فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن السبت 6 نوفمبر - 21:28 | |
|
________________________________________ أو أكثر من أن يقرب العدو فيه منهم من الطعن والضرب ، أو يأتي من يصدق خبره فيخبره بأن العدو قريب منه ومسيرهم جادين إليه ؛ فإن لم يكن واحد من هذين المعنيين فلا يجوز له أن يصلي صلاة الخوف. فإن صلوا بالخبر صلاة الخوف ثم ذهب العدو لم يعيدوا ، وقيل : يعيدون ؛ وهو قول أبي حنيفة. قال أبو عمر : فالحال التي يجوز منها للخائف أن يصلي راجلا أو راكبا مستقبل القبلة أو غير مستقبلها هي حال شدة الخوف ، والحال التي وردت الآثار فيها هي غير هذه. وهي صلاة الخوف بالإمام وانقسام الناس وليس حكمها في هذه الآية ، وهذا يأتي بيانه في سورة "النساء" إن شاء الله تعالى. وفرق مالك بين خوف العدو المقاتل وبين خوف السبع ونحوه من جمل صائل أو سيل أو ما الأغلب من شأنه الهلاك ، فإنه استحب من غير خوف العدو الإعادة في الوقت إن وقع الأمن. وأكثر فقهاء الأمصار على أن الأمر سواء. الخامسة : - قال أبو حنيفة : إن القتال يفسد الصلاة ؛ وحديث ابن عمر يرد عليه ، وظاهر الآية أقوى دليل عليه ، وسيأتي هذا في "النساء" إن شاء الله تعالى. قال الشافعي : لما رخص تبارك وتعالى في جواز ترك بعض الشروط دل ذلك على أن القتال في الصلاة لا يفسدها ، والله أعلم. السادسة : - لا نقصان في عدد الركعات في الخوف عن صلاة المسافر عند مالك والشافعي وجماعة من العلماء وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة وغيرهما : يصلي ركعة إيماء ؛ روى مسلم عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن ابن عباس قال : فرض الله الصلاة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة . قال ابن عبدالبر : انفرد به بكير بن الأخنس وليس بحجة فيما ينفرد به ، والصلاة أولى ما احتيط فيه ، ومن صلى ركعتين في خوفه وسفره خرج من الاختلاف إلى اليقين. وقال الضحاك بن مزاحم : يصلي صاحب خوف الموت في المسايفة وغيرها ركعة فإن لم يقدر فليكبر تكبيرتين. وقال إسحاق بن راهويه : فإن لم يقدر إلا على تكبيرة واحدة أجزأت عنه ذكره ابن المنذر. (3/224) ________________________________________ وقوله تعالى : { فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ} أي ارجعوا إلى ما أمرتم به من إتمام الأركان. وقال مجاهد : "أمنتم" خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة ؛ ورد الطبري على هذا القول. وقالت فرقة : "أمنتم" زال خوفكم الذي ألجأكم إلى هذه الصلاة. السابعة : - واختلف العلماء من هذا الباب في بناء الخائف إذا أمن ؛ فقال مالك : إن صلى ركعة آمنا ثم خاف ركب وبنى ، وكذلك إن صلى ركعة راكبا وهو خائف ثم أمن نزل وبنى ؛ وهو أحد قولي الشافعي ، وبه قال المزني. وقال أبو حنيفة : إذا افتتح الصلاة آمنا ثم خاف استقبل ولم يبن فإن صلى خائفا ثم أمن بنى. وقال الشافعي : يبني النازل ولا يبني الراكب. وقال أبو يوسف : لا يبنى في شيء من هذا كله. الثامنة : - قوله تعالى : { فَاذْكُرُوا اللَّهَ} قيل : معناه اشكروه على هذه النعمة في تعليمكم هذه الصلاة التي وقع بها الإجزاء ؛ ولم تفتكم صلاة من الصلوات وهو الذي لم تكونوا تعلمونه. فالكاف في قوله "كما" بمعنى الشكر ؛ تقول : افعل بي كما فعلت بك كذا مكافأة وشكرا. "وما" في قوله {ما لم} مفعولة بـ "علمكم". التاسعة : - قال علماؤنا رحمة الله عليهم : الصلاة أصلها الدعاء ، وحالة الخوف أولى بالدعاء ؛ فلهذا لم تسقط الصلاة بالخوف ؛ فإذا لم تسقط الصلاة بالخوف فأحرى ألا تسقط بغيره من مرض أو نحوه ، فأمر الله سبحانه وتعالى بالمحافظة على الصلوات في كل حال من صحة أو مرض ، وحضر أو سفر ، وقدرة أو عجز وخوف أو أمن ، لا تسقط عن المكلف بحال ، ولا يتطرق إلى فرضيتها اختلال. وسيأتي بيان حكم المريض في آخر "آل عمران" إن شاء الله تعالى. والمقصود من هذا أن تفعل الصلاة كيفما أمكن ، ولا تسقط بحال حتى لو لم يتفق فعلها إلا بالإشارة بالعين لزم فعلها ، وبهذا تميزت عن سائر العبادات ، كلها تسقط بالأعذار ويترخص فيها بالرخص. قال ابن العربي : ولهذا قال علماؤنا : وهي مسألة عظمى ، إن تارك الصلاة يقتل ؛ لأنها أشبهت الإيمان الذي لا يسقط بحال ، وقالوا فيها : إحدى دعائم (3/225) ________________________________________ الإسلام لا تجوز النيابة عنها ببدن ولا مال ، فيقتل تاركها ؛ أصله الشهادتان. وسيأتي ما للعلماء في تارك الصلاة في "براءة" إن شاء الله تعالى. *3*الآية : 240 {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فيه أربع مسائل : الأولى قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} ذهب جماعة من المفسرين في تأويل هذه الآية أن المتوفى عنها زوجها كانت تجلس في بيت المتوفى عنها حولا ، وينفق عليها من ماله ما لم تخرج من المنزل ؛ فإن خرجت لم يكن على الورثة جناح في قطع النفقة عنها ؛ ثم نسخ الحول بالأربعة الأشهر والعشر ، ونسخت النفقة بالربع والثمن في سورة "النساء" قاله ابن عباس وقتادة والضحاك وابن زيد والربيع. وفي السكنى خلاف للعلماء ، روى البخاري عن ابن الزبير قال : قلت لعثمان هذه الآية التي في "البقرة" : "{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} - إلى قوله – {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها ؟ قال : يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه. وقال الطبري عن مجاهد : إن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها ، والعدة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشرا ، ثم جعل الله لهن وصية منه سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة ، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها ، وإن شاءت خرجت ، وهو قول الله عز وجل : {غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} . قال ابن عطية : وهذا كله قد زال حكمه بالنسخ المتفق عليه إلا ما قوله الطبري مجاهدا رحمهما الله تعالى ، وفي ذلك نظر على الطبري. وقال القاضي عياض : والإجماع منعقد على أن الحول منسوخ وأن عدتها أربعة أشهر وعشر. قال غيره : معنى قوله "وصية" أي من الله تعالى تجب على النساء بعد وفاة الزوج بلزوم البيوت سنة ثم نسخ. (3/226) ________________________________________ قلت : ما ذكره الطبري عن مجاهد صحيح ثابت ، خرج البخاري قال : حدثنا إسحاق قال حدثنا روح قال حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} قال : كانت هذه العدة تعتد عند أهل زوجها واجبة فأنزل الله تعالى : {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} - إلى قوله – {مِنْ مَعْرُوفٍ} " قال : جعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية ، إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت ، وهو قوله تعالى : {غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} إلا أن القول الأول أظهر لقوله عليه السلام : "إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة عند رأس الحول" الحديث. وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم عن حالة المتوفى عنهن أزواجهن قبل ورود الشرع ، فلما جاء الإسلام أمرهن الله تعالى بملازمة البيوت حولا ثم نسخ بالأربعة الأشهر والعشر ، هذا - مع وضوحه في السنة الثابتة المنقولة بأخبار الآحاد - إجماع من علماء المسلمين لا خلاف فيه ؛ قاله أبو عمر ، قال : وكذلك سائر الآية. فقوله عز وجل : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} منسوخ كله عند جمهور العلماء ، ثم نسخ الوصية بالسكنى للزوجات في الحول ، إلا رواية شاذة مهجورة جاءت عن ابن أبي نجيح عن مجاهد لم يتابع عليها ، ولا قال بها فيما زاد على الأربعة الأشهر والعشر أحد من علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فيما علمت. وقد روى ابن جريج عن مجاهد مثل ما عليه الناس ، فانعقد الإجماع وارتفع الخلاف ، وبالله التوفيق. الثانية - : قوله تعالى : {وَصِيَّةً} قرأ نافع وابن كثير والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر "وصية" بالرفع على الابتداء ، وخبره {لأَزْوَاجِهِمْ} . ويحتمل أن يكون المعنى عليهم وصية ، ويكون قوله {لأزواجهم} صفة ؛ قال الطبري : قال بعض النحاة : المعنى كتبت عليهم وصية ، ويكون قوله {لأَزْوَاجِهِمْ} صفة ، قال : وكذلك هي في قراءة عبدالله (3/227) ________________________________________ بن مسعود. وقرأ أبو عمرو وحمزة وابن عامر "وصية" بالنصب ، وذلك حمل على الفعل ، أي فليوصوا وصية. ثم الميت لا يوصي ، ولكنه أراد إذا قربوا من الوفاة ، و{ لأزواجهم} على هذه القراءة أيضا صفة. وقيل : المعنى أوصى الله وصية. {متاعا} أي متعوهن متاعا : أو جعل الله لهن ذلك متاعا لدلالة الكلام عليه ، ويجوز أن يكون نصبا على الحال أو بالمصدر الذي هو الوصية ؛ كقوله : {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد : 14 - 15] والمتاع ههنا نفقة سنتها. الثالثة - : قوله تعالى : {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} معناه ليس لأولياء الميت ووارثي المنزل إخراجها و {غَيْرَ} نصب على المصدر عند الأخفش ، كأنه قال لا إخراجا. وقيل : نصب لأنه صفة المتاع وقيل : نصب على الحال من الموصين أي متعوهن غير مخرجات. وقيل : بنزع الخافض ، أي من غير إخراج. الرابعة - : قوله تعالى : { فَإِنْ خَرَجْنَ} " الآية. معناه باختيارهن قبل الحول. {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} أي لا حرج على أحد ولِيٍّ أو حاكم أو غيره ؛ لأنه لا يجب عليها المقام في بيت زوجها حولا. وقيل : أي لا جناح في قطع النفقة عنهن ، أو لا جناح عليهن في التشوف إلى الأزواج ، إذ قد انقطعت عنهن مراقبتكم أيها الورثة ، ثم عليها ألا تتزوج قبل انقضاء العدة بالحول ، أو لا جناح في تزويجهن بعد انقضاء العدة. لأنه قال "من معروف" وهو ما يوافق الشرع. {والله عزيز} صفة تقتضي الوعيد بالنسبة لمن خالف الحد في هذه النازلة ، فأخرج المرأة وهي لا تريد الخروج.{ حَكِيمٌ} أي محكم لما يريد من أمور عباده. الآيتان : 241 {َلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} ، 242 {كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون} اختلف الناس في هذه الآية ؛ فقال أبو ثور : هي محكمة ، والمتعة لكل مطلقة ؛ وكذلك قال الزهري. قال الزهري : حتى للأمة يطلقها زوجها. وكذلك قال سعيد بن جبير : لكل مطلقة متعة وهو أحد قولي الشافعي لهذه الآية. وقال مالك : لكل مطلقه - اثنتين (3/228) ________________________________________ أو واحدة بنى بها أم لا ؛ سمى لها صداقا أم لا - المتعة ، إلا المطلقة قبل البناء وقد سمى لها صداقا فحسبها نصفه ، ولو لم يكن سمى لها كان لها المتعة أقل من صداق المثل أو أكثر ، وليس لهذه المتعة حد ؛ حكاه عنه ابن القاسم. وقال ابن القاسم في إرخاء الستور من المدونة ، قال : جعل الله تعالى المتعة لكل مطلقة بهذه الآية ، ثم استثنى في الآية الأخرى التي قد فرض لها ولم يدخل بها فأخرجها من المتعة ، وزعم ابن زيد أنها نسختها. قال ابن عطية : ففر ابن القاسم من لفظ النسخ إلى لفظ الاستثناء والاستثناء لا يتجه في هذا الموضع ، بل هو نسخ محض كما قال زيد بن أسلم ، وإذا التزم ابن القاسم أن قوله : "وللمطلقات" يعم كل مطلقة لزمه القول بالنسخ ولا بد. وقال عطاء بن أبي رباح وغيره : هذه الآية في الثيبات اللواتي قد جومعن ، إذ تقدم في غير هذه الآية ذكر المتعة للواتي لم يدخل بهن ؛ فهذا قول بأن التي قد فرض لها قبل المسيس لم تدخل قط في العموم. فهذا يجيء على أن قوله تعالى : { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة : 237] مخصصة لهذا الصنف من النساء ، ومتى قيل : إن هذا العموم يتناولها فذلك نسخ لا تخصيص. وقال الشافعي في القول الآخر : إنه لا متعة إلا للتي طلقت قبل الدخول وليس ثم مسيس ولا فرض ؛ لأن من استحقت شيئا من المهر لم تحتج في حقها إلى المتعة. وقول الله عز وجل في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم : {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب : 28] محمول على أنه تطوع من النبي صلى الله عليه وسلم ، لا وجوب له. وقوله : { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب : 49] محمول على غير المفروضة أيضا ؛ قال الشافعي : والمفروض لها المهر إذا طلقت قبل المسيس لا متعة لها ؛ لأنها أخذت نصف المهر من غير جريان وطء ، والمدخول بها إذا طلقت فلها المتعة ؛ لأن المهر يقع في مقابلة الوطء والمتعة بسبب الابتذال بالعقد. وأوجب الشافعي المتعة للمختلعة والمبارئة. وقال أصحاب مالك : كيف يكون للمفتدية متعة وهي تعطي ، فكيف تأخذ متاعا لا متعة لمختارة الفراق من مختلعة أو مفتدية أو مبارئة أو مصالحة أو ملاعنة أو معتقة تختار الفراق ، دخل بها أم لا ، سمى لها صداقا أم لا ، وقد مضى هذا مبينا. (3/229) ________________________________________ *3*الآية : 243 {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} فيه ست مسائل : الأولى : قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ} هذه رؤية القلب بمعنى ألم تعلم. والمعنى عند سيبويه تنبه إلى أمر الذين. ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي "ألم تر" بجزم الراء ، وحذفت الهمزة حذفا من غير إلقاء حركة لأن الأصل ألم ترء. وقصة هؤلاء أنهم قوم من بني إسرائيل وقع فيهم الوباء ، وكانوا بقرية يقال لها "داوردان" فخرجوا منها هاربين فنزلوا واديا فأماتهم الله تعالى. قال ابن عباس : كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون وقالوا : نأتي أرضا ليس بها موت ، فأماتهم الله تعالى ؛ فمر بهم نبي فدعا الله تعالى فأحياهم. وقيل : إنهم ماتوا ثمانية أيام. وقيل : سبعة ، والله أعلم. قال الحسن : أماتهم الله قبل آجالهم عقوبة لهم ، ثم بعثهم إلى بقية آجالهم. وقيل : إنما فعل ذلك بهم معجزة لنبي من أنبيائهم ، قيل : كان اسمه شمعون. وحكى النقاش أنهم فروا من الحمى. وقيل : إنهم فروا من الجهاد ولما أمرهم الله به على لسان حزقيل النبي عليه السلام ، فخافوا الموت بالقتل في الجهاد فخرجوا من ديارهم فرارا من ذلك ، فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء ، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله تعالى : {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة : 190] ؛ قاله الضحاك. قال ابن عطية : وهذا القصص كله لين الأسانيد ، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إخبارا في عبارة التنبيه والتوقيف عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فرارا من الموت فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم ؛ ليروا هم وكل من خلف من بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله تعالى لا بيد غيره ؛ فلا معنى لخوف خائف ولا لاغترار مغتر. وجعل (3/230) ________________________________________ الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمرة المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد ؛ هذا قول الطبري وهو ظاهر رصف الآية. قوله تعالى : {وَهُمْ أُلُوفٌ} قال الجمهور : هي جمع ألف. قال بعضهم : كانوا ستمائة ألف. وقيل : كانوا ثمانين ألفا. ابن عباس : أربعين ألفا. أبو مالك : ثلاثين ألفا. السدي : سبعة وثلاثين ألفا. وقيل : سبعين ألفا ؛ قاله عطاء بن أبي رباح. وعن ابن عباس أيضا أربعين ألفا ، وثمانية آلاف ؛ رواه عنه ابن جريج. وعنه أيضا ثمانية آلاف ، وعنه أيضا أربعة آلاف ، وقيل : ثلاثة آلاف. والصحيح أنهم زادوا على عشرة آلاف لقوله تعالى : {وَهُمْ أُلُوفٌ} وهو جمع الكثرة ، ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف. وقال ابن زيد في لفظة ألوف : إنما معناها وهم مؤتلفون ، أي لم تخرجهم فرقة قومهم ولا فتنة بينهم إنما كانوا مؤتلفين ، فخالفت هذه الفرقة فخرجت فرارا من الموت وابتغاء الحياة بزعمهم ، فأماتهم الله في منجاهم بزعمهم. فألوف على هذا جمع الف ؛ مثل جالس وجلوس. قال ابن العربي : أماتهم الله تعالى مدة عقوبة لهم ثم أحياهم ؛ وميتة العقوبة بعدها حياة ، وميتة الأجل لا حياة بعدها. قال مجاهد : إنهم لما أحيوا رجعوا إلى قومهم يعرفون أنهم كانوا موتى ولكن سحنة الموت على وجوههم ، ولا يلبس أحد منهم ثوبا إلا عاد كفنا دسما حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم. ابن جريج عن ابن عباس : وبقيت الرائحة على ذلك السبط من بني إسرائيل إلى اليوم. وروي أنهم كانوا بواسط العراق. ويقال : إنهم أحيوا بعد أن أنتنوا ؛ فتلك الرائحة موجودة في نسلهم إلى اليوم. الثانية - : قوله تعالى : {حَذَرَ الْمَوْتِ} أي لحذر الموت ؛ فهو نصب لأنه مفعول له. و"موتوا" أمر تكوين ، ولا يبعد أن يقال : نودوا وقيل لهم : موتوا. وقد حكي أن ملكين صاحا بهم : موتوا فماتوا ؛ فالمعنى قال لهم الله بواسطة الملكين "موتوا" ، والله أعلم. (3/231) ________________________________________ الثالثة - : أصح هذه الأقوال وأبينها وأشهرها أنهم خرجوا فرارا من الوباء ؛ رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : خرجوا فرارا من الطاعون فماتوا ، فدعا الله نبي من الأنبياء أن يحييهم حتى يعبدوه فأحياهم الله. وقال عمرو بن دينار في هذه الآية : وقع الطاعون في قريتهم فخرج أناس وبقي أناس ، ومن خرج أكثر ممن بقي ، قال : فنجا الذين خرجوا ومات الذين أقاموا ؛ فلما كانت الثانية خرجوا بأجمعهم إلا قليلا فأماتهم الله ودوابهم ، ثم أحياهم فرجعوا إلى بلادهم وقد توالدت ذريتهم. وقال الحسن : خرجوا حذارا من الطاعون فأماتهم الله ودوابهم في ساعة واحدة ، وهم أربعون ألفا. قلت : وعلى هذا تترتب الأحكام في هذه الآية. فروى الأئمة واللفظ للبخاري من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أسامة بن زيد يحدث سعدا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الوجع فقال "رجز أو عذاب عذب به بعض الأمم ثم بقي منه بقية فيذهب المرة ويأتي الأخرى فمن سمع به بأرض فلا يقدمن عليه ومن كان بأرض وقع بها فلا يخرج فرارا منه" وأخرجه أبو عيسى الترمذي فقال حدثنا قتيبة أنبأنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن عامر بن سعد عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الطاعون فقال : " بقية رجز أو عذاب أرسل على طائفة من بني إسرائيل فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليها" قال : حديث حسن صحيح. وبمقتضى هذه الأحاديث عمل عمر والصحابة رضوان الله عليهم لما رجعوا من سرغ حين أخبرهم عبدالرحمن بن عوف بالحديث ، على ما هو مشهور في الموطأ وغيره. وقد كره قوم الفرار من الوباء والأرض السقيمة ؛ روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : الفرار من الوباء كالفرار من الزحف. وقصة عمر في خروجه إلى الشام مع أبي عبيدة معروفة ، وفيها : أنه رجع. وقال الطبري : في حديث سعد دلالة على أن على المرء توقي المكاره قبل نزولها ، وتجنب الأشياء المخوفة قبل هجومها ، وأن عليه الصبر وترك الجزع بعد نزولها ؛ وذلك أنه عليه (3/232) ________________________________________ السلام نهى من لم يكن في أرض الوباء عن دخولها إذا وقع فيها ، ونهى من هو فيها عن الخروج منها بعد وقوعه فيها فرارا منه ؛ فكذلك الواجب أن يكون حكم كل متق من الأمور غوائلها ، سبيله في ذلك سبيل الطاعون. وهذا المعنى نظير قوله عليه السلام : "لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا". قلت : وهذا هو الصحيح في الباب ، وهو مقتضى قول الرسول عليه السلام ، وعليه عمل أصحابه البررة الكرام رضي الله عنهم ، وقد قال عمر لأبي عبيدة محتجا عليه لما قال له : أفرارا من قدر الله فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم ، نفر من قدر الله إلى قدر الله. المعنى : أي لا محيص للإنسان عما قدره الله له وعليه ، ولكن أمرنا الله تعالى بالتحرز من المخاوف والمهلكات ، وباستفراغ الوسع في التوقي من المكروهات. ثم قال له : أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة ، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله ، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله عز وجل. فرجع عمر من موضعه ذلك إلى المدينة. قال الكيا الطبري : ولا نعلم خلافا أن الكفار أو قطاع الطريق إذا قصدوا بلدة ضعيفة لا طاقة لأهلها بالقاصدين فلهم أن يتنحوا من بين أيديهم ، وإن كانت الآجال المقدرة لا تزيد ولا تنقص. وقد قيل : إنما نهي عن الفرار منه لأن الكائن بالموضع الذي الوباء فيه لعله قد أخذ بحظ منه ، لاشتراك أهل ذلك الموضوع في سبب ذلك المرض العام ، فلا فائدة لفراره ، بل يضيف إلى ما أصابه من مبادئ الوباء مشقات السفر ، فتتضاعف الآلام ويكثر الضرر فيهلكون بكل طريق ويطرحون في كل فجوة ومضيق ، ولذلك يقال : ما فر أحد من الوباء فسلم ؛ حكاه ابن المدائني. ويكفي في ذلك موعظة قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} ولعله إن فر ونجا يقول : إنما نجوت من أجل خروجي عنه فيسوء اعتقاده. وبالجملة فالفرار منه ممنوع لما ذكرناه ، ولما فيه من تخلية البلاد : ولا تخلو من مستضعفين يصعب عليهم الخروج (3/233) ________________________________________ منها ، ولا يتأتى لهم ذلك ، ويتأذون بخلو البلاد من المياسير الذين كانوا أركانا للبلاد ومعونة للمستضعفين. وإذا كان الوباء بأرض فلا يقدم عليه أحد أخذا بالحزم والحذر والتحرز من مواضع الضرر ، ودفعا للأوهام المشوشة لنفس الإنسان ؛ وفي الدخول عليه الهلاك ، وذلك لا يجوز في حكم الله تعالى ، فإن صيانة النفس عن المكروه واجبة ، وقد يخاف عليه من سوء الاعتقاد بأن يقول : لولا دخولي في هذا المكان لما نزل بي مكروه. فهذه فائدة النهي عن دخول أرض بها الطاعون أو الخروج منها ، والله أعلم. وقد قال ابن مسعود : الطاعون فتنة على المقيم والفار ؛ فأما الفار فيقول : فبفراري نجوت ، وأما المقيم فيقول : أقمت فمت ؛ وإلى نحو هذا أشار مالك حين سئل عن كراهة النظر إلى المجذوم فقال : ما سمعت فيه بكراهة ، وما أرى ما جاء من النهي عن ذلك إلا خيفة أن يفزعه أو يخيفه شيء يقع في نفسه ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم في الوباء : " إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ". وسئل أيضا عن البلدة يقع فيها الموت وأمراض ، فهل يكره الخروج منها ؟ فقال : ما أرى بأسا خرج أو أقام. الرابعة - : في قوله عليه السلام : "إذا وقع الوباء بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه". دليل على أنه يجوز الخروج من بلدة الطاعون على غير سبيل الفرار منه ، إذا اعتقد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وكذلك حكم الداخل إذا أيقن أن دخولها لا يجلب إليه قدرا لم يكن الله قدره له ؛ فباح له الدخول إليه والخروج منه على هذا الحد الذي ذكرناه ، والله أعلم. الخامسة - : في فضل الصبر على الطاعون وبيانه. الطاعون وزنه فاعول من الطعن ، غير أنه لما عدل به عن أصله وضع دالا على الموت العام بالوباء ؛ قاله الجوهري. ويروى من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "فناء أمتي بالطعن والطاعون" قالت : الطعن قد عرفناه فما الطاعون ؟ قال : "غدة كغدة البعير تخرج في المراق والآباط". قال العلماء : وهذا الوباء قد يرسله الله نقمة وعقوبة على من يشاء (3/234) ________________________________________ من العصاة من عبيده وكفرتهم ، وقد يرسله شهادة ورحمة للصالحين ؛ كما قال معاذ في طاعون عمواس : إنه شهادة ورحمة لكم ودعوة نبيكم ، اللهم أعط معاذا وأهله نصيبهم من رحمتك. فطعن في كفه رضي الله عنه. قال أبو قلابة : قد عرفت الشهادة والرحمة ولم أعرف ما دعوة نبيكم ؟ فسألت عنها فقيل : دعا عليه السلام أن يجعل فناء أمته بالطعن والطاعون حين دعا ألا يجعل بأس أمته بينهم فمنعها فدعا بهذا. ويروى من حديث جابر وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "الفار من الطاعون كالفار من الزحف والصابر فيه كالصابر في الزحف" . وفي البخاري عن يحيى بن يعمر عن عائشة أنها أخبرته أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرها نبي الله صلى الله عليه وسلم : "أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء فجعله الله رحمة للمؤمنين فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد ". وهذا تفسير لقوله عليه الصلاة والسلام : " الطاعون شهادة والمطعون شهيد". أي الصابر عليه المحتسب أجره على الله العالم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله عليه ؛ ولذلك تمنى معاذ أن يموت فيه لعلمه أن من مات فهو شهيد. وأما من جزع من الطاعون وكرهه وفر منه فليس بداخل في معنى الحديث ، والله أعلم. السادسة - : قال أبو عمر : لم يبلغني أن أحدا من حملة العلم فر من الطاعون إلا ما ذكره ابن المدائني أن علي بن زيد بن جدعان هرب من الطاعون إلى السيالة فكان يجمع كل جمعة ويرجع ؛ فكان إذا جمع صاحوا به : فر من الطاعون فمات بالسيالة. قال : وهرب عمرو بن عبيد ورباط بن محمد إلى الرباطية فقال إبراهيم بن علي الفقيمي في ذلك : ولما استفز الموت كل مكذب ... صبرت ولم يصبر رباط ولا عمرو (3/235) ________________________________________ وذكر أبو حاتم عن الأصمعي قال : هرب بعض البصريين من الطاعون فركب حمارا له ومضى بأهله نحو سفوان ؛ فسمع حاديا يحدو خلفه لن يسبق الله على حمار ... ولا على ذي منعة طيار أو يأتي الحتف على مقدار ... قد يصبح الله أمام الساري وذكر المدائني قال : وقع الطاعون بمصر في ولاية عبدالعزيز بن مروان فخرج هاربا منه فنزل قرية من قرى الصعيد يقال لها [سكر]. فقدم عليه حين نزلها رسول لعبدالملك بن مروان. فقال له عبدالعزيز : ما اسمك ؟ فقال له : طالب بن مدرك. فقال : أوه ما أراني راجعا إلى الفسطاط فمات في تلك القرية. الآية : 244 {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} هذا خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بالقتال في سبيل الله في قول الجمهور. وهو الذي ينوى به أن تكون كلمة الله هي العليا. وسبل الله كثيرة فهي عامة في كل سبيل ؛ قال الله تعالى : {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف : 108]. قال مالك : سبل الله كثيرة ، وما من سبيل إلا يقاتل عليها أو فيها أو لها ، وأعظمها دين الإسلام ، لا خلاف في هذا. وقيل : الخطاب للذين أحيوا من بني إسرائيل ؛ وروي عن ابن عباس والضحاك. والواو على هذا في قوله {وَقَاتِلُوا} عاطفة على الأمر المتقدم ، وفي الكلام متروك تقديره : وقال لهم قاتلوا. وعلى القول الأول عاطفة جملة كلام على جملة ما تقدم ، ولا حاجة إلى إضمار في الكلام. قال النحاس : "وقاتلوا" أمر من الله تعالى للمؤمنين ألا تهربوا كما هرب هؤلاء. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي يسمع قولكم إن قلتم مثل ما قال هؤلاء ويعلم مرادكم به ، وقال الطبري : لا وجه لقول من قال : إن الأمر بالقتال للذين أحيوا. والله أعلم. (3/236) ________________________________________ *3*الآية : 245 {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيه إحدى عشرة مسألة : قوله تعالى : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} لما أمر الله تعالى بالجهاد والقتال على الحق - إذ ليس شيء من الشريعة إلا ويجوز القتال عليه وعنه ، وأعظمها دين الإسلام كما قال مالك - حرض على الإنفاق في ذلك. فدخل في هذا الخبر المقاتل في سبيل الله ، فإنه يقرض به رجاء الثواب كما فعل عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة. و" من" رفع بالابتداء ، و"ذا" خبره ، و"الذي" نعت لذا ، وإن شئت بدل. ولما نزلت هذه الآية بادر أبو الدحداح إلى التصدق بماله ابتغاء ثواب ربه. أخبرنا الشيخ الفقيه الإمام المحدث القاضي أبو عامر يحيى بن عامر بن أحمد بن منيع الأشعري نسبا ومذهبا بقرطبة - أعادها الله - في ربيع الآخر عام ثمانية وعشرين وستمائة قراءة مني عليه قال : أخبرنا أبي إجازة قال : قرأت على أبي بكر عبدالعزيز بن خلف بن مدين الأزدي عن أبي عبدالله بن سعدون سماعا عليه ؛ قال : حدثنا أبو الحسن علي بن مهران قال : حدثنا أبو الحسن محمد بن عبدالله بن زكريا بن حيوة النيسابوري سنة ست وستين وثلاثمائة ، قال : أنبأنا عمي أبو زكريا يحيى بن زكريا قال : حدثنا محمد بن معاوية بن صالح قال : حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبدالله بن الحارث عن عبدالله بن مسعود قال : لما نزلت : {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} قال أبو الدحداح : يا رسول الله أو إن الله تعالى يريد منا القرض ؟ قال : " نعم يا أبا الدحداح" قال : أرني يدك ؛ قال فناوله ؛ قال : فإني أقرضت الله حائطا فيه ستمائة نخلة. ، (3/237) ________________________________________ ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه وعياله ؛ فناداها : يا أم الدحداح ؛ قالت : لبيك ؛ قال : اخرجي ، قد أقرضت ربي عز وجل حائطا فيه ستمائة نخلة. وقال زيد بن أسلم : لما نزل : {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} قال أبو الدحداح : فداك أبي وأمي يا رسول الله إن الله يستقرضنا وهو غني عن القرض ؟ قال : " نعم يريد أن يدخلكم الجنة به ". قال : فإني إن أقرضت ربي قرضا يضمن لي به ولصبيتي الدحداحة معي الجنة ؟ قال : "نعم" قال : فناولني يدك ؛ فناوله رسوله الله صلى الله عليه وسلم يده : فقال : إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية ، والله لا أملك غيرهما ، قد جعلتهما قرضا لله تعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجعل إحداهما لله والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك" قال : فأشهدك يا رسول الله أني قد جعلت خيرهما لله تعالى ، وهو حائط فيه ستمائة نخلة. قال : " إذا يجزيك الله به الجنة ". فانطلق أبو الدحداح حتى جاء أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فأنشأ يقول : هداك ربي سبل الرشاد ... إلى سبيل الخير والسداد بيني من الحائط بالوداد ... فقد مضى قرضا إلى التناد أقرضته الله على اعتمادي ... بالطوع لا من ولا ارتداد إلا رجاء الضعف في المعاد ... فارتحلي بالنفس والأولاد والبر لا شك فخير زاد ... قدمه المرء إلى المعاد قالت أم الدحداح : ربح بيعك بارك الله لك فيما اشتريت ، ثم أجابته أم الدحداح وأنشأت تقول : بشرك الله بخير وفرح ... مثلك أدى ما لديه ونصح قد متع الله عيالي ومنح ... بالعجوة السوداء والزهو البلح والعبد يسعى وله ما قد كدح ... طول الليالي وعليه ما اجترح (3/238) ________________________________________ ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كم من عذق رداح ودار فياح لأبي الدحداح". قال ابن العربي : "انقسم الخلق بحكم الخالق وحكمته وقدرته ومشيئته وقضائه وقدره حين سمعوا هذه الآية أقساما ، فتفرقوا فرقا ثلاثة : الفرقة الأولى الرَّذلى قالوا : إن رب محمد محتاج فقير إلينا ونحن أغنياء ، فهذه جهالة لا تخفى على ذي لب ، فرد الله عليهم بقوله : {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران : 181]. الفرقة الثانية لما سمعت هذا القول آثرت الشح والبخل وقدمت الرغبة في المال فما أنفقت في سبيل الله ولا فكت أسيرا ولا أعانت أحدا تكاسلا عن الطاعة وركونا إلى هذه الدار. الفرقة الثالثة لما سمعت بادرت إلى امتثاله وآثر المجيب منهم بسرعة بماله كأبي الدحداح رضي الله عنه وغيره. والله أعلم. قوله تعالى : {قَرْضاً حَسَناً} القرض : اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء وأقرض فلان فلانا أي أعطاه ما يتجازاه قال الشاعر وهو لبيد : وإذا جوزيت قرضا فاجزه ... إنما يجزي الفتى ليس الجمل والقرض بالكسر لغة فيه حكاها الكسائي. واستقرضت من فلان أي طلبت منه القرض فأقرضني. واقترضت منه أي أخذت القرض. وقال الزجاج : القرض في اللغة البلاء الحسن والبلاء السيئ قال أمية : كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا ... أو سيئا ومدينا مثل ما دانا وقال آخر : تجازى القروض بأمثالها ... فبالخير خيرا وبالشر شرا وقال الكسائي : القرض ما أسلفت من عمل صالح أو سيئ. وأصل الكلمة القطع ؛ ومنه المقراض. وأقرضته أي قطعت له من مالي قطعة يجازي عليها. وانقرض القوم : انقطع (3/239) ________________________________________ أثرهم وهلكوا. والقرض ههنا : اسم ، ولولاه لقال ههنا إقراضا. واستدعاء القرض في هذه الآية إنما هي تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه ، والله هو الغني الحميد ؛ لكنه تعالى شبه عطاء المؤمن في الدنيا بما يرجو به ثوابه في الآخرة بالقرض كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء. حسب ما يأتي بيانه في "براءة" إن شاء الله تعالى. وقيل المراد بالآية الحث على الصدقة وإنفاق المال على الفقراء والمحتاجين والتوسعة عليهم ، وفي سبيل الله بنصرة ا الدين. وكنى الله سبحانه عن الفقير بنفسه العلية المنزهة عن الحاجات ترغيبا في الصدقة ، كما كنى عن المريض والجائع والعطشان بنفسه المقدسة عن النقائص والآلام. ففي صحيح الحديث إخبارا عن الله تعالى : "يا ابن آدم مرضت فلم تعدني واستطعمتك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني" قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين ؟ قال : "استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي " وكذا فيما قبل ؛ أخرجه مسلم والبخاري وهذا كله خرج مخرج التشريف لمن كنى عنه ترغيبا لمن خوطب به. الرابعة - يجب على المستقرض رد القرض ؛ لأن الله تعالى بين أن من أنفق في سبيل الله لا يضيع عند الله تعالى بل يرد الثواب قطعا وأبهم الجزاء. وفي الخبر : "النفقة في سبيل الله تضاعف إلى سبعمائة ضعف وأكثر" على ما يأتي بيانه في هذه السورة عند قوله تعالى : {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} [البقرة : 261] الآية. وقال ههنا : "فيضاعفه له أضعافا كثيرة" وهذا لا نهاية له ولا حد. الخامسة - ثواب القرض عظيم ، لأن فيه توسعة على المسلم وتفريجا عنه. خرج ابن ماجة في سننه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوبا الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر فقلت لجبريل : ما بال القرض أفضل من الصدقة قال لأن السائل يسأل وعنده والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة". قال : حدثنا محمد بن خلف العسقلاني حدثنا يعلى حدثنا سليمان بن يسير (3/240) ________________________________________ عن قيس بن رومي قال : كان سليمان بن أذنان يقرض علقمة ألف درهم إلى عطائه ، فلما خرج عطاؤه تقاضاها منه ، واشتد عليه فقضاه ، فكأن علقمة غضب فمكث أشهرا ثم أتاه فقال : أقرضني ألف درهم إلى عطائي ، قال : نعم وكرامة يا أم عتبة هلمي تلك الخريطة المختومة التي عندك ، قال : فجاءت بها ؛ فقال : أما والله إنها لدراهمك التي قضيتني ما حركت منها درهما واحدا ؛ قال : فلله أبوك ؟ ما حملك على ما فعلت بي ؟ قال : ما سمعت منك ؛ قال : ما سمعت مني ؟ قال : سمعتك تذكر عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقتها مرة" قال : كذلك أنبأني ابن مسعود. السادسة - قرض الآدمي للواحد واحد ، أي يرد عليه مثل ما أقرضه. وأجمع أهل العلم على أن استقراض الدنانير والدراهم والحنطة والشعير والتمر والزبيب وكل ما له مثل من سائر الأطعمة جائز. وأجمع المسلمون نقلا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربا ولو كان قبضة من علف - كما قال ابن مسعود - أو حبة واحدة. ويجوز أن يرد أفضل مما يستلف إذا لم يشترط ذلك عليه ؛ لأن ذلك من باب المعروف ؛ استدلالا بحديث أبي هريرة في البكر : " إن خياركم أحسنكم قضاء" رواه الأئمة : البخاري ومسلم وغيرهما. فأثنى صلى الله عليه وسلم على من أحسن القضاء ، وأطلق ذلك ولم يقيده بصفة. وكذلك قضى هو صلى الله عليه وسلم في البكر وهو الفتي المختار من الإبل جملا خيارا رباعيا ، والخيار : المختار ، والرباعي هو الذي دخل في السنة الرابعة ؛ لأنه يلقي فيها رباعيته وهي التي تلي الثنايا وهي أربع رباعيات - مخففة الباء - وهذا الحديث دليل على جواز قرض الحيوان ، وهو مذهب الجمهور ، ومنع من ذلك أبو حنيفة وقد تقدم. السابعة - ولا يجوز أن يهدي من استقرض هدية للمقرض ، ولا يحل للمقرض قبولها إلا أن يكون عادتهما ذلك ؛ بهذا جاءت السنة : خرج ابن ماجة حدثنا هشام بن عمار قال : حدثنا إسماعيل بن عياش حدثنا عتبة بن حميد الضبي عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي قال : (3/241) ________________________________________ سألت أنس بن مالك عن الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي إليه ؟ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أقرض أحدكم أخاه قرضا فأهدى له أو حمله على دابته فلا يقبلها ولا يركبها إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبله ذلك". الثامنة - القرض يكون من المال - وقد بينا حكمه - ويكون من العرض ؛ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : "أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال اللهم إني قد تصدقت بعِرضي على عبادك". وروي عن ابن عمر : أقرض من عرضك ليوم فقرك ؛ يعني من سبك فلا تأخذ منه حقا ولا تقم عليه حدا حتى تأتي يوم القيامة موفر الأجر. وقال أبو حنيفة : لا يجوز التصدق بالعِرض لأنه حق الله تعالى ، وروي عن مالك. ابن العربي : وهذا فاسد ، قال عليه السلام في الصحيح : " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ..." الحديث. وهذا يقتضي أن تكون هذه المحرمات الثلاث تجري مجرى واحدا في كونها باحترامها حقا للآدمي. التاسعة - قوله تعالى : { حُسْناً} قال الواقدي : محتسبا طيبة به نفسه. وقال عمرو بن عثمان الصدفي : لا يمن به ولا يؤذي. وقال سهل بن عبدالله : لا يعتقد في قرضه عوضا. العاشرة - قوله تعالى : { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} قرأ عاصم وغيره "فيضاعفه" بالألف ونصب الفاء. وقرأ ابن عامر ويعقوب بالتشديد في العين مع سقوط الألف ونصب الفاء. وقرأ ابن كثير وأبو جعفر وشيبة بالتشديد ورفع الفاء. وقرأ الآخرون بالألف ورفع الفاء. فمن رفعه نسقه على قوله : {يُقْرِضُ} وقيل : على تقدير هو يضاعفه. ومن نصب فجوابا للاستفهام بالفاء. وقيل : بإضمار "أن" والتشديد والتخفيف لغتان. دليل التشديد {أَضْعَافاً كَثِيرَةً} لأن التشديد للتكثير. وقال الحسن والسدي : لا نعلم هذا التضعيف إلا لله وحده ، لقوله تعالى : { وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء : 40]. قاله أبو هريرة : هذا في نفقة الجهاد ، وكنا نحسب والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا نفقة الرجل على نفسه ورفقائه وظهره بألفي ألف. (3/242)
| |
|