(2/244)
________________________________________
وقد قيل : إن "كتب" هنا إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ وسبق به القضاء. والقصاص مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه ، ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار. وقص الشعر اتباع أثره ، فكأن القاتل سلك طريقا من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك ، ومنه {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} [الكهف : 64]. وقيل : القص القطع ، يقال : قصصت ما بينهما. ومنه أخذ القصاص ، لأنه يجرحه مثل جرحه أو يقتله به ، يقال : أقص الحاكم فلانا من فلان وأباءه به فأمثله فامتثل منه ، أي اقتص منه.
الثالثة : صورة القصاص هو أن القاتل فرض عليه إذا أراد الولي القتل الاستسلام لأمر اللّه والانقياد لقصاصه المشروع ، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قاتل وليه وترك التعدي على غيره ، كما كانت العرب تتعدى فتقتل غير القاتل ، وهو معنى قوله عليه السلام : "إن من أعتى الناس على اللّه يوم القيامة ثلاثة رجل قتل غير قاتله ورجل قتل في الحرم ورجل أخذ بذحول الجاهلية" . قال الشعبي وقتادة وغيرهما : إن أهل الجاهلية كان فيهم بغي وطاعة للشيطان ، فكان الحي إذا كان فيه عز ومنعة فقتل لهم عبد ، قتله عبد قوم آخرين قالوا : لا نقتل به إلا حرا ، وإذا قتلت منهم امرأة قالوا : لا نقتل بها إلا رجلا ، وإذا قتل لهم وضيع قالوا : لا نقتل به إلا شريفا ، ويقولون : "القتل أوقى للقتل" بالواو والقاف ، ويروي "أبقى" بالباء والقاف ، ويروى "أنفى" بالنون والفاء ، فنهاهم اللّه عن البغي فقال : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} الآية ، وقال {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة : 179]. وبين الكلامين في الفصاحة والجزل بون عظيم.
الرابعة : لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الأمر ، فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك ، لأن اللّه سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص ، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعا أن يجتمعوا على القصاص ، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم
(2/245)
________________________________________
في إقامة القصاص وغيره من الحدود. وليس القصاص بلازم إنما اللازم ألا يتجاوز القصاص وغيره من الحدود إلى الاعتداء ، فأما إذا وقع الرضا بدون القصاص من دية أو عفو فذلك مباح ، على ما يأتي بيانه.
فإن قيل : فإن قوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} معناه فرض وألزم ، فكيف يكون القصاص غير واجب ؟ قيل له : معناه إذا أردتم ، فأعلم أن القصاص هو الغاية عند التشاح. والقتلى جمع قتيل ، لفظ مؤنث تأنيث الجماعة ، وهو مما يدخل على الناس كرها ، فلذلك جاء على هذا البناء كجرحى وزمنى وحمقى وصرعى وغرقى ، وشبههن.
الخامسة : قوله تعالى : {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} الآية. اختلف في تأويلها ، فقالت طائفة : جاءت الآية مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه ، فبينت حكم الحر إذا قتل حرا ، والعبد إذا قتل عبدا ، والأنثى إذا قتلت أنثى ، ولم تتعرض لأحد النوعين إذا قتل الآخر ، فالآية محكمة وفيها إجمال يبينه قوله تعالى : {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة : 45] ، وبينه النبي صلى اللّه عليه وسلم بسنته لما قتل اليهودي بالمرأة ، قاله مجاهد ، وذكره أبو عبيد عن ابن عباس. وروي عن ابن عباس أيضا أنها منسوخة بآية "المائدة" وهو قول أهل العراق.
السادسة : قال الكوفيون والثوري : يقتل الحر بالعبد ، والمسلم بالذمي ، واحتجوا بقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} فعم ، وقوله : {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة : 45] ، قالوا : والذمي مع المسلم متساويان في الحرمة التي تكفي في القصاص وهي حرمة الدم الثابتة على التأبيد ، فإن الذمي محقون الدم على التأبيد ، والمسلم كذلك ، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام ، والذي يحقق ذلك أن المسلم يقطع بسرقة مال الذمي ، وهذا يدل على أن مال الذمي قد ساوى مال المسلم ، فدل على مساواته لدمه إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه. واتفق أبو حنيفة وأصحابه والثوري وابن أبي ليلى على أن الحر يقتل بالعبد كما يقتل العبد به ، وهو قول داود ، وروي ذلك عن علي وابن مسعود
(2/246)
________________________________________
رضي اللّه عنهما ، وبه قال سعيد بن المسيب وقتادة وإبراهيم النخعي والحكم بن عيينة. والجمهور من العلماء لا يقتلون الحر بالعبد ، للتنويع والتقسيم في الآية. وقال أبو ثور : لما اتفق جميعهم على أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفوس كانت النفوس أحرى بذلك ، ومن فرق منهم بين ذلك فقد ناقض. وأيضا فالإجماع فيمن قتل عبدا خطأ أنه ليس عليه إلا القيمة ، فكما لم يشبه الحر في الخطأ لم يشبهه في العمد. وأيضا فإن العبد سلعة من السلع يباع ويشترى ، ويتصرف فيه الحر كيف شاء ، فلا مساواة بينه وبين الحر ولا مقاومة.
قلت : هذا الإجماع صحيح ، وأما قوله أولا : "ولما اتفق جميعهم - إلى قوله - فقد ناقض" فقد قال ابن أبي ليلى وداود بالقصاص بين الأحرار والعبيد في النفس وفي جميع الأعضاء ، واستدل داود بقوله عليه السلام : "المسلمون تتكافأ دماؤهم" فلم يفرق بين حر وعبد. وسيأتي بيانه في "النساء" إن شاء اللّه تعالى
السابعة : والجمهور أيضا على أنه لا يقتل مسلم بكافر ، لقوله صلى اللّه عليه وسلم : "لا يقتل مسلم بكافر" أخرجه البخاري عن علي بن أبي طالب. ولا يصح لهم ما رووه من حديث ربيعة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قتل يوم خيبر مسلما بكافر ، لأنه منقطع ، ومن حديث ابن البيلماني وهو ضعيف عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم مرفوعا. قال الدارقطني : "لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى وهو متروك الحديث. والصواب عن ربيعة عن ابن البيلماني مرسل عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وابن البيلماني ضعيف الحديث لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث ، فكيف بما يرسله"
قلت : فلا يصح في الباب إلا حديث البخاري ، وهو يخصص عموم قوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية ، وعموم قوله : {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة : 45].
الثامنة : روي عن علي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن البصري أن الآية نزلت مبينة حكم المذكورين ، ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبدا أو عبد حرا ، أو ذكر أنثى أو أنثى ذكرا ، وقالا : إذا قتل رجل امرأة فإن أراد أولياؤها قتلوا صاحبهم ووفوا
(2/247)
________________________________________
أولياءه نصف الدية ، وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة. وإذا قتلت امرأة رجلا فإن أراد أولياؤه قتلها قتلوها وأخذوا نصف الدية ، وإلا أخذوا دية صاحبهم واستحيوها. روى هذا الشعبي عن علي ، ولا يصح ، لأن الشعبي لم يلق عليا. وقد روى الحكم عن علي وعبدالله قالا : إذا قتل الرجل المرأة متعمدا فهو بها قود ، وهذا يعارض رواية الشعبي عن علي. وأجمع العلماء على أن الأعور والأشل إذا قتل رجلا سالم الأعضاء أنه ليس لوليه أن يقتل الأعور ، ويأخذ منه نصف الدية من أجل أنه قتل ذا عينين وهو أعور ، وقتل ذا يدين وهو أشل ، فهذا يدل على أن النفس مكافئة للنفس ، ويكافئ الطفل فيها الكبير
ويقال لقائل ذلك : إن كان الرجل لا تكافئه المرأة ولا تدخل تحت قول النبي صلى اللّه عليه وسلم : "المسلمون تتكافأ دماؤهم" فلم قتلت الرجل بها وهي لا تكافئه ثم تأخذ نصف الدية ، والعلماء قد أجمعوا أن الدية لا تجتمع مع القصاص ، وأن الدية إذا قبلت حرم الدم وارتفع القصاص ، فليس قولك هذا بأصل ولا قياس ، قاله أبو عمر رضي اللّه عنه. وإذا قتل الحر العبد ، فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلا قيمة العبد ، وإن شاء استحيا وأخذ قيمة العبد ، هذا مذكور عن ، علي والحسن ، وقد أنكر ذلك عنهم أيضا.
التاسعة : وأجمع العلماء على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل ، والجمهور لا يرون الرجوع بشيء. وفرقة ترى الاتباع بفضل الديات. قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأبو ثور : وكذلك القصاص بينهما فيما دون النفس. وقال حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة : لا قصاص بينهما فيما دون النفس وإنما هو في النفس بالنفس ، وهما محجوجان بإلحاق ما دون النفس بالنفس على طريق الأحرى والأولى ، على ما تقدم.
العاشرة : قال ابن العربي : ولقد بلغت الجهالة بأقوام إلى أن قالوا : يقتل الحر بعبد نفسه ، ورووا في ذلك حديثا عن الحسن عن سمرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : "من قتل عبده قتلناه" وهو حديث ضعيف. ودليلنا قوله تعالى : {وَمَنْ قُتِلَ
(2/248)
________________________________________
مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء : 33] والولي ههنا السيد ، فكيف يجعل له سلطان على نفسه". وقد اتفق الجميع على أن السيد لو قتل عبده خطأ أنه لا تؤخذ منه قيمته لبيت المال ، وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم "ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده به".
فإن قيل : فإذا قتل الرجل زوجته لم لم تقولوا : ينصب النكاح شبهة في درء القصاص عن الزوج ، إذ النكاح ضرب من الرق ، وقد قال ذلك الليث بن سعد. قلنا : النكاح ينعقد لها عليه ، كما ينعقد له عليها ، بدليل أنه لا يتزوج أختها ولا أربعا سواها ، وتطالبه في حق الوطء بما يطالبها ، ولكن له عليها فضل القوامة التي جعل اللّه له عليها بما أنفق من ماله ، أي بما وجب عليه من صداق ونفقة ، فلو أورث شبهة لأورثها في الجانبين.
قلت : هذا الحديث الذي ضعفه ابن العربي وهو صحيح ، أخرجه النسائي وأبو داود ، وتتميم متنه : "ومن جدعه جدعناه ومن أخصاه أخصيناه" . وقال البخاري عن علي بن المديني : سماع الحسن من سمرة صحيح ، وأخذ بهذا الحديث. وقال البخاري : وأنا أذهب إليه ، فلو لم يصح الحديث لما ذهب إليه هذان الإمامان ، وحسبك بهما. ويقتل الحر بعبد نفسه. قال النخعي والثوري في أحد قوليه وقد قيل : إن الحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة ، واللّه أعلم. واختلفوا في القصاص بين العبيد فيما دون النفس ، هذا قول عمر بن عبدالعزيز وسالم بن عبدالله والزهري وقران ومالك والشافعي وأبو ثور. وقال الشعبي والنخعي والثوري وأبو حنيفة : لا قصاص بينهم إلا في النفس. قال ابن المنذر : الأول أصح.
الحادية عشرة : روى الدارقطني وأبو عيسى الترمذي عن سراقة بن مالك قال : حضرت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقيد الأب من ابنه ، ولا يقيد الابن من أبيه. قال أبو عيسى : "هذا حديث لا نعرفه من حديث سراقة إلا من هذا الوجه ، وليس إسناده بصحيح ، رواه إسماعيل بن عياش عن المثنى بن الصباح ، والمثنى يضعف في الحديث ، وقد روى هذا
(2/249)
________________________________________
الحديث أبو خالد الأحمر عن الحجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. وقد روي هذا الحديث عن عمرو بن شعيب مرسلا ، وهذا الحديث فيه اضطراب ، والعمل على هذا عند أهل العلم أن الأب إذا قتل ابنه لا يقتل به ، وإذا قذفه لا يحد". وقال ابن المنذر : اختلف أهل العلم في الرجل يقتل ابنه عمدا ، فقالت طائفة : لا قود عليه وعليه ديته ، وهذا قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي ، وروي ذلك عن عطاء ومجاهد. وقال مالك وابن نافع وابن عبدالحكم : يقتل به. وقال ابن المنذر : وبهذا نقول لظاهر الكتاب والسنة ، فأما ظاهر الكتاب فقوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} ، والثابت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "المؤمنون تتكافأ دماؤهم" ولا نعلم خبرا ثابتا يجب به استثناء الأب من جملة الآية ، وقد روينا فيه أخبارا غير ثابتة. وحكى الكيا الطبري عن عثمان البتي أنه يقتل الوالد بولده ، للعمومات في القصاص. وروي مثل ذلك عن مالك ، ولعلهما لا يقبلان أخبار الآحاد في مقابلة عمومات القرآن.
قلت : لا خلاف في مذهب مالك أنه إذا قتل الرجل ابنه متعمدا مثل أن يضجعه ويذبحه أو يصبره مما لا عذر له فيه ولا شبهة في ادعاء الخطأ ، أنه يقتل به قولا واحدا. فأما إن رماه بالسلاح أدبا أو حنقا فقتله ، ففيه في المذهب قولان : يقتل به ، ولا يقتل به وتغلظ الدية ، وبه قال جماعة العلماء. ويقتل الأجنبي بمثل هذا. ابن العربي : "سمعت شيخنا فخر الإسلام الشاشي يقول في النظر : لا يقتل الأب بابنه ، لأن الأب كان سبب وجوده ، فكيف يكون هو سبب عدمه ؟ وهذا يبطل بما إذا زنى بابنته فإنه يرجم ، وكان سبب وجودها وتكون هي سبب عدمه ، ثم أي فقه تحت هذا ، ولم لا يكون سبب عدمه إذا عصى اللّه تعالى في ذلك. وقد أثروا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : "لا يقاد الوالد
(2/250)
________________________________________
بولده" وهو حديث باطل ، ومتعلقهم أن عمر رضي اللّه عنه قضى بالدية مغلظة في قاتل ابنه ولم ينكر أحد من الصحابة عليه ، فأخذ سائر الفقهاء رضي اللّه عنهم المسألة مسجلة ، وقالوا : لا يقتل الوالد بولده ، وأخذها مالك محكمة مفصلة فقال : إنه لو حذفه بالسيف وهذه حالة محتملة لقصد القتل وعدمه ، وشفقة الأبوة شبهة منتصبة شاهدة بعدم القصد إلى القتل تسقط القود ، فإذا أضجعه كشف الغطاء عن قصده فالتحق بأصله". قال ابن المنذر : وكان مالك والشافعي وأحمد وإسحاق يقولون : إذا قتل الابن الأب قتل به
الثانية عشرة : وقد استدل الإمام أحمد بن حنبل بهذه الآية على قوله : لا تقتل الجماعة بالواحد ، قال : لأن اللّه سبحانه شرط المساواة ولا مساواة بين الجماعة والواحد. وقد قال تعالى : {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة : 45]. والجواب أن المراد بالقصاص في الآية قتل من قتل كائنا من كان ، ردا على العرب التي كانت تريد أن تقتل بمن قتل من لم يقتل ، وتقتل في مقابلة الواحد مائة ، افتخارا واستظهارا بالجاه والمقدرة ، فأمر اللّه سبحانه بالعدل والمساواة ، وذلك بأن يقتل من قتل ، وقد قتل عمر رضي اللّه عنه سبعة برجل بصنعاء وقال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا. وقتل علي رضي اللّه عنه الحرورية عبداللّه بن خباب فإنه توقف عن قتالهم حتى يحدثوا ، فلما ذبحوا عبدالله بن خباب كما تذبح الشاة ، وأخبر علي بذلك قال : "اللّه أكبر نادوهم أن أخرجوا إلينا قاتل عبدالله بن خباب ، فقالوا : كلنا قتله ، ثلاث مرات ، فقال علي لأصحابه : دونكم القوم ، فما لبث أن قتلهم علي وأصحابه" خرج الحديثين الدارقطني في سننه. وفي الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : "لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم اللّه في النار" . وقال فيه : حديث غريب. وأيضا فلو علم الجماعة أنهم إذا قتلوا الواحد لم يقتلوا لتعاون الأعداء على قتل أعدائهم بالاشتراك في قتلهم وبلغوا الأمل من التشفي ،
(2/251)
________________________________________
ومراعاة هذه القاعدة أولى من مراعاة الألفاظ واللّه أعلم. وقال ابن المنذر : وقال الزهري وحبيب بن أبي ثابت وابن سيرين : لا يقتل اثنان بواحد. روينا ذلك عن معاذ بن جبل وابن الزبير وعبدالملك ، قال ابن المنذر : وهذا أصح ، ولا حجة مع من أباح قتل جماعة بواحد. وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه
الثالثة عشرة : روى الأئمة عن أبي شريح الكعبي قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "ألا إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقله فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين أن يأخذوا العقل أو يقتلوا" ، لفظ أبي داود. وقال الترمذي : حديث حسن صحيح. وروي عن أبي شريح الخزاعي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : "من قتل له قتيل فله أن يقتل أو يعفو أو يأخذ الدية" . وذهب إلى هذا بعض أهل العلم ، وهو قول أحمد وإسحاق
الرابعة عشرة : اختلف أهل العلم في أخذ الدية من قاتل العمد ، فقالت طائفة : ولي المقتول بالخيار إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية وإن لم يرض القاتل. يروى هذا عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن ، ورواه أشهب عن مالك ، وبه قال الليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وحجتهم حديث أبي شريح وما كان في معناه ، وهو نص في موضع الخلاف ، وأيضا من طريق النظر فإنما لزمته الدية بغير رضاه ، لأن فرضا عليه إحياء نفسه ، وقد قال اللّه تعالى : {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء : 29]. وقوله : {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} أي ترك له دمه في أحد التأويلات ، ورضي منه بالدية {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} أي فعلى صاحب الدم اتباع بالمعروف في المطالبة بالدية ، وعلى القاتل أداء إليه بإحسان ، أي من غير مماطلة وتأخير عن الوقت {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} أي أن من كان قبلنا لم يفرض اللّه عليهم غير النفس بالنفس ، فتفضل اللّه على هذه الأمة بالدية إذا رضي بها ولي الدم ، على ما يأتي بيانه. وقال
(2/252)
________________________________________
آخرون : ليس لولي المقتول إلا القصاص ، ولا يأخذ الدية إلا إذا رضي القاتل ، رواه ابن القاسم عن مالك وهو المشهور عنه ، وبه قال الثوري والكوفيون. واحتجوا بحديث أنس في قصة الربيع حين كسرت ثنية المرأة ، رواه الأئمة قالوا : فلما حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالقصاص وقال : "القصاص كتاب اللّه ، القصاص كتاب اللّه" ولم يخير المجني عليه بين القصاص والدية ثبت بذلك أن الذي يجب بكتاب اللّه وسنة رسوله في العمد هو القصاص ، والأول أصح ، لحديث أبي شريح المذكور. وروى الربيع عن الشافعي قال : أخبرني أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابي قال : وحدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال عام الفتح : "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود". فقال أبو حنيفة : فقلت لابن أبي ذئب : أتأخذ بهذا يا أبا الحارث فضرب صدري وصاح علي صياحا كثيرا ونال مني وقال : أحدثك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتقول : تأخذ به نعم آخذ به ، وذلك الفرض علي وعلى من سمعه ، إن اللّه عز وجل ثناؤه اختار محمدا صلى اللّه عليه وسلم من الناس فهداهم به وعلى يديه ، واختار لهم ما اختاره له وعلى لسانه ، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين ، لا مخرج لمسلم من ذلك ، قال : وما سكت عني حتى تمنيت أن يسكت.
الخامسة عشرة : قوله تعالى : {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} اختلف العلماء في تأويل "من" و"عفي" على تأويلات خمس :
أحدها أن "من" يراد بها القاتل ، و"عفي" تتضمن عافيا هو ولي الدم ، والأخ هو المقتول ، و"شيء" هو الدم الذي يعفى عنه ويرجع إلى أخذ الدية ، هذا قول ابن عباس وقتادة ومجاهد وجماعة من العلماء. والعفو في هذا القول على بابه الذي هو الترك. والمعنى : أن القاتل إذا عفا عنه ولي المقتول عن دم مقتوله وأسقط القصاص فإنه يأخذ الدية ويتبع بالمعروف ، ويؤدي إليه القاتل بإحسان.
(2/253)
________________________________________
الثاني : وهو قول مالك أن "من" يراد به الولي "وعفي" يسر ، لا على بابها في العفو ، والأخ يراد به القاتل ، و"شيء" هو الدية ، أي أن الولي إذا جنح إلى العفو عن القصاص على أخذ الدية فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه ، فمرة تيسر ومرة لا تيسر. وغير مالك يقول : إذا رضي الأولياء بالدية فلا خيار للقاتل بل تلزمه. وقد روي عن مالك هذا القول ، ورجحه كثير من أصحابه. وقال أبو حنيفة : إن معنى "عفي" بذل ، والعفو في اللغة : البذل ، ولهذا قال اللّه تعالى : {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف : 199] أي ما سهل. وقال أبو الأسود الدؤلي :
خذي العفو مني تستديمي مودتي
وقال صلى اللّه عليه وسلم : " أول الوقت رضوان اللّه وآخره عفو اللّه" يعني شهد اللّه على عباده. فكأنه قال : من بذل له شيء من الدية فليقبل وليتبع بالمعروف. وقال قوم : وليؤد إليه القاتل بإحسان ، فندبه تعالى إلى أخذ المال إذا سهل ذلك من جهة القاتل ، وأخبر أنه تخفيف منه ورحمة ، كما قال ذلك عقب ذكر القصاص في سورة "المائدة" {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة : 45] فندب إلى رحمة العفو والصدقة ، وكذلك ندب فيما ذكر في هذه الآية إلى قبول الدية إذا بذلها الجاني بإعطاء الدية ، ثم أمر الولي باتباع وأمر الجاني بالأداء بالإحسان
وقد قال قوم : إن هذه الألفاظ في المعينين الذين نزلت فيهم الآية كلها وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة. ومعنى الآية : فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات ، ويكون "عفي" بمعنى فضل.
روى سفيان بن حسين بن شوعة عن الشعبي قال : كان بين حيين من العرب قتال ، فقتل من هؤلاء وهؤلاء. وقال أحد الحيين : لا نرضى حتى يقتل بالمرأة الرجل وبالرجل المرأة ، فارتفعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال عليه السلام : "القتل سواء" فاصطلحوا على الديات ، ففضل أحد الحيين على الآخر ، فهو قوله : {كُتِبَ} إلى قوله : {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} يعني فمن فضل له على أخيه فضل فليؤده بالمعروف ، فأخبر الشعبي عن السبب في نزول الآية ، وذكر سفيان العفو هنا الفضل ، وهو معنى يحتمله اللفظ.
(2/254)
________________________________________
وتأويل خامس : وهو قول علي رضي اللّه عنه والحسن في الفضل بين دية الرجل والمرأة والحر والعبد ، أي من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف ، و"عفي" في هذا الموضع أيضا بمعنى فضل.
السادسة عشرة : هذه الآية حض من اللّه تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب ، وحسن القضاء من المؤدي ، وهل ذلك على الوجوب أو الندب. فقراءة الرفع تدل على الوجوب ، لأن المعنى فعليه اتباع بالمعروف. قال النحاس : {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} شرط والجواب ، لأن المعنى فعليه اتباع بالمعروف. قال النحاس : "فمن عفي له" شرط والجواب "فاتباع" وهو رفع بالابتداء ، والتقدير فعليه اتباع بالمعروف. ويجوز في غير القرآن "فاتباعا" و"أداء" بجعلهما مصدرين. قال ابن عطية : وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة "فاتباعا" بالنصب. والرفع سبيل للواجبات ، كقوله تعالى : {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة : 229]. وأما المندوب إليه فيأتي منصوبا ، كقوله : {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد : 4].
السابعة عشرة : قوله تعالى : {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} لأن أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك ، وأهل الإنجيل كان لهم العفو ولم يكن لهم قود ولا دية ، فجعل اللّه تعالى ذلك تخفيفا لهذه الأمة ، فمن شاء قتل ، ومن شاء أخذ الدية ، ومن شاء عفا.
قوله تعالى : {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ} شرط وجوابه ، أي قتل بعد أخذ الدية وسقوط [الدم] قاتل وليه. {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال الحسن : كان الرجل في الجاهلية إذا قتل قتيلا فر إلى قومه فيجيء قومه فيصالحون بالدية فيقول ولي المقتول : إني أقبل الدية ، حتى يأمن القاتل ويخرج ، فيقتله ثم يرمي إليهم بالدية
واختلف العلماء فيمن قتل بعد أخذ الدية ، فقال جماعة من العلماء منهم مالك والشافعي : هو كمن قتل ابتداء ، إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه وعذابه في الآخرة. وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم : عذابه أن يقتل البتة ، ولا يمكن الحاكم الولي من العفو. وروى أبو داود عن جابر بن عبدالله قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " لا أعفى من قتل بعد أخذ
(2/255)
________________________________________
الدية" . وقال الحسن : عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة. وقال عمر بن عبدالعزيز : أمره إلى الإمام يصنع فيه ما يرى. وفي سنن الدارقطني عن أبي شريح الخزاعي قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : "من أصيب بدم أو خبل - والخبل عرج - فهو بالخيار بين إحدى ثلاث فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه بين أن يقتص أو يعفو أو يأخذ العقل فإن قبل شيئا من ذلك ثم عدا بعد ذلك فله النار خالدا فيها مخلدا" .
الآية : 179 {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
فيه أربع مسأئل :
الأولى : قوله تعالى : {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} هذا من الكلام البليغ الوجيز كما تقدم. ومعناه : لا يقتل بعضكم بعضا ، رواه سفيان عن السدي عن أبي مالك. والمعنى : أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم فيه ازدجر من يريد قتل آخر ، مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معا. وكانت العرب إذا قتل الرجل الآخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا وكان ذلك داعيا إلى قتل العدد الكثير ، فلما شرع اللّه القصاص قنع الكل به وتركوا الاقتتال ، فلهم في ذلك حياة
الثانية : اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان ، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض ، وإنما ذلك لسلطان أو من نصبه السلطان لذلك ، ولهذا جعل اللّه السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض
الثالثة : وأجمع العلماء على أن على السلطان أن يقتص من نفسه إن تعدى على أحد من رعيته ، إذ هو واحد منهم ، وإنما له مزية النظر لهم كالوصي والوكيل ، وذلك لا يمنع القصاص ، وليس بينهم وبين العامة فرق في أحكام اللّه عز وجل ، لقوله جل ذكره : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، وثبت عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه أنه قال لرجل شكا إليه أن عاملا قطع يده : لئن كنت صادقا لأقيدنك منه. وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري
(2/256)
________________________________________
قال : بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقسم شيئا إذ أكب عليه رجل ، فطعنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعرجون كان معه ، فصاح الرجل ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "تعال فاستقد". قال : بل عفوت يا رسول اللّه. وروى أبو داود الطيالسي عن أبي فراس قال : خطب عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه فقال : ألا من ظلمه أميره فليرفع ذلك إلي أقيده منه. فقام عمرو بن العاص فقال : يا أمير المؤمنين ، لئن أدب رجل منا رجلا من أهل رعيته لتقصنه منه ؟ قال : كيف لا أقصه منه وقد رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقص من نفسه. ولفظ أبي داود السجستاني عنه قال : خطبنا عمر بن الخطاب فقال : إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم ، فمن فعل ذلك به فليرفعه إلي أقصه منه. وذكر الحديث بمعناه.
الرابعة : قوله تعالى : {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} تقدم معناه. والمراد هنا "تتقون" القتل فتسلمون من القصاص ، ثم يكون ذلك داعية لأنواع التقوى في غير ذلك ، فإن اللّه يثيب بالطاعة على الطاعة. وقرأ أبو الجوزاء أوس بن عبدالله الربعي "ولكم في القصص حياة". قال النحاس : قراءة أبي الجوزاء شاذة. قال غيره : يحتمل أن يكون مصدرا كالقصاص. وقيل : أراد بالقصص القرآن ، أي لكم في كتاب اللّه الذي شرع فيه القصص حياة ، أي نجاة.
الآية : 180 {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ}
فيه إحدى عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} هذه آية الوصية ، ليس في القرآن ذكر للوصية إلا في هذه الآية ، وفي "النساء" : {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} [النساء : 12] وفي "المائدة" : {حِينَ الْوَصِيَّةِ} [المائدة : 106] والتي في البقرة أتمها وأكملها ونزلت قبل نزول الفرائض والمواريث ، على ما يأتي
(2/257)
________________________________________
بيانه. وفي الكلام تقدير واو العطف ، أي وكتب عليكم ، فلما طال الكلام أسقطت الواو. ومثله في بعض الأقوال : {لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل : 15 - 16] أي والذي ، فحذف. وقيل : لما ذكر أن لولي الدم أن يقتص ، فهذا الذي أشرف على من يقتص منه وهو سبب الموت فكأنما حضره الموت ، فهذا أوان الوصية ، فالآية مرتبطة بما قبلها ومتصلة بها فلذلك سقطت واو العطف. و"كتب" معناه فرض وأثبت ، كما تقدم. وحضور الموت : أسبابه ، ومتى حضر السبب كنت به العرب عن المسبب ، قال شاعرهم :
يا أيها الراكب المزجي مطيته ... سائل بني أسد ما هذه الصوت
وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا ... قولا يبرئكم إني أنا الموت
وقال عنترة :
وإن الموت طوع يدي إذا ما ... وصلت بنانها بالهندوان
وقال جرير في مهاجاة الفرزدق :
أنا الموت الذي حدثت عنه ... فليس لهارب مني نجاء
الثانية : إن قيل : لم قال "كتب" ولم يقل كتبت ، والوصية مؤنثة ؟ قيل له : إنما ذلك لأنه أراد بالوصية الإيصاء. وقيل : لأنه تخلل فاصل ، فكان الفاصل كالعوض من تاء التأنيث ، تقول العرب : حضر القاضي اليوم امرأة. وقد حكى سيبويه : قام امرأة. ولكن حسن ذلك إنما هو مع طول الحائل
الثالثة : قوله تعالى : {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} "إن" شرط ، وفي جوابه لأبي الحسن الأخفش قولان ، قال الأخفش : التقدير فالوصية ، ثم حذفت الفاء ، كما قال الشاعر :
من يفعل الحسنات اللّه يشكرها ... والشر بالشر عند اللّه مثلان
والجواب الأخر : أن الماضي يجوز أن يكون جوابه قبله وبعده ، فيكون التقدير الوصية للوالدين والأقربين إن ترك خيرا. فإن قدرت الفاء فالوصية رفع بالابتداء ، وإن لم تقدر
(2/258)
________________________________________
الفاء جاز أن ترفعها بالابتداء ، وأن ترفعها على ما لم يسم فاعله ، أي كتب عليكم الوصية. ولا يصح عند جمهور النحاة أن تعمل "الوصية" في "إذا" لأنها في حكم الصلة للمصدر الذي هو الوصية وقد تقدمت ، فلا يجوز أن تعمل فيها متقدمة. ويجوز أن يكون العامل في "إذا" : "كتب" والمعنى : توجه إيجاب اللّه إليكم ومقتضى كتابه إذا حضر ، فعبر عن توجه الإيجاب بكتب لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل. ويجوز أن يكون العامل في "إذا" الإيصاء يكون مقدرا دل على الوصية ، المعنى : كتب عليكم الإيصاء إذا
الرابعة : قوله تعالى : {خَيْراً} الخير هنا المال من غير خلاف ، واختلفوا في مقداره ، فقيل : المال الكثير ، روي ذلك عن علي وعائشة وابن عباس وقالوا في سبعمائة دينار إنه قليل. قتادة عن الحسن : الخير ألف دينار فما فوقها. الشعبي : ما بين خمسمائة دينار إلى ألف. والوصية عبارة عن كل شيء يؤمر بفعله ويعهد به في الحياة وبعد الموت. وخصصها العرب بما يعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت ، والجمع وصايا كالقضايا جمع قضية. والوصي يكون الموصي والموصى إليه ، وأصله من وصى مخففا. وتواصى النبت تواصيا إذا اتصل. وأرض واصية : متصلة النبات. وأوصيت له بشيء وأوصيت إليه إذا جعلته وصيك. والاسم الوصاية والوصاية "بالكسر والفتح". وأوصيته ووصيته أيضا توصية بمعنى ، والاسم الوصاة. وتواصى القوم أوصى بعضهم بعضا. وفي الحديث : " استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم" . ووصيت الشيء بكذا إذا وصلته به
الخامسة : اختلف العلماء في وجوب الوصية على من خلف مالا ، بعد إجماعهم على أنها واجبة على من قبله ودائع وعليه ديون. واكثر العلماء على أن الوصية غير واجبة على من ليس قبله شيء من ذلك ، وهو قول مالك والشافعي والثوري ، موسرا كان الموصي أو فقيرا. وقالت طائفة : الوصية واجبة على ظاهر القرآن ، قال الزهري وأبو مجلز ، قليلا كان المال أو كثيرا. وقال أبو ثور : ليست الوصية واجبة إلا على رجل عليه دين أو عنده مال
(2/259)
________________________________________
لقوم ، فواجب عليه أن يكتب وصيته ويخبر بما عليه. فأما من لا دين عليه ولا وديعة عنده فليست بواجبة عليه إلا أن يشاء. قال ابن المنذر : وهذا حسن ، لأن اللّه فرض أداء الأمانات إلى أهلها ، ومن لا حق عليه ولا أمانة قبله فليس واجب عليه أن يوصي. احتج الأولون بما رواه الأئمة عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : "ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" وفي رواية "يبيت ثلاث ليال" وفيها قال عبدالله بن عمر : ما مرت عليّ ليلة منذ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي. احتج من لم يوجبها بأن قال : لو كانت واجبة لم يجعلها إلى إرادة الموصي ، ولكان ذلك لازما على كل حال ، ثم لو سلم أن ظاهره الوجوب فالقول بالموجب يرده ، وذلك فيمن كانت عليه حقوق للناس يخاف ضياعها عليهم ، كما قال أبو ثور. وكذلك إن كانت له حقوق عند الناس يخاف تلفها على الورثة ، فهذا يجب عليه الوصية ولا يختلف فيه
فإن قيل : فقد قال اللّه تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} وكتب فرض ، فدل على وجوب الوصية قيل لهم : قد تقدم الجواب عنه في الآية قبل ، والمعنى : إذا أردتم الوصية ، واللّه أعلم. وقال النخعي : مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يوص ، وقد أوصى أبو بكر ، فإن أوصى فحسن ، وإن لم يوص فلا شيء عليه
السادسة : لم يبين اللّه تعالى في كتابه مقدار ما يوصى به من المال ، وإنما قال : {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} والخير المال ، كقوله : {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} [البقرة : 272] ، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ} [العاديات : 8] فاختلف العلماء في مقدار ذلك ، فروي عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه أنه أوصى بالخمس. وقال علي رضي اللّه عنه من غنائم المسلمين بالخمس. وقال معمر عن قتادة. أوصى عمر بالربع. وذكره البخاري عن ابن عباس. وروي عن علي رضي اللّه عنه أنه قال : "لأن أوصي بالخمس أحب إليّ من أن أوصي بالربع ، ولأن أوصي بالربع أحب إليّ من أن أوصي بالثلث.
واختار جماعة لمن ماله قليل وله ورثة ترك الوصية ، روي ذلك عن علي وابن عباس وعائشة رضوان اللّه عليهم أجمعين. روى بن أبي شيبة من حديث ابن أبي مليكة عن
(2/260)
________________________________________
عائشة قال لها : إني أريد أن أوصي : قالت : وكم مالك ؟ قال : ثلاثة آلاف. قالت : فكم عيالك ؟ قال أربعة. قالت : "إن اللّه تعالى يقول : {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} وهذا شيء يسير فدعه لعيالك فإنه أفضل لك
السابعة : ذهب الجمهور من العلماء إلى أنه لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث إلا أبا حنيفة وأصحابه فإنهم قالوا : إن لم يترك الموصي ورثة جاز له أن يوصي بمال كله. وقالوا : إن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثته أغنياء ، لقوله عليه السلام : "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" الحديث ، رواه الأئمة. ومن لا وارث له فليس ممن عني بالحديث ، روي هذا القول عن ابن عباس ، وبه قال أبو عبيدة ومسروق ، وإليه ذهب إسحاق ومالك في أحد قوليه ، وروي عن علي وسبب الخلاف مع ما ذكرنا ، الخلاف في بيت المال هل هو وارث أو حافظ لما يجعل فيه ؟ قولان
الثامنة : أجمع العلماء على أن من مات وله ورثة فليس له أن يوصي بجميع ماله. وروي. عن عمرو بن العاص رضي اللّه عنه أنه قال حين حضرته الوفاة لابنه عبدالله : "إني قد أردت أن أوصي ، فقال له : أوص ومالك في مالي ، فدعا كاتبا فأملى ، فقال عبدالله : فقلت له ما أراك إلا وقد أتيت على مالي ومالك ، ولو دعوت إخوتي فاستحللتهم.
التاسعة : وأجمعوا أن للإنسان أن يغير وصيته ويرجع فيما شاء منها ، إلا أنهم اختلفوا من ذلك في المدبر ، فقال مالك رحمه اللّه : الأمر المجمع عليه عندنا أن الموصي إذا أوصى في صحته أو مرضه بوصية فيها عتاقة رقيق من رقيقه أو غير ذلك فإنه يغير من ذلك ما بدا له ويصنع من ذلك ما شاء حتى يموت ، وإن أحب أن يطرح تلك الوصية ويسقطها فعل ، إلا أن يدبر فإن دبر مملوكا فلا سبيل له إلى تغيير ما دبر ، وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" . قال أبو الفرج المالكي : المدبر في القياس كالمعتق إلى شهر ، لأنه أجل آت
(2/261)
________________________________________
لا محالة. وأجمعوا ألا يرجع في اليمين بالعتق والعتق إلى أجل فكذلك المدبر ، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي وأحمد وإسحاق : هو وصية ، لإجماعهم أنه في الثلث كسائر الوصايا. وفي إجازتهم وطء المدبرة ما ينقض قياسهم المدبر على العتق إلى أجل ، وقد ثبت أن النبي صلى اللّه عليه وسلم باع مدبرا ، وأن عائشة دبرت جارية لها ثم باعتها ، وهو قول جماعة من التابعين. وقالت طائفة : يغير الرجل من وصيته ما شاء إلا العتاقة. وكذلك قال الشعبي وابن سيرين وابن شبرمة والنخعي ، وهو قول سفيان الثوري
العاشرة : واختلفوا في الرجل يقول لعبده : أنت حر بعد موتي ، وأراد الوصية ، فله الرجوع عند مالك في ذلك. وإن قال : فلان مدبر بعد موتي ، لم يكن له الرجوع فيه. وإن أراد التدبير بقوله الأول لم يرجع أيضا عند أكثر أصحاب مالك. وأما الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور فكل هذا عندهم وصية ، لأنه في الثلث ، وكل ما كان في الثلث فهو وصية ، إلا أن الشافعي قال : لا يكون الرجوع في المدبر إلا بأن يخرجه عن ملكه ببيع أو هبة. وليس قوله : - قد رجعت - رجوعا ، وإن لم يخرج المدبر عن ملكه حتى يموت فإنه يعتق بموته. وقال في القديم : يرجع في المدبر كما يرجع في الوصية. واختاره المزني قياسا على إجماعهم على الرجوع فيمن أوصى بعتقه. وقال أبو ثور : إذا قال قد رجعت في مدبري فقد بطل التدبير ، فإن مات لم يعتق. واختلف ابن القاسم وأشهب فيمن قال : عبدي حر بعد موتي ، ولم يرد الوصية ولا التدبير ، فقال ابن القاسم : هو وصية. وقال أشهب : هو مدبر وإن لم يرد الوصية
الحادية عشرة : اختلف العلماء في هذه الآية هل هي منسوخة أو محكمة ، فقيل : هي محكمة ، ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللذين لا يرثان كالكافرين والعبدين وفي القرابة غير الورثة ، قاله الضحاك وطاوس والحسن ، واختاره الطبري. وعن الزهري أن الوصية واجبة فيما قل أو كثر. وقال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين اللذين لا يرثان والأقرباء الذين لا يرثون جائزة. وقال ابن عباس والحسن أيضا وقتادة : الآية عامة ، وتقرر الحكم بها برهة من الدهر ، ونسخ منها كل من كان يرث بآية
(2/262)
________________________________________
الفرائض. وقد قيل : إن آية الفرائض لم تستقل بنسخها بل بضميمة أخرى ، وهي قوله عليه السلام : "إن اللّه قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" . رواه أبو أمامة ، أخرجه الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح. فنسخ الآية إنما كان بالسنة الثابتة لا بالإرث ، على الصحيح من أقوال العلماء. ولولا هذا الحديث لأمكن الجمع بين الآيتين بأن يأخذوا المال عن المورث بالوصية ، وبالميراث إن لم يوص ، أو ما بقي بعد الوصية ، لكن منع من ذلك هذا الحديث والإجماع. والشافعي وأبو الفرج وإن كانا منعا من نسخ الكتاب بالسنة فالصحيح جوازه بدليل أن الكل حكم اللّه تبارك وتعالى ومن عنده وإن اختلفت في الأسماء ، وقد تقدم هذا المعنى. ونحن وإن كان هذا الخبر بلغنا آحادا لكن قد انضم إليه إجماع المسلمين أنه لا تجوز وصية لوارث. فقد ظهر أن وجوب الوصية للأقربين الوارثين منسوخ بالسنة وأنها مستند المجمعين. واللّه أعلم
وقال ابن عباس والحسن : نسخت الوصية للوالدين بالفرض في سورة "النساء" وثبتت للأقربين الذين لا يرثون ، وهو مذهب الشافعي وأكثر المالكيين وجماعة من أهل العلم. وفي البخاري عن ابن عباس قال : كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين ، فنسخ من ذلك ما أحب ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس ، للمرأة الثمن والربع ، وللزوج الشطر والربع
وقال ابن عمر وابن عباس وابن زيد : الآية منسوخة ، وبقيت الوصية ندبا ، ونحو هذا قول مالك رحمه اللّه ، وذكره النحاس عن الشعبي والنخعي. وقال الربيع بن خثيم : لا وصية. قال عروة بن ثابت : قلت للربيع بن خثيم أوص لي بمصحفك ، فنظر إلى ولده وقرأ {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال : 75]. ونحو هذا صنع ابن عمر رضي اللّه عنه
(2/263)