فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الخميس 27 يناير - 14:30 | |
|
________________________________________ *3*الآية : 280 {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فيه تسع مسائل : الأولى : - قوله تعالى : {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} لما حكم جل وعز لأرباب الربا برؤوس أموالهم عند الواجدين للمال ، حكم في ذي العسرة بالنظرة إلى حال الميسرة ، وذلك أن ثقيفا لما طلبوا أموالهم التي لهم على بني المغيرة شكوا العسرة - يعني بني المغيرة - وقالوا : ليس لنا شيء ، وطلبوا الأجل إلى وقت ثمارهم ، فنزلت هذه الآية {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} . الثانية : - قوله تعالى : {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} مع قوله { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة : 279] يدل على ثبوت المطالبة لصاحب الدين على المدين وجواز أخذ ماله بغير رضاه. ويدل على أن الغريم متى امتنع من أداء الدين مع الإمكان كان ظالماً ، فإن الله تعالى يقول : { فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} فجعل له المطالبة برأس ماله. فإذا كان له حق المطالبة فعلى من عليه الدين لا محالة وجوب قضائه. الثالثة : - قال المهدوي وقال بعض العلماء : هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع مَنْ أعسر. وحكى مكي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به في صدر الإسلام. قال ابن عطية : فإن ثبت فعل النبي صلى الله عليه وسلم فهو نسخ وإلا فليس بنسخ. قال الطحاوي : كان الحر يباع في الدين أول الإسلام إذا لم يكن له مال يقضيه عن نفسه حتى نسخ الله ذلك فقال جل وعز : {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} . واحتجوا بحديث رواه الدارقطني من حديث مسلم بن خالد الزنجي أخبرنا زيد بن أسلم عن ابن البيلماني عن سرق قال : كان لرجل علي مال - أو قال دين - فذهب بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصب لي مالاً فباعني منه ، أو باعني له. أخرجه البزار بهذا الإسناد أطول منه. ومسلم بن خالد الزنجي وعبدالرحمن بن البيلماني لا يحتج بهما. وقال جماعة من أهل العلم : (3/371) ________________________________________ قوله تعالى : { فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} عامة في جميع الناس ، فكل من أعسر أنظر ، وهذا قول أبي هريرة والحسن وعامة الفقهاء. قال النحاس : وأحسن ما قيل في هذه الآية قول عطاء والضحاك والربيع بن خيثم. قال : هي لكل معسر ينظر في الربا والدين كله. فهذا قول يجمع الأقوال ، لأنه يجوز أن تكون ناسخة عامة نزلت في الربا ثم صار حكم غيره كحكمه. ولأن القراءة بالرفع بمعنىً وإن وقع ذو عسرة من الناس أجمعين. ولو كان في الربا خاصة لكان النصب الوجه ، بمعنى وإن كان الذي عليه الربا ذا عسرة. وقال ابن عباس وشريح : ذلك في الربا خاصة ، فأما الديون وسائر المعاملات فليس فيها نظرة بل يؤدي إلى أهلها أو يحبس فيه حتى يوفيه ، وهو قول إبراهيم. واحتجوا بقول الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء : 58] الآية. قال ابن عطية : فكان هذا القول يترتب إذا لم يكن فقر مدقع ، وأما مع العدم والفقر الصريح فالحكم هو النظرة ضرورة. الرابعة : - من كثرت ديونه وطلب غرماؤه مالهم فللحاكم أن يخلعه عن كل ماله ويترك له ما كان من ضرورته. روى ابن نافع عن مالك أنه لا يترك له إلا ما يواريه. والمشهور أنه يترك له كسوته المعتادة ما لم يكن فيها فضل ، ولا ينزع منه رداؤه إن كان ذلك مزرياً به. وفي ترك كسوة زوجته وفي بيع كتبه إن كان عالما خلاف. ولا يترك له مسكن ولا خادم ولا ثوب جمعة ما لم تقل قيمتها ، وعند هذا يحرم حبسه. والأصل في هذا قوله تعالى : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} . روى الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري قال : أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تصدقوا عليه" فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه : "خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك". وفي مصنف أبى داود : فلم يزد رسول الله صلى الله عليه وسلم غرماءه على أن خلع لهم ماله. وهذا نص ، فلم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحبس الرجل ، وهو معاذ بن جبل كما قال شريح ، ولا بملازمته ، خلافا لأبي حنيفة فإنه قال : يلازم لإمكان أن يظهر له مال ، ولا يكلف أن يكتسب لما ذكرنا. وبالله توفيقنا. (3/372) ________________________________________ الخامسة : - ويحبس المفلس في قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم حتى يتبين عدمه. ولا يحبس عند مالك إن لم يتهم أنه غيب ماله ولم يتبين لدده. وكذلك لا يحبس إن صح عسره على ما ذكرنا. السادسة : - فإن جمع مال المفلس ثم تلف قبل وصوله إلى أربابه وقبل البيع ، فعلى المفلس ضمانه ، ودين الغرماء ثابت في ذمته. فإن باع الحاكم ماله وقبض ثمنه ثم تلف الثمن قبل قبض الغرماء له ، كان عليهم ضمانه وقد برئ المفلس منه. وقال محمد بن عبدالحكم : ضمانه من المفلس أبدا حتى يصل إلى الغرماء. السابعة : - العسرة ضيق الحال من جهة عدم المال ، ومنه جيش العسرة. والنظرة التأخير. والميسرة مصدر بمعنى اليسر. وارتفع "ذو" بكان التامة التي بمعنى وجد وحدث ، هذا قول سيبويه وأبى علي وغيرهما. وأنشد سيبويه : فدىً لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... إذا كان يوم ذو كواكب أشهب ويجوز النصب. وفي مصحف أبي بن كعب "وإن كان ذا عسرة" على معنى وإن كان المطلوب ذا عسرة. وقرأ الأعمش "وإن كان معسراً فنظرة". قال أبو عمرو الداني عن أحمد بن موسى : وكذلك في مصحف أبي بن كعب. قال النحاس ومكي والنقاش : وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا ، وعلى من قرأ "ذو" فهي عامة في جميع من عليه دين ، وقد تقدم. وحكى المهدوي أن في مصحف عثمان "فإن كان - بالفاء - ذو عسرة". وروى المعتمر عن حجاج الوراق قال : في مصحف عثمان "وإن كان ذا عسرة" ذكره النحاس. وقراءة الجماعة "نظرة" بكسر الظاء. وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن "فنظرة" بسكون الظاء ، وهي لغة تميمية وهم الذين يقولون : في كَرْم زيد بمعنى كَرَم زيد ، ويقولون كبْد في كبِد. وقرأ نافع (3/373) ________________________________________ وحده "ميسرة" بضم السين ، والجمهور بفتحها. وحكى النحاس عن مجاهد وعطاء "فناظره - على الأمر - إلى ميسر هي" بضم السين وكسر الراء وإثبات الياء في الإدراج. وقرئ "فناظرة" قال أبو حاتم لا يجوز فناظرة ، إنما ذلك في "النمل" لأنها امرأة تكلمت بهذا لنفسها ، من نظرت تنظر فهي ناظرة ، وما في "البقرة" فمن التأخير ، من قولك : أنظرتك بالديْن ، أي أخرتك به. ومنه قوله : { أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف : 14] وأجاز ذلك أبو إسحاق الزجاج وقال : هي من أسماء المصادر ، كقوله تعالى : { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة : 2]. وكقوله تعالى : {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } [القيامة : 25] وكـ { خَائِنَةَ الأَعْيُنِ} [المؤمن : 19] وغيره. الثامنة : - قوله تعالى : {وَأَنْ تَصَدَّقُوا} ابتداء ، وخبره "خير". ندب الله تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعسر وجعل ذلك خيرا من إنظاره ، قاله السدي وابن زيد والضحاك. وقال الطبري : وقال آخرون : معنى الآية وأن تصدقوا على الغني والفقير خير لكم. والصحيح الأول ، وليس في الآية مدخل للغني. التاسعة : - روى أبو جعفر الطحاوي عن بريدة بن الخصيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أنظر معسرا كان له بكل يوم صدقة" ثم قلت : بكل يوم مثله صدقة ، قال فقال : "بكل يوم صدقة ما لم يحل الدين فإذا أنظره بعد الحل فله بكل يوم مثله صدقة" . وروى مسلم عن أبي مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسرا فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر قال : قال الله عز وجل نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه". وروي عن أبي قتادة أنه طلب غريما له فتوارى عنه ثم وجده فقال : إني معسر. فقال : آلله ؟ قال : ألله. قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه" ، وفي حديث أبي اليسر الطويل - واسمه (3/374) ________________________________________ كعب بن عمرو - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله ". ففي هذه الأحاديث من الترغيب ما هو منصوص فيها. وحديث أبي قتادة يدل على أن رب الدين إذا علم عسرة غريمه أو ظنها حرمت عليه مطالبته ، وإن لم تثبت عسرته عند الحاكم. وإنظار المعسر تأخيره إلى أن يوسر. والوضع عنه إسقاط الدين عن ذمته. وقد جمع المعنيين أبو اليسر لغريمه حيث محا عنه الصحيفة وقال له : إن وجدت قضاء فاقض وإلا فأنت في حل. *3*الآية : 281 { وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} قيل : إن هذه الآية نزلت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بتسع ليال ثم لم ينزل بعدها شيء ، قاله ابن جريج. وقال ابن جبير ومقاتل : بسبع ليال. وروي بثلاث ليال. وروي أنها نزلت قبل موته بثلاث ساعات ، وأنه عليه السلام قال : "اجعلوها بين آية الربا وآية الدين ". وحكى مكي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "جاءني جبريل فقال اجعلها على رأس مائتين وثمانين آية". قلت : وحكي عن أبي كعب وابن عباس وقتادة أن آخر ما نزل : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة : 128] إلى آخر الآية. والقول الأول أعرف وأكثر وأصح وأشهر. ورواه أبو صالح عن ابن عباس قال : آخر ما نزل من القرآن {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم "يا محمد ضعها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة". ذكره أبو بكر الأنباري في "كتاب الرد" له ، وهو قول ابن عمر رضي الله عنه أنها آخر ما نزل ، وأنه عليه السلام عاش بعدها أحدا وعشرين يوما ، على ما يأتي بيانه في آخر سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر : 1] إن شاء تعالى. والآية وعظ لجميع (3/375) ________________________________________ الناس وأمر يخص كل إنسان. و"يوما" منصوب على المفعول لا على الظرف. {تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} من نعته. وقرأ أبو عمرو بفتح التاء وكسر الجيم ، مثل {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية : 25] واعتبارا بقراءة أبي "يوما تصيرون فيه إلى الله". والباقون بضم التاء وفتح الجيم ، مثل {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ} [الأنعام : 62]. {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي} [الكهف : 36] واعتبارا بقراءة عبدالله "يوما تردون فيه إلى الله" وقرأ الحسن "يرجعون" بالياء ، على معنى يرجع جميع الناس. قال ابن جني : كأن الله تعالى رفق بالمؤمنين على أن يواجههم بذكر الرجعة ، إذ هي مما ينفطر لها القلوب فقال لهم : {واتقوا يوما} ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة رفقا بهم. وجهور العلماء على أن هذا اليوم المحذر منه هو يوم القيامة والحساب والتوفية. وقال قوم : هو يوم الموت. قال ابن عطية : والأول أصح بحكم الألفاظ في الآية. وفي قوله "إلى الله" مضاف محذوف ، تقديره إلى حكم الله وفصل قضائه. "وهم" رد على معنى "كل" لا على اللفظ ، إلا على قراءة الحسن "يرجعون" فقوله "وهم" رد على ضمير الجماعة في "يرجعون". وفي هذه الآية نص على أن الثواب والعقاب متعلق بكسب الأعمال ، وهو رد على الجبرية ، وقد تقدم. *3*الآية : 282 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ (3/376) ________________________________________ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فيه اثنتان وخمسون مسالة : الأولى : - قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ} الآية. قال سعيد بن المسيب : بلغني أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين. وقال ابن عباس : هذه الآية نزلت في السلم خاصة. معناه أن سلم أهل المدينة كان سبب الآية ، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعا. وقال ابن خويز منداد : إنها تضمنت ثلاثين حكما. وقد استدل بها بعض علمائنا على جواز التأجيل في القروض ، على ما قال مالك ، إذ لم يفصل بين القرض وسائر العقود في المداينات. وخالف في ذلك الشافعية وقالوا : الآية ليس فيها جواز التأجيل في سائر الديون ، وإنما فيها الأمر بالإشهاد إذا كان دَيْناً مؤجلا ، ثم يعلم بدلالة أخرى جواز التأجيل في الدين وامتناعه. الثانية : - قوله تعالى : {دَيْنٍ} تأكيد مثل قوله {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام : 38]. { فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر : 30]. وحقيقة الدين عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا والآخر في الذمة نسيئة ، فإن العين عند العرب ما كان حاضرا ، والدين ما كان غائبا ، قال الشاعر : وعدتنا بدرهمينا طلاء ... وشواء معجلا غير دين وقال آخر : لترم بي المنايا حيث شاءت ... إذا لم ترم بي في الحفرتين إذا ما أوقدوا حطبا ونارا ... فذاك الموت نقدا غير دين وقد بين الله تعالى هذا المعنى بقوله الحق {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} (3/377) ________________________________________ الثالثة : قوله تعالى : {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} قال ابن المنذر : دل قول الله {إلى أجل مسمى} على أن السلم إلى الأجل المجهول غير جائز ، ودلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على مثل معنى كتاب الله تعالى. ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يستلفون في الثمار السنتين والثلاث ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" رواه ابن عباس. أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. وقال ابن عمر : كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حَبَل الحَبَلة. وحبل الحبلة : أن تنتج الناقة ثم تحمل التي نتجت. فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم الجائز أن يسلم الرجل إلى صاحبه في طعام معلوم موصوف ، من طعام أرض عامة لا يخطئ مثلها. بكيل معلوم ، إلى أجل معلوم بدنانير أو دراهم معلومة ، يدفع ممن ما أسلم فيه قبل أن يفترقا من مقامهما الذي تبايعا فيه ، وسميا المكان الذي يقبض فيه الطعام. فإذا فعلا ذلك وكان جائز الأمر كان سلما صحيحا لا أعلم أحدا من أهل العلم يبطله. قلت : وقال علماؤنا : إن السلم إلى الحصاد والجذاذ والنيروز والمهرجان جائز ، إذ ذاك يختص بوقت وزمن معلوم. الرابعة : حدّ علماؤنا رحمة الله عليهم السلم فقالوا : هو بيع معلوم في الذمة محصور بالصفة بعين حاضرة أو ما هو في حكمها إلى أجل معلوم. فتقييده بمعلوم في الذمة يفيد التحرز من المجهول ، ومن السلم في الأعيان المعينة ، مثل الذي كانوا يستلفون في المدينة حين قدم عليهم النبي عليه السلام فإنهم كانوا يستلفون في ثمار نخيل بأعيانها ، فنهاهم عن ذلك لما فيه من الغرر ، إذ قد تخلف تلك الأشجار فلا تثمر شيئا. وقولهم [محصور بالصفة] تحرز عن المعلوم على الجملة دون التفصيل ، كما لو أسلم في تمر أو ثياب أو حيتان ولم يبين نوعها ولا صفتها المعينة. وقولهم [بعين حاضرة] تحرز من الدين بالدين. وقولهم [أو ما هو في حكمها] تحرز من اليومين والثلاثة التي يجوز تأخير رأس مال السلم إليه ، فإنه يجوز تأخيره عندنا ذلك القدر ، بشرط (3/378) ________________________________________ وبغير شرط لقرب ذلك ، ولا يجوز اشتراطه عليها. ولم يجز الشافعي ولا الكوفي تأخير رأس مال السلم عن العقد والافتراق ، ورأوا أنه كالصرف. ودليلنا أن البابين مختلفان بأخص أوصافهما ، فإن الصرف بابه ضيق كثرت فيه الشروط بخلاف السلم فإن شوائب المعاملات عليه أكثر. والله أعلم. وقولهم " إلى أجل معلوم " تحرز من السلم الحال فإنه لا يجوز على المشهور وسيأتي. ووصف الأجل بالمعلوم تحرز من الأجل المجهول الذي كانوا في الجاهلية يسلمون إليه. الخامسة : - السلم والسلف عبارتان عن معنى واحد وقد جاءا في الحديث ، غير أن الاسم الخاص بهذا الباب [السَّلم] لأن السلف يقال على القرض. والسلم بيع من البيوع الجائزة بالاتفاق ، مستثنى من نهيه عليه السلام عن بيع ما ليس عندك. وأرخص في السلم ، لأن السلم لما كان بيع معلوم في الذمة كان بيع غائب تدعو إليه ضرورة كل واحد من المتابعين ، فإن صاحب رأس المال محتاج إلى أن يشتري الثمرة ، وصاحب الثمرة محتاج إلى ثمنها قبل إبانها لينفقه عليها ، فظهر أن بيع السلم من المصالح الحاجية ، وقد سماه الفقهاء بيع المحاويج ، فإن جاز حالا بطلت هذه الحكمة وارتفعت هذه المصلحة ، ولم يكن لاستثنائه من بيع ما ليس عندك فائدة. والله أعلم. السادسة : - في شروط السلم المتفق عليها والمختلف فيها وهي تسعة : ستة في المُسْلَم فيه ، وثلاثة في رأس مال السلم. أما الستة التي في المسلم فيه فأن يكون في الذمة ، وأن يكون موصوفا ، وأن يكون مقدرا ، وأن يكون مؤجلا ، وأن يكون الأجل معلوما ، وأن يكون موجودا عند محل الأجل. وأما الثلاثة التي في رأس مال السلم فأن يكون معلوم الجنس ، مقدرا ، نقدا. وهذه الشروط الثلاثة التي في رأس المال متفق عليها إلا النقد حسب ما تقدم. قال ابن العربي : وأما الشرط الأول وهو أن يكون في الذمة فلا إشكال في أن المقصود منه كونه في الذمة ، لأنه مداينة ، ولولا ذلك لم يشرع دينا ولا قصد الناس إليه ربحا ورفقا. وعلى ذلك القول اتفق الناس. بيد أن مالكا قال : لا يجوز السلم في المعين إلا بشرطين : (3/379) ________________________________________ أحدهما أن يكون قرية مأمونة ، والثاني أن يشرع في أخذه كاللبن من الشاة والرطب من النخلة ، ولم يقل ذلك أحد سواه. وهاتان المسألتان صحيحتان في الدليل ، لأن التعيين امتنع في السلم مخافة المزابنة والغرر ، لئلا يتعذر عند المحل. وإذا كان الموضع مأمونا لا يتعذر وجود ما فيه في الغالب جاز ذلك ، إذ لا يتيقن ضمان العواقب على القطع في مسائل الفقه ، ولا بد من احتمال الغرر اليسير ، وذلك كثير في مسائل الفروع ، تعدادها في كتب المسائل. وأما السلم في اللبن والرطب مع الشروع في أخذه فهي مسألة مدنية اجتمع عليها أهل المدينة ، وهي مبنية على قاعدة المصلحة ، لأن المرء يحتاج إلى أخذ اللبن والرطب مياومة ويشق أن يأخذ كل يوم ابتداء ، لأن النقد قد لا يحضره ولأن السعر قد يختلف عليه ، وصاحب النخل واللبن محتاج إلى النقد ، لأن الذي عنده عروض لا يتصرف له. فلما اشتركا في الحاجة رخص لهما في هذه المعاملة قياسا على العرايا وغيرها من أصول الحاجات والمصالح. وأما الشرط الثاني وهو أن يكون موصوفا فمتفق عليه ، وكذلك الشرط الثالث. والتقدير يكون من ثلاثة أوجه : الكيل ، والوزن ، والعدد ، وذلك ينبني على العرف ، وهو إما عرف الناس وإما عرف الشرع. وأما الشرط الرابع وهو أن يكون مؤجلا فاختلف فيه ، فقال الشافعي : يجوز السلم الحال ، ومنعه الأكثر من العلماء. قال ابن العربي : واضطربت المالكية في تقدير الأجل حتى ردوه إلى يوم ، حتى قال بعض علمائنا : السلم الحال جائز. والصحيح أنه لا بد من الأجل فيه ، لأن المبيع على ضربين : معجل وهو العين ، ومؤجل. فإن كان حالا ولم يكن عند المسلم إليه فهو من باب : بيع ما ليس عندك ، فلا بد من الأجل حتى يخلص كل عقد على صفته وعلى شروطه ، وتتنزل الأحكام ، الشرعية منازلها. وتحديده عند علمائنا مدة تختلف الأسواق في مثلها. وقول الله تعالى {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} وقوله عليه السلام : "إلى أجل معلوم" يغني عن قول كل قائل. قلت : الذي أجازه علماؤنا من السلم الحال ما تختلف فيه البلدان من الأسعار ، فيجوز السلم فيما كان بينه وبينه يوم أو يومان أو ثلاثة. فأما في البلد الواحد فلا ، لأن سعره واحد ، (3/380) ________________________________________ والله أعلم. وأما الشرط الخامس وهو أن يكون الأجل معلوما فلا خلاف فيه بين الأمة ، لوصف الله تعالى ونبيه الأجل بذلك. وانفرد مالك دون الفقهاء بالأمصار بجواز البيع إلى الجذاذ والحصاد ، لأنه رآه معلوما. وقد مضى القول في هذا عند قوله تعالى { يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} [البقرة : 189]. وأما الشرط السادس وهو أن يكون موجودا عند المحل فلا خلاف فيه بين الأمة أيضا ، فإن انقطع المبيع عند محل الأجل بأمر من الله تعالى انفسخ العقد عند كافة العلماء. السابعة : - ليس من شرط السلم أن يكون المسلم إليه مالكا للمسلم فيه خلافا لبعض السلف ، لما رواه البخاري عن محمد بن المجالد قال : بعثني عبدالله بن شداد وأبو بردة إلى عبدالله بن أبي أوفى فقالا : سله هل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يسلفون في الحنطة ؟ فقال عبدالله : كنا نسلف نبيط أهل الشام في الحنطة والشعير والزيت في كيل معلوم إلى أجل معلوم. قلت : إلى من كان أصله عنده ؟ قال : ما كنا نسألهم عن ذلك. ثم بعثاني إلى عبدالرحمن بن أبزى فسألته فقال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسلفون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم نسألهم ألهم حرث أم لا ؟ وشرط أبو حنيفة وجود المسلم فيه من حين العقد إلى حين الأجل ، مخافة أن يطلب المسلم فيه فلا يوجد فيكون ذلك غررا ، وخالفه سائر الفقهاء وقالوا : المراعى وجوده عند الأجل. وشرط الكوفيون والثوري أن يذكر موضع القبض فيما له حمل ومؤونة وقالوا : السلم فاسد إذا لم يذكر موضع القبض. وقال الأوزاعي : هو مكروه. وعندنا لو سكتوا عنه لم يفسد العقد ، ويتعين موضع القبض ، وبه قال أحمد وإسحاق وطائفة من أهل الحديث ، لحديث ابن عباس فإنه ليس فيه ذكر المكان الذي يقبض فيه السلم ، ولو كان من شروطه لبينه النبي صلى الله عليه وسلم كما بين الكيل والوزن والأجل ، ومثله ابن أبي أوفى. (3/381) ________________________________________ الثامنة : - روى أبو داود عن سعد - يعني الطائي - عن عطية بن سعد عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره". قال أبو محمد عبدالحق بن عطية : هو العوفي ولا يحتج أحد بحديثه ، وإن كان الأجلة قد رووا عنه. قال مالك : الأمر عندنا فيمن أسلف في طعام بسعر معلوم إلى أجل مسمى فحل الأجل فلم يجد المبتاع عند البائع وفاء مما ابتاعه منه فأقاله ، إنه لا ينبغي له أن يأخذ منه إلا ورقه أو ذهبه أو الثمن الذي دفع إليه بعينه ، وأنه لا يشتري منه بذلك الثمن شيئا حتى يقبضه منه ، وذلك أنه إذا أخذ غير الثمن الذي دفع إليه أو صرفه في سلعة غير الطعام الذي ابتاع منه فهو بيع الطعام قبل أن يستوفى. قال مالك : وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل أن يستوفى. قوله تعالى : { فَاكْتُبُوهُ} يعني الدين والأجل. ويقال : أمر بالكتابة ولكن المراد الكتابة والإشهاد ، لأن الكتابة بغير شهود لا تكون حجة. ويقال : أمرنا بالكتابة لكيلا ننسى. وروى أبو داود الطيالسي في مسنده عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} إلى آخر الآية : " إن أول من جحد آدم عليه السلام إن الله أراه ذريته فرأى رجلا أزهر ساطعا نوره فقال يا رب من هذا قال : هذا ابنك داود ، قال : يا رب فما عمره ؟ قال : ستون سنة ، قال : يا رب زده في عمره ! فقال : لا إلا أن تزيده من عمرك ، قال : وما عمري ؟ قال : ألف سنة ، قال آدم فقد وهبت له أربعين سنة ، قال : فكتب الله عليه كتابا وأشهد عليه ملائكته فلما حضرته الوفاة جاءته الملائكة ، قال : إنه بقي من عمري أربعون سنة ، قالوا : إنك قد وهبتها لابنك داود ، قال : ما وهبت لأحد شيئا ، فأخرج الله تعالى الكتاب وشهد عليه ملائكته - في رواية : وأتم لداود مائة سنة ولآدم عمره ألف سنة ". خرجه الترمذي أيضا. وفي قوله "فاكتبوه" إشارة ظاهرة إلى أنه يكتبه بجميع صفته المبينة له (3/382) ________________________________________ المعربة عنه ، للاختلاف المتوهم بين المتعاملين ، المعرفة للحاكم ما يحكم به عند ارتفاعهما إليه. والله أعلم. العاشرة : - ذهب بعض الناس إلى أن كتب الديون واجب على أربابها ، فرض بهذه الآية ، بيعا كان أو قرضا ، لئلا يقع فيه نسيان أو جحود ، وهو اختيار الطبري. وقال ابن جريج : من ادّان فليكتب ، ومن باع فليشهد. وقال الشعبي : كانوا يرون أن قوله { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [البقرة : 283] ناسخ لأمره بالكتب. وحكى نحوه ابن جريج ، وقاله ابن زيد ، وروي عن أبي سعيد الخدري. وذهب الربيع إلى أن ذلك واجب بهذه الألفاظ ، ثم خففه الله تعالى بقوله : {فإن أمن بعضكم بعضا}. وقال الجمهور : الأمر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال وإزالة الريب ، وإذا كان الغريم تقيا فما يضره الكتاب ، وإن كان غير ذلك فالكتاب ثقاف في دينه وحاجة صاحب الحق. قال بعضهم : إن أشهدت فحزم ، وإن ائتمنت ففي حل وسعة. ابن عطية : وهذا هو القول الصحيح. ولا يترتب نسخ في هذا ، لأن الله تعالى ندب إلى الكتاب فيما للمرء أن يهبه ويتركه بإجماع ، فندبه إنما هو على جهة الحيطة للناس. الحادية عشرة : قوله تعالى : {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ} قال عطاء وغيره : واجب على الكاتب أن يكتب ، وقاله الشعبي ، وذلك إذا لم يوجد كاتب سواه فواجب عليه أن يكتب. السدي : واجب مع الفراغ. وحذفت اللام من الأول وأثبتت في الثاني ، لأن الثاني غائب والأول للمخاطب. وقد ثبتت في المخاطب ، ومنه قوله تعالى : { فلتفرحوا} بالتاء. وتحذف في الغائب ، ومنه : محمد تفد نفسك كل نفس ... إذا ما خفت من شيء تبالا الثانية عشرة : - قوله تعالى : {بِالْعَدْلِ} أي بالحق والمعدلة ، أي لا يكتب لصاحب الحق أكثر مما قاله ولا أقل. وإنما قال "بينكم " ولم يقل أحدكم ، لأنه لما كان الذي له الدين يتهم في الكتابة الذي عليه الدين وكذلك بالعكس شرع الله سبحانه كاتبا غيرهما يكتب بالعدل لا يكون في قلبه ولا قلمه موادة لأحدهما على الآخر. وقيل : إن الناس لما كانوا يتعاملون (3/383) ________________________________________ حتى لا يشذ أحدهم عن المعاملة ، وكان منهم من يكتب ومن لا يكتب ، أمر الله سبحانه أن يكتب بينهم كاتب بالعدل. الثالثة عشرة : - الباء في قوله تعالى "بالعدل" متعلقة بقوله : "وليكتب" وليست متعلقة بـ "كاتب" لأنه كان يلزم ألا يكتب وثيقة إلا العدل في نفسه ، وقد يكتبها الصبي والعبد والمتحوط إذا أقاموا فقهها. أما المنتصبون لكتبها فلا يجوز للولاة أن يتركوهم إلا عدولا مرضيين. قال مالك رحمه الله تعالى : لا يكتب الوثائق بين الناس إلا عارف بها عدل في نفسه مأمون ، لقوله تعالى : {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} . قلت : فالباء على هذا متعلقة بـ "كاتب" أي ليكتب بينكم كاتب عدل ، فـ "بالعدل" في موضع الصفة. الرابعة عشرة : - قوله تعالى : {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ} نهى الله الكاتب عن الإباء ، واختلف الناس في وجوب الكتابة على الكاتب والشهادة على الشاهد ، فقال الطبري والربيع : واجب على الكاتب إذا أمر أن يكتب. وقال الحسن : ذلك واجب عليه في الموضع الذي لا يقدر على كاتب غيره ، فيضر صاحب الدين إن امتنع ، فإن كان كذلك فهو فريضة ، وإن قدر على كاتب غيره فهو في سعة إذا قام به غيره. السدي : واجب عليه في حال فراغه ، وقد تقدم. وحكى المهدوي عن الربيع والضحاك أن قوله "ولا يأب" منسوخ بقوله : {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} . قلت : هذا يتمشى على قول من رأى أو ظن أنه قد كان وجب في الأول على كل من اختاره المتبايعان أن يكتب ، وكان لا يجوز له أن يمتنع حتى نسخه قوله تعالى : { وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} .وهذا بعيد ، فإنه لم يثبت وجوب ذلك على كل من أراده المتبايعان كائنا من (3/384) ________________________________________ كان. ولو كانت الكتابة واجبة ما صح الاستئجار بها ، لأن الإجارة على فعل الفروض باطلة ، ولم يختلف العلماء في جواز أخذ الأجرة على كتب الوثيقة. ابن العربي : والصحيح أنه أمر إرشاد فلا يكتب حتى يأخذه حقه. وأبى يأبى شاذ ، ولم يجئ إلا قلى يقلى وأبى يأبى وغسى يغسى وجبى الخراج يجبى ، وقد تقدم. الخامسة عشرة : - قوله تعالى : { كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} الكاف في "كما" متعلقة بقوله "أن يكتب" المعنى كتبا كما علمه الله. ويحتمل أن تكون متعلقة بما في قوله "ولا يأب" من المعنى ، أي كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة فلا يأب هو وليفضل كما أفضل الله عليه. ويحتمل أن يكون الكلام على هذا المعنى تاما عند قوله "أن يكتب" ثم يكون "كما علمه الله" ابتداء كلام ، وتكون الكاف متعلقة بقوله {فَلْيَكْتُبْ}. السادسة عشرة : - قوله تعالى : {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} وهو المديون المطلوب يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه. والإملاء والإملال لغتان ، أملّ وأملى ، فأمل لغة أهل الحجاز وبني أسد ، وتميم تقول : أمليت. وجاء القرآن باللغتين ، قال عز وجل : {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان : 5]. والأصل أمللت ، أبدل من اللام ياء لأنه أخف. فأمر الله تعالى الذي عليه الحق بالإملاء ، لأن الشهادة إنما تكون بسبب إقراره. وأمره تعالى بالتقوى فيما يمل ، ونهى عن أن يبخس شيئا من الحق. والبخس النقص. ومن هذا المعنى قوله تعالى : {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة : 228]. السابعة عشرة : - قوله تعالى : {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً} قال بعض الناس : أي صغيرا. وهو خطأ فإن السفيه قد يكون كبيرا على ما يأتي بيانه. {أَوْ ضَعِيفاً} أي كبيرا لا عقل له. {أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ} جعل الله الذي عليه الحق أربعة أصناف : مستقل بنفسه يمل ، وثلاثة أصناف لا يملون وتقع نوازلهم في كل زمن ، وكون الحق يترتب لهم في جهات سوى المعاملات كالمواريث إذا قسمت وغير ذلك ، وهم السفيه والضعيف والذي لا يستطيع أن يمل. فالسفيه المهلهل الرأي في المال الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء (3/385) ________________________________________ منها ، مشبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج. والبذيء اللسان يسمى سفيها ، لأنه لا تكاد تتفق البذاءة إلا في جهال الناس وأصحاب العقول الخفيفة. والعرب تطلق السفه على ضعف العقل تارة وعلى ضعف البدن أخرى ، قال الشاعر : نخاف أن تسفه أحلامنا ... ويجهل الدهر مع الحالم وقال ذو الرمة : مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم أي استضعفها واستلانها فحركها. وقد قالوا : الضعف بضم الضاد في البدن وبفتحها في الرأي ، وقيل : هما لغتان. والأول أصح ، لما روى أبو داود عن أنس بن مالك أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان يبتاع وفي عقله ضعف فأتى أهله نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا نبي الله ، احجر على فلان فإنه يبتاع وفي عقله ضعف. فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه عن البيع ، فقال : يا رسول الله ، إني لا أصبر عن البيع ساعة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن كنت غير تارك البيع فقل ها وها ولا خلابة" وأخرجه أبو عيسى محمد بن عيسى السلمي الترمذي من حديث أنس وقال : هو صحيح ، وقال : إن رجلا كان في عقله ضعف ، وذكر الحديث. وذكره البخاري في التاريخ وقال فيه : " إذا بايعت فقل لا خلابة وأنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال ". وهذا الرجل هو حبان بن منقذ بن عمرو الأنصاري والد يحيى وواسع ابني حبان : وقيل : وهو منقذ جد يحيى وواسع شيخي مالك ووالده حبان ، أتى عليه مائة وثلاثون سنة ، وكان شج في بعض مغازيه مع النبي صلى الله عليه وسلم مأمومة خبل منها عقله ولسانه : وروى الدارقطني قال : كان حبان بن منقذ رجلا ضعيفا ضرير البصر وكان قد سفع في رأسه مأمومة ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم له الخيار فيما يشتري ثلاثة أيام ، وكان قد ثقل لسانه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بع وقل لا خلابة" فكنت (3/386) ________________________________________ أسمعه يقول : لا خذابة لا خذابة. أخرجه من حديث ابن عمرو. الخلابة : الخديعة ، ومنه قولهم : "إذا لم تغلب فاخلب". الثامنة عشرة : - اختلف العلماء فيمن يخدع في البيوع لقلة خبرته وضعف عقله فهل يحجر عليه أولا فقال بالحجر عليه أحمد وإسحاق. وقال آخرون : لا يحجر عليه. والقولان في المذهب ، والصحيح الأول ، لهذه الآية ، ولقوله في الحديث : " يا نبي الله احجر على فلان ". وإنما ترك الحجر عليه لقوله : "يا نبي الله إني لا أصبر عن البيع". فأباح له البيع وجعله خاصا به ، لأن من يخدع في البيوع ينبغي أن يحجر عليه لا سيما إذا كان ذلك لخبل عقله. ومما يدل على الخصوصية ما رواه محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن يحيى بن حبان قال : هو جدي منقذ بن عمرو وكان رجلا قد أصابته آفة في رأسه فكسرت لسانه ونازعته عقله ، وكان لا يدع التجارة ولا يزال يغبن ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فقال : " إذا بعت فقل لا خلابة ثم أنت في كل سلعة تبتاعها بالخيار ثلاث ليال فإن رضيت فأمسك وإن سخطت فارددها على صاحبها ". وقد كان عمَّر عمرا طويلا ، عاش ثلاثين ومائة سنة ، وكان في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه حين فشا الناس وكثروا ، يبتاع البيع في السوق ويرجع به إلى أهله وقد غبن غبنا قبيحا ، فيلومونه ويقولون له تبتاع ؟ فيقول : أنا بالخيار ، إن رضيت أخذت وإن سخطت رددت ، قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلني بالخيار ثلاثا. فيرد السلعة على صاحبها من الغد وبعد الغد ، فيقول : والله لا أقبلها ، قد أخذت سلعتي وأعطيتني دراهم ، قال فيقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعلني بالخيار ثلاثا. فكان يمر الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول للتاجر : ويحك ! إنه قد صدق ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان جعله بالخيار ثلاثا. أخرجه الدارقطني. وذكره أبو عمر في الاستيعاب وقال : ذكره البخاري في التاريخ عن عياش بن الوليد عن عبدالأعلى عن ابن إسحاق. (3/387)
| |
|