فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الأربعاء 27 أكتوبر - 23:02 | |
|
________________________________________ قلت : قوله : "وهذا هو الأصل" يريد في رجوع الضمير إلى أقرب مذكور ، وهو صحيح ، إذ لو أراد الجميع الذي هو الإرضاع والإنفاق وعدم الضرر لقال : وعلى الوارث مثل هؤلاء ، فدل على أنه معطوف على المنع من المضارة ، وعلى ذلك تأوله كافة المفسرين فيما حكى القاضي عبدالوهاب ، وهو أن المراد به أن الوالدة لا تضار ولدها في أن الأب إذا بذل لها أجرة المثل ألا ترضعه ، {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} في أن الأم إذا بذلت أن ترضعه بأجرة المثل كان لها ذلك ، لأن الأم أرفق وأحن عليه ، ولبنها خير له من لبن الأجنبية. قال ابن عطية : وقال مالك رحمه الله وجميع أصحابه والشعبي أيضا والزهري والضحاك وجماعة من العلماء : المراد بقوله{ مثل ذلك} ألا تضار ، وأما الرزق والكسوة فلا يجب شيء منه. وروى ابن القاسم عن مالك أن الآية تضمنت أن الرزق والكسوة على الوارث ، ثم نسخ ذلك بالإجماع من الأمة في ألا يضار الوارث ، والخلاف هل عليه رزق وكسوة أم لا. وقرأ يحيى بن يعمر "وعلى الورثة" بالجمع ، وذلك يقتضي العموم ، فإن استدلوا بقوله عليه السلام : " لا يقبل الله صدقة وذو رحم محتاج" قيل لهم الرحم عموم في كل ذي رحم ، محرما كان أو غير محرم ، ولا خلاف أن صرف الصدقة إلى ذي الرحم أولى لقوله عليه السلام : " اجعلها في الأقربين" فحمل الحديث على هذا ، ولا حجة فيه على ما راموه ، والله أعلم. وقال النحاس : وأما قول من قال : {وعَلَى الْوَارِثَ مِثْلُ ذلِكَ} ألا يضار فقول حسن ، لأن أموال الناس محظورة فلا يخرج شيء منها إلا بدليل قاطع. وأما قول من قال على ورثة الأب فالحجة أن النفقة كانت على الأب ، فورثته أولى من ورثة الابن وأما حجة من قال على ورثة الابن فيقول : كما يرثونه يقومون به. قال النحاس : وكان محمد بن جرير يختار قول من قال : الوارث هنا الابن ، وهو وإن كان قولا غريبا فالاستدلال به صحيح والحجة به ظاهرة ، لأن ماله أولى به. وقد أجمع الفقهاء إلا من شذ منهم أن رجلا لو كان له ولد طفل وللولد مال ، والأب موسر أنه لا يجب على الأب نفقة ولا رضاع ، وأن ذلك من مال الصبي. فإن قيل : قد قال الله عز وجل {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، قيل : هذا الضمير للمؤنث ، ومع هذا فإن الإجماع (3/170) ________________________________________ حد للآية مبين لها ، لا يسع مسلما الخروج عنه. وأما من قال : ذلك على من بقي من الأبوين ، فحجته أنه لا يجوز للأم تضييع ولدها ، وقد مات من كان ينفق عليه وعليها. وقد ترجم البخاري على رد هذا القول [باب - وعلى الوارث مثل ذلك ، وهل على المرأة منه شيء] وساق حديث أم سلمة وهند. والمعنى فيه : أن أم سلمة كان لها أبناء من أبي سلمة ولم يكن لهم مال ، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرها أن لها في ذلك أجرا. فدل هذا الحديث على أن نفقة بنيها لا تجب عليها ، ولو وجبت عليها لم تقل للنبي صلى الله عليه وسلم : ولست بتاركتهم. وأما حديث هند فإن النبي صلى الله عليه وسلم أطلقها على أخذ نفقتها ونفقة بنيها من مال الأب ، ولم يوجبها عليها كما أوجبها على الأب. فاستدل البخاري من هذا على أنه لما لم يلزم الأمهات نفقات الأبناء في حياة الآباء فكذلك لا يلزمهن بموت الآباء. وأما قول من قال إن النفقة والكسوة على كل ذي رحم محرم فحجته أن على الرجل أن ينفق على كل ذي رحم محرم إذا كان فقيرا. قال النحاس : وقد عورض هذا القول بأنه لم يؤخذ من كتاب الله تعالى ولا من إجماع ولا من سنة صحيحة ، بل لا يعرف من قول سوى ما ذكرناه. فأما القرآن فقد قال الله عز وجل : {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} فإن كان على الوارث النفقة والكسوة فقد خالفوا ذلك فقالوا : إذا ترك خاله وابن عمه فالنفقة على خاله وليس على ابن عمه شيء ، فهذا مخالف نص القرآن لأن الخال لا يرث مع ابن العم في قول أحد ، ولا يرث وحده في قول كثير من العلماء ، والذي احتجوا به من النفقة على كل ذي رحم محرم ، أكثر أهل العلم على خلافه. السادسة عشر : - قوله تعالى : {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} الضمير في {أَرَادَا} للوالدين. و {فِصَالاً} معناه فطاما عن الرضاع ، أي عن الاغتذاء بلبن أمه إلى غيره من الأقوات. والفصال والفصل : الفطام ، وأصله التفريق ، فهو تفريق بين الصبي والثدي ، ومنه سمي الفصيل ، لأنه مفصول عن أمه. {عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا} أي قبل الحولين. {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي في فصله ، وذلك أن الله سبحانه لما جعل مدة الرضاع حولين بين أن فطامهما (3/171) ________________________________________ هو الفطام ، وفصالهما هو الفصال ليس لأحد عنه منزع ، إلا أن يتفق الأبوان على أقل من ذلك العدد من غير مضارة بالولد ، فذلك جائز بهذا البيان. وقال قتادة : كان الرضاع واجبا في الحولين وكان يحرم الفطام قبله ، ثم خفف وأبيح الرضاع أقل من الحولين بقوله : {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} الآية. وفي هذا دليل على جواز الاجتهاد في الأحكام بإباحة الله تعالى للوالدين التشاور فيما يؤدي إلى صلاح الصغير ، وذلك موقوف على غالب ظنونهما لا على الحقيقة واليقين ، والتشاور : استحراج الرأي ، وكذلك المشاورة ، والمشورة كالمعونة ، وشرت العسل : استخرجته ، وشرت الدابة وشورتها أي أجريتها لاستخراج جريها ، والشوار : متاع البيت ، لأنه يظهر للناظر ، والشارة : هيئة الرجل ، والإشارة : إخراج ما في نفسك وإظهاره. السابعة عشرة - : قوله تعالى : {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي لأولادكم غير الوالدة ، قاله الزجاج. قال النحاس : التقدير في العربية أن تسترضعوا أجنبية لأولادكم ، مثل {كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} [المطففين : 3] أي كالوا لهم أو وزنوا لهم ، وحذفت اللام لأنه يتعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف ، وأنشد سيبوبه : أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب ولا يجوز : دعوت زيدا ، أي دعوت لزيد ، لأنه يؤدي إلى التلبيس ، فيعتبر في هذا النوع السماع. قلت : وعلى هذا يكون في الآية دليل على جواز اتخاذ الظئر إذا اتفق الآباء والأمهات على ذلك. وقد قال عكرمة في قوله تعالى : {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ} معناه الظئر ، حكاه ابن عطية. والأصل أن كل أم يلزمها رضاع ولدها كما أخبر الله عز وجل ، فأمر الزوجات بإرضاع أولادهن ، وأوجب لهن على الأزواج النفقة والكسوة والزوجية قائمة ، فلو كان الرضاع على الأب لذكره مع ما ذكره من رزقهن وكسوتهن ، إلا أن مالكا رحمه الله دون فقهاء الأمصار استثنى الحسيبة فقال : لا يلزمها رضاعه. فأخرجها من الآية وخصصها بأصل من أصول الفقه وهو العمل بالعادة. وهذا أصل لم يتفطن له إلا مالك. والأصل البديع فيه أن ، (3/172) ________________________________________ هذا أمر كان في الجاهلية في ذوي الحسب وجاء الإسلام فلم يغيره ، وتمادى ذوو الثروة والأحساب على تفريغ الأمهات للمتعة بدفع الرضعاء للمراضع إلى زمانه فقال به ، وإلى زماننا فتحققناه شرعا. قوله تعالى : {إِذَا سَلَّمْتُمْ} يعني الآباء ، أي سلمتم الأجرة إلى المرضعة الظئر ، قاله سفيان. مجاهد : سلمتم إلى الأمهات أجرهن بحساب ما أرضعن إلى وقت إرادة الاسترضاع. وقرأ الستة من السبعة "ما آتيتم" بمعنى ما أعطيتم. وقرأ ابن كثير "أتيتم" بمعنى ما جئتم وفعلتم ، كما قال زهير : وما كان من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهم قبل قال قتادة والزهري : المعنى سلمتم ما أتيتم من إرادة الاسترضاع ، أي سلم كل واحد من الأبوين ورضي ، وكان ذلك على اتفاق منهما وقصد خير وإرادة معروف من الأمر. وعلى هذا الاحتمال فيدخل في الخطاب "سلمتم" الرجال والنساء ، وعلى القولين المتقدمين الخطاب للرجال. قال أبو علي : المعنى إذا سلمتم ما آتيتم نقده أو إعطاءه ، فحذف المضاف وأقيم الضمير مقامه ، فكان التقدير : ما آتيتموه ، ثم حذف الضمير من الصلة ، وعلى هذا التأويل فالخطاب للرجال ، لأنهم الذين يعطون أجر الرضاع. قال أبو علي : ويحتمل أن تكون "ما" مصدرية ، أي إذا سلمتم الإتيان ، والمعنى كالأول ، لكن يستغني عن الصفة من حذف المضاف ثم حذف الضمير. *3*الآية : 234 { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فيه خمس وعشرون مسألة : الأولى : - قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} لما ذكر عز وجل عدة الطلاق واتصل بذكرها ذكر الإرضاع ، ذكر عدة الوفاة أيضا ؛ لئلا يتوهم أن عدة الوفاة مثل عدة (3/173) ________________________________________ الطلاق {وَالَّذِينَ} أي والرجال الذين يموتون منكم. {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} أي يتركون أزواجا ، أي ولهم زوجات ؛ فالزوجات {يَتَرَبَّصْنَ} ؛ قال معناه الزجاج واختاره النحاس. وحذف المبتدأ في الكلام كثير ؛ كقوله تعالى : {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ} [الحج : 72] أي هو النار. وقال أبو علي الفارسي : تقديره والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بعدهم ؛ وهو كقولك : السمن منوان بدرهم ، أي منوان منه بدرهم. وقيل : التقدير وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن ؛ فجاءت العبارة في غاية الإيجاز وحكى المهدوي عن سيبويه أن المعنى : وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون. وقال بعض نحاة الكوفة : الخبر عن { وَالَّذِينَ} متروك ، والقصد الإخبار عن أزواجهم بأنهن يتربصن ؛ وهذا اللفظ معناه الخبر عن المشروعية في أحد الوجهين كما تقدم. الثانية : - هذه الآية في عدة المتوفى عنها زوجها ، وظاهرها العموم ومعناها الخصوص. وحكى المهدوي عن بعض العلماء أن الآية تناولت الحوامل ثم نسخ ذلك بقوله {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق : 4]. وأكثر العلماء على أن هذه الآية ناسخة لقوله عز وجل : {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة : 240] لأن الناس أقاموا برهة من الإسلام إذا توفى الرجل وخلف امرأته حاملا أوصى لها زوجها بنفقة سنة وبالسكنى ما لم تخرج فتتزوج ؛ ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر وبالميراث. وقال قوم : ليس في هذا نسخ وإنما هو نقصان من الحول ؛ كصلاة المسافر لما نقصت من الأربع إلى الاثنتين لم يكن هذا نسخا. وهذا غلط بين ؛ لأنه إذا كان حكمها أن تعتد سنة إذا لم تخرج ، فإن خرجت لم تمنع ، ثم أزيل هذا ولزمتها العدة أربعة أشهر وعشرا. وهذا هو النسخ ، وليست صلاة المسافر من هذا في شيء. وقد قالت عائشة رضي الله عنها : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر بحالها ؛ وسيأتي. الثالثة : - عدة الحامل المتوفى عنها زوجها وضع حملها عند جمهور العلماء. وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس أن تمام عدتها آخر الأجلين ؛ واختاره سحنون من علمائنا. ، (3/174) ________________________________________ وقد روي عن ابن عباس أنه رجع عن هذا. والحجة لما روي عن على وابن عباس روم الجمع بين قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} وبين قوله : { وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق : 4] وذلك أنها إذا قعدت أقصى الأجلين فقد عملت بمقتضى الآيتين ، وإن اعتدت بوضع الحمل فقد تركت العمل بآية عدة الوفاة ، والجمع أولى من الترجيح باتفاق أهل الأصول. وهذا نظر حسن لولا ما يعكر عليه من حديث سبيعة الأسلمية وأنها نفست بعد وفاة زوجها بليال ، وأنها ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تتزوج ؛ أخرجه في الصحيح. فبين الحديث أن قوله تعالى : {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} محمول على عمومه في المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن ، وأن عدة الوفاة مختصة بالحائل من الصنفين ؛ ويعتضد هذا بقول ابن مسعود : ومن شاء باهلته أن آية النساء القصرى نزلت بعد آية عدة الوفاة. قال علماؤنا : وظاهر كلامه أنها ناسخة لها وليس ذلك مراده. والله أعلم. وإنما يعني أنها مخصصة لها ؛ فإنها أخرجت منها بعض متناولاتها. وكذلك حديث سبيعة متأخر عن عدة الوفاة ؛ لأن قصة سبيعة كانت بعد حجة الوداع ، وزوجها هو سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي وهو ممن شهد بدرا ، توفي بمكة حينئذ وهي حامل ، وهو الذي رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن توفي بمكة ، وولدت بعده بنصف شهر. وقال البخاري : بأربعين ليلة. وروى مسلم من حديث عمر بن عبدالله بن الأرقم أن سبيعة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قالت : فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي ، وأمرني بالتزوج إن بدا لي. قال ابن شهاب : ولا أرى بأسا أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها ، غير أن زوجها لا يقربها حتى تطهر ؛ وعلى هذا جمهور العلماء وأئمة الفقهاء. وقال الحسن والشعبي والنخعي وحماد : لا تنكح النفساء ما دامت في دم نفاسها. فاشترطوا شرطين : وضع الحمل ، والطهر من دم النفاس. والحديث حجة عليهم ، ولا حجة لهم في قوله : "فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب" كما في صحيح مسلم وأبي داود ؛ لأن "تعلت" وإن كان أصله ، (3/175) ________________________________________ طهرت من دم نفاسها على ما قاله الخليل - فيحتمل أن يكون المراد به ههنا تعلت من آلام نفاسها ؛ أي استقلت من أوجاعها. ولو سلم أن معناه ما قال الخليل فلا حجة فيه ؛ وإنما الحجة في قوله عليه السلام لسبيعة : "قد حللت حين وضعت" فأوقع الحل في حين الوضع وعلقه عليه ، ولم يقل إذا انقطع دمك ولا إذا طهرت ؛ فصح ما قاله الجمهور. الرابعة : - ولا خلاف بين العلماء على أن أجل كل حامل مطلقة يملك الزوج رجعتها أو لا يملك ، حرة كانت أو أمة أو مدبرة أو مكاتبة أن تضع حملها. الخامسة : - واختلفوا في أجل الحامل المتوفى عنها كما تقدم ؛ وقد أجمع الجميع بلا خلاف بينهم أن رجلا لو توفي وترك امرأة حاملا فانقضت أربعة أشهر وعشر أنها لا تحل حتى تلد ؛ فعلم أن المقصود الولادة. قوله تعالى : {يَتَرَبَّصْنَ} التربص : التأني والتصبر عن النكاح ، وترك الخروج عن مسكن النكاح وذلك بألا تفارقه ليلا. ولم يذكر الله تعالى السكنى للمتوفى عنها في كتابه كما ذكرها للمطلقة بقوله تعالى : {أَسْكِنُوهُنَّ} وليس في لفظ العدة في كتاب الله تعالى ما يدل على الإحداد ، وإنما قال : {يَتَرَبَّصْنَ} فبينت السنة جميع ذلك. والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم متظاهرة بأن التربص في الوفاة إنما هو بإحداد ، وهو الامتناع عن الزينة ولبس المصبوغ الجميل والطيب ونحوه ، وهذا قول جمهور العلماء. وقال الحسن بن أبي الحسن : ليس الإحداد بشيء ، إنما تتربص عن الزوج ، ولها أن تتزين وتتطيب ؛ وهذا ضعيف لأنه خلاف السنة على ما نبينه إن شاء الله تعالى. وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للفريعة بنت مالك بن سنان وكانت متوفى عنها : " امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا ؛ وهذا حديث ثابت أخرجه مالك عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، رواه عنه مالك والثوري ووهيب بن خالد وحماد بن زيد وعيسى بن يونس وعدد كثير وابن عيينة والقطان وشعبة ، وقد رواه مالك عن ابن شهاب ، (3/176) ________________________________________ وحسبك ، قال الباجي : لم يرو عنه غيره ، وقد أخذ به عثمان بن عفان. قال أبو عمر : وقضى به في اعتداد المتوفى عنها في بيتها ، وهو حديث معروف مشهور عند علماء الحجاز والعراق أن المتوفى عنها زوجها عليها أن تعتد في بيتها ولا تخرج عنه ، وهو قول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ومصر. وكان داود يذهب إلى أن المتوفى عنها زوجها ليس عليها أن تعتد في بيتها وتعتد حيث شاءت ، لأن السكنى إنما ورد به القرآن في المطلقات ؛ ومن حجته أن المسألة مسألة خلاف. قالوا : وهذا الحديث إنما ترويه امرأة غير معروفة بحمل العلم ؛ وإيجاب السكنى إيجاب حكم ، والأحكام لا تجب إلا بنص كتاب الله أو سنة أو إجماع. قال أبو عمر : أما السنة فثابتة بحمد الله ، وأما الإجماع فمستغنى عنه بالسنة ؛ لأن الاختلاف إذا نزل في مسألة كانت الحجة في قول من وافقته السنة ، وبالله التوفيق : وروي عن علي وابن عباس وجابر وعائشة مثل قول داود ؛ وبه قال جابر بن زيد وعطاء والحسن البصري. قال ابن عباس : إنما قال الله تعالى : {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} ولم يقل يعتددن في بيوتهن ، ولتعتد حيث شاءت ؛ وروي عن أبي حنيفة. وذكر عبدالرزاق قال : حدثنا معمر عن الزهري عن عروة قال : خرجت عائشة بأختها أم كلثوم - حين قتل عنها زوجها طلحة بن عبيدالله - إلى مكة في عمرة ، وكانت تفتي المتوفى عنها زوجها بالخروج في عدتها. قال : وحدثنا الثوري عن عبيدالله بن عمر أنه سمع القاسم بن محمد يقول : أبى الناس ذلك عليها. قال : وحدثنا معمر عن الزهري قال : أخذ المترخصون في المتوفى عنها زوجها بقول عائشة ، وأخذ أهل الورع والعزم بقول ابن عمر. وفي الموطأ : أن عمر بن الخطاب كان يرد المتوفى عنهن أزواجهن من البيداء يمنعهن الحج. وهذا من عمر رضي الله عنه اجتهاد ؛ لأنه كان يرى اعتداد المرأة في منزل زوجها المتوفى عنها لازما لها ؛ وهو مقتضى القرآن والسنة ، فلا يجوز لها أن تخرج في حج ولا عمرة حتى تنقضي عدتها. وقال مالك : ترد ما لم تحرم. السادسة : - إذا كان الزوج يملك رقبة المسكن فإن للزوجة العدة فيه ؛ وعليه أكثر الفقهاء : مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم لحديث الفريعة. وهل يجوز بيع الدار ، (3/177) ________________________________________ إذا كانت ملكا للمتوفى وأراد ذلك الورثة ؛ فالذي عليه جمهور أصحابنا أن ذلك جائز ، ويشترط فيه العدة للمرأة. قال ابن القاسم : لأنها أحق بالسكنى من الغرماء. وقال محمد بن الحكم : البيع فاسد ؛ لأنها قد ترتاب فتمتد عدتها. وجه قول ابن القاسم : أن الغالب السلامة ، والريبة نادرة وذلك لا يؤثر في فساد العقود ؛ فإن وقع البيع فيه بهذا الشرط فارتابت ، قال مالك في كتاب محمد : هي أحق بالمقام حتى تنقضي الريبة ، وأحب إلينا أن يكون للمشتري الخيار في فسخ البيع أو إمضائه ولا يرجع بشيء ؛ لأنه دخل على العدة المعتادة ، ولو وقع البيع بشرط زوال الريبة كان فاسدا. وقال سحنون : لا حجة للمشترى وإن تمادت الريبة إلى خمس سنين ؛ لأنه دخل على العدة والعدة قد تكون خمس سنين ؛ ونحو هذا روى أبو زيد عن ابن القاسم. السابعة : - فإن كان للزوج السكنى دون الرقبة ، فلها السكنى في مدة العدة ، خلافا لأبي حنيفة والشافعي ؛ لقوله عليه السلام للفريعة - وقد علم أن زوجها لا يملك رقبة المسكن - : "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" . لا يقال إن المنزل كان لها ، فلذلك قال لها : " امكثي في بيتك" فإن معمرا روى عن الزهري أنها ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أن زوجها قتل ، وأنه تركها في مسكن ليس لها واستأذنته ؛ وذكر الحديث. ولنا من جهة المعنى أنه ترك دارا يملك سكناها ملكا لا تبعة عليه فيه ؛ فلزم أن تعتد الزوجة فيه ؛ أصل ذلك إذا ملك رقبتها. الثامنة : - وهذا إذا كان قد أدى الكراء ، وأما إذا كان لم يؤد الكراء فالذي في المدونة : إنه لا سكنى لها في مال الميت وإن كان موسرا ؛ لأن حقها إنما يتعلق بما يملكه من السكنى ملكا تاما ، وما لم ينقد عوضه لم يملكه ملكا تاما ، وإنما ملك العوض الذي بيده ، ولا حق في ذلك للزوجة إلا بالميراث دون السكنى ؛ لأن ذلك مال وليس بسكنى. وروى محمد عن مالك أن الكراء لازم للميت في ماله. التاسعة : - قوله صلى الله عليه وسلم للفريعة : "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" يحتمل أنه أمرها بذلك لما كان زوجها قد أدى كراء المسكن ، أو كان أسكن فيه (3/178) ________________________________________ إلى وفاته ، أو أن أهل المنزل أباحوا لها العدة فيه بكراء أو غير كراء ، أو ما شاء الله تعالى من ذلك مما رأى به أن المقام لازم لها فيه حتى تنقضي عدتها. العاشرة : - واختلفوا في المرأة يأتيها نعي زوجها وهي في بيت غير بيت زوجها ؛ فأمرها بالرجوع إلى مسكنه وقراره مالك بن أنس ؛ وروى ذلك عن عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه. وقال سعيد بن المسيب والنخعي : تعتد حيث أتاها الخبر ، لا تبرح منه حتى تنقضي العدة. قال ابن المنذر : قول مالك صحيح ، إلا أن يكون نقلها الزوج إلى مكان فتلزم ذلك المكان. الحادية عشرة : - ويجوز لها أن تخرج في حوائجها من وقت انتشار الناس بكرة إلى وقت هدوئهم بعد العتمة ، ولا تبيت إلا في ذلك المنزل. وفي البخاري ومسلم عن أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب ، ولا تكتحل ، ولا تمس طيبا إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار". وفي حديث أم حبيبة : "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا..." الحديث. الإحداد : ترك المرأة الزينة كلها من اللباس والطيب والحلي والكحل والخضاب بالحناء ما دامت في عدتها ؛ لأن الزينة داعية إلى الأزواج ، فنهيت عن ذلك قطعا للذرائع ، وحماية لحرمات الله تعالى أن تنتهك ، وليس دهن المرأة رأسها بالزيت والشيرج من الطيب في شيء. يقال : امرأة حاد ومحد. قال الأصمعي : ولم نعرف "حدت". وفاعل "لا يحل" المصدر الذي يمكن صياغته من "تحد" مع "أن" المرادة ؛ فكأنه قال : الإحداد. الثانية عشرة : - وصفه عليه السلام المرأة بالإيمان يدل على صحة أحد القولين عندنا في الكتابية المتوفى عنها زوجها أنها لا إحداد عليها ؛ وهو قول ابن كنانة وابن نافع ، ورواه أشهب عن مالك ، وبه قال أبو حنيفة وابن المنذر ، وروي عن ابن القاسم أن عليها الإحداد ، (3/179) ________________________________________ كالمسلمة ؛ وبه قال الليث والشافعي وأبو ثور وعامة أصحابنا ؛ لأنه حكم من أحكام العدة فلزمت الكتابية للمسلم كلزوم المسكن والعدة. الثالثة عشرة : - وفي قوله عليه السلام : "فوق ثلاث إلا على زوج " دليل على تحريم إحداد المسلمات على غير أزواجهن فوق ثلاث ، وإباحة الإحداد عليهم ثلاثا تبدأ بالعدد من الليلة التي تستقبلها إلى آخر ثالثها ؛ فإن مات حميمها في بقية يوم أو ليلة ألغته وحسبت من الليلة القابلة. الرابعة عشرة : - هذا الحديث بحكم عمومه يتناول الزوجات كلهن المتوفى عنهن أزواجهن ، فيدخل فيه الإماء والحرائر والكبار والصغار ؛ وهو مذهب الجمهور من العلماء. وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا إحداد على أمة ولا على صغيرة ؛ حكاه عنه القاضي أبو الوليد الباجي. قال ابن المنذر : أما الأمة الزوجة فهي داخلة في جملة الأزواج وفي عموم الأخبار ؛ وهو قول مالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي ؛ ولا أحفظ في ذلك عن أحد خلافا ، ولا أعلمهم يختلفون في الإحداد على أم الولد إذا مات سيدها ؛ لأنها ليست بزوجة ، والأحاديث إنما جاءت في الأزواج. قال الباجي : الصغيرة إذا كانت ممن تعقل الأمر والنهي وتلتزم ما حد لها أمرت بذلك ، وإن كانت لا تدرك شيئا من ذلك لصغرها فروى ابن مزين عن عيسى يجنبها أهلها جميع ما تجتنبه الكبيرة ، وذلك لازم لها. والدليل على وجوب الإحداد على الصغيرة ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سألته امرأة عن بنت لها توفي عنها زوجها فاشتكت عينها أفتكحلها ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا" مرتين أو ثلاثا ؛ كل ذلك يقول "لا" ولم يسأل عن سنها ؛ ولو كان الحكم يفترق بالصغر والكبر لسأل عن سنها حتى يبين الحكم ، وتأخير البيان في مثل هذا لا يجوز ، وأيضا فإن كل من لزمتها العدة بالوفاة لزمها الإحداد كالكبيرة. الخامسة عشرة : - قال ابن المنذر : ولا أعلم خلافا أن الخضاب داخل في جملة الزينة المنهي عنها. وأجمعوا على أنه لا يجوز لها لباس الثياب المصبغة والمعصفرة ، إلا ما صبغ ، (3/180) ________________________________________ بالسواد فإنه رخص فيه عروة بن الزبير ومالك والشافعي ، وكرهه الزهري. وقال الزهري : لا تلبس ثوب عصب ، وهو خلاف الحديث. وفي المدونة قال مالك : لا تلبس رقيق عصب اليمن ؛ ووسع في غليظه. قال ابن القاسم : لأن رقيقه بمنزلة الثياب المصبغة وتلبس رقيق الثياب وغليظه من الحرير والكتان والقطن. قال ابن المنذر : ورخص كل من أحفظ عنه في لباس البياض ؛ قال القاضي عياض : ذهب الشافعي إلى أن كل صبغ كان زينة لا تمسه الحاد رقيقا كان أو غليظا. ونحوه للقاضي عبدالوهاب قال : كل ما كان من الألوان تتزين به النساء لأزواجهن فلتمتنع منه الحاد. ومنع بعض ، مشايخنا المتأخرين جيد البياض الذي يتزين به ، وكذلك الرفيع من السواد. وروى ابن المواز عن مالك : لا تلبس حليا وإن كان حديدا ؛ وفي الجملة أن كل ما تلبسه المرأة على وجه ما يستعمل عليه الحلي من التجمل فلا تلبسه الحاد. ولم ينص أصحابنا على الجواهر واليواقيت والزمرد وهو داخل في معنى الحلي. والله أعلم. السادسة عشرة : - وأجمع الناس على وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها ، إلا الحسن فإنه قال : ليس بواجب ؛ واحتج بما رواه عبدالله بن شداد بن الهاد عن أسماء بنت عميس قالت : لما أصيب جعفر بن أبي طالب قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تسلبي ثلاثا ثم اصنعي ما شئت". قال ابن المنذر : كان الحسن البصري من بين سائر أهل العلم لا يرى الإحداد ، وقال : المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها زوجها تكتحلان وتختضبان وتصنعان ما شاءا. وقد ثبتت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالإحداد ، وليس لأحد بلغته إلا التسليم ؛ ولعل الحسن لم تبلغه ، أو بلغته فتأولها بحديث أسماء بنت عميس أنها استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تحد على جعفر وهى امرأته ؛ فأذن لها ثلاثة أيام ثم بعث إليها بعد ثلاثة أيام أن تطهري واكتحلي. قال ابن المنذر ؛ وقد دفع أهل العلم هذا الحديث بوجوبه ؛ وكان أحمد بن حنبل يقول : هذا الشاذ من الحديث لا يؤخذ به ؛ وقاله إسحاق. (3/181) ________________________________________ السابعة عشرة : - ذهب مالك والشافعي إلى أن لا إحداد على مطلقة رجعية كانت أو بائنة واحدة. أو أكثر ؛ وهو قول ربيعة وعطاء. وذهب الكوفيون : أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي ، وأبو ثور وأبو عبيد ؟ ؟ أن المطلقة ثلاثا عليها الإحداد ؛ وهو قول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وابن سيرين والحكم بن عيينة. قال الحكم : هو عليها أوكد وأشد منه على المتوفى عنها زوجها ؛ ومن جهة المعنى أنهما جميعا في عدة يحفظ بها النسب. وقال الشافعي وأحمد وإسحاق : الاحتياط أن تتقي المطلقة الزينة. قال ابن المنذر : وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا" دليل على أن المطلقة ثلاثا والمطلِق حيُّ لا إحداد عليها. الثامنة عشرة : - أجمع العلماء على أن من طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها ثم توفي قبل انقضاء العدة أن عليها عدة الوفاة وترثه. واختلفوا في عدة المطلقة ثلاثا في المرض ؛ فقالت طائفة تعتد عدة الطلاق ؛ هذا قول مالك والشافعي ويعقوب وأبي عبيد وأبي ثور. قال ابن المنذر : وبه نقول ؛ لأن الله تعالى جعل عدة المطلقات الأقراء ، وقد أجمعوا على المطلقة ثلاثا لو ماتت لم يرثها المطلق ، وذلك لأنها غير زوجة ؛ وإذا كانت غير زوجة فهو غير زوج لها. وقال الثوري : تعتد بأقصى العدتين. وقال النعمان ومحمد : عليها أربعة أشهر وعشر تستكمل في ذلك ثلاث حيض. التاسعة عشرة : - واختلفوا في المرأة يبلغها وفاة زوجها أو طلاقه ؛ فقالت طائفة : العدة في الطلاق والوفاة من يوم يموت أو يطلق ؛ هذا قول ابن عمر وابن مسعود وابن عباس ، وبه قال مسروق وعطاء وجماعة من التابعين ، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد والثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي وابن المنذر. وفيه قول ثان وهو أن عدتها من يوم يبلغها الخبر ؛ روي هذا القول عن علي ، وبه قال الحسن البصري وقتادة وعطاء الخراساني وجلاس بن عمرو. وقال سعيد بن المسيب وعمر بن عبدالعزيز : إن قامت بينة فعدتها من يوم مات أو طلق ، وإن لم تقم بينة فمن يوم يأتيها الخبر ؛ والصحيح الأول ، (3/182) ________________________________________ لأنه تعالى علق العدة بالوفاة أو الطلاق ، ولأنها لو علمت بموته فتركت الإحداد انقضت العدة ، فإذا تركته مع عدم العلم فهو أهون ؛ ألا ترى أن الصغيرة تنقضي عدتها ولا إحداد عليها. وأيضا فقد أجمع العلماء على أنها لو كانت. حاملا لا تعلم طلاق الزوج أو وفاته ثم وضعت حملها أن عدتها منقضية. ولا فرق بين هذه المسألة وبين المسألة المختلف فيها. ووجه من قال بالعدة من يوم يبلغها الخبر ، أن العدة عبادة بترك الزينة وذلك لا يصح إلا بقصد ونية ، والقصد لا يكون إلا بعد العلم. والله أعلم. الموفية عشرين : - عدة الوفاة تلزم الحرة والأمة والصغيرة والكبيرة والتي لم تبلغ المحيض ، والتي حاضت واليائسة من المحيض والكتابية - دخل بها أو لم يدخل بها إذا كانت غير حامل - وعدة جميعهن إلا الأمة أربعة أشهر وعشرة أيام ؛ لعموم الآية في قوله تعالى : {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} . وعدة الأمة المتوفى عنها زوجها شهران وخمس ليال. قال ابن العربي : نصف عدة الحرة إجماعا ، إلا ما يحكى عن الأصم فإنه سوى فيها بين الحرة والأمة وقد سبقه الإجماع ، لكن لصممه لم يسمع. قال الباجي : ولا نعلم في ذلك خلافا إلا ما يروى عن ابن سيرين ، وليس بالثابت عنه أنه قال : عدتها عدة الحرة. قلت : قول الأصم صحيح من حيث النظر ؛ فإن الآيات الواردة في عدة الوفاة والطلاق بالأشهر والأقراء عامة في حق الأمة والحرة ؛ فعدة الحرة والأمة سواء على هذا النظر ؛ فإن العمومات لا فصل فيها بين الحرة والأمة ، وكما استوت الأمة والحرة في النكاح فكذلك تستوي معها في العدة. والله أعلم. قال ابن العربي : وروي عن مالك أن الكتابية تعتد بثلاث حيض إذ يبرأ الرحم ؛ وهذا منه فاسد جدا ، لأنه أخرجها من عموم آية الوفاة وهي منها وأدخلها في عموم آية الطلاق وليست منها. قلت : وعليه بناء ما في المدونة لا عدة عليها إن كانت غير مدخول بها ؛ لأنه قد علم براءة رحمها ، هذا يقتضي أن تتزوج مسلما أو غيره إثر وفاته ؛ لأنه إذا لم يكن عليها عدة للوفاة ولا استبراء للدخول فقد حلت للأزواج. (3/183) ________________________________________ الحادية والعشرون : - واختلفوا في عدة أم الولد إذا توفى عنها سيدها ؛ فقالت طائفة : عدتها أربعة أشهر وعشر ؛ قاله جماعة من التابعين منهم سعيد والزهري والحسن البصري وغيرهم ، وبه قال الأوزاعي وإسحاق. وروى أبو داود والدارقطني عن قبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن العاص قال : لا تلبسوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر ؛ يعني في أم الولد ؛ لفظ أبي داود. وقال الدارقطني : موقوف. وهو الصواب ، وهو مرسل لأن قبيصة لم يسمع من عمرو. قال ابن المنذر : وضعف أحمد وأبو عبيد هذا الحديث. وروي عن علي وابن مسعود أن عدتها ثلاث حيض ؛ وهو قول عطاء وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وأصحاب الرأي ؛ قالوا : لأنها عدة تجب في حال الحرية ، فوجب أن تكون عدة كاملة ؛ أصله عدة الحرة. وقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور : عدتها حيضة ؛ وهو قول ابن عمر. وروي عن طاوس أن عدتها نصف عدة الحرة المتوفى عنها ؛ وبه قال قتادة. قال ابن المنذر : وبقول ابن عمر أقول ؛ لأنه الأقل مما قيل فيه وليس فيه سنة تتبع ولا إجماع يعتمد عليه. وذكر اختلافهم في عدتها في العتق كهو في الوفاة سواء ، إلا أن الأوزاعي جعل عدتها في العتق ثلاث حيض. قلت : أصح هذه الأقوال قول مالك ، لأن الله سبحانه قال : {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة : 228] فشرط في تربص الأقراء أن يكون عن طلاق ؛ فانتفى بذلك أن يكون عن غيره. وقال : {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} فعلق وجوب ذلك بكون المتربصة زوجة ؛ فدل على أن الأمة بخلافها. وأيضا فإن هذه أمة موطوءة بملك اليمين فكان استبراؤها بحيضة ؛ أصل ذلك الأمة. الثانية والعشرون : - إذا ثبت هذا فهل عدة أم الولد استبراء محض أو عدة ؛ فالذي ذكره أبو محمد في معونته أن الحيضة استبراء وليست بعدة. وفي المدونة أن أم الولد عليها العدة ، وأن عدتها حيضة كعدة الحرة ثلاث حيض. وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا هي عدة فقد (3/184) ________________________________________ قال مالك : لا أحب أن تواعد أحدا ينكحها حتى تحيض حيضة. قال ابن القاسم : وبلغني عنه أنه قال : لا تبيت إلا في بيتها ؛ فأثبت لمدة استبرائها حكم العدة. الثالثة عشرون : - أجمع أهل العلم على أن نفقة المطلقة ثلاثا أو مطلقة للزوج عليها رجعة وهي حامل واجبة ؛ لقوله تعالى : {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق : 6]. واختلفوا في وجوب نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها ؛ فقالت طائفة : لا نفقة لها ؛ كذلك قال جابر بن عبدالله وابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء والحسن وعكرمة وعبدالملك بن يعلى ويحيى الأنصاري وربيعة ومالك وأحمد وإسحاق ، وحكى أبو عبيد ذلك عن أصحاب الرأي. وفيه قول ثان وهو أن لها النفقة من جميع المال ؛ وروي هذا القول عن علي وعبدالله وبه قال ابن عمرو وشريح وابن سيرين والشعبي وأبو العالية والنخعي وجلاس بن عمرو وحماد بن أبي سليمان وأيوب السختياني وسفيان الثوري وأبو عبيد. قال ابن المنذر : وبالقول الأول أقول ؛ لأنهم أجمعوا على أن نفقة كل من كان يجبر على نفقته وهو حي مثل أولاده الأطفال وزوجته ووالديه تسقط عنه ؛ فكذلك تسقط عنه نفقة الحامل من أزواجه. وقال القاضي أبو محمد : لأن نفقة الحمل ليست بدين ثابت فتتعلق بماله بعد موته ، بدليل أنها تسقط عنه بالإعسار فبأن تسقط بالموت أولى وأحرى. الرابعة والعشرون : - عقوله تعالى : {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} اختلف العلماء في الأربعة الأشهر والعشر التي جعلها الله ميقاتا لعدة المتوفى عنها زوجها ، هل تحتاج فيها إلى حيضة أم لا ؛ فقال بعضهم : لا تبرأ إذا كانت ممن توطأ إلا بحيضة تأتي بها في الأربعة الأشهر والعشر ، وإلا فهي مسترابة. وقال آخرون : ليس عليها أكثر من أربعة أشهر وعشر ، إلا أن تستريب نفسها ريبة بينة ؛ لأن هذه المدة لا بد فيها من الحيض في الأغلب من أمر النساء إلا أن تكون المرأة ممن لا تحيض أو ممن عرفت من نفسها أو عرف منها أن حيضتها لا تأتيها إلا في أكثر من هذه المدة. (3/185)
| |
|