بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}
2- {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ}
3- {النَّجْمُ الثَّاقِبُ}
قوله تعالى : {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} قسمان : "السماء" قسم ، و"الطارق" قسم. والطارق : النجم. وقد بينه اللّه تعالى بقوله : {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ} . واختلف فيه ؛ فقيل : هو زحل : الكوكب الذي في السماء السابعة ؛ ذكره محمد بن الحسن في تفسيره ، وذكر له أخبارا ، اللّه أعلم بصحتها. وقال ابن زيد : إنه الثريا. وعنه أيضا أنه زحل ؛ وقاله الفراء. ابن عباس : هو الجدي. وعنه أيضا وعن علي بن أبي طالب - رضي اللّه عنهما - والفراء : {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} نجم في السماء السابعة ، لا يسكنها غيره من النجوم ؛ فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء ، هبط فكان معها. ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة ، وهو زحل ، فهو طارق حين ينزل ، وطارق حين يصعد. وحكى الفراء : ثقب الطائر : إذا ارتفع وعلا. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قاعدا مع أبي طالب ، فانحط نجم ، فامتلأت الأرض نورا ، ففزع أبو طالب ، وقال : أي شيء هذا ؟ فقال : "هذا نجم رمي به ، وهو آية من آيات اللّه" فعجب أبو طالب ، ونزل : {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} . وروي عن ابن عباس أيضا {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} . قال : السماء وما يطرق فيها. وعن
(20/1)
ابن عباس وعطاء : {الثَّاقِبُ} : الذي ترمي به الشياطين. قتادة : هو عام في سائر النجوم ؛ لأن طلوعها بليل ، وكل من أتاك ليلا فهو طارق. قال :
ومثلك حبلي قد طرقت ومرضعا ... فألهيتها عن ذي تمائم مغيل
وقال :
ألم ترياني كلما جئت طارقا ... وجدت بها طيبا وإن لم تطيب
فالطارق : النجم ، اسم جنس ، سمي بذلك لأنه يطرق ليلا ، ومنه الحديث : "نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يطرق المسافر أهله ليلا ، كي تستحد المغيبة ، وتمتشط الشعثة" . والعرب تسمي كل قاصد في الليل طارقا. يقال : طرق فلان إذا جاء بليل. وقد طرق يطرق طروقا ، فهو طارق. ولابن الرومي :
يا راقد الليل مسرورا بأوله ... إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
لا تفرحن بليل طاب أوله ... فرب آخر ليل أجج النارا
وفي الصحاح : والطارق : النجم الذي يقال له كوكب الصبح. ومنه قول هند :
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
أي إن أبانا في الشرف كالنجم المضيء. الماوردي : وأصل الطرق : الدق ، ومنه سميت المطرقة ، فسمي قاصد الليل طارقا ، لاحتياجه في الوصول إلى الدق. وقال قوم : إنه قد يكون نهارا. والعرب تقول ؛ أتيتك اليوم طرقتين : أي مرتين. ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم :
(20/2)
"أعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار ، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن" . وقال جرير في الطروق :
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... حين الزيارة فارجعي بسلام
ثم بين فقال : {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ} والثاقب : المضيء. ومنه {شِهَابٌ ثَاقِبٌ} . يقال : ثقب يثقب ثقوبا وثقابة : إذا أضاء. وثقوبه : ضوئه. والعرب تقول : أثقب نارك ؛ أي أضئها. قال :
أذاع به في الناس حتى كأنه ... بعلياء نار أوقدت بثقوب
الثقوب : ما تشعل به النار من دقاق العيدان. وقال مجاهد : الثاقب : المتوهج. القشيري والمعظم على أن الطارق والثاقب اسم جنس أريد به العموم ، كما ذكرنا عن مجاهد. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} تفخيما لشأن هذا المقسم به. وقال سفيان : كل ما في القرآن {وَمَا أَدْرَاكَ} ؟ فقد أخبره به. وكل شيء قال فيه {وَمَا يُدْرِيكَ} : لم يخبره به.
4- {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}
قال قتادة : حفظة يحفظون عليك رزقك وعملك وأجلك. وعنه أيضا قال : قرينه يحفظ عليه عمله : من خير أو شر. وهذا هو جواب القسم. وقيل : الجواب {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} في قول الترمذي : محمد بن علي. و"إن" : مخففة من الثقيلة ، و"ما" : مؤكدة ، أي إن كل نفس لعليها حافظ. وقيل : المعنى إن كل نفس إلا عليها حافظ : يحفظها من الآفات ، حتى يسلمها إلى القدر. قال الفراء : الحافظ من اللّه ، يحفظها حتى يسلمها إلى المقادير ، وقال الكلبي. وقال أبو أمامة : قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه ما لم يقدر عليه من ذلك البصر ، سبعة أملاك يذبون عنه ، كما يذب عن قصعة العسل الذباب. ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين" . وقراءة ابن عامر وعاصم وحمزة "لما" بتشديد الميم ، أي ما كل نفس إلا عليها حافظ ، وهي لغة
(20/3)
هذيل : يقول قائلهم : نشدتك لما قمت. الباقون بالتخفيف ، على أنها زائدة مؤكدة ، كما ذكرنا. ونظير هذه الآية قوله تعالى : {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} ، على ما تقدم. وقيل : الحافظ هو اللّه سبحانه ؛ فلولا حفظه لها لم تبق. وقيل : الحافظ عليه عقله ، يرشده إلى مصالحه ، ويكفه عن مضاره.
قلت : العقل وغيره وسائط ، والحافظ في الحقيقة هو اللّه جل وعز ؛ قال اللّه عز وجل : {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وقال : {قُلْ مَنْ يَكْلَأُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} وما كان مثله.
5- {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ}
6- {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ}
7- {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}
8- {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ}
قوله تعالى : {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ} أي ابن آدم {مِمَّ خُلِقَ} وجه الاتصال بما قبله توصية الإنسان بالنظر في أول أمره ، وسنته الأولى ، حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه ؛ فيعمل ليوم الإعادة والجزاء ، ولا يملي على حافظه إلا ما يسره في عاقبة أمره. و {مِمَّ خُلِقَ} ؟ استفهام ؛ أي من أي شيء خلق ؟ ثم قال : {خُلِقَ} وهو جواب الاستفهام {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} أي من المني. والدفق : صب الماء ، دفقت الماء أدفقه دفقا : صببته ، فهو ماء دافق ، أي مدفوق ، كما قالوا : سر كاتم : أي مكتوم ؛ لأنه من قولك : دفق الماء ، على ما لم يسم فاعله. ولا يقال : دفق الماء. ويقال : دفق اللّه روحه : إذا دعي عليه بالموت. قال الفراء والأخفش : {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} أي مصبوب في الرحم ، الزجاج : من ماء ذي اندفاق. يقال : دارع وفارس ونابل ؛ أي ذو فرس ، ودرع ، ونبل. وهذا مذهب سيبويه. فالدافق هو المندفق بشدة قوته. وأراد ماءين : ماء الرجل وماء المرأة ؛ لأن الإنسان مخلوق منهما ، لكن جعلهما ماء واحدا لامتزاجهما. وعن عكرمة عن ابن عباس : {دَافِقٍ} لزج. {يَخْرُجُ}
(20/4)
أي هذا الماء {مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ} أي الظهر. وفيه لغات أربع : صلب ، وصلب - وقرئ بهما - وصلب (بفتح اللام) ، وصالب (على وزن قالب) ؛ ومنه قول العباس :
تنقل من صالب إلى رحم
"والترائب" أي الصدر ، الواحدة : تريبة ؛ وهي موضع القلادة من الصدر. قال :
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجل
والصلب من الرجل ، والترائب من المرأة. قال ابن عباس : الترائب : موضع القلادة. وعنه : ما بين ثدييها ؛ وقال عكرمة. وروي عنه : يعني ترائب المرأة : اليدين والرجلين والعينين ؛ وبه قال الضحاك. وقال سعيد بن جبير : هو الجيد. مجاهد : هو ما بين المنكبين والصدر عنه : الصدر. وعنه : التراقي. وعن ابن جبير عن ابن عباس : الترائب : أربع أضلاع من هذا الجانب. وحكى الزجاج : أن الترائب أربع أضلاع من يمنة الصدر ، وأربع أضلاع من يسرة الصدر. وقال معمر بن أبي حبيبة المدني : الترائب عصارة القلب ؛ ومنها يكون الولد. والمشهور من كلام العرب : أنها عظام الصدر والنحر. وقال دريد بن الصمة :
فإن تدبروا نأخذكم في ظهوركم ... وإن تقبلوا نأخذكم في الترائب
وقال آخر :
وبدت كأن ترائبا من نحرها ... جمر الغضى في ساعد تتوقد
وقال آخر :
والزعفران على ترائبها ... شرق به اللبات والنحر
(20/5)
وعن عكرمة : الترائب : الصدر ؛ ثم أنشد :
نظام در على ترائبها
وقال ذو الرمة :
ضرجن البرود عن ترائب حرة
أي شققن. ويروي "ضرحن" بالخاء ، أي ألقين. وفي الصحاح : والتربية : واحدة الترائب ، وهي عظام الصدر ؛ ما بين الترقوة والثندوة. قال الشاعر :
أشرف ثدياها على التريب
وقال المثقب العبدي :
ومن ذهب يسن على تريب ... كلون العاج ليس بذي غضون
[عن غير الجوهري : الثندوة للرجل : بمنزلة الثدي للمرأة. وقال الأصمعي : مغرز الثدي. وقال ابن السكيت : هي اللحم الذي حول الثدي ؛ إذا ضممت أولها همزت ، وإذا فتحت لم تهمز]. وفي التفسير : يخلق من ماء الرجل الذي يخرج من صلبه العظم والعصب. ومن ماء المرأة الذي يخرج من ترائبها اللحم والدم ؛ وقال الأعمش. وقد تقدم مرفوعا في أول سورة "آل عمران". والحمد لله – وفي"الحجرات" {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} وقد تقدم. وقيل : إن ماء الرجل ينزل من الدماغ ، ثم يجتمع في الأنثيين. وهذا لا يعارض قوله : {مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ} ؛ لأنه
(20/6)
إن نزل من الدماغ ، فإنما يمر بين الصلب والترائب. وقال قتادة : المعنى ويخرج من صلب الرجل وترائب المرأة. وحكى الفراء أن مثل هذا يأتي عن العرب ؛ وعليه فيكون معنى من بين الصلب : من الصلب. وقال الحسن : المعنى : يخرج من صلب الرجل وترائب الرجل ، ومن صلب المرأة وترائب المرأة. ثم إنا نعلم أن النطفة من جميع أجزاء البدن ؛ ولذلك يشبه الرجل والديه كثيرا. وهذه الحكمة في غسل جميع الجسد من خروج المني. وأيضا المكثر من الجماع يجد وجعا في ظهره وصلبه ؛ وليس ذلك إلا لخلو صلبه عما كان محتبسا من الماء. وروى إسماعيل عن أهل مكة {يخرج من بين الصلُب}بضم اللام. ورويت عن عيسى الثقفي. حكاه المهدوي وقال : من جعل المني يخرج من بين صلب الرجل وترائبه ، فالضمير في {يخرج} للماء. ومن جعله من بين صلب الرجل وترائب المرأة ، فالضمير للإنسان. وقرئ {الصَلَب} ، بفتح الصاد واللام. وفيه أربع لغات : صلب وصلب وصلب وصالب. قال العجاج :
في صلب مثل العنان المؤدم
وفي مدح النبي صلى اللّه عليه وسلم :
تنقل من صالب إلى رحم
الأبيات مشهورة معروفة. {إِنَّهُ} أي إن اللّه جل ثناؤه {عَلَى رَجْعِهِ} أي على رد الماء في الإحليل ، {لَقَادِرٌ} كذا قال مجاهد والضحاك. وعنهما أيضا أن المعنى : إنه على رد الماء في الصلب ؛ وقال عكرمة. وعن الضحاك أيضا أن المعنى : إنه على رد الإنسان ماء كما كان لقادر. وعنه أيضا أن المعنى : إنه على رد الإنسان من الكبر إلى الشباب ، ومن الشباب إلى الكبر ، لقادر. وكذا في المهدوي. وفي الماوردي والثعلبي : إلى الصبا ، ومن الصبا إلى النطفة. وقال ابن زيد : إنه على حبس ذلك الماء حتى لا يخرج ، لقادر. وقال ابن عباس وقتادة والحسن وعكرمة أيضا : إنه على رد الإنسان بعد الموت لقادر. وهو اختيار الطبري. الثعلبي : وهو الأقوى ؛ لقوله تعالى : {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} قال الماوردي : ويحتمل أنه على أن يعيده إلى الدنيا بعد بعثه في الآخرة ؛ لأن الكفار يسألون اللّه تعالى فيها الرجعة.
(20/7)
9- {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}
فيه مسألتان :
الأولى- العامل في {يَوْمَ} - وفي قول من جعل المعنى إنه على بعث الإنسان - قوله {لَقَادِرٌ} ، ولا يعمل فيه {رَجْعِهِ} لما فيه من التفرقة بين الصلة والموصول بخبر "إن". وعلى الأقوال الأخر التي في {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} ، يكون العامل في {يَوْمَ} فعل مضمر ، ولا يعمل فيه {لَقَادِرٌ} ؛ لأن المراد في الدنيا. و {تُبْلَى} أي تمتحن وتختبر ؛ وقال أبو الغول الطهوي :
ولا تبلى بسالتهم وإن هم ... صلوا بالحرب حينا بعد حين
ويروى تبلى بسالتهم. فمن رواه {تبلى} - بضم التاء - جعله من الاختبار ؛ وتكون البسالة على هذه الرواية الكراهة ؛ كأنه قال : لا يعرف لهم فيها كراهة. و"تبلى" تعرف. وقال الراجز :
قد كنت قبل اليوم تزدريني ... فاليوم أبلوك وتبتليني
أي أعرفك وتعرفني. ومن رواه {تَبلى} - بفتح التاء - فالمعنى : أنهم لا يضعفون عن الحرب وإن تكررت عليهم زمانا بعد زمان. وذلك أن الأمور الشداد إذا تكررت على الإنسان هدته وأضعفته. وقيل : {تُبْلَى السَّرَائِرُ} : أي تخرج مخبآتها وتظهر ، وهو كل ما كان استسره الإنسان من خير أو شر ، وأضمره من إيمان أو كفر ؛ كما قال الأحوص :
سيبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة ود يوم تبلى السرائر
(20/
الثانية- روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : "ائتمن اللّه تعالى خلقه على أربع : على الصلاة ، والصوم ، والزكاة ، والغسل ، وهي السرائر التي يختبرها اللّه عز وجل يوم القيامة" . ذكره المهدوي. وقال ابن عمر قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "ثلاث من حافظ عليها فهو ولي اللّه حقا ، ومن اختانهن فهو عدو اللّه حقا : الصلاة ؛ والصوم ، والغسل من الجنابة" ذكره الثعلبي. وذكر الماوردي عن زيد ابن أسلم : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "الأمانة ثلاث : الصلاة والصوم ، والجنابة. استأمن اللّه عز وجل ابن آدم على الصلاة ؛ فإن شاء قال صليت ولم يصل. استأمن اللّه عز وجل ابن آدم على الصوم ، فإن شاء قال صمت ولم يصم. استأمن اللّه عز وجل ابن آدم على الجنابة ؛ فإن شاء قال اغتسلت ولم يغتسل ، اقرؤوا إن شئتم {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} " ، وذكره الثعلبي عن عطاء. وقال مالك في رواية أشهب عنه ، وسألته عن قوله تعالى : {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} : أبلغك أن الوضوء من السرائر ؟ قال : قد بلغني ذلك فيما يقول الناس ، فأما حديث أحدث به فلا. والصلاة من السرائر ، والصيام من السرائر ، إن شاء قال صليت ولم يصل. ومن السرائر ما في القلوب ؛ يجزي اللّه به العباد. قال ابن العربي : قال ابن مسعود يغفر للشهيد إلا الأمانة ، والوضوء من الأمانة ، والصلاة والزكاة من الأمانة ، والوديعة من الأمانة ؛ وأشد ذلك الوديعة ؛ تمثل له على هيئتها يوم أخذها ؛ فيرمي بها في قعر جهنم ، فيقال له : أخرجها ، فيتبعها فيجعلها في عنقه ، فإذا رجا أن يخرج بها زلت منه ، فيتبعها ؛ فهو كذلك دهر الداهرين. وقال أبي بن كعب : من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها. قال أشهب : قال لي سفيان : في الحيضة والحمل ، إن قالت لم أحض وأنا حامل صدقت ، ما لم تأت بما يعرف فيه أنها كاذبة. وفي الحديث : "غسل الجنابة من الأمانة" . وقال ابن عمر : يبدي اللّه يوم القيامة كل سر خفي ، فيكون زينا في الوجوه ، وشينا في الوجوه. واللّه عالم بكل شيء ، ولكن يظهر علامات الملائكة والمؤمنين.
(20/9)
10- {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ}
قوله تعالى : {فَمَا لَهُ} أي للإنسان {مِنْ قُوَّةٍ} أي منعة تمنعه. {وَلا نَاصِرٍ} ينصره مما نزل به. وعن عكرمة {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} قال : هؤلاء الملوك ، ما لهم يوم القيامة من قوة ولا ناصر. وقال سفيان : القوة : العشيرة. والناصر : الحليف. وقيل : {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ} في بدنه. {وَلا نَاصِرٍ} من غيره يمتنع به من اللّه. وهو معنى قول قتادة.
11- {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ}
12- {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ}
13- {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ}
14- {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ}
15- {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً}
16- {وَأَكِيدُ كَيْداً}
قوله تعالى : {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} أي ذات المطر. ترجع كل سنة بمطر بعد مطر. كذا قاله عامة المفسرين. وقال أهل اللغة : الرجع : المطر ، وأنشدوا للمتنخل يصف سيفا شبهه بالماء :
أبيض كالرجع رسوب إذا ... ما ثاخ في محتفل يختلي
[ثاخت قدمه في الوحل تثوخ وتثيخ : خاضت وغابت فيه ؛ قاله الجوهري]. قال الخليل : الرجع : المطر نفسه ، والرجع أيضا : نبات الربيع. وقيل : "ذات الرجع". أي ذات النفع. وقد يسمى المطر أيضا أوبا ، كما يسمى رجعا ، قال :
رباء شماء لا يأوي لقلتها ... إلا السحاب وإلا الأوب والسبل
(20/10)
وقال عبدالرحمن بن زيد : الشمس والقمر والنجوم يرجعن في السماء ؛ تطلع من ناحية وتغيب في أخرى. وقيل : ذات الملائكة ؛ لرجوعهم إليها بأعمال العباد. وهذا قسم. {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} قسم آخر ؛ أي تتصدع عن النبات والشجر والثمار والأنهار ؛ نظيره {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً} الآية. والصدع : بمعنى الشق ؛ لأنه يصدع الأرض ، فتنصدع به. وكأنه قال : والأرض ذات النبات ؛ لأن النبات صادع للأرض. وقال مجاهد : والأرض ذات الطرق التي تصدعها المشاة. وقيل : ذات الحرث ، لأنه يصدعها. وقيل : ذات الأموات : لانصداعها عنهم للنشور. {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} على هذا وقع القسم. أي إن القرآن يفصل بين الحق والباطل. وقد تقدم في مقدمة الكتاب ما رواه الحارث عن علي رضي اللّه عنه قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : "كتاب فيه خبر ما قبلكم وحكم ما بعدكم ، هو الفصل ، ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه اللّه ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله اللّه" . وقيل : المراد بالقول الفصل : ما تقدم من الوعيد في هذه السورة ، من قوله تعالى : {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} . {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} أي ليس القرآن بالباطل واللعب. والهزل : ضد الجد ، وقد هزل يهزل. قال الكميت :
يُجَد بنا في كل يوم ونهزِل
{إِنَّهُمْ} أي إن أعداء اللّه {يَكِيدُونَ كَيْداً} أي يمكرون بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه مكرا. {وَأَكِيدُ كَيْداً} أي أجازيهم جزاء كيدهم. وقيل : هو ما أوقع اللّه بهم يوم بدر من القتل والأسر. وقيل : كيد اللّه : استدراجهم من حيث لا يعلمون. وقد مضى هذا المعنى في أول "البقرة" ، عند قوله تعالى : {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} . مستوفى.
(20/11)
17- {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً}
قوله تعالى : {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ} أي أخرهم ، ولا تسأل اللّه تعجيل إهلاكهم ، وارض بما يدبره في أمورهم. ثم نسخت بآية السيف {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}. {أَمْهِلْهُمْ} تأكيد. ومهل وأمهل : بمعنى ؛ مثل نزل وأنزل. وأمهله : أنظره ، ومهله تمهيلا ، والاسم : المهلة. والاستمهال : الاستنظار. وتمهل في أمره أي اتأد. واتمهل اتمهلالا : أي اعتدل وانتصب. والاتمهلال أيضا : سكون وفتور. ويقال : مهلا يا فلان ؛ أي رفقا وسكونا. "رويدا" أي قريبا ؛ عن ابن عباس. قتادة : قليلا. والتقدير : أمهلهم إمهالا قليلا. والرويد في كلام العرب : تصغير رود. وكذا قاله أبو عبيد. وأنشد :
كأنها ثمل يمشي على رود
أي على مهل. وتفسير {رُوَيْداً} : مهلا ، وتفسير "رويدك" : أمهل ؛ لأن الكاف إنما تدخله إذا كان بمعنى أفعل دون غيره ، وإنما حركت الدال لالتقاء الساكنين ، فنصب نصب المصادر ، وهو مصغر مأموو به ؛ لأنه تصغير الترخيم من إرواد ؛ وهو مصدر أرود يرود. وله أربعة أوجه : اسم للفعل ، وصفة ، وحال ، ومصدر ؛ فالاسم نحو قولك : رويد عمرا ؛ أي أرود عمرا ، بمعنى أمهله. والصفة نحو قولك : ساروا سيرا رويدا. والحال نحو قولك : سار القوم رويدا ؛ لما اتصل بالمعرفة صار حالا لها. والمصدر نحو قولك : رويد عمرو بالإضافة ؛ كقوله تعالى : {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} . قال جميعه الجوهري. والذي في الآية من هذه الوجوه أن يكون نعتا للمصدر ؛ أي إمهالا رويدا. ويجوز أن يكون للحال ؛ أي أمهلهم غير مستعجل لهم العذاب. ختمت السورة.
(20/12)