فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الخميس 3 فبراير - 17:12 | |
|
________________________________________ والرسوخ : الثبوت في الشيء ، وكل ثابت راسخ. وأصله في الأجرام أن يرسخ الجبل والشجر في الأرض ؛ قال الشاعر : لقد رسخت في الصدر مني مودة ... لليلى أبت آياتها أن تغيرا ورسخ الإيمان في قلب فلان يرسخ رسوخا. وحكى بعضهم : رسخ الغدير : نضب ماؤه ؛ حكاه ابن فارس فهو من الأضداد. ورَسَخ ورَضَخ ورَصُن ورسَب كله ثبت فيه. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الراسخين في العلم فقال : "هو من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه" . فإن قيل : كيف كان في القرآن متشابه والله يقول : {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل : 44] فكيف لم يجعله كله واضحا ؟ قيل له : الحكمة في ذلك - والله أعلم - أن يظهر فضل العلماء ؛ لأنه لو كان كله واضحا لم يظهر فضل بعضهم على بعض. وهكذا يفعل من يصنف تصنيفا يجعل بعضه واضحا وبعضه مشكلا ، ويترك للجثوة موضعا ؛ لأن ما هان وجوده قل بهاؤه. والله أعلم. قوله تعالى : {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فيه ضمير عائد على كتاب الله تعالى محكمه ومتشابهه ؛ والتقدير : كله من عند ربنا. وحذف الضمير لدلالة "كل" عليه ؛ إذ هي لفظة تقتضي الإضافة. ثم قال : {وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُولُوا الألْبَابَ} أي ما يقول هذا ويؤمن ويقف حيث وقف ويدع اتباع المتشابه إلا ذو لب ، وهو العقل. ولب كل شيء خالصه ؛ فلذلك قيل للعقل لب. و"أولو" جمع ذو. الآية : 8 {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} فيه مسألتان : الأولى - قوله تعالى : {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} في الكلام حذف تقديره يقولون. وهذا حكاية عن الراسخين. ويجوز أن يكون المعنى قل يا محمد ، ويقال : إزاغة القلب فساد (4/19) ________________________________________ وميل عن الدين ، أفكانوا يخافون وقد هدوا أن ينقلهم الله إلى الفساد ؟ فالجواب أن يكونوا سألوا إذ هداهم الله ألا يبتليهم بما يثقل عليهم من الأعمال فيعجزوا عنه ؛ نحو {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} [النساء : 66]. قال ابن كيسان : سألوا ألا يزيغوا فيزيغ الله قلوبهم ؛ نحو {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} " [الصف : 5] أي ثبتنا على هدايتك إذ هديتنا وألا نزيغ فنستحق أن تزيغ قلوبنا. وقيل : هو منقطع مما قبل ؛ وذلك أنه تعالى لما ذكر أهل الزيغ. عقب ذلك بأن علم عباده الدعاء إليه في ألا يكونوا من الطائفة الذميمة التي ذكرت هي وأهل الزيغ. وفي الموطأ عن أبي عبدالله الصنابحي أنه قال : قدمت المدينة في خلافة أبي بكر الصديق فصليت وراءه المغرب ، فقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة من قصار المفصل ، ثم قام في الثالثة ، فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه ، فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الآية {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} الآية. قال العلماء : قراءته بهذه الآية ضرب من القنوت والدعاء لما كان فيه من أمر أهل الردة. والقنوت جائز في المغرب عند جماعة من أهل العلم ، وفي كل صلاة أيضا إذا دهم المسلمين أمر عظيم يفزعهم ويخافون منه على أنفسهم. وروى الترمذي من حديث شهر بن حوشب قال : قلت لأم سلمة : يا أم المؤمنين ، ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك ؟ قالت : كان أكثر دعائه "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" . فقلت : يا رسول الله ، ما أكثر دعاءك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قال : "يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ" . فتلا معاذ {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} . قال : حديث حسن. وهذه الآية حجة على المعتزلة في قولهم : إن الله لا يضل العباد. ولو لم تكن الإزاغة من قبله لما جاز أن يدعى في دفع ما لا يجوز عليه فعله. وقرأ أبو واقد الجراح "لا تزغ قلوبنا" بإسناد الفعل إلى القلوب ، وهذه رغبة إلى الله تعالى. ومعنى الآية على القراءتين ألا يكون منك خلق الزيغ فيها فتزيغ. (4/20) ________________________________________ الثانية ـ قوله تعالى : {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} أي من عندك ومن قبلك تفضلا لا عن سبب منا ولا عمل. وفي هذا استسلام وتطارح. وفي "لدن" أربع لغات : لدن بفتح اللام وضم الدال وجزم النون ، وهي أفصحها ، وبفتح اللام وضم الدال وحذف النون ؛ وبضم اللام وجزم الدال وفتح النون ؛ وبفتح اللام وسكون الدال وفتح النون. ولعل جهال المتصوفة وزنادقة الباطنية يتشبثون بهذه الآية وأمثالها فيقولون : العلم ما وهبه الله ابتداء من غير كسب ، والنظر في الكتب والأوراق حجاب. وهذا مردود على ما يأتي بيانه في هذا الموضع. ومعنى الآية : هب لنا نعيماً صادراً عن الرحمة ، لأن الرحمة راجعة إلى صفة الذات فلا يتصور فيها الهبة. يقال : وَهب يَهَب والأصل يوهب بكسر الهاء. ومن قال : الأصل يوهب بفتح الهاء فقد أخطأ لأنه لو كان كما قال لم تحذف الواو كما لم تحذف في يَوْجَل. وإنما حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ثم فتح بعد حذفها لأن فيه حرفا من حروف الحلق. الآية : 9 {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} أي باعثهم ومحييهم بعد تفرقهم ، وفي هذا إقرار بالبعث ليوم القيامة. قال الزجاج : هذا هو التأويل الذي علمه الراسخون وأقروا به ، وخالف الذين اتبعوا ما تشابه عليهم من أمر البعث حتى أنكروه. والريب الشك ، وقد تقدمت محامله في البقرة. والميعاد مفعال من الوعد. الآية : 10 {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} معناه بَيِّن ، أي لن تدفع عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا. وقرأ السلمي "لن يغني" بالياء لتقدم الفعل ودخول الحائل بين الاسم والفعل. وقرأ الحسن "يُغْني" بالياء وسكون الياء الآخرة للتخفيف ؛ كقول الشاعر : (4/21) ________________________________________ كفى باليأس من أسماء كافي ... وليس لسقمها إذ طال شافي وكان حقه أن يقول كافيا ، فأرسل الياء. وأنشد الفراء في مثله : كأن أيديهن بالقاع القَرِقْ ... أيدي جوار يتعاطين الوَرِق القَرِقُ والقَرِقَة لغتان في القاع. و"من" في قوله "من الله" بمعنى عند ؛ قاله أبو عبيدة. {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} والوقود اسم للحطب ، وقد تقدم في "البقرة". وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف "وقود" بضم الواو على حذف مضاف تقديره حطب وقود النار. ويجوز في العربية إذا ضم الواو أن تقول أقود مثل أُقتت. والوقود بضم الواو المصدر ؛ وقدت النار تقد إذا اشتعلت. وخرج ابن المبارك من حديث العباس بن عبد المطلب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يظهر هذا الدين حتى يجاوز البحار وحتى تخاض البحار بالخيل في سبيل الله تبارك وتعالى ثم يأتي أقوام يقرؤون القرآن فإذا قرؤوه قالوا من أقرأ منا من أعلم منا ؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال : هل ترون في أولئكم من خير" ؟ قالوا لا. قال : "أولئك منكم وأولئك من هذه الأمة وأولئك هم وقود النار" . الآية : 11 {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} الدأب العادة والشأن. ودأب الرجل في عمله يدأب دأبا ودؤوبا إذا جد واجتهد ، وأدأبته أنا. وأدأب بعيره إذا جهده في السير. والدائبان الليل والنهار. قال أبو حاتم : وسمعت يعقوب يذكر "كدأب" بفتح الهمزة ، وقال لي وأنا غليم : على أي شيء يجوز "كدأب" ؟ فقلت له : أظنه من دَئِب يدْأَب دَأَبا. فقبل ذلك مني وتعجب من جودة تقديري على صغري ؛ ولا أدري أيقال أم لا. قال النحاس : "وهذا القول خطأ ، لا يقال (4/22) ________________________________________ البتة دَئِب ؛ وإنما يقال : دَأَب يدْأَب دُؤوبا ودَأْبا ؛ هكذا حكى النحويون ، منهم الفراء حكاه في كتاب المصادر ؛ كما قال امرؤ القيس : كدأبك من أم الحويرث قبلها ... وجارتها أم الرباب بمأسل فأما الدَّأَب فإنه يجوز ؛ كما يقال : شَعْر وشَعَر ونَهْر ونَهَر ؛ لأن فيه حرفا من "حروف الحلق". واختلفوا في الكاف ؛ فقيل : هي في موضع رفع تقديره دأبهم كدأب آل فرعون ، أي صنيع الكفار معك كصنيع آل فرعون مع موسى. وزعم الفراء أن المعنى : كفرت العرب ككفر آل فرعون. قال النحاس : لا يجوز أن تكون الكاف متعلقة بكفروا ، لأن كفروا داخلة في الصلة. وقيل : هي متعلقة بـ "أخذهم الله" ، أي أخذهم أخذا كما أخذ آل فرعون. وقيل : هي متعلقة بقوله {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ} [آل عمران : 10] أي لم تغن عنهم غناء كما لم تغن الأموال والأولاد عن آل فرعون. وهذا جواب لمن تخلف عن الجهاد وقال : شغلتنا أموالنا وأهلونا. ويصح أن يعمل فيه فعل مقدر من لفظ الوقود ، ويكون التشبيه في نفس الاحتراق. ويؤيد هذا المعنى "{وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [المؤمن : 46]. والقول الأول أرجح ، واختاره غير واحد من العلماء. قال ابن عرفة : {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} أي كعادة آل فرعون. يقول : اعتاد هؤلاء الكفرة الإلحاد والإعنات للنبي صلى الله عليه وسلم كما اعتاد آل فرعون من إعنات الأنبياء ؛ وقال معناه الأزهري. فأما قوله في سورة "الأنفال" {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} فالمعنى جوزي هؤلاء بالقتل والأسر كما جوزي آل فرعون بالغرق والهلاك. {بِآيَاتِنَا} يحتمل أن يريد الآيات المتلوة ، ويحتمل أن يريد الآيات المنصوبة للدلالة على الوحدانية. { فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} . (4/23) ________________________________________ الآية : 12 {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} يعني اليهود ، قال محمد بن إسحاق : لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا ببدر وقدم المدينة جمع اليهود فقال : "يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم فقد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم" ، فقالوا : يا محمد ، لا يغرنك أنك قتلت أقواما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس. فأنزل الله تعالى : {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} بالتاء يعني اليهود : أي تهزمون {وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ} في الآخرة. فهذه رواية عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس. وفي رواية أبي صالح عنه أن اليهود لما فرحوا بما أصاب المسلمين يوم أحد نزلت. فالمعنى على هذا {سَيَغْلِبُونَ} بالياء ، يعني قريشا ، "ويحشرون" بالياء فيهما ، وهي قراءة نافع. {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} يعني جهنم ؛ هذا ظاهر الآية. وقال مجاهد : المعنى بئس ما مهدوا لأنفسهم ، فكأن المعنى : بئس فعلهم الذي أداهم إلى جهنم. الآية : 13 {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ} قوله تعالى : {{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} أي علامة. وقال "كان" ولم يقل "كانت" لأن "آية" تأنيثها غير حقيقي. وقيل : ردها إلى البيان ، أي قد كان لكم بيان ؛ فذهب إلى المعنى وترك اللفظ ؛ كقول امرئ القيس : (4/24) ________________________________________ برهرهة رؤدة رخصة ... كخرعوبة البانة المنفطر ولم يقل المنفطرة ؛ لأنه ذهب إلى القضيب. وقال الفراء : ذكره لأنه فرق بينهما بالصفة ، فلما حالت الصفة بين الاسم والفعل ذكر الفعل. وقد مضى هذا المعنى في البقرة في قوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} [البقرة : 180] قوله تعالى : { فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا} يعني المسلمين والمشركين يوم بدر "فئة" قرأ الجمهور "فئة" بالرفع ، بمعنى إحداهما فئة. وقرأ الحسن ومجاهد "فئة" بالخفض "وأخرى كافرة" على البدل. وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب فيهما. قال أحمد بن يحيى : ويجوز النصب على الحال ، أي التقتا مختلفتين مؤمنة وكافرة. قال الزجاج : النصب بمعنى أعني. وسميت الجماعة من الناس فئة لأنها يفاء إليها ، أي يرجع إليها في وقت الشدة. وقال الزجاج : الفئة الفرقة ، مأخوذة من فَأَوْتُ رأسه بالسيف - ويقال : فأيته - إذا فلقته. ولا خلاف أن الإشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر. واختلف من المخاطب بها ؛ فقيل : يحتمل أن يخاطب بها المؤمنون ، ويحتمل أن يخاطب بها جميع الكفار ، ويحتمل أن يخاطب بها يهود المدينة ؛ وبكل احتمال منها قد قال قوم. وفائدة الخطاب للمؤمنين تثبيت النفوس وتشجيعها حتى يقدموا على مثليهم وأمثالهم كما قد وقع. قوله تعالى : {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ} قال أبو علي الرؤية في هذه الآية رؤية عين ؛ ولذلك تعدت إلى مفعول واحد. قال مكي والمهدوي : يدل عليه { رَأْيَ الْعَيْنِ} . وقرأ نافع "ترونهم" بالتاء والباقون بالياء. {مِثْلَيْهِمْ} نصب على الحال من الهاء والميم في "ترونهم". والجمهور من الناس على أن الفاعل بترون هم المؤمنون ، والضمير المتصل هو للكفار. وأنكر أبو عمرو أن يقرأ (4/25) ________________________________________ "ترونهم" بالتاء ؛ قال : ولو كان كذلك لكان مثليكم. قال النحاس" وذا لا يلزم ، ولكن يجوز أن يكون مثلي أصحابكم. قال مكي : "ترونهم" بالتاء جرى على الخطاب في "لكم" فيحسن أن يكون الخطاب للمسلمين ، والهاء والميم للمشركين. وقد كان يلزم من قرأ بالتاء أن يقرأ مثليكم بالكاف ، وذلك لا يجوز لمخالفة الخط ؛ ولكن جرى الكلام على الخروج من الخطاب إلى الغيبة ، كقوله تعالى : {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس : 22] ، وقوله تعالى : {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ} [الروم : 39] فخاطب ثم قال : {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم : 39] فرجع إلى الغيبة. فالهاء والميم في "مثليهم" يحتمل أن يكون للمشركين ، أي ترون أيها المسلمون المشركين مثلي ما هم عليه من العدد ؛ وهو بعيد في المعنى ؛ لأن الله تعالى لم يكثر المشركين في أعين المسلمين بل أعلمنا أنه قللهم في أعين المؤمنين ، فيكون المعنى ترون أيها المؤمنون المشركين مثليكم في العدد وقد كانوا ثلاثة أمثالهم ، فقلل الله المشركين في أعين المسلمين فأراهم إياهم مثلي عدتهم لتقوى أنفسهم ويقع التجاسر ، وقد كانوا أعلموا أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار ، وقلل المسلمين في أعين المشركين ليجترئوا عليهم فينفذ حكم الله فيهم. ويحتمل أن يكون الضمير في "مثليهم" للمسلمين ، أي ترون أيها المسلمون المسلمين مثلي ما أنتم عليه من العدد ، أي ترون أنفسكم مثلي عددكم ؛ فعل الله ذلك بهم لتقوى أنفسهم على لقاء المشركين. والتأويل الأول أولى ؛ يدل عليه قوله تعالى : {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} [الأنفال : 43] وقوله : {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} [الأنفال : 44] وروي عن ابن مسعود أنه قال : قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين ؟ قال : أظنهم مائة فلما أخذنا الأسارى أخبرونا أنهم كانوا ألفا. وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا : بل كثر الله عدد المؤمنين في عيون الكافرين حتى كانوا عندهم ضعفين. وضعف الطبري هذا القول. قال ابن عطية : وكذلك هو مردود من جهات. بل قلل الله المشركين في أعين المؤمنين كما تقدم. وعلى هذا التأويل كان يكون "ترون" للكافرين ، أي ترون أيها الكافرون المؤمنين مثليهم ، ويحتمل مثليكم ، على ما تقدم. وزعم الفراء أن المعنى (4/26) ________________________________________ ترونهم مثليهم ثلاثة أمثالهم. وهو بعيد غير معروف في اللغة. قال الزجاج : وهذا باب الغلط ، فيه غلط في جميع المقاييس ؛ لأنا إنما نعقل مثل الشيء مساويا له ، ونعقل مثله ما يساويه مرتين. قال ابن كيسان : وقد بين الفراء قوله بأن قال : كما تقول وعندك عبد : أحتاج إلى مثله ، فأنت محتاج إليه وإلى مثله. وتقول : أحتاج إلى مثليه ، فأنت محتاج إلى ثلاثة. والمعنى على خلاف ما قاله ، واللغة. والذي أوقع الفراء في هذا أن المشركين كانوا ثلاثة أمثال المؤمنين يوم بدر ؛ فتوهم أنه لا يجوز أن يكونوا يرونهم إلا على عدتهم ، وهذا بعيد وليس المعنى عليه. وإنما أراهم الله على غير عدتهم لجهتين : إحداهما أنه رأى الصلاح في ذلك ، لأن المؤمنين تقوى قلوبهم بذلك. والأخرى أنه آية للنبي صلى الله عليه وسلم. وسيأتي ذكر وقعة بدر إن شاء الله تعالى. وأما قراءة الياء فقال ابن كيسان : الهاء والميم في "يرونهم" عائدة على {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} والهاء والميم في "مثليهم" عائدة على {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهذا من الإضمار الذي يدل عليه سياق الكلام ، وهو قوله : {يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ} . فدل ذلك على أن الكافرين كانوا مثلي المسلمين في رأي العين وثلاثة أمثالهم في العدد. قال : والرؤية هنا لليهود. وقال مكي : الرؤية للفئة المقاتلة في سبيل الله ، والمرئية الفئة الكافرة ؛ أي ترى الفئة المقاتلة في سبيل الله الفئة الكافرة مثلي الفئة المؤمنة ، وقد كانت الفئة الكافرة ثلاثة أمثال المؤمنة فقللهم الله في أعينهم على ما تقدم. والخطاب في "لكم" لليهود. وقرأ ابن عباس وطلحة "تُروهم" بضم التاء ، والسلمي بالتاء المضمومة على ما لم يسم فاعله. {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ} تقدم معناه والحمد لله. الآية : 14 {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (4/27) ________________________________________ فيه إحدى عشرة مسألة : الأولى - قوله تعالى : {زُيِّنَ لِلنَّاسِ} زين من التزيين واختلف الناس من المزين ؛ فقالت فرقة : الله زين ذلك ؛ وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ذكره البخاري. وفي التنزيل : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا} [الكهف : 7] ؛ ولما قال عمر : الآن يا رب حين زينتها لنا! نزلت : {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} [آل عمران : 15] وقالت فرقة : المزين هو الشيطان ؛ وهو ظاهر قول الحسن ، فإنه قال : من زينها ؟ ما أحد أشد لها ذما من خالقها. فتزيين الله تعالى إنما هو بالإيجاد والتهيئة للانتفاع وإنشاء الجبلة على الميل إلى هذه الأشياء. وتزيين الشيطان إنما هو بالوسوسة والخديعة وتحسين أخذها من غير وجوهها. والآية على كلا الوجهين ابتداء وعظ لجميع الناس ، وفي ضمن ذلك توبيخ لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود وغيرهم. وقرأ الجمهور "زُيِّن" على بناء الفعل للمفعول ، ورفع "حُبُّ". وقرأ الضحاك ومجاهد "زَيَّن" على بناء الفعل للفاعل ، ونصب "حُبَّ" وحركت الهاء من "الشهوات" فرقا بين الاسم والنعت. والشهوات جمع شهوة وهي معروفة. ورجل شهوان للشيء ، وشيء شهي أي مشتهى واتباع الشهوات مرد وطاعتها مهلكة. وفي صحيح مسلم : "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات" رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفائدة هذا التمثيل أن الجنة لا تنال إلا بقطع مفاوز المكاره وبالصبر عليها. وأن النار لا ينجى منها إلا بترك الشهوات وفطام النفس عنها. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "طريق الجنة حزن بربوة وطريق النار سهل بسهوة..." ؛ وهو معنى قوله " حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات" . أي طريق الجنة صعبة المسلك فيه أعلى ما يكون من الروابي ، وطريق النار سهل لا غلظ فيه ولا وعورة ، وهو معنى قوله "سهل بسهوة" وهو بالسين المهملة. (4/28) ________________________________________ الثانية : -قوله تعالى : {مِنَ النِّسَاءِ} بدأ بهن لكثرة تشوف النفوس إليهن ؛ لأنهن حبائل الشيطان وفتنة الرجال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء" أخرجه البخاري ومسلم. ففتنة النساء أشد من جميع الأشياء. ويقال : في النساء فتنتان ، وفي الأولاد فتنة واحدة. فأما اللتان في النساء فإحداهما أن تؤدي إلى قطع الرحم ؛ لأن المرأة تأمر زوجها بقطعه عن الأمهات والأخوات. والثانية يبتلى بجمع المال من الحلال والحرام. وأما البنون فإن الفتنة فيهم واحدة وهو ما ابتلي بجمع المال لأجلهم. وروى عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تسكنوا نساءكم الغرف ولا تعلموهن الكتاب" . حذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن في إسكانهن الغرف تطلعا إلى الرجال ، وليس في ذلك تحصين لهن ولا ستر ؛ لأنهن قد يشرفن على الرجال فتحدث الفتنة والبلاء ، ولأنهن قد خلقن من الرجل ؛ فهمتها في الرجل والرجل خلق فيه الشهوة وجعلت سكنا له ؛ فغير مأمون كل واحد منهما على صاحبه. وفي تعلمهن الكتاب هذا المعنى من الفتنة وأشد. وفي كتاب الشهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم : "أعروا النساء يلزمن الحجال" . فعلى الإنسان إذا لم يصبر في هذه الأزمان أن يبحث عن ذات الدين ليسلم له الدين ؛ قال صلى الله عليه وسلم : "عليك بذات الدين تربت يداك" أخرجه مسلم عن أبي هريرة. وفي سنن ابن ماجة عن عبدالله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن ولكن تزوجوهن على الدين ولأمة سوداء خرماء ذات دين أفضل" . الثالثة : -قوله تعالى : {وَالْبَنِينَ} " عطف على ما قبله. وواحد من البنين ابن. قال الله تعالى مخبرا عن نوح : {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} وتقول في التصغير "بني" كما قال لقمان. وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأشعث بن قيس : "هل لك من ابنة حمزة من (4/29) ________________________________________ ولد" ؟ قال : نعم ، لي منها غلام ولوددت أن لي به جفنة من طعام أطعمها من بقي من بني جبلة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لئن قلت بذلك إنهم لثمرة القلوب وقرة الأعين وإنهم مع ذلك لمجبنة مبخلة محزنة" . قوله تعالى : {وَالْقَنَاطِيرِ} " القناطير جمع قنطار ، كما قال تعالى : {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} " [النساء : 20] وهو العقدة الكبيرة من المال ، وقيل : هو اسم للمعيار الذي يوزن به ؛ كما هو الرطل والربع. ويقال لما بلغ ذلك الوزن : هذا قنطار ، أي يعدل القنطار. والعرب تقول : قنطر الرجل إذا بلغ ماله أن يوزن بالقنطار. وقال الزجاج : القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه ؛ تقول العرب : قنطرت الشيء إذا أحكمته ؛ ومنه سميت القنطرة لإحكامها. قال طرفة : كقنطرة الرومي أقسم ربها ... لتكتنفن حتى تشاد بقرمد والقنطرة المعقودة ؛ فكأن القنطار عقد مال. واختلف العلماء في تحرير حده كم هو على أقوال عديدة ؛ فروى أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية" ؛ وقال بذلك معاذ بن جبل وعبدالله بن عمر وأبو هريرة وجماعة من العلماء. قال ابن عطية : وهو أصح الأقوال ، لكن القنطار على هذا يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية. وقيل : اثنا عشر ألف أوقية ؛ أسنده البستي في مسنده الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "القنطار اثنا عشر ألف أوقية الأوقية خير مما بين السماء والأرض" . وقال بهذا القول أبو هريرة أيضا. وفي مسند أبي محمد الدارمي عن أبي سعيد الخدري قال : "من قرأ في ليلة عشر آيات كتب من الذاكرين ، ومن قرأ بمائة آية كتب من القانتين ، ومن قرأ بخمسمائة آية إلى الألف أصبح وله قنطار من الأجر" قيل : (4/30) ________________________________________ وما القنطار ؟ قال : "ملء مسك ثور ذهبا". موقوف ؛ وقال به أبو نضرة العبدي. وذكر ابن سيده أنه هكذا بالسريانية. وقال النقاش عن ابن الكلبي أنه هكذا بلغة الروم. وقال ابن عباس والضحاك والحسن : ألف ومائتا مثقال من الفضة ؛ ورفعه الحسن. وعن ابن عباس : اثنا عشر ألف درهم من الفضة ، ومن الذهب ألف دينار دية الرجل المسلم ؛ وروى عن الحسن والضحاك. وقال سعيد بن المسيب : ثمانون ألفا. قتادة : مائة رطل من الذهب أو ثمانون ألف درهم من الفضة. وقال أبو حمزة الثمالي : القنطار بإفريقية والأندلس ثمانية آلاف مثقال من ذهب أو فضة. السدي : أربعة آلاف مثقال. مجاهد : سبعون ألف مثقال ؛ وروي عن ابن عمر. وحكى مكي قولا أن القنطار أربعون أوقية من ذهب أو فضة ؛ وقاله ابن سيده في المحكم ، وقال : القنطار بَرْبَرْ ألف مثقال. وقال الربيع بن أنس : القنطار المال الكثير بعضه على بعض ؛ وهذا هو المعروف عند العرب ، ومنه قوله : {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} أي مالا كثيرا. ومنه الحديث : "إن صفوان بن أمية قنطر في الجاهلية وقنطر أبوه" أي صار له قنطار من المال. وعن الحكم هو ما بين السماء والأرض. واختلفوا في معنى "المقنطرة" فقال الطبري وغيره : معناه المضعفة ، وكأن القناطير ثلاثة والمقنطرة تسع. وروى عن الفراء أنه قال : القناطير جمع القنطار ، والمقنطرة جمع الجمع ، فيكون تسع قناطير. السدي : المقنطرة المضروبة حتى صارت دنانير أو دراهم. مكي : المقنطرة المكملة ؛ وحكاه الهروي ؛ كما يقال : بدر مبدرة ، وآلاف مؤلفة. وقال بعضهم. ولهذا سمي البناء القنطرة لتكاثف البناء بعضه على بعض. ابن كيسان والفراء : لا تكون المقنطرة أقل من تسع قناطير. وقيل : المقنطرة إشارة إلى حضور المال وكونه عتيدا. وفي صحيح البستي عن عبدالله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ومن قام بألف آية كتب من المقنطِرين" . (4/31)
| |
|