سورة الضحى
مكية باتفاق. وهي إحدى عشر آية
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {وَالضُّحَى}
2- {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى}
3- {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}
قوله تعالى : {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} قد تقدم القول في {الضُّحَى} ، والمراد به النهار ؛ لقوله : {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} فقابله بالليل. وفي سورة الأعراف {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} أي نهارا. وقال قتادة ومقاتل وجعفر الصادق : أقسم بالضحى الذي كلم اللّه فيه موسى ، وبليلة المعراج. وقيل : هي الساعة التي خر فيها السحرة سجدا. بيانه قوله تعالى : {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً} . وقال أهل المعاني فيه وفي أمثاله : فيه إضمار ، مجازه ورب الضحى. و {سَجَى} معناه : سكن ؛ قال قتادة ومجاهد وابن زيد وعكرمة. يقال : ليلة ساجية أي ساكنة. ويقال للعين إذا سكن طرفها : ساجية. يقال : سجا الليل يسجو سجوا : إذا سكن. والبحر إذا سجا : سكن. قال الأعشى :
فما ذنبنا أن جاش بحر ابن عمكم ... وبحرك ساج ما يواري الدعامصا
وقال الراجز :
يا حبذا القمراء والليل الساج ... وطرق مثل ملاء النساج
(20/91)
وقال جرير :
ولقد رمينك يوم رحن بأعين ... ينظرن من خلل الستور سواجي
وقال الضحاك : {سَجَى} غطى كل شيء. قال الأصمعي : سجو الليل : تغطيته النهار ؛ مثلما يسجى الرجل بالثوب. وقال الحسن : غشى بظلامه ؛ وقال ابن عباس. وعنه : إذا ذهب. وعنه أيضا : إذا أظلم. وقال سعيد بن جبير : أقبل ؛ وروي عن قتادة أيضا. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد : {سَجَى} استوى. والقول الأول أشهر في اللغة : {سَجَى} سكن ؛ أي سكن الناس فيه. كما يقال : نهار صائم ، وليل قائم. وقيل : سكونه استقرار ظلامه واستواؤه. ويقال : {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} : يعني عباده الذين يعبدونه في وقت الضحى ، وعباده الذين يعبدونه بالليل إذا أظلم. ويقال : {وَالضُّحَى} : يعني نور الجنة إذا تنور. {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} : يعني ظلمة الليل إذا أظلم. ويقال : {وَالضُّحَى} : يعني النور الذي في قلوب العارفين كهيئة النهار. {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} : يعني السواد الذي في قلوب الكافرين كهيئة الليل ؛ فأقسم اللّه عز وجل بهذه الأشياء.
قوله تعالى : {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} هذا جواب القسم. وكان جبريل عليه السلام أبطأ على النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال المشركون : قلاه اللّه وودعه ؛ فنزلت الآية. وقال ابن جريج : احتبس عنه الوحي اثني عشر يوما. وقال ابن عباس : خمسة عشر يوما. وقيل : خمسة وعشرين يوما. وقال مقاتل : أربعين يوما. فقال المشركون : إن محمدا ودعه ربه وقلاه ، ولو كان أمره من اللّه لتابع عليه ، كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء. وفي البخاري عن جندب بن سفيان قال : اشتكى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فلم يقم ليلتين أو ثلاثا ؛ فجاءت امرأة فقالت : يا محمد ، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك ، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث ؛ فأنزل اللّه عز وجل {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} . وفي الترمذي عن جندب البجلي قال : كنت مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في غار فدميت إصبعه ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "هل أنت إلا إصبع دميت ،
(20/92)
وفي سبيل اللّه ما لقيت" ! قال : وأبطأ عليه جبريل فقال المشركون : قد ودع محمد ؛ فأنزل اللّه تبارك وتعالى : {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} . هذا حديث حسن صحيح. لم يذكر الترمذي : "فلم يقم ليلتين أو ثلاثا" أسقطه الترمذي. وذكره البخاري ، وهو أصح ما قيل في ذلك. واللّه أعلم. وقد ذكره الثعلبي أيضا عن جندب بن سفيان البجلي ، قال : رُمي النبي صلى اللّه عليه وسلم في إصبعه بحجر ، فدميت ، فقال : "هل أنت إلا إصبع دميت ، وفي سبيل اللّه ما لقيت" فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم الليل. فقالت له أم جميل امرأة أبي لهب : ما أرى شيطانك إلا قد تركك ، لم اره قربك منذ ليلتين أو ثلاث ؛ فنزلت {وَالضُّحَى} . وروى عن أبي عمران الجوني ، قال : أبطأ جبريل على النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى شق عليه ؛ فجاء وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو ؛ فنكت بين كتفيه ، وأنزل عليه : {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} . وقالت خولة - وكانت تخدم النبي صلى اللّه عليه وسلم - : إن جروا دخل البيت ، فدخل تحت السرير فمات ، فمكث نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم أياما لا ينزل عليه الوحي. فقال : "يا خولة ، ما حدث في بيتي ؟ ما لجبريل لا يأتيني" قالت خولة فقلت : لو هيأت البيت وكنسته ؛ فأهويت بالمكنسة تحت السرير ، فإذا جرو ميت ، فأخذته فألقيته خلف الجدار ؛ فجاء نبي اللّه ترعد لحياه - وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة - فقال : "يا خولة دثريني" فأنزل اللّه هذه السورة. ولما نزل جبريل سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن التأخر فقال : "أما علمت أنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة" . وقيل : لما سألته اليهود عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف قال : "سأخبركم غدا" . ولم يقل إن شاء اللّه. فاحتبس عنه الوحي ، إلى أن نزل جبريل عليه بقوله : {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فأخبره بما سئل عنه. وفي هذه القصة نزلت {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}. وقيل : إن المسلمين قالوا : يا رسول اللّه ، مالك لا ينزل عليك الوحي ؟ فقال : "وكيف ينزل علي وأنتم لا تنقون رواجبكم - وفي رواية براجمكم - ولا تقصون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم" . فنزل
(20/93)
جبريل بهذه السورة ؛ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "ما جئت حتى اشتقت إليك" فقال جبريل : "أنا كنت أشد إليك شوقا ، ولكني عبد مأمور" ثم أنزل عليه {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ}{وَدَّعَكَ} بالتشديد : قراءة العامة ، من التوديع ، وذلك كتوديع المفارق. وروي عن ابن عباس وابن الزبير أنهما قرآه {ودعك} بالتخفيف ، ومعناه : تركك. قال :
وثم ودعنا آل عمرو وعامر ... فرائس أطراف المثقفة السمر
واستعماله قليل. يقال : هو يدع كذا ، أي يتركه. قال المبرد محمد بن يزيد : لا يكادون يقولون ودع ولا وذر ، لضعف الواو إذا قدمت ، واستغنوا عنها بترك.
قوله تعالى : {وَمَا قَلَى} أي ما أبغضك ربك منذ أحبك. وترك الكاف ، لأنه رأس آية. والقلى : البغض ؛ فإن فتحت القاف مددت ؛ تقول : قلاه يقليه قلى وقلاء. كما تقول : قريت الضيف أقريه قرى وقراء. ويقلاه : لغة طيء. وأنشد ثعلب :
أيام أم الغمر لا نقلاها
أي لا نبغضها. ونقلي أي نبغض. وقال :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت
وقال امرؤ القيس :
ولست بمقلي الخلال ولا قال
وتأويل الآية : ما ودعك ربك وما قلاك. فترك الكاف لأنه رأس آية ؛ كما قال عز وجل : {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} أي والذاكرات اللّه.
(20/94)
4- {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى}
5- {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}
روى سلمة عن ابن إسحاق قال : {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} أي ما عندي في مرجعك إلي يا محمد ، خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا. وقال ابن عباس : أري النبي صلى اللّه عليه وسلم ما يفتح اللّه على أمته بعده ؛ فسر بذلك ؛ فنزل جبريل بقوله : {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} . قال ابن إسحاق : الفلج في الدنيا ، والثواب في الآخرة. وقيل : الحوض والشفاعة. وعن ابن عباس : ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك. رفعه الأوزاعي ، قال : حدثني إسماعيل بن عبيدالله ، عن علي بن عبدالله بن عباس ، عن أبيه قال : أري النبي صلى اللّه عليه وسلم ما هو مفتوح على أمته ، فسر بذلك ؛ فأنزل اللّه عز وجل {وَالضُّحَى - إلى قوله تعالى - وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} ، فأعطاه اللّه جل ثناؤه ألف قصر في الجنة ، ترابها المسك ؛ في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم. وعنه قال : رضي محمد ألا يدخل أحد من أهل بيته النار. وقال السدي. وقيل : هي الشفاعة في جميع المؤمنين. وعن علي رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "يشفعني اللّه في أمتي حتى يقول اللّه سبحانه لي : رضيت يا محمد ؟ فأقول يا رب رضيت" . وفي صحيح مسلم عن ، عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى اللّه عليه وسلم تلا قول اللّه تعالى في إبراهيم : {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقول عيسى : {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} ، فرفع يديه وقال : "اللهم أمتي أمتي" وبكى. فقال اللّه تعالى لجبريل : "اذهب إلى محمد ، وربك أعلم ، فسله ما يبكيك" فأتى جبريل النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فسأل فأخبره. فقال اللّه تعالى لجبريل : "اذهب إلى محمد ، فقل له : إن اللّه يقول لك : إنا سنرضيك في أمتك
(20/95)
ولا نسوءك" .وقال علي رضي اللّه عنه لأهل العراق : إنكم تقولون إن أرجى آية في كتاب اللّه تعالى : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} قالوا : إنا نقول ذلك. قال : ولكنا أهل البيت نقول : إن أرجى آية في كتاب اللّه قوله تعالى : {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} . وفي الحديث : لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "إذا واللّه لا أرضى وواحد من أمتي في النار" .
6- {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى}
عدد سبحانه مننه على نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم فقال : {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً} لا أب لك قد مات أبوك. {فَآوَى} أي جعل لك مأوى تأوي إليه عند عمك أبي طالب ، فكفلك. وقيل لجعفر بن محمد الصادق : لم أوتم النبي صلى اللّه عليه وسلم من أبويه ؟ فقال : لئلا يكون لمخلوق عليه حق. وعن مجاهد : هو من قول العرب : درة يتيمة ؛ إذا لم يكن لها مثل. فمجاز الآية : ألم يجدك واحدا في شرفك لا نظير لك ، فآواك اللّه بأصحاب يحفظونك ويحوطونك.
7- {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى}
أي غافلا عما يراد بك من أمر النبوة ، فهداك : أي أرشدك. والضلال هنا بمعنى الغفلة ؛ كقوله جل ثناؤه : {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} أي لا يغفل. وقال في حق نبيه : {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} وقال قوم : {ضَالاً} لم تكن تدري القرآن والشرائع ، فهداك اللّه إلى القرآن ، وشرائع الإسلام ؛ عن الضحاك وشهر بن حوشب وغيرهما. وهو معنى
(20/96)
قوله تعالى : {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ} ، على ما بينا في سورة الشورى. وقال قوم : {وَوَجَدَكَ ضَالاً} أي في قوم ضلال ، فهداهم اللّه بك. هذا قول الكلبي والفراء. وعن السدي نحوه ؛ أي ووجد قومك في ضلال ، فهداك إلى إرشادهم. وقيل : {وَوَجَدَكَ ضَالاً} عن الهجرة ، فهداك إليها. وقيل : {ضَالاً} أي ناسيا شأن الاستئناء حين سئلت عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح - فأذكرك ؛ كما قال تعالى : " {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} . وقيل : ووجدك طالبا للقبلة فهداك إليها ؛ بيانه : {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ...} الآية. ويكون الضلال بمعنى الطلب ؛ لأن الضال طالب. وقيل : ووجدك متحيرا عن بيان ما نزل عليك ، فهداك إليه ؛ فيكون الضلال بمعنى التحير ؛ لأن الضال متحير. وقيل : ووجدك ضائعا في قومك ؛ فهداك إليه ؛ ويكون الضلال بمعنى الضياع. وقيل : ووجدك محبا للهداية ، فهداك إليها ؛ ويكون الضلال بمعنى المحبة. ومنه قوله تعالى : {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} أي في محبتك. قال الشاعر :
هذا الضلال أشاب مني المفرقا ... العارضين ولم أكن متحققا
عجبا لعزة في اختيار قطيعتي ... بعد الضلال فحبلها قد أخلقا
وقيل : {ضَالاً} في شعاب مكة ، فهداك وردك إلى جدك عبدالمطلب. قال ابن عباس : ضل النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو صغير في شعاب مكة ، فرآه أبو جهل منصرفا عن أغنامه ، فرده إلى جده عبدالمطلب ؛ فمن اللّه عليه بذلك ، حين رده إلى جده على يدي عدوه. وقال سعيد بن جبير : خرج النبي صلى اللّه عليه وسلم مع عمه أبي طالب في سفر ، فأخذ إبليس بزمام الناقة في ليلة ظلماء ، فعدل بها عن الطريق ، فجاء جبريل عليه السلام ، فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى أرض الهند ، ورده إلى القافلة ؛ فمن اللّه عليه بذلك. وقال كعب : إن حليمة لما قضت حق الرضاع ، جاءت برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لترده على عبدالمطلب ،
(20/97)
فسمعت عند باب مكة : هنيئا لك يا بطحاء مكة ، اليوم يرد إليك النور والدين والبهاء والجمال. قالت : فوضعته لأصلح ثيابي ، فسمعت هدة شديدة ، فالتفت فلم أره ، فقلت : معشر الناس ، أين الصبي ؟ فقال : لم نر شيئا ؛ فصحت : وامحمداه فإذا شيخ فان يتوكأ على عصاه ، فقال : اذهبي إلى الصنم الأعظم ، فإن شاء أن يرده عليك فعل. ثم طاف الشيخ بالصنم ، وقبل رأسه وقال : يا رب ، لم تزل منتك على قريش ، وهذه السعدية تزعم أن ابنها قد ضل ، فرده إن شئت. فانكب هبل على وجهه ، وتساقطت الأصنام ، وقالت : إليك عنا أيها الشيخ ، فهلاكنا على يدي محمد. فألقى الشيخ عصاه ، وارتعد وقال : إن لابنك ربا لا يضيعه ، فاطلبيه على مهل. فانحشرت قريش إلى عبدالمطلب ، وطلبوه في جميع مكة ، فلم يجدوه. فطاف عبدالمطلب بالكعبة سبعا ، وتضرع إلى اللّه أن يرده ، وقال :
يا رب رد ولدي محمدا ... اردده ربي واتخذ عندي يدا
يا رب إن محمد لم يوجدا ... فشمل قومي كلهم تبددا
فسمعوا مناديا ينادي من السماء : معاشر الناس لا تضجوا ، فإن لمحمد ربا لا يخذله ولا يضيعه ، وإن محمدا بوادي تهامة ، عند شجرة السمر. فسار عبدالمطلب هو وورقة بن نوفل ، فإذا النبي صلى اللّه عليه وسلم قائم تحت شجرة ، يلعب بالأغصان وبالورق. وقيل : {وَوَجَدَكَ ضَالاً} ليلة المعراج ، حين انصرف عنك جبريل وأنت لا تعرف الطريق ، فهداك إلى ساق العرش. وقال أبو بكر الوراق وغيره : {وَوَجَدَكَ ضَالاً} : تحب أبا طالب ، فهداك إلى محبة ربك. وقال بسام بن عبدالله : {وَوَجَدَكَ ضَالاً} بنفسك لا تدري من أنت ، فعرفك بنفسك وحالك. وقال الجنيدي : ووجدك متحيرا في بيان الكتاب ، فعلمك البيان ؛ بيانه : {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية. {لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} . وقال بعض المتكلمين : إذا وجدت العرب شجرة منفردة في فلاة من الأرض ، لا شجر معها ، سموها ضالة ، فيهتدي بها إلى الطريق ؛ فقال اللّه تعالى
(20/98)
لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم : {وَوَجَدَكَ ضَالاً} أي لا أحد على دينك ، وأنت وحيد ليس معك أحد ؛ فهديت بك الخلق إلي.
قلت : هذه الأقوال كلها حسان ، ثم منها ما هو معنوي ، ومنها ما هو حسي. والقول الأخير أعجب إلي ؛ لأنه يجمع الأقوال المعنوية. وقال قوم : إنه كان على جملة ما كان القوم عليه ، لا يظهر لهم خلافا على ظاهر الحال ؛ فأما الشرك فلا يظن به ؛ بل كان على مراسم القوم في الظاهر أربعين سنة. وقال الكلبي والسدي : هذا على ظاهره ؛ أي وجدك كافرا والقوم كفار فهداك. وقد مضى هذا القول والرد عليه في سورة "الشورى". وقيل : وجدك مغمورا بأهل الشرك ، فميزك عنهم. يقال : ضل الماء في اللبن ؛ ومنه {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} أي لحقنا بالتراب عند الدفن ، حتى كأنا لا نتميز من جملته. وفي قراءة الحسن {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} أي وجدك الضال فاهتدى بك ؛ وهذه قراءة على التفسير. وقيل : {وَوَجَدَكَ ضَالاً} لا يهتدي إليك قومك ، ولا يعرفون قدرك ؛ فهدى المسلمين إليك ، حتى آمنوا بك.
8- {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى}
أي فقيرا لا مال لك. {فَأَغْنَى} أي فأغناك بخديجة رضي اللّه عنها ؛ يقال : عال الرجل يعيل عيلة : إذا افتقر. وقال أحيحة بن الجلاح :
فما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغني متى يغيل
أي يفتقر. وقال مقاتل : فرضاك بما أعطاك من الرزق. وقال الكلبي : قنعك بالرزق. وقال ابن عطاء : ووجدك فقير النفس ، فأغنى قلبك. وقال الأخفش : وجدك ذا عيال ؛ دليله "فأغنى". ومنه قول جرير :
الله أنزل في الكتاب فريضة ... لابن السبيل وللفقير العائل
(20/99)
وقيل : وجدك فقيرا من الحجج والبراهين ، فأغناك بها. وقيل : أغناك بما فتح لك من الفتوح ، وأفاءه عليك من أموال الكفار. القشيري وفي هذا نظر ؛ لأن السورة مكية ، وإنما فرض الجهاد بالمدينة.
وقراءة العامة {عَائِلاً} وقرأ ابن السميقع {عيلا} بالتشديد ؛ مثل طبيب وهين.
9- {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَر}ْ
10- {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ}
11- {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}
فيه أربع مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} أي لا تسلط عليه بالظلم ، ادفع إليه حقه ، واذكر يتمك ؛ قال الأخفش. وقيل : هما لغتان : بمعنى. وعن مجاهد {فَلا تَقْهَرْ} فلا تحتقر. وقرأ النخعي والأشهب العقيلي {تكهر}بالكاف ، وكذا هو في مصحف ابن مسعود. فعلى هذا يحتمل أن يكون نهيا عن قهره ، بظلمه وأخذ ماله. وخص اليتيم لأنه لا ناصر له غير اللّه تعالى ؛ فغلظ في أمره ، بتغليظ العقوبة على ظالمه. والعرب تعاقب بين الكاف والقاف. النحاس : وهذا غلط ، إنما يقال كهره : إذا اشتد عليه وغلظ. وفي صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي ، حين تكلم في الصلاة برد السلام ، قال : فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه - يعني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - فواللّه ما كهرني ، ولا ضربني ، ولا شتمني... الحديث. وقيل : القهر الغلبة. والكهر : الزجر.
الثانية- ودلت الآية على اللطف باليتيم ، وبره والإحسان إليه ؛ حتى قال قتادة : كن لليتيم كالأب الرحيم. وروي عن أبي هريرة أن رجلا شكا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم قسوة قلبه ؛ فقال : "إن أردت أن يلين ، فامسح رأس اليتيم ، وأطعم المسكين" . وفي الصحيح عن أبي هريرة : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : "أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين" .
(20/100)
وأشار بالسبابة والوسطى. ومن حديث ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : "إن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن ، فيقول اللّه تعالى لملائكته : يا ملائكتي ، من ذا الذي أبكى هذا اليتيم الذي غيبت أباه في التراب ، فتقول الملائكة ربنا أنت أعلم ، فيقول اللّه تعالى لملائكته : يا ملائكتي ، اشهدوا أن من أسكته وأرضاه ؟ أن أرضيه يوم القيامة" . فكان ابن عمر إذا رأى يتيما مسح برأسه ، وأعطاه شيئا. وعن أنس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "من ضم يتيما فكان في نفقته ، وكفاه مؤونته ، كان له حجابا من النار يوم القيامة ، ومن مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة" . وقال أكثم بن صيفي : الأذلاء أربعة : النمام ، والكذاب ، والمديون ، واليتيم.
الثالثة- قوله تعالى : {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} أي لا تزجره ؛ فهو نهى عن إغلاط القول. ولكن رده ببذل يسير ، أو رد جميل ، واذكر فقرك ؛ قال قتادة وغيره. وروي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : "لا يمنعن أحدكم السائل ، وأن يعطيه إذا سأل ، ولو رأى في يده قلبين من ذهب" . وقال إبراهيم بن أدهم : نعم القوم السُّؤَّال : يحملون زادنا إلى الآخرة. وقال إبراهيم النخعي : السائل بريد الآخرة ، يجيء إلى باب أحدكم فيقول : هل تبعثون إلى أهليكم بشيء. وروي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : "ردوا السائل ببذل يسير ، أو رد جميل ، فإنه يأتيكم من ليس من الإنس ولا من الجن ، ينظر كيف صنيعكم فيما خولكم اللّه" . وقيل : المراد بالسائل هنا ، الذي يسأل عن الدين ؛ أي فلا تنهره بالغلظة والجفوة ، وأجبه برفق ولين ؛ قاله سفيان. قال ابن العربي : وأما السائل عن الدين فجوابه فرض على العالم ، على الكفاية ؛ كإعطاء سائل البر سواء. وقد كان أبو الدرداء ينظر إلى أصحاب الحديث ، ويبسط رداءه لهم ، ويقول : مرحبا بأحبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وفي حديث أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : كنا إذا أتينا أبا سعيد يقول : مرحبا بوصية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : "إن الناس لكم تبع
(20/101)
وإن رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون ، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا" . وفي رواية "يأتيكم رجال من قبل المشرق" ... فذكره. و {الْيَتِيمَ} و {السَّائِلَ} منصوبان بالفعل الذي بعده ؛ وحق المنصوب أن يكون بعد الفاء ، والتقدير : مهما يكن من شيء فلا تقهر اليتيم ، ولا تنهر السائل. وروي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : "سألت ربي مسئلة وددت أني لم أسألها : قلت يا رب اتخذت إبراهيم خليلا ، وكلمت موسى تكليما ، وسخرت مع داود الجبال يسبحن ، وأعطيت فلانا كذا ؛ فقال عز وجل : ألم أجدك يتيما فآويتك ؟ ألم أجدك ضالا فهديتك ؟ ألم أجدك عائلا فأغنيتك ؟ ألم أشرح لك صدرك ؟ ألم أوتك ما لم أوت أحدا قبلك : خواتيم سورة البقرة ، الم أتخذك خليلا ، كما اتخذت إبراهيم خليلا ؟ قلت بلى يا رب"
الرابعة- قوله تعالى : {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} أي أنشر ما أنعم اللّه عليك بالشكر والثناء. والتحدث بنعم اللّه ، والاعتراف بها شكر. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد "وأما بنعمة ربك" قال بالقرآن. وعنه قال : بالنبوة ؛ أي بلغ ما أرسلت به. والخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، والحكم عام له ولغيره. وعن الحسن بن علي رضي اللّه عنهما قال : إذا أصبت خيرا ، أو عملت خيرا ، فحدث به الثقة من إخوانك. وعن عمرو بن ميمون قال : إذا لقي الرجل من إخوانه من يثق به ، يقول له : رزق اللّه من الصلاة البارحة وكذا وكذا. وكان أبو فراس عبدالله بن غالب إذا أصبح يقول : لقد رزقني اللّه البارحة كذا ، قرأت كذا ، وصليت كذا ، وذكرت اللّه كذا ، وفعلت كذا. فقلنا له : يا أبا فراس ، إن مثلك لا يقول هذا قال : يقول اللّه تعالى : {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} وتقولون أنتم : لا تحدث بنعمة اللّه ونحوه عن أيوب السختياني وأبي رجاء العطاردي رضي اللّه عنهم. وقال بكر بن عبدالله المزني قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "من أعطي خيرا فلم ير عليه ، سمي بغيض اللّه ، معاديا لنعم اللّه" . وروى الشعبي عن النعمان بن بشير قال : قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "من لم يشكو القليل ، لم يشكر الكثير ، ومن لم يشكر الناس ، لم يشكر اللّه ، والتحدث بالنعم شكر ، وتركه كفر ، والجماعة رحمة ، والفرقة عذاب" . وروى النسائي عن مالك بن نضلة الجشمي قال : كنت عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالسا ، فرآني رث الثياب فقال : "ألك مال ؟ " قلت :
(20/102)
نعم ، يا رسول اللّه ، من كل المال. قال : "إذا آتاك اللّه مالا فلير أثره عليك" . وروى أبو سعيد الخدري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : "إن اللّه جميل يحب الجمال ، ويجب أن يرى أثر نعمته على عبده" .
فصل : يُكبر القارئ في رواية البزي عن ابن كثير - وقد رواه مجاهد عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب ، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : إذا بلغ آخر {وَالضُّحَى} كبر بين كل سورة تكبيرة ، إلى أن يختم القرآن ، ولا يصل آخر السورة بتكبيره ؛ بل يفصل بينهما بسكتة. وكأن المعنى في ذلك أن الوحي تأخر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أياما ، فقال ناس من المشركين : قد ودعه صاحبه وقلاه ؛ فنزلت هذه السورة فقال : "اللّه أكبر". قال مجاهد : قرأت على ابن عباس ، فأمرني به ، وأخبرني به عن أبيّ عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. ولا يكبر في قراءة الباقين ؛ لأنها ذريعة إلى الزيادة في القرآن.
قلت : القرآن ثبت نقلا متواترا سوره وآياته وحروفه ؛ لا زيادة فيه ولا نقصان ؛ فالتكبير على هذا ليس بقرآن. فإذا كان بسم اللّه الرحمن الرحيم المكتوب في المصحف بخط المصحف ليس بقرآن ، فكيف بالتكبير الذي هو ليس بمكتوب. أما أنه ثبت سنة بنقل الآحاد ، فاستحبه ابن كثير ، لا أنه أوجبه فخطأ من تركه. ذكر الحاكم أبو عبدالله محمد بن عبدالله الحافظ في كتاب المستدرك له على البخاري ومسلم : حدثنا أبو يحيى محمد بن عبدالله بن محمد بن عبدالله بن يزيد ، المقرئ الإمام بمكة ، في المسجد الحرام ، قال : حدثنا أبو عبدالله محمد بن علي بن زيد الصائغ ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن القاسم بن أبي بزة : سمعت عكرمة بن سليمان يقول : قرأت على إسماعيل بن عبدالله بن قسطنطين ، فلما بلغت {وَالضُّحَى} قال لي كبر عند خاتمة كل سورة حتى تختم ، فإني قرأت على عبدالله بن كثير فلما بلغت {وَالضُّحَى} قال : كبر حتى تختم. وأخبره عبدالله بن كثير أنه قرأ على مجاهد ، وأخبره مجاهد أن ابن عباس أمره بذلك ، وأخبره ابن عباس أن أبيّ بن كعب أمره بذلك ، وأخبره أبيّ بن كعب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمره بذلك. هذا حديث صحيح ولم يخرجاه.
(20/103)