فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الثلاثاء 8 فبراير - 22:44 | |
|
________________________________________ الآية : 37 {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} الآية : 38 {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} قوله تعالى : {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} المعنى : سلك بها طريق السعداء ؛ عن ابن عباس. وقال قوم : معنى التقبل التكفل في التربية والقيام بشأنها. وقال الحسن : معنى التقبل أنه ما عذبها ساعة قط من ليل ولا نهار. {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} يعني سوى خلقها من غير زيادة ولا نقصان ، فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام واحد. والقبول والنبات مصدران على غير المصدر ، والأصل تقبلا وإنباتا. قال الشاعر : أكفرا بعد رد الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرتاعا أراد بعد إعطائك ، لكن لما قال "أنبتها" دل على نبت ؛ كما قال امرؤ القيس : فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ... ورضت فذلت صعبة أي إذلال وإنما مصدر ذَلّت ذُلٌّ ، ولكنه رده على معنى أذْلَلتْ ؛ وكذلك كل ما يرد عليك في هذا الباب. فمعنى تقبل وقبل واحد ، فالمعنى فقبلها ربها بقبول حسن. ونظيره قول رؤبة : وقد تَطَوّيتُ انطواء الحِضْبِ الأفعى لأن معنى تَطَوّيتُ وانطويت واحد ؛ ومثله قول القطامي : وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبعه اتباعا لأن تتبعت واتبعت واحد. وفي قراءة ابن مسعود {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} لأن معنى نزل وأنزل واحد. وقال المفضل : معناه وأنبتها فنبتت نباتا حسنا. ومراعاة المعنى أولى (4/69) ________________________________________ كما ذكرنا. والأصل في القبول الضم ؛ لأنه مصدر مثل الدخول والخروج ، والفتح جاء في حروف قليلة ؛ مثل الوَلوع والوزوع ؛ هذه الثلاثة لا غير ؛ قاله أبو عمر والكسائي والأئمة. وأجاز الزجاج "بقبول" بضم القاف على الأصل. قوله تعالى : {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} أي ضمها إليه. أبو عبيدة : ضمن القيام بها. وقرأ الكوفيون "وكفلها" بالتشديد ، فهو يتعدى إلى مفعولين ؛ والتقدير وكفلها ربها زكريا ، أي ألزمه كفالتها وقدر ذلك عليه ويسره له. وفي مصحف أبي "وأكفلها" والهمزة كالتشديد في التعدي ؛ وأيضا فإن قبْله "فتقبلها ، وأنبتها" فأخبر تعالى عن نفسه بما فعل بها ؛ فجاء "كفلها" بالتشديد على ذلك. وخففه الباقون على إسناد الفعل إلى زكريا. فأخبر الله تعالى أنه هو الذي تولى كفالتها والقيام بها ؛ بدلالة قوله : {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران : 44]. قال مكي : وهو الاختيار ؛ لأن التشديد يرجع إلى التخفيف ، لأن الله تعالى إذا كفلها زكريا كفلها بأمر الله ، ولأن زكريا إذا كفلها فعن مشيئة الله وقدرته ؛ فعلى ذلك فالقراءتان متداخلتان. وروى عمرو بن موسى عن عبدالله بن كثير وأبي عبدالله المزني "وكفلها" بكسر الفاء. قال الأخفش : يقال كَفَلَ يَكْفُلُ وكَفِلَ يَكْفَلُ ولم أسمع كَفُلَ ، وقد ذكرت. وقرأ مجاهد "فتقبلْها" بإسكان اللام على المسألة والطلب. "ربها" بالنصب نداء مضاف. "وأنبتْها" بإسكان التاء "وكفلها" بإسكان اللام "زكرياء" بالمد والنصب. وقرأ حفص وحمزة والكسائي "زكريا" بغير مد ولا همزة ، ومده الباقون وهمزوه. وقال الفراء : أهل الحجاز يمدون "زكرياء" ويقصرونه ، وأهل نجد يحذفون منه الألف ويصرفونه فيقولون : زكري. قال الأخفش : فيه أربع لغات : المد والقصر ، وكري بتشديد الياء والصرف ، وزكر ورأيت زكريا. قال أبو حاتم : زكرى بلا صرف لأنه أعجمي وهذا غلط ؛ لأن ما كان فيه "يا" مثل هذا انصرف مثل كرسي ويحيى ، ولم ينصرف زكرياء في المد والقصر لأن فيه ألف تأنيث والعجمة والتعريف. (4/70) ________________________________________ قوله تعالى : {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} الى قوله : {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} فيه أربع مسائل : الأولى - قوله تعالى : {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} " المحراب في اللغة أكرم موضع في المجلس. وسيأتي له مزيد بيان في سورة "مريم". وجاء في الخبر : إنها كانت في غرفة كان زكريا يصعد إليها بسلم. قال وضاح اليمن : ربة محراب إذا جئتها ... لم أَلْقها حتى ارتَقِي سلما أي ربة غرفة. روى أبو صالح عن ابن عباس قال : حملت امرأة عمران بعد ما أسنت فنذرت ما في بطنها محررا فقال لها عمران : ويحك ما صنعت ؟ أرأيت إن كانت أنثى ؟ فاغتما لذلك جميعا. فهلك عمران وحنة حامل فولدت أنثى فتقبلها الله بقبول حسن ، وكان لا يحرر إلا الغلمان فتساهم عليها الأحبار بالأقلام التي يكتبون بها الوحي ، على ما يأتي. فكفلها زكريا وأخذ لها موضعا فلما أسنت جعل لها محرابا لا يرتقي إليه إلا بسلم ، واستأجر لها ظئرا وكان يغلق عليها بابا ، وكان لا يدخل عليها إلا زكريا حتى كبرت ، فكانت إذا حاضت أخرجها إلى منزله فتكون عند خالتها وكانت خالتها امرأة زكريا في قول الكلبي. قال مقاتل : كانت أختها امرأة زكريا. وكانت إذا طهرت من حيضتها واغتسلت ردها إلى المحراب. وقال بعضهم : كانت لا تحيض وكانت مطهرة من الحيض. وكان زكريا إذا دخل عليها يجد عندها فاكهة الشتاء في القيظ وفاكهة القيظ في الشتاء فقال : يا مريم أنى لك هذا ؟ فقالت : هو من عند الله. فعند ذلك طمع زكريا في الولد وقال : إن الذي يأتيها بهذا قادر أن يرزقني ولدا. ومعنى "أنى" من أين ؛ قاله أبو عبيدة. قال النحاس : وهذا (4/71) ________________________________________ فيه تساهل ؛ لأن "أين" سؤال عن المواضع و"أنى" سؤال عن المذاهب والجهات. والمعنى من أي المذاهب ومن أي الجهات لك هذا. وقد فرق الكميت بينهما فقال : أنى ومن أين آبك الطرب ... من حيث لا صبوة ولا ريب و "كلما" منصوب بـ "وجد" ، أي كل دخلة. "إن الله يرزق من يشاء بغير حساب" قيل : هو من قول مريم ، ويجوز أن يكون مستأنفا ؛ فكان ذلك سبب دعاء زكريا وسؤاله الولد. الثانية : -قوله تعالى : {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} هنالك في موضع نصب ؛ لأنه ظرف يستعمل للزمان والمكان وأصله للمكان. وقال المفضل بن سلمة : "هنالك" في الزمان و"هناك" في المكان ، وقد يجعل هذا مكان هذا. و {هَبْ لِي} أعطني. {مِنْ لَدُنْكَ} من عندك. { ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} أي نسلا صالحا. والذرية تكون واحدة وتكون جمعا ذكرا وأنثى ، وهو هنا واحد. يدل عليه قوله. {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} [مريم : 5] ولم يقل أولياء ، وإنما أنث "طَيِّبة" لتأنيث لفظ الذرية ؛ كقوله : أبوك خليفة ولدته أخرى ... وأنت خليفة ذاك الكمال فأنث ولدته لتأنيث لفظ الخليفة. وروي من حديث أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أي رجل مات وترك ذرية طيبة أجرى الله له مثل أجر عملهم ولم ينقص من أجورهم شيئا" . وقد مضى في "البقرة" اشتقاق الذرية. و {طَيِّبَةً } أي صالحة مباركة. {إنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء} أي قابله ؛ ومنه : سمع الله لمن حمده. الثالثة : -دلت هذه الآية على طلب الولد ، وهي سنة المرسلين والصديقين ، قال الله تعالى : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد : 38]. وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال : أراد عثمان أن يتبتل فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو أجاز له ذلك لاختصينا. وخرج ابن ماجة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم ومن كان (4/72) ________________________________________ ذا طول فلينكح ومن لم يجد فعليه بالصوم فإنه له وجاء". وفي هذا رد على بعض جهال المتصوفة حيث قال : الذي يطلب الولد أحمق ، وما عرف أنه هو الغبي الأخرق ؛ قال الله تعالى مخبرا عن إبراهيم الخليل : {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء : 84] وقال : {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان : 74]. وقد ترجم البخاري على هذا "باب طلب الولد". وقال صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة حين مات ابنه : "أعرستم الليلة" ؟ قال : نعم. قال : "بارك الله لكما في غابر ليلتكما" . قال فحملت. في البخاري : قال سفيان فقال رجل من الأنصار : فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرؤوا القرآن. وترجم أيضا "باب الدعاء بكثرة الولد مع البركة" وساق حديث أنس بن مالك قال : قالت أم سُليم : يا رسول الله ، خادمك أنس أدع الله له. فقال : "اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته" . وقال صلى الله عليه وسلم : "اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين". خرجه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم : "تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم" . أخرجه أبو داود. والأخبار في هذا المعنى كثيرة تحث على طلب الولد وتندب إليه ؛ لما يرجوه الإنسان من نفعة في حياته وبعد موته. قال صلى الله عليه وسلم : " إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث" فذكر "أو ولد صالح يدعو له" . ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكان فيه كفاية. الرابعة : -فإذا ثبت هذا فالواجب على الإنسان أن يتضرع إلى خالقه في هداية ولده وزوجه بالتوفيق لهما والهداية والصلاح والعفاف والرعاية ، وأن يكونا معينين له على دينه ودنياه حتى تعظم منفعته بهما في أولاه وأخراه ؛ ألا ترى قول زكريا : {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} [مريم : 6] وقال : {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} . وقال : { هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان : 74]. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنس فقال : " اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه" . خرجه البخاري ومسلم ، وحسبك. (4/73) ________________________________________ الآية : 39 {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} قوله تعالى : {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ} قرأ حمزة والكسائي "فناداه" بالألف على التذكير ويميلانها لأن أصلها الياء ، ولأنها رابعة. وبالألف قراءة ابن عباس وابن مسعود ، وهو اختيار أبي عبيد. وروي عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال : كان عبدالله يذكر الملائكة في كل القرآن. قال أبو عبيد : نراه اختار ذلك خلافا على المشركين لأنهم قالوا : الملائكة بنات الله. قال النحاس : هذا احتجاج لا يحصل منه شيء ؛ لأن العرب تقول : قالت الرجال ، وقال الرجال ، وكذا النساء ، وكيف يحتج عليهم بالقرآن ، ولو جاز أن يحتج عليهم بالقرآن بهذا لجاز أن يحتجوا بقوله تعالى : {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ} ولكن الحجة عليهم في قوله عز وجل : {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} [الزخرف : 19] أي فلم يشاهدوا ، فكيف يقولون إنهم إناث فقد علم أن هذا ظن وهوى. وأما "فناداه" فهو جائز على تذكير الجمع ، "ونادته" على تأنيث الجماعة. قال مكي : والملائكة ممن يعقل في التكسير فجرى في التأنيث مجرى ما لا يعقل ، تقول : هي الرجال ، وهي الجذوع ، وهي الجِمال ، وقالت الأعراب. ويقوي ذلك قوله : {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ} وقد ذكر في موضع آخر فقال : {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} [الأنعام : 93] وهذا إجماع. وقال تعالى : {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد : 23] فتأنيث هذا الجمع وتذكيره حسنان. وقال السدي : ناداه جبريل وحده ؛ وكذا في قراءة ابن مسعود. وفي التنزيل {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} يعني جبريل ، والروح الوحي. وجائز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع. وجاء في التنزيل {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران : 173] يعني نعيم بن مسعود ، على ما يأتي. وقيل : ناداه جميع الملائكة ، وهو الأظهر. أي جاء النداء من قبلهم. (4/74) ________________________________________ قوله تعالى : {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ} "وهو قائم" ابتداء وخبر "يصلي" في موضع رفع ، وإن شئت كان نصبا على الحال من المضمر. "أن الله" أي بأن الله. وقرأ حمزة والكسائي "إن" أي قالت إن الله ؛ فالنداء بمعنى القول. "يبشرك" بالتشديد قراءة أهل المدينة. وقرأ حمزة "يَبْشُرُك" مخففا ؛ وكذلك حميد بن القيس المكي إلا أنه كسر الشين وضم الياء وخفف الباء. قال الأخفش : هي ثلاث لغات بمعنى واحد. دليل الأولى هي قراءة الجماعة أن ما في القرآن من هذا من فعل ماض أو أمر فهو بالتثقيل ؛ كقوله تعالى : {فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر : 17] {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} [يس : 11] {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} [هود : 71] {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} [الحجر : 55]. وأما الثانية وهي قراءة عبدالله بن مسعود فهي من بَشَر يَبْشُر وهي لغة تهامة ؛ ومنه قول الشاعر : بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة ... أتتك من الحجاج يتلى كتابها وقال آخر : وإذا رأيت الباهشين إلى الندى ... غبرا أكفهم بقاع ممحل فأعِنْهُم وابشَرْ بما بَشِروا به ... وإذا هم نزلوا بضنك فانزل وأما الثالثة فهي من أبشر يُبشر إبشارا قال : يا أم عمرو أبشري بالبشرى ... موت ذريع وجراد عَظْلَى قوله تعالى : {بِيَحْيَى} كان اسمه في الكتاب الأول حيا ، وكان اسم سارة زوجة إبراهيم عليه السلام بسارة ، وتفسيره بالعربية لا تلد ، فلما بشرت بإسحاق قيل لها : سارة ، سماها (4/75) ________________________________________ بذلك جبريل عليه السلام. فقالت : يا إبراهيم لم نقص من اسمي حرف ؟ فقال إبراهيم ذلك لجبريل عليهما السلام. فقال : "إن ذلك الحرف زيد في اسم ابن لها من أفضل الأنبياء اسمه حيي وسمي بيحيى". ذكره النقاش. وقال قتادة : سمي بيحيى لأن الله تعالى أحياه بالإيمان والنبوة. وقال بعضهم : سمي بذلك لأن الله تعالى أحيا به الناس بالهدى. وقال مقاتل : اشتق اسمه من اسم الله تعالى حي فسمي يحيى. وقيل : لأنه أحيا به رحم أمه. قوله تعالى : {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} يعني عيسى في قول أكثر المفسرين. وسمي عيسى كلمة لأنه كان بكلمة الله تعالى التي هي "كن" فكان من غير أب. وقرأ أبو السمال العدوي "بكِلْمة" مكسورة الكاف ساكنة اللام في جميع القرآن ، وهي لغة فصيحة مثل كِتْف وفِخْذ. وقيل : سمي كلمة لأن الناس يهتدون به كما يهتدون بكلام الله تعالى. وقال أبو عبيد : معنى "بكلمة من الله" بكتاب من الله. قال : والعرب تقول أنشدني كلمة أي قصيدة ؛ كما روي أن الحويدرة ذكر لحسان فقال : لعن الله كلمته ، يعني قصيدته. وقيل غير هذا من الأقوال. والقول الأول أشهر وعليه من العلماء الأكثر. و"يحيى" أول من آمن بعيسى عليهما السلام وصدقه ، وكان يحيى أكبر من عيسى بثلاث سنين ويقال بستة أشهر. وكانا ابني خالة ، فلما سمع زكريا شهادته قام إلى عيسى فضمه إليه وهو في خرقه. وذكر الطبري أن مريم لما حملت بعيسى حملت أيضا أختها بيحيى ؛ فجاءت أختها زائرة فقالت : يا مريم أشعرت أني حملت ؟ فقالت لها مريم : أشعرت أنت أني حملت ؟ فقالت لها : وإني لأجد ما في بطني يسجد لما في بطنك. وذلك أنه روي أنها أحست جنينها يخر برأسه إلى ناحية بطن مريم. قال السدي : فذلك قوله {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} . "ومصدقا" نصب على الحال. {وَسَيِّداً} السيد : الذي يسود قومه وينتهى إلى قوله ، وأصله سَيْوِد يقال : فلان أسود من (4/76) ________________________________________ فلان ، أفعل من السيادة ؛ ففيه دلالة على جواز تسمية الإنسان سيدا كما يجوز أن يسمى عزيزا أو كريما. وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لبني قريظة : "قوموا إلى سيدكم" . وفي البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحسن : "إن ابني هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" وكذلك كان ، فإنه لما قتل علي رضي الله عنه بايعه أكثر من أربعين ألفا وكثير ممن تخلف عن أبيه وممن نكث بيعته ، فبقي نحو سبعة أشهر خليفة بالعراق وما وراءها من خراسان ، ثم سار إلى معاوية في أهل الحجاز والعراق وسار إليه معاوية في أهل الشام ؛ فلما تراءى الجمعان بموضع يقال له "مَسْكِن" من أرض السواد بناحية الأنبار كره الحسن القتال لعلمه أن إحدى الطائفتين لا تغلب حتى تهلك أكثر الأخرى فيهلك المسلمون ؛ فسلم الأمر إلى معاوية على شروط شرطها عليه ، منها أن يكون الأمر له من بعد معاوية ، فالتزم كل ذلك معاوية فصدق قوله عليه السلام : "إن ابني هذا سيد" ولا أسود ممن سوده الله تعالى ورسوله. قال قتادة في قوله تعالى "وسيدا" قال : في العلم والعبادة. ابن جبير والضحاك : في العلم والتقى. مجاهد : السيد الكريم. ابن زيد : الذي لا يغلبه الغضب. وقال الزجاج : السيد الذي يفوق أقرانه في كل شيء من الخير. وهذا جامع. وقال الكسائي : السيد من المَعِز المسِن. وفي الحديث "ثني من الضأن خير من السيد المعز". قال : سواء عليه شاة عام دَنتْ له ... ليذبحها للضيف أم شاة سيد {وحَصُوراً} أصله من الحصر وهو الحبس. حصرني الشيء وأحصرني إذا حبسني. قال ابن ميادة : وما هجر ليلى أن تكون تباعدت ... عليك ولا أن أحصرتك شغول وناقة حصور : ضيقة الإحليل. والحصور الذي لا يأتي النساء كأنه محجم عنهن ؛ كما يقال : رجل حصور وحصير إذا حبس رفده ولم يخرج ما يخرجه الندامى. يقال : شرب القوم فحصر عليهم فلان ، أي بخل ؛ عن أبي عمرو. قال الأخطل : (4/77) ________________________________________ وشارب مربح بالكأس نادمني ... لا بالحصور ولا فيها بسوار وفي التنزيل {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} [الإسراء : 8] أي محبسا. والحصير الملك لأنه محجوب. وقال لبيد : وقماقم غُلْب الرقاب كأنهم ... جن لدى باب الحصير قيام فيحيى عليه السلام حصور ، فعول بمعنى مفعول لا يأتي النساء ؛ كأنه ممنوع مما يكون في الرجال ؛ عن ابن مسعود وغيره. وفعول بمعنى مفعول كثير في اللغة ، من ذلك حلوب بمعنى محلوبة ؛ قال الشاعر : فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سودا كخافية الغراب الأسحم وقال ابن مسعود أيضا وابن عباس وابن جبير وقتادة وعطاء وأبو الشعثاء والحسن والسدي وابن زيد : هو الذي يكف عن النساء ولا يقربهن مع القدرة. وهذا أصح الأقوال لوجهين : أحدهما أنه مدح وثناء عليه ، والثناء إنما يكون عن الفعل المكتسب دون الجبلة في الغالب. الثاني أن فعولا في اللغة من صيغ الفاعلين ؛ كما قال : ضَروب بنصل السيف سوق سمانها ... إذا عدموا زادا فإنك عاقر فالمعنى أنه يحصر نفسه عن الشهوات. ولعل هذا كان شرعه ؛ فأما شرعنا فالنكاح ، كما تقدم. وقيل : الحصور العِنِّين الذي لا ذكر له يتأتى له به النكاح ولا ينزل ؛ عن ابن عباس أيضا وسعيد بن المسيب والضحاك. وروى أبو صالح عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلا يحيى (4/78) ________________________________________ بن زكريا فإنه كان سيدا وحصورا ونبيا من الصالحين" - ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى قَذاة من الأرض فأخذها وقال : "كان ذَكَره هكذا مثل هذه القذاة". وقيل : معناه الحابس نفسه عن معاصي الله عز وجل. و"نبيا من الصالحين" قال الزجاج : الصالح الذي يؤدي لله ما افترض عليه ، وإلى الناس حقوقهم. الآية : 40 {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} قيل : الرب هنا جبريل ، أي قال لجبريل : رب - أي يا سيدي - أنى يكون لي غلام ؟ يعني ولدا ؛ وهذا قول الكلبي. وقال بعضهم : قوله "رب" يعني الله تعالى. "أنى" بمعنى كيف ، وهو في موضع نصب على الظرف. وفي معنى هذا الاستفهام وجهان : أحدهما أنه سأل هل يكون له الولد وهو وامرأته على حاليهما أو يردان إلى حال من يلد ؟ . الثاني سأل هل يرزق الولد من امرأته العاقر أو من غيرها. وقيل : المعنى بأي منزلة استوجب هذا وأنا وامرأتي على هذه الحال ؛ على وجه التواضع. ويروى أنه كان بين دعائه والوقت الذي بشر فيه أربعون سنة ، وكان يوم بشر ابن تسعين سنة وامرأته قريبة السن منه. وقال ابن عباس والضحاك : كان يوم بشر ابن عشرين ومائة سنة وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة ؛ فذلك قوله {وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} أي عقيم لا تلد. يقال : رجل عاقر وامرأة عاقر بينة العقر. وقد عَقُرت وعَقُر "بضم القاف فيهما" تعقُر عُقْرا صارت عاقرا ، مثل حسنت تحسن حسنا ؛ عن أبي زيد. وعقارة أيضا. وأسماء الفاعلين من فُعل فعيلة ، يقال : عظمت فهي عظيمة ، وظرفت فهي ظريفة. وإنما قيل عاقر لأنه يراد به ذات عُقْر على النسب ، ولو كان على الفعل لقال : عقرت فهي عقيرة كأن بها عقرا ، أي كبرا من السن يمنعها من الولد. والعاقر : العظيم من الرمل لا ينبت شيئا. والعُقْر أيضا مهر المرأة إذا وُطئت على شبهة. وبيضة العُقْر : زعموا هي بيضة الديك ؛ لأنه يبيض في عمره بيضة واحدة إلى الطول. وعُقْر النار أيضا. (4/79) ________________________________________ وسطها ومعظمها. وعَقْر الحوض : مؤخره حيث تقف الإبل إذا وردت ؛ يقال : عُقْر وعُقُر مثل عُسْر وعُسُر ، والجمع الأعقار فهو لفظ مشترك. والكاف في قوله "كذلك" في موضع نصب ، أي يفعل الله ما يشاء مثل ذلك. والغلام مشتق من الغُلْمة وهو شدة طلب النكاح. واغتلم الفحل غلمة هاج من شهوة الضراب. وقالت ليلى الأخيلية : شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها والغلام الطار الشارب. وهو بين الغلومة والغلومية ، والجمع الغِلْمة والغِلمان. ويقال : إن الغَيْلم الشاب والجارية أيضا. والغيلم : ذكر السلحفاة. والغيلم : موضع. واغتلم البحر : هاج وتلاطمت أمواجه. الآية : 41 {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} "جعل" هنا بمعنى صير لتعديه إلى مفعولين. و"لي" في موضع المفعول الثاني. ولما بشر بالولد ولم يبعد عنده هذا في قدرة الله تعالى طلب آية - أي علامة - يعرف بها صحة هذا الأمر وكونه من عند الله تعالى ؛ فعاقبه الله تعالى بأن أصابه السكوت عن كلام الناس لسؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه ؛ قاله أكثر المفسرين. قالوا : وكذلك إن لم يكن من مرض خرس أو نحوه ففيه على كل حال عقاب ما. قال ابن زيد : إن زكريا عليه السلام لما حملت زوجه منه بيحيى أصبح لا يستطيع أن يكلم أحدا ، وهو مع ذلك يقرأ التوراة ويذكر الله تعالى ؛ فإذا أراد مقاولة أحد لم يطقه. الثانية : -قوله تعالى : {إِلاَّ رَمْزاً} الرمز في اللغة الإيماء بالشفتين ، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين واليدين ؛ وأصله الحركة. وقيل : طلب تلك الآية زيادة طمأنينة. المعنى : تمم النعمة بأن تجعل لي آية ، وتكون تلك الآية زيادة نعمة وكرامة ؛ فقيل له : {آيَتُكَ (4/80) ________________________________________ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} أي تمنع من الكلام ثلاث ليال ؛ دليل هذا القول قوله تعالى بعد بشري الملائكة له. "وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا" [مريم : 9] أي أوجدتك بقدرتي فكذلك أوجد لك الولد. واختار هذا القول النحاس وقال : قول قتادة إن زكريا عوقب بترك الكلام قول مرغوب عنه ؛ لأن الله عز وجل لم يخبرنا أنه أذنب ولا أنه نهاه عن هذا ؛ والقول فيه أن المعنى اجعل لي علامة تدل على كون الولد ، إذ كان ذلك مغيبا عني. و"رمزا" نصب على الاستثناء المنقطع ؛ قاله الأخفش. وقال الكسائي : رمز يرمز ويرمِز. وقرئ "إلا رمزا" بفتح الميم و"رمزا" بضمها وضم الراء ، الواحدة رمزة. الثالثة : -في هذه الآية دليل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام وذلك موجود في كثير من السنة ، وآكد الإشارات ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر السوداء حين قال لها : "أين الله" ؟ فأشارت برأسها إلى السماء فقال : "أعتقها فإنها مؤمنة" . فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الديانة الذي يحرز الدم والمال وتستحق به الجنة وينجى به من النار ، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك ؛ فيجب أن تكون الإشارة عاملة في سائر الديانة ، وهو قول عامة الفقهاء. وروى ابن القاسم عن مالك أن الأخرس إذا أشار بالطلاق إنه يلزمه. وقال الشافعي في الرجل يمرض فيختل لسانه فهو كالأخرس في الرجعة والطلاق. وقال أبو حنيفة : ذلك جائز إذا كانت إشارته تعرف ، وإن شك فيها فهي باطل ، وليس ذلك بقياس وإنما هو استحسان. والقياس في هذا كله أنه باطل ؛ لأنه لا يتكلم ولا تعقل إشارته. قال أبو الحسن بن بطال : وإنما حمل أبا حنيفة على قوله هذا أنه لم يعلم السنن التي جاءت بجواز الإشارات في أحكام مختلفة في الديانة. ولعل البخاري حاول بترجمته "باب الإشارة في الطلاق والأمور" الرد عليه. وقال عطاء : أراد بقوله {أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ} صوم ثلاثة أيام. وكانوا إذا صاموا لا يتكلمون إلا رمزا. وهذا فيه بعد. والله أعلم. الرابعة : -قال بعض من يجيز نسخ القرآن بالسنة : إن زكريا عليه السلام منع الكلام وهو قادر عليه ، وإنه منسوخ بقوله عليه السلام : "لا صمت يوما إلى الليل" . وأكثر (4/81) ________________________________________ العلماء على أنه ليس بمنسوخ ، وأن زكريا إنما منع الكلام بآفة دخلت عليه منعته إياه ، وتلك الآفة عدم القدرة على الكلام مع الصحة ؛ كذلك قال المفسرون. وذهب كثير من العلماء إلى أنه "لا صمت يوما إلى الليل" إنما معناه عن ذكر الله ، وأما عن الهَذَر وما لا فائدة فيه ، فالصمت عن ذلك حسن. قوله تعالى : {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} أمره بألا يترك الذكر في نفسه مع اعتقال لسانه ؛ على القول الأول. وقد مضى في البقرة معنى الذكر. وقال محمد بن كعب القرظي : لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا بقول الله عز وجل : {أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً} ولرخص للرجل يكون في الحرب بقول الله عز وجل : {إذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً} [الأنفال : 45]. وذكره الطبري. "وسبح" أي صل ؛ سميت الصلاة سُبْحَة لما فيها من تنزيه الله تعالى عن السوء. و"العشي" جمع عشية. وقيل : هو واحد. وذلك من حين تزول الشمس إلى أن تغيب ؛ عن مجاهد. وفي الموطأ عن القاسم بن محمد قال : ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشي. "والإبكار" من طلوع الفجر إلى وقت الضحى. الآية : 42 {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} أي اختارك ، وقد تقدم. {وَطَهَّرَكِ} أي من الكفر ؛ عن مجاهد والحسن. الزجاج : من سائر الأدناس من الحيض والنفاس وغيرهما ، واصطفاك لولادة عيسى. {عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} يعني عالمي زمانها ؛ عن الحسن وابن جريج وغيرهما. وقيل : {عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} أجمع إلى يوم الصور ، وهو الصحيح على ما نبينه ، وهو قول الزجاج وغيره. وكرر الاصطفاء لأن معنى الأول الاصطفاء لعبادته ، ومعنى الثاني لولادة عيسى. وروى مسلم عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كمل (4/82) ________________________________________ من الرجال كثير ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" . قال علماؤنا رحمة الله عليهم : الكمال هو التناهي والتمام ؛ ويقال في ماضيه "كمل" بفتح الميم وضمها ، ويكمل في مضارعه بالضم ، وكمال كل شيء بحسبه. والكمال المطلق إنما هو لله تعالى خاصة. ولا شك أن أكمل نوع الإنسان الأنبياء ثم يليهم الأولياء من الصديقين والشهداء والصالحين. وإذا تقرر هذا فقد قيل : إن الكمال المذكور في الحديث يعني به النبوة فيلزم عليه أن تكون مريم عليها السلام وآسية نبيتين ، وقد قيل بذلك. والصحيح أن مريم نبية ؛ لأن الله تعالى أوحى إليها بواسطة الملك كما أوحى إلى سائر النبيين حسب ما تقدم ويأتي بيانه أيضا في "مريم". وأما آسية فلم يرد ما يدل على نبوتها دلالة واضحة بل على صديقيتها وفضلها ، على ما يأتي بيانه في "التحريم". وروي من طرق صحيحة أنه عليه السلام قال فيما رواه عنه أبو هريرة : "خير نساء العالمين أربع مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد" . ومن حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : "أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون" . وفي طريق آخر عنه : "سيدة نساء أهل الجنة بعد مريم فاطمة وخديجة" . فظاهر القرآن والأحاديث يقتضي أن مريم أفضل من جميع نساء العالم من حواء إلى آخر امرأة تقوم عليها الساعة ؛ فإن الملائكة قد بلغتها الوحي عن الله عز وجل بالتكليف والإخبار والبشارة كما بلغت سائر الأنبياء ؛ فهي إذا نبية والنبي أفضل من الولي فهي أفضل من كل النساء : الأولين والآخرين مطلقا. ثم بعدها في الفضيلة فاطمة ثم خديجة ثم آسية. وكذلك رواه موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سيدة نساء العالمين مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية" . وهذا حديث حسن يرفع الإشكال. وقد خص الله مريم بما لم يؤته أحدا من النساء ؛ وذلك أن روح القدس كلمها وظهر لها ونفخ في درعها ودنا منها للنفخة ؛ فليس هذا لأحد من النساء. وصدقت بكلمات (4/83) ________________________________________ ربها ولم تسأل آية عندما بشرت كما سأل زكريا صلى الله عليه وسلم من الآية ؛ ولذلك سماها الله في تنزيله صديقة فقال : {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة : 75]. وقال : {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم : 12] فشهد لها بالصديقية وشهد لها بالتصديق لكلمات البشرى وشهد لها بالقنوت. وإنما بشر زكريا بغلام فلحظ إلى كبر سنه وعقامة رحم امرأته فقال : أنى يكون لي غلام وامرأتي عاقر ؛ فسأل آية ؛ وبشرت مريم بالغلام فلحظت أنها بكر ولم يمسسها بشر فقيل لها : {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} [مريم : 21] فاقتصرت على ذلك ، وصدقت بكلمات ربها ولم تسأل آية ممن يعلم كنه هذا الأمر ، ومن لامرأة في جميع نساء العالمين من بنات آدم ما لها من هذه المناقب. ولذلك روي أنها سبقت السابقين مع الرسل إلى الجنة ؛ جاء في الخبر عنه صلى الله عليه وسلم : "لو أقسمتُ لبرَرْت لا يدخل الجنة قبل سابقي أمتي إلا بضعة عشر رجلا منهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى ومريم ابنة عمران" . وقد كان يحق على من انتحل علم الظاهر واستدل بالأشياء الظاهرة على الأشياء الباطنة أن يعرف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" وقوله حيث يقول : "لواء الحمد يوم القيامة بيدي ومفاتيح الكرم بيدي وأنا أول خطيب وأول شفيع وأول مبشر وأول وأول" . فلم ينل هذا السؤدد في الدنيا على الرسل إلا لأمر عظيم في الباطن. وكذلك شأن مريم لم تنل شهادة الله في التنزيل بالصديقية والتصديق بالكلمات إلا لمرتبة قريبة دانية. ومن قال لم تكن نبية قال : إن رؤيتها للملك كما رؤى جبريل عليه السلام في صفة دحية الكلبي حين سؤاله عن الإسلام والإيمان ولم تكن الصحابة بذلك أنبياء والأول أظهر وعليه الأكثر. والله أعلم. الآية : 43 {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي أطيلي القيام في الصلاة ؛ عن مجاهد. قتادة : أديمي الطاعة. وقد تقدم القول في القنوت. قال الأوزاعي : لما قالت لها الملائكة ذلك قامت في الصلاة حتى ورمت (4/84) ________________________________________ قدماها وسالت دما وقيحا عليها السلام. {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} قدم السجود ها هنا على الركوع لأن الواو لا توجب الترتيب ؛ وقد تقدم الخلاف في هذا في البقرة عند قوله تعالى : {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة : 158]. فإذا قلت : قام زيد وعمرو جاز أن يكون عمرو قام قبل زيد ، فعلى هذا يكون المعنى واركعي واسجدي. وقيل : كان شرعهم السجود قبل الركوع. {مَعَ الرَّاكِعِينَ} قيل : معناه افعلي كفعلهم وإن لم تصلي معهم. وقيل : المراد به صلاة الجماعة. وقد تقدم في البقرة. الآية : 44 {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} فيه ابرع مسائل : الأولى- قوله تعالى : {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} أي الذي ذكرنا من حديث زكريا ويحيى ومريم عليهم السلام من أخبار الغيب. {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} فيه دلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر عن قصة زكريا ومريم ولم يكن قرأ الكتب ؛ وأخبر عن ذلك وصدقه أهل الكتاب بذلك ؛ فذلك قوله تعالى : {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} فرد الكناية إلى "ذلك" فلذلك ذكر. والإيحاء هنا الإرسال إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والوحي يكون إلهاما وإيماء وغير ذلك. وأصله في اللغة إعلام في خفاء ؛ ولذلك صار الإلهام يسمى وحيا ؛ ومنه {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} [المائدة : 111] وقوله : {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل : 68] وقيل : معنى {أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} أمرتهم ؛ يقال : وحى وأوحى ، ورمى وأرمى ، بمعناه. قال العجاج : أوحى لها القرار فاستقرت أي أمر الأرض بالقرار. وفي الحديث : "الوحي الوحي" وهو السرعة ؛ والفعل منه توحيت توحيا. قال ابن فارس : الوحي الإشارة والكتابة والرسالة ، وكل ما ألقيته إلى غيرك (4/85) ________________________________________ حتى يعلمه وحي كيف كان. والوحي : السريع. والوَحَى : الصَّوْت ؛ ويقال : استوحيناهم أي استصرخناهم. قال : أوحيت ميمونا لها والأزراق الثانية : -قوله تعالى : {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ} أي وما كنت يا محمد لديهم ، أي بحضرتهم وعندهم. {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ} جمع قلم ؛ من قلمه إذا قطعه. قيل : قداحهم وسهامهم. وقيل : أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة ، وهو أجود ؛ لأن الأزلام قد نهى الله عنها فقال {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة : 3]. إلا أنه يجوز أن يكونوا فعلوا ذلك على غير الجهة التي كانت عليها الجاهلية تفعلها. {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} أي يحضنها ، فقال زكريا : أنا أحق بها ، خالتها عندي. وكانت عنده أشيع بنت فاقود أخت حنة بنت فاقود أم مريم. وقال بنو إسرائيل : نحن أحق بها ، بنت عالمنا. فاقترعوا عليها وجاء كل واحد بقلمه ، واتفقوا أن يجعلوا الأقلام في الماء الجاري فمن وقف قلمه ولم يجره الماء فهو حاضنها. قال النبي صلى الله عليه وسلم : "فجرت الأقلام وعال قلم زكريا" . وكانت آية له ؛ لأنه نبي تجري الآيات على يديه. وقيل غير هذا. و {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} ابتداء وخبر في موضع نصب بالفعل المضمر الذي دل عليه الكلام ؛ التقدير : ينظرون أيهم يكفل مريم. ولا يعمل الفعل في لفظ "أي" لأنها استفهام. الثالثة : -استدل بعض علمائنا بهذه الآية على إثبات القرعة ، وهي أصل في شرعنا لكل من أراد العدل في القسمة ، وهي سنة عند جمهور الفقهاء في المستويين في الحجة ليعدل بينهم وتطمئن قلوبهم وترتفع الظنة عمن يتولى قسمتهم ، ولا يفضل أحد منهم على صاحبه إذا كان المقسوم من جنس واحد اتباعا للكتاب والسنة. ورد العمل بالقرعة أبو حنيفة وأصحابه ، وردوا الأحاديث الواردة فيها ، وزعموا أنها لا معنى لها وأنها تشبه الأزلام التي نهى الله عنها. وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة أنه جوزها وقال : القرعة في القياس لا تستقيم ، ولكنا تركنا القياس في ذلك وأخذنا بالآثار والسنة. قال أبو عبيد : وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء : يونس وزكريا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن المنذر. واستعمال القرعة (4/86) ________________________________________ كالإجماع من أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء ، فلا معنى لقول من ردها. وقد ترجم البخاري في آخر كتاب الشهادات "باب القرعة في المشكلات وقول الله عز وجل {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ} وساق حديث النعمان بن بشير : "مثل القائم على حدود الله والمُدْهِن فيها مثل قوم استهموا على سفينة..." الحديث. وسيأتي في "الأنفال" إن شاء الله تعالى ، وفي سورة "الزخرف" أيضا بحول الله سبحانه ، وحديث أم العلاء ، وأن عثمان بن مظعون طار لهم سهمه في السكنى حين اقترعت الأنصار سكنى المهاجرين ، الحديث ، وحديث عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها ؛ وذكر الحديث. وقد اختلفت الرواية عن مالك في ذلك ؛ فقال مرة : يقرع للحديث. وقال مرة : يسافر بأوفقهن له في السفر. وحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا" . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وكيفية القرعة مذكورة في كتب الفقه والخلاف. واحتج أبو حنيفة بأن قال : إن القرعة في شأن زكريا وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم كانت مما لو تراضوا عليه دون قرعة لجاز. قال ابن العربي : "وهذا ضعيف ، لأن القرعة إنما فائدتها استخراج الحكم الخفي عند التشاح ؛ فأما ما يخرجه التراضي فيه فباب آخر ، ولا يصح لأحد أن يقول : إن القرعة تجري مع موضع التراضي ، فإنها لا تكون أبدا مع التراضي" وإنما تكون فيما يَتَشَاحّ الناس فيه ويُضَن به. وصفة القرعة عند الشافعي ومن قال بها : أن تقطع رقاع صغار مستوية فيكتب في كل رقعة اسم ذي السهم ثم تجعل في بنادق طين مستوية لا تفاوت فيها ثم تجفف قليلا ثم تلقى في ثوب رجل لم يحضر ذلك ويغطي عليها ثوبه ثم يدخل ويخرج ، فإذا أخرج اسم رجل أعطي الجزء الذي أقرع عليه. (4/87)
| |
|