سورة المسد
وهي مكية بإجماع وهي خمس آيات
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}
فيه ثلاث مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} في الصحيحين وغيرهما (واللفظ لمسلم) عن ابن عباس قال : لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} {ورهطك منهم المخلصين} ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا ، فهتف : يا صباحاه! فقالوا : من هذا الذي يهتف ؟ قالوا محمد. فاجتمعوا إليه. فقال : "يا بني فلان ، يا بني فلان ، يا بني فلان ، يا بني عبد مناف ، يا بني عبدالمطلب" فاجتمعوا إليه. فقال : "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي" ؟ قالوا : ما جربنا عليك كذبا. قال : "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" . فقال أبو لهب : تبا لك ، أما جمعتنا إلا لهذا! ثم قام ، فنزلت هذه السورة : {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} كذا قرأ الأعمش إلى آخر السورة. زاد الحميدي وغيره : فلما سمعت امرأته ما نزل في زوجها وفيها من القرآن ، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة ، ومعه أبو بكر رضي الله عنه ، وفي يدها فهر من حجارة ، فلما وقفت عليه أخذ الله بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا ترى إلا أبا بكر. فقالت : يا أبا بكر ، إن صاحبك قد بلغني أنه يهجوني ، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه ، والله إني لشاعرة :
مذمما عصينا ... وأمره أبينا ... ودينه قلينا
(20/234)
ثم انصرفت. فقال أبو بكر : يا رسول الله ، أما تراها رأتك ؟ قال : "ما رأتني ، لقد أخذ الله بصرها عني". وكانت قريش إنما تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم مذمما ؛ يسبونه ، وكان يقول : "ألا تعجبون لما صرف الله عني من أذى قريش ، يسبون ويهجون مذمما وأنا محمد" . وقيل : إن سبب نزولها ما حكاه عبدالرحمن بن زيد أن أبا لهب أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ماذا أُعطى إن آمنت بك يا محمد ؟ فقال : "كما يُعطى المسلمون" قال ما لي عليهم فضل ؟ . قال : "وأي شيء تبغي" ؟ قال : تبا لهذا من دين ، أن أكون أنا وهؤلاء سواء ؛ فأنزل الله تعالى فيه. {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} . وقول ثالث حكاه عبدالرحمن بن كيسان قال : كان إذا وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وقد انطلق إليهم أبو لهب فيسألونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون له : أنت أعلم به منا. فيقول لهم أبو لهب : إنه كذاب ساحر. فيرجعون عنه ولا يلقونه. فأتى وفد ، ففعل معهم مثل ذلك ، فقالوا : لا ننصرف حتى نراه ، ونسمع كلامه. فقال لهم أبو لهب : إنا لم نزل نعالجه فتبا له وتعسا. فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتأب لذلك ؛ فأنزل الله تعالى : {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} ... السورة. وقيل : إن أبا لهب أراد أن يرمي النبي صلى الله عليه وسلم بحجر ، فمنعه الله من ذلك ، وأنزل الله تعالى : {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} للمنع الذي وقع به. ومعنى {تَبَّ} : خسرت ؛ قال قتادة. وقيل : خابت ؛ قال ابن عباس. وقيل ضلت ؛ قال عطاء. وقيل : هلكت ؛ قاله ابن جبير. وقال يمان بن رئاب : صفرت من كل خبر. حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه لما قتل عثمان رحمه الله سمع الناس هاتفا يقول :
لقد خلوك وانصرفوا ... فما آبوا ولا رجعوا
ولم يوفوا بنذرهم ... فيا تبا لما صنعوا
وخص اليدين بالتباب ، لأن العمل أكثر ما يكون بهما ؛ أي خسرتا وخسر هو. وقيل : المراد باليدين نفسه. وقد يعبر عن النفس باليد ، كما قال الله تعالى : {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} .
(20/235)
أي نفسك. وهذا مَهيَع كلام العرب ؛ تعبر ببعض الشيء عن كله ؛ تقول : أصابته يد الدهر ، ويد الرزايا والمنايا ؛ أي أصابه كل ذلك. قال الشاعر :
لما أكبت يد الرزايا ... عليه نادى ألا مجير
{تَبَّ} قال الفراء : التب الأول : دعاء والثاني خبر ؛ كما يقال : أهلكه الله وقد هلك. وفي قراءة عبدالله وأُبي "وقد تب" وأبو لهب اسمه عبد العزى ، وهو ابن عبدالمطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم. وامرأته العوراء أم جميل ، أخت أبي سفيان بن حرب ، وكلاهما ، كان شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم. قال طارق بن عبدالله المحاربي : إني بسوق ذي المجاز ، إذ أنا بإنسان يقول : "يا أيها الناس ، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" ، وإذا رجل خلفه يرميه ، قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول : يا أيها الناس ، إنه كذاب فلا تصدقوه. فقلت من هذا ؟ فقالوا : محمد ، زعم أنه نبي. وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب. وروى عطاء عن ابن عباس قال : قال أبو لهب : سحركم محمد إن أحدنا ليأكل الجذعة ، ويشرب العس من اللبن فلا يشبع ، وإن محمدا قد أشبعكم من فخذ شاة ، وأرواكم من عس لبن.
الثانية- قوله تعالى : {أَبِي لَهَبٍ} قيل : سمي باللهب لحسنه ، وإشراق وجهه. وقد ظن قوم أن في هذا دليلا على تكنية المشرك ؛ وهو باطل ، وإنما كناه الله بأبي لهب - عند العلماء - لمعان أربعة : الأول : أنه كان اسمه عبد العزى ، والعزى : صنم ، ولم يضف الله في كتابه العبودية إلى صنم. الثاني : أنه كان بكنيته أشهر منه باسمه ؛ فصرح بها. الثالث : أن الاسم أشرف من الكنية ، فحطه الله عز وجل عن الأشرف إلى الأنقص ؛ إذا لم يكن بد من الإخبار عنه ، ولذلك دعا الله تعالى الأنبياء بأسمائهم ، ولم يكن عن أحد منهم. ويدلك على شرف الاسم على الكنية : أن الله تعالى يُسمى ولا يُكنى ، وإن كان ذلك لظهوره وبيانه ؛ واستحالة نسبة الكنية إليه ، لتقدسه عنها. الرابع : أن
(20/236)
الله تعالى أراد أن يحقق نسبته ، بأن يدخله النار ، فيكون أبا لها ، تحقيقا للنسب ، وإمضاء للفأل والطيرة التي اختارها لنفسه. وقد قيل : اسمه كنيته. فكان أهله يسمونه أبا لهب ، لتلهب وجهه وحسنه ؛ فصرفهم الله عن أن يقولوا : أبو النور ، وأبو الضياء ، الذي هو المشترك بين المحبوب والمكروه ، وأجرى على ألسنتهم أن يضيفوه إلى اللهب الذي هو مخصوص بالمكروه المذموم ، وهو النار. ثم حقق ذلك بأن يجعلها مقره. وقرأ مجاهد وحميد وابن كثير وابن. محيصن. {أَبِي لَهْبٍ} بإسكان الهاء. ولم يختلفوا في {ذَاتَ لَهَبٍ} إنها مفتوحة ؛ لأنهم راعوا فيها رؤوس الآي.
قال ابن عباس : لما خلق الله عز وجل القلم قال له : اكتب ما هو كائن ، وكان فيما كتب {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} . وقال منصور : سئل الحسن عن قوله تعالى : {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} . هل كان في أم الكتاب ؟ وهل كان أبو لهب يستطيع ألا يصلى النار ؟ فقال : والله ما كان يستطيع ألا يصلاها ، وإنها لفي كتاب الله من قبل أن يخلق أبو لهب وأبواه. ويؤيده قول موسى لآدم : "أنت الذي خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأسكنك جنته ، وأسجد لك ملائكته ، خيبت الناس ، وأخرجتهم من الجنة. قال آدم : وأنت موسى الذي اصطفاك بكلامه ، وأعطاك التوراة ، تلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلق الله السموات والأرض. قال النبي صلى الله عليه وسلم : فحج آدم موسى" . وقد تقدم هذا. وفي حديث همام عن أبي هريرة أن آدم قال لموسى : "بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن يخلقني ؟ قال : بألفي عام قال : فهل وجدت فيها : {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} قال : نعم قال : أفتلومني على أمر وكتب الله على أن أفعله من قبل أن أخلق بألفي عام. فحج آدم موسى" . وفي حديث طاووس وابن هرمز والأعرج عن أبي هريرة : "بأربعين عاما" .
(20/237)
2- {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}
أي ما دفع عنه عذاب الله ما جمع من المال ، ولا ما كسب من جاه. وقال مجاهد : من الولد ؛ وولد الرجل من كسبه. وقرأ الأعمش {وَمَا كَسَبَ} ورواه عن ابن مسعود. وقال أبو الطفيل : جاء بنو أبي لهب يختصمون عند ابن عباس ، فاقتتلوا ، فقام ليحجز بينهم ، فدفعه بعضهم ، فوقع على الفراش ، فغضب ابن عباس وقال : أخرجوا عني الكسب الخبيث ؛ يعني ولده. وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وإن ولده من كسبه" . خرجه أبو داود. وقال ابن عباس : لما أنذر رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيرته بالنار ، قال أبو لهب : إن كان ما يقول ابن أخي حقا فإني أفدي نفسي بمالي وولدي ؛ فنزل : {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} . و{مَا} في قوله : {مَا أَغْنَى} : يجوز أن تكون نفيا ، ويجوز أن تكون استفهاما ؛ أي أي شيء أغنى عنه ؟ و{مَا} الثانية : يجوز أن تكون بمعنى الذي ، ويجوز أن تكون مع الفعل مصدرا ؛ أي ما أغنى عنه ماله وكسبه.
3- {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ}
أي ذات اشتعال وتلهب. وقد مضى في سورة "المرسلات" القول فيه. وقراءة العامة : {سَيَصْلَى} بفتح الياء. وقرأ أبو رجاء والأعمش : بضم الياء. ورواها محبوب عن إسماعيل عن ابن كثير ، وحسين عن أبي بكر عن عاصم ، ورويت عن الحسن. وقرأ أشهب العقيلي وأبو سمال العدوي ومحمد بن السميقع {سيُصلى} بضم الياء ، وفتح الصاد ، وتشديد اللام ؛ ومعناها سيصليه الله ؛ من قوله : {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} والثانية من الإصلاء ؛ أي يصليه الله ؛ من قوله : {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} . والأولى هي الاختيار ؛ لإجماع الناس عليها ؛ وهي من قوله : {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} .
(20/238)
4- {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}
قوله تعالى : {وَامْرَأَتُهُ} أم جميل. وقال ابن العربي : العوراء أم قبيح ، وكانت عوراء. {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي : كانت تمشي بالنميمة بين الناس ؛ تقول العرب : فلان يحطب على فلان : إذا ورش عليه. قال الشاعر :
إن بني الأدرم حمالو الحطب ... هم الوشاة في الرضا وفي الغضب
عليهم اللعنة تترى والحرب
وقال آخر :
من البيض لم تصطد على ظهر لأمة ... ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب
يعني : لم تمش بالنمائم ، وجعل الحطب رطبا ليدل على التدخين ، الذي هو زيادة في الشر. وقال أكثم بن صيفي لبنيه : إياكم والنميمة فإنها نار محرقة ، وإن النمام ليعمل في ساعة مالا يعمل الساحر في شهر. أخذه بعض الشعراء فقال :
إن النميمة نار ويك محرقة ... ففر عنها وجانب من تعاطاها
ولذلك قيل : نار الحقد لا تخبو. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يدخل الجنة نمام" . وقال : "ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها" . وقال عليه الصلاة والسلام : "من شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه ، وهؤلاء بوجه" . وقال كعب الأحبار : أصاب بني إسرائيل قحط ، فخرج بهم موسى عليه السلام ثلاث مرات فلم يستسقوا. فقال موسى : "إلهي عبادك" فأوحى الله إليه : "إني لا أستجيب لك ولا لمن معك لأن فيهم رجلا نماما ، قد أصر على النميمة" فقال موسى : "يا رب من هو حتى نخرجه من بيننا" ؟ فقال : "يا موسى أنهاك عن النميمة وأكون نماما" قال : فتابوا بأجمعهم ، فسقوا . والنميمة من الكبائر ، لا خلاف في ذلك ؛ حيت قال الفضيل بن عياض : ثلاث تهد العمل الصالح ويفطرون الصائم ، وينقضن الوضوء : الغيبة ، والنميمة ، والكذب.
(20/239)
وقال عطاء بن السائب : ذكرت للشعبي قول النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يدخل الجنة سافك دم ، ولا مشاء بنميمة ، ولا تاجر يربي" فقلت : يا أبا عمرو ، قرن النمام بالقاتل وآكل الربا ؟ فقال : وهل تسفك الدماء ، وتنتهب الأموال ، وتهيج الأمور العظام ، إلا من أجل النميمة.
وقال قتادة وغيره : كانت تعير رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر. ثم كانت مع كثرة ما لها تحمل الحطب على ظهرها ؛ لشدة بخلها ، فعيرت بالبخل. وقال ابن زيد والضحاك : كانت تحمل العضاه والشوك ، فتطرحه بالليل على طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ؛ وقاله ابن عباس. قال الربيع : فكان النبي صلى الله عليه وسلم يطوه كما يطأ الحرير. وقال مرة الهمداني : كانت أم جميل تأتي كل يوم بإباله من الحسك ، فتطرحها على طريق المسلمين ، فبينما هي حاملة ذات يوم حزمة أعيت ، فقعدت على حجر لتستريح ، فجذبها الملك من خلفها فأهلكها. وقال سعيد بن جبير : حمالة الخطايا والذنوب ؛ من قولهم : فلان يحتطب على ظهره ؛ دليله قوله تعالى : {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} . وقيل : المعنى حمالة الحطب في النار ؛ وفيه بعد. وقراءة العامة {حمالة} بالرفع ، على أن يكون خبرا {وامرأته} مبتدأ. ويكون {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} جملة في موضع الحال من المضمر في {حمالة}. أو خبرا ثانيا. أو يكون {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} نعتا لامرأته. والخبر {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} ؛ فيوقف - على هذا - على {ذَاتَ لَهَبٍ} . ويجوز أن يكون {وَامْرَأَتُهُ} معطوفة على المضمر في {سَيَصْلَى} فلا يوقف على {ذَاتَ لَهَبٍ} ويوقف على {وَامْرَأَتُهُ} وتكون {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} خبر ابتداء محذوف. وقرأ عاصم {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} بالنصب على الذم ، كأنها اشتهرت بذلك ، فجاءت الصفة للذم لا للتخصيص ، كقوله تعالى : {حمالة الحطب} بالنصب على الذم ، وقرأ أبو قلابة {حاملة الحطب}.
(20/240)
5- {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}
قوله تعالى : {فِي جِيدِهَا} أي عنقها. وقال امرؤ القيس :
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش ... إذا هي نصته ولا بمعطل
"حبل من مسد" أي من ليف ؛ قال النابغة :
مقذوفة بدخيس النحض بازلها ... له صريف صريف القعو بالمسد
وقال آخر :
يا مسد الحوص تعوذ مني ... إن كنت لدنا لينا فإني
ما شئت من أشمط مقسئن
وقد يكون من جلود الإبل ، أو من أوبارها ؛ قال الشاعر :
ومسد أمر من أيانق ... لسن بأنياب ولا حقائق
وجمع الجيد أجياد ، والمسد أمساد. أبو عبيدة : هو حبل يكون من صوف. قال الحسن : هي حبال من شجر تنبت باليمن تسمى المسد ، وكانت تفتل. قال الضحاك وغيره : هذا في الدنيا ؛ فكانت تعير النبي صلى الله عليه وسلم بالفقر وهي تحتطب في حبل تجعله في جيدها من ليف ، فخنقها الله جل وعز به فأهلكها ؛ وهو في الآخرة حبل من نار. وقال ابن عباس
(20/241)
في رواية أبي صالح : {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} قال : سلسلة ذرعها سبعون ذراعا - وقاله مجاهد وعروة بن الزبير : تدخل من فيها ، وتحرج من أسفلها ، ويلوى سائرها على عنقها. وقال قتادة. {حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} قال : قلادة من ودع. الودع : خرز بيض تخرج من البحر ، تتفاوت في الصغر والكبر. قال الشاعر :
والحلم حلم صبي يمرث الودعة
والجمع : ودعات. الحسن : إنما كان خرزا في عنقها. سعيد بن المسيب : كانت لها قلادة فاخرة من جوهر ، فقالت : واللات والعزى لأنفقتها في عداوة محمد. ويكون ذلك عذابا في جيدها يوم القيامة. وقيل : إن ذلك إشارة إلى الخذلان ؛ يعني أنها مربوطة عن الإيمان بما سبق لها من الشقاء ، كالمربوط في جيده بحبل من مسد. والمسد : الفتل. يقال : مسد حبلة يمسده مسدا ؛ أي أجاد فتله. قال :
يمسد أعلى لحمه ويأرمه
يقول : إن البقل يقوي ظهر هذا الحمار ويشده. ودابة ممسودة الخلق : إذا كانت شديدة الأسر. قال الشاعر :
ومسدٍ أُمِرَّ من أيانق ... صهب عتاق ذات مخ زاهق
لسن بأنياب ولا حقائق
ويروى :
ولا ضعاف مخهن زاهق
قال الفراء : هو مرفوع والشعر مكفأ. يقول : بل مخهن مكتنز ؛ رفعه على الابتداء. قال : ولا يجوز أن يريد ولا ضعاف زاهق مخهن. كما لا يجوز أن تقول : مررت برجل أبوه قائم ؛
(20/242)
بالخفض. وقال غيره : الزاهق هنا : بمعنى الذاهب كأنه قال : ولا ضعاف مخهن ، ثم رد الزاهق على الضعاف. ورجل ممسود : أي مجدول الخلق. وجارية حسنة المسد والعصب والجدل والأرم ؛ وهي ممسودة ومعصوبة ومجدولة ومأرومة. والمساد ، على فعال : لغة في المساب ، وهي نحى السمن ، وميقاء العسل. قال جميعه الجوهري. وقد أعترض فقيل : إن كان ذلك حبلها الذي تحتطب به ، فكيف يبقى في النار ؟ وأجيب عنه بأن الله عز وجل قادر على تجديده كلما احترق. والحكم ببقاء أبي لهب وأمراته في النار مشروط ببقائهما على الكفر إلى الموافاة ؛ فلما ماتا على الكفر صدق الإخبار عنهما. ففيه معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم. فامرأته خنقها الله بحبلها ، وأبو لهب رماه الله بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال ، بعد أن شجته أم الفضل. وذلك أنه لما قدم الحيسمان مكة يخبر خبر بدر ؛ قال له أبو لهب : أخبرني خبر الناس. قال : نعم ، والله ما هو إلا أن لقينا القوم ، فمنحناهم أكتافنا ، يضعون السلاح منا حيث شاؤوا ، ومع ذلك ما لمست الناس. لقينا رجالا بيضا على خيل بلق ، لا والله ما تبقي منا ؛ يقول : ما تبقي شيئا. قال أبو رافع : وكنت غلاما للعباس أنحت الأقداح في صفة زمزم ، وعندي أم الفضل جالسة ، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر ، فرفعت طنب الحجرة ، فقلت : تلك والله الملائكة. قال : فرفع أبو لهب يده ، فضرب وجهي ضربة منكرة ، وثاورته ، وكنت رجلا ضعيفا ، فاحتملني ، فضرب بي الأرض ، وبرك على صدري يضربني. وتقدمت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة ، فتأخذه وتقول : استضعفتَه أن غاب عنه سيده! وتضربه بالعمود على رأسه فتفلقه شجة منكرة. فقام يجر رجليه ذليلا ، ورماه الله بالعدسة ، فمات ، وأقام ثلاثة أيام يدفن حتى أنتن ؛ ثم إن ولده غسلوه بالماء ، قذفا من بعيد ، مخافة عدوى العدسة. وكانت قريش تتقيها كما يتقي الطاعون. ثم احتملوه إلى أعلى مكة ، فأسندوه إلى جدار ، ثم رضموا عليه الحجارة.
(20/243)