سورة عَمَّ "النبأ"
...
مكية وتسمى سورة " النبأ" وهي أربعون أو إحدى وأربعون آية
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}.
2- {عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ}.
3- {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ}.
4- {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ}.
5- {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ}
قوله تعالى : {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} ؟ {عَمَّ} لفظ استفهام ؛ ولذلك سقطت منها ألف "ما" ، ليتميز الخبر عن الاستفهام. وكذلك (فيم ، ومم) إذا استفهمت. والمعنى عن أي شيء
(19/169)
يسأل بعضهم بعضا. وقال الزجاج : أصل "عم" عن ما فأدغمت النون في الميم ، لأنها تشاركها في الغنة. والضمير في "يتساءلون" لقريش. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : كانت قريش تجلس لما نزل القرآن فتتحدث فيما بينها فمنهم المصدق ومنهم المكذب به فنزلت {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} ؟ وقيل : "عم" بمعنى : فيم يتشدد المشركون ويختصمون.
قوله تعالى : {عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} أي يتساءلون "عن النبأ العظيم" فعن ليس تتعلق بـ "يتساءلون" الذي في التلاوة ؛ لأنه كان يلزم دخول حرف الاستفهام فيكون "عن النبأ العظيم" كقولك : كم مالك أثلاثون أم أربعون ؟ فوجب لما ذكرناه من امتناع تعلقه "بيتساءلون" الذي في التلاوة ، وإنما يتعلق بيتساءلون آخر مضمر. وحسن ذلك لتقدم يتساءلون ؛ قال المهدوي. وذكر بعض أهل العلم أن الاستفهام في قوله : "عن" مكرر إلا أنه مضمر ، كأنه قال عم يتساءلون أعن النبأ العظيم ؟ فعلى هذا يكون متصلا بالآية الأولى. و "النبأ العظيم" أي الخبر الكبير. {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} أي يخالف فيه بعضهم بعضا ، فيصدق واحد ويكذب آخر ؛ فروى أبو صالح عن ابن عباس قال : هو القرآن ؛ دليله قوله : {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} فالقرآن نبأ وخبر وقصص ، وهو نبأ عظيم الشأن.
وروى سعيد عن قتادة قال : هو البعث بعد الموت صار الناس فيه رجلين : مصدق ومكذب. وقيل : أمر النبي صلى الله عليه وسلم. وروي الضحاك عن ابن عباس قال : وذلك أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كثيرة ، فأخبره الله جل ثناؤه باختلافهم ، ثم هددهم فقال : {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} أي سيعلمون عاقبة القرآن ، أو سيعلمون البعث : أحق هو أم باطل. و "كلا" رد عليهم في إنكارهم البعث أو تكذيبهم القرآن ، فيوقف عليها. ويجوز أن يكون بمعنى حقا أو "ألا" فيبدأ بها. والأظهر أن سؤالهم إنما كان عن البعث ؛ قال بعض علمائنا : والذي يدل عليه قوله عز وجل : {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} يدل على أنهم كانوا يتساءلون عن البعث. {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} أي حقا ليعلمن صدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن ومما ذكره لهم من البعث بعد الموت. وقال الضحاك : "كلا
(19/170)
سيعلمون" يعني الكافرين عاقبة تكذيبهم. "ثم كلا سيعلمون" يعني المؤمنين عاقبة تصديقهم. وقيل : بالعكس أيضا. وقال الحسن : هو وعيد بعد وعيد. وقراءة العامة فيهما بالياء على الخبر ؛ لقوله تعالى : {يَتَسَاءَلُونَ} وقوله : "هم فيه مختلفون". وقرأ الحسن وأبو العالية ومالك بن دينار بالتاء فيهما.
6- {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً}.
7- {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً}.
8- {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً}.
9- {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً}.
10- {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً}.
11- {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً}.
12- {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً}.
13- {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً}.
14- {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً}.
15- {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً}.
16- {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً}.
قوله تعالى : {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} دلهم على قدرته على البعث ؛ أي قدرتنا على إيجاد هذه الأمور أعظم من قدرتنا على الإعادة. والمهاد : الوطاء والفراش. وقد قال تعالى : {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً} وقرئ "مهدا". ومعناه أنها لهم كالمهد للصبي وهو ما يمهد له فينوم عليه {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} أي لتسكن ولا تتكفأ ولا تميل بأهلها. {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً} أي أصنافا : ذكرا وأنثى. وقيل : ألوانا. وقيل : يدخل في هذا كل زوج من قبيح وحسن ، وطويل وقصير ؛ لتختلف الأحوال فيقع الاعتبار ، فيشكر الفاضل ويصبر المفضول. {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} "جعلنا" معناه صيرنا ؛ ولذلك تعدت إلى مفعولين. {سُبَاتاً} المفعول الثاني ، أي راحة لأبدانكم ، ومنه يوم السبت أي يوم الراحة ؛ أي قيل لبني إسرائيل : استريحوا في هذا اليوم ، فلا تعملوا فيه شيئا. وأنكر ابن الأنباري هذا وقال : لا يقال للراحة سبات. وقيل : أصله التمدد ؛ يقال : سبتت المرأة شعرها : إذا حلته وأرسلته ، فالسبات كالمد ، ورجل مسبوت الخلق : أي ممدود. وإذا أراد الرجل أن يستريح تمدد ، فسميت الراحة سبتا.
(19/171)
وقيل : أصله القطع ؛ يقال : سبت شعره سبتا : حلقه ؛ وكأنه إذا نام انقطع عن الناس وعن الاشتغال ، فالسبات يشبه الموت ، إلا أنه لم تفارقه الروح. ويقال : سير سبت : أي سهل لين ؛ قال الشاعر :
ومطوية الأقراب أما نهارها ... فسبت وأما ليلها فذميل
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً} أي تلبسكم ظلمته وتغشاكم ؛ قال الطبري. وقال ابن جبير والسدي : أي سكنا لكم. {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} فيه إضمار ، أي وقت معاش ، أي متصرفا لطلب المعاش وهو كل ما معاش به من المطعم والمشرب وغير ذلك فـ "معاشا" على هذا اسم زمان ، ليكون الثاني هو الأول. ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى العيش على تقدير حذف المضاف. {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} أي سبع سموات محكمات ؛ أي محكمة الخلق وثيقة البنيان. {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} أي وقادا وهي الشمس. وجعل هنا بمعنى خلق ؛ لأنها تعدت لمفعول واحد والوهاج الذي له وهج ؛ يقال : وهج يهج وهجا ووهجا ووهجانا. ويقال للجوهر إذا تلألأ توهج. وقال ابن عباس : وهاجا منيرا متلألئا. {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً} قال مجاهد وقتادة : والمعصرات الرياح. وقاله ابن عباس : كأنها تعصر السحاب. وعن ابن عباس أيضا : أنها السحاب. وقال سفيان والربيع وأبو العالية والضحاك : أي السحائب التي تنعصر بالماء ولما تمطر بعد ، كالمرأة المعصر التي قددنا حيضها ولم تحض ، قال أبو النجم :
تمشي الهوينى مائلا خمارها ... قد أعصرت أوقد دنا إعصارها
وقال آخر :
فكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
(19/172)
وقال آخر :
وذي أشر كالأقحوان يزينه ... ذهاب الصبا والمعصرات الروائح
فالرياح تسمى معصرات ؛ يقال : أعصرت الريح تعصر إعصارا : إذا أثارت العجاج ، وهي الإعصار ، والسحب أيضا تسمى المعصرات لأنها تمطر. وقال قتادة أيضا : المعصرات السماء ، النحاس : هذه الأقوال صحاح ؛ يقال للرياح التي تأتي بالمطر معصرات ، والرياح تلقح السحاب ، فيكون المطر ، والمطر ينزل من الريح على هذا. ويجوز أن تكون الأقوال واحدة ، ويكون المعنى وأنزلنا من ذوات الرياح المعصرات "ماء ثجاجا" وأصح الأقوال أن المعصرات ؛ السحاب. كذا المعروف أن الغيث منها ، ولو كان (بالمعصرات) لكان الريح أولى. وفي الصحاح : والمعصرات السحائب تعتصر بالمطر. وأعصر القوم أي أمطروا ؛ ومنه قرأ بعضهم "وفيه يعصرون" والمعصر : الجارية أول ما أدركت وحاضت ؛ يقال : قد أعصرت كأنها دخلت عصر شبابها أو بلغته ؛ قال الراجز :
جارية بسفوان دارها ... تمشي الهوينى ساقطا خمارها
قد أعصرت أو قد دنا إعصارها
والجمع : معاصر ، ويقال : هي التي قاربت الحيض ؛ لأن الإعصار في الجارية كالمراهقة في الغلام. سمعته من أبي الغوث الأعرابي. قال غيره : والمعصر السحابة التي حان لها أن تمطر ؛ يقال أجن الزرع فهو مجن : أي صار إلى أن يجن ، وكذلك السحاب إذا صار إلى أن يمطر فقد أعصر. وقال المبرد : يقال سحاب معصر أي ممسك للماء ، ويعتصر منه شيء بعد شيء ، ومنه العصر بالتحريك للملجأ الذي يلجأ إليه ، والعصرة بالضم أيضا الملجأ. وقد مضى هذا المعنى في سورة "يوسف" والحمد لله. وقال أبو زبيد :
(19/173)
صاديا يستغيث غير مغاث ... ولقد كان عصرة المنجود
ومنه المعصر للجارية التي قد قربت من البلوغ يقال لها معصر ؛ لأنها تحبس في البيت ، فيكون البيت لها عصرا. وفي قراءة ابن عباس وعكرمة "وأنزلنا بالمعصرات". والذي في المصاحف "من المعصرات" قال أبي بن كعب والحسن وابن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان : "من المعصرات" أي من السموات. "ماء ثجاجا" صبابا متتابعا ؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. يقال : ثججت دمه فأنا أثجه ثجا ، وقد ثج الدم يثج ثجوجا ، وكذلك الماء ، فهو لازم ومتعد. والثجاج في الآية المنصب. وقال الزجاج : أي الضباب ، وهو متعد كأنه يثج : نفسه أي يصب. وقال عبيد بن الأبرص :
فثج أعلاه ثم ارتج أسفله ... وضاق ذرعا بحمل الماء منصاح
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الحج المبرور فقال : "العج والثج" فالعج : رفع الصوت بالتلبية ، والثج : إراقة الدماء وذبح الهدايا. وقال ابن زيد : ثجاجا كثيرا. والمعنى واحد.
قوله تعالى : {لِنُخْرِجَ بِهِ} أي بذلك الماء {حَبّاً} كالحنطة والشعير وغير ذلك {وَنَبَاتاً} من الأب ، وهو ما تأكله الدواب من الحشيش. {وَجَنَّاتٍ} أي بساتين {أَلْفَافاً} أي ملتفة بعضها ببعض لتشعب أغصانها ، ولا واحد له كالأوزاع والأخياف. وقيل : واحد الألفاف لف بالكسر ولف بالضم. ذكره الكسائي ، قال :
جنة لُفٌّ وعيشٌ مغدِق ... وندامى كلهم بيض زُهُرْ
وعنه أيضا وأبي عبيدة : لفيف كشريف وأشراف. وقيل : هو جمع الجمع. حكاه الكسائي. يقال : جنة لفاء ونبت لف والجمع لف بضم اللام مثل حمر ، ثم يجمع اللف ألفافا. الزمخشري : ولو قيل جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان وجيها. ويقال : شجرة لفاء وشجر لف وامرأة
(19/174)
لفاء : أي غليظة الساق مجتمعة اللحم. وقيل : التقدير : ونخرج به جنات ألفافا ، فحذف لدلالة الكلام عليه. ثم هذا الالتفاف والانضمام معناه أن الأشجار في البساتين تكون متقاربة ، فالأغصان من كل شجرة متقاربة لقوتها.
17- {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً}.
18- {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً}.
19- {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً}.
20- {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً}
قوله تعالى : {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} أي وقتا ومجمعا وميعادا للأولين والآخرين ، لما وعد الله من الجزاء والثواب. وسمي يوم الفصل لأن الله تعالى يفصل فيه بين خلقه. {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} أي للبعث {فَتَأْتُونَ} أي إلى موضع العرض.
{أَفْوَاجاً} أي أمما ، كل أمة مع إمامهم. وقيل : زمرا وجماعات. الواحد : فوج. ونصب يوما بدلا من اليوم الأول. وروي من حديث معاذ بن جبل قلت : يا رسول الله! أرأيت قول الله تعالى : {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "يا معاذ "بن جبل" لقد سألت عن أمر عظيم" ثم أرسل عينيه باكيا ، ثم قال : "يحشر عشرة أصناف من أمتي أشتاتا قد ميزهم الله تعالى من جماعات المسلمين ، وبدل صورهم ، فمنهم على صورة القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكسون : أرجلهم أعلاهم ، ووجوههم يسحبون عليها ، وبعضهم عمي يتردون ، وبعضهم صم بكم لا يعقلون ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم ، فهي مدلاة على صدورهم ، يسيل القيح من أفواههم لعابا ، يتقذرهم أهل الجمع ، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلبون على جذوع من النار ، وبعضهم أشد نتنا من الجيف ، وبعضهم ملبسون جلابيب سابغة من القطران لاصقة بجلودهم ؛ فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس - يعني النمام - وأما الذين على صورة الخنازير ، فأهل
(19/175)
السحت والحرام والمكس. وأما المنكسون رؤوسهم ووجوههم ، فأكلة الربا ، والعمي : من يجور في الحكم ، والصم البكم : الذين يعجبون بأعمالهم. والذين يمضغون ألسنتهم : فالعلماء والقصاص الذين يخالف قولهم فعلهم. والمقطعة أيديهم وأرجلهم : فالذين يؤذون الجيران. والمصلبون على جذوع النار : فالسعاة بالناس إلى السلطان والذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات ، ويمنعون حق الله من أموالهم. والذين يلبسون الجلابيب : فأهل الكبر والفخر والخيلاء" .
قوله تعالى : {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً} أي لنزول الملائكة ؛ كما قال تعالى : {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} . وقيل : تقطعت ، فكانت قطعا كالأبواب فانتصاب الأبواب على هذا التأويل بحذف الكاف. وقيل : التقدير فكانت ذات أبواب ؛ لأنها تصير كلها أبوابا. وقيل : أبوابها طرقها. وقيل : تنحل وتتناثر ، حتى تصير فيها أبواب. وقيل : إن لكل عبد بابين في السماء : بابا لعمله ، وبابا لرزقه ، فإذا قامت القيامة انفتحت الأبواب. وفي حديث الإسراء : "ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت قال : جبريل. قيل : ومن معك ؟ قال : محمد. قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه. ففتح لنا" . {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} أي لا شيء كما أن السراب كذلك : يظنه الرائي ماء وليس بماء.
وقيل : "سيرت" نسفت من أصولها. وقيل : أزيلت عن مواضعها.
(19/176)
21- {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً}. 22- {لِلطَّاغِينَ مَآباً}.
23- {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً}. 24- {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً}.
25- {إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً}. 26- {جَزَاءً وِفَاقاً}.
27- {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً}. 28- {وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا كِذَّاباً}.
29- {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً}. 30- {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً}
قوله تعالى : {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} مفعال من الرصد والرصد : كل شيء كان أمامك. قال الحسن : إن على النار رصدا ، لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليه ، فمن جاء بجواز جاز ، ومن لم يجيء بجواز حبس. وعن سفيان رضي الله عنه قال : عليها ثلاث قناطر. وقيل "مرصادا" ذات أرصاد على النسب ؛ أي ترصد من يمر بها. وقال مقاتل : محبسا. وقيل : طريقا وممرا ، فلا سبيل إلى الجنة حتى يقطع جهنم.
وفي الصحاح : والمرصاد : الطريق. وذكر القشيري : أن المرصاد المكان الذي يرصد فيه الواحد العدو ، نحو المضمار : الموضع الذي تضمر فيه الخيل. أي هي معدة لهم ؛ فالمرصاد بمعنى المحل ؛ فالملائكة يرصدون الكفار حتى ينزلوا بجهنم. وذكر الماوردي عن أبي سنان أنها بمعنى راصدة ، تجازيهم بأفعالهم. وفي الصحاح : الراصد الشيء : الراقب له ؛ تقول : رصده يرصده رصدا ورصدا ، والترصد : الترقب. والمرصد : موضع الرصد. الأصمعي : رصدته أرصده : ترقبته ، وأرصدته : أعددت له. والكسائي : مثله.
قلت : فجهنم معدة مترصدة ، متفعل من الرصد وهو الترقب ؛ أي هي متطلعة لمن يأتي. والمرصاد مفعال من أبنية المبالغة كالمعطار والمغيار ، فكأنه يكثر من جهنم انتظار الكفار.
{لِلطَّاغِينَ مَآباً} بدل من قوله : "مرصادا" والمآب : المرجع ، أي مرجعا يرجعون إليها ؛ يقال : آب يؤوب أوبة : إذا رجع. وقال قتادة : مأوى ومنزلا. والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر ، أو في دنياه بالظلم.
قوله تعالى : {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} أي ماكثين في النار ما دامت الأحقاب ، وهي لا تنقطع ، فكلما مضى حقب جاء حقب. والحقب بضمتين : الدهر والأحقاب الدهور. والحقبة بالكسر : السنة ؛ والجمع حقب ؛ قال متمم بن نويرة التميمي :
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
(19/177)
والحقب بالضم والسكون : ثمانون سنة. وقيل : أكثر من ذلك وأقل ، على ما يأتي ، والجمع : أحقاب. والمعنى في الآية ؛ [لابثين] فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها ؛ فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليه ؛ إذ في الكلام ذكر الآخرة وهو كما يقال أيام الآخرة ؛ أي أيام بعد أيام إلى غير نهاية ، وإنما كان يدل على التوقيت لو قال خمسة أحقاب أو عشرة أحقاب. ونحوه وذكر الأحقاب لأن الحقب كان أبعد شيء عندهم ، فتكلم بما تذهب إليه أوهامهم ويعرفونها ، وهي كناية عن التأبيد ، أي يمكثون فيها أبدا. وقيل : ذكر الأحقاب دون الأيام ؛ لأن الأحقاب أهول في القلوب ، وأدل على الخلود. والمعنى متقارب ؛ وهذا الخلود في حق المشركين. ويمكن حمل الآية على العصاة الذين يخرجون من النار بعد أحقاب. وقيل : الأحقاب وقت لشربهم الحميم والغساق ، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العقاب ؛ ولهذا قال : {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً. لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً. إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً} . و {لابِثِينَ} اسم فاعل من لبث ، ويقويه أن المصدر منه اللبث بالإسكان ، كالشرب. وقرأ حمزة والكسائي "لبثين" بغير ألف وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد ، وهما لغتان ؛ يقال : رجل لابث ولبث ، مثل طمع وطامع ، وفره وفاره. ويقال : هو لبث بمكان كذا : أي قد صار اللبث شأنه ، فشبه بما هو خلقة في الإنسان نحو حذر وفرق ؛ لأن باب فعل إنما هو لما يكون خلقة في الشيء في الأغلب ، وليس كذلك اسم الفاعل من لابث.
والحقب : ثمانون سنة في قول ابن عمر وابن محيصن وأبي هريرة ، والسنة ثلثمائة يوم وستون يوما ، واليوم ألف سنة من أيام الدنيا ، قاله ابن عباس. وروي ابن عمر هذا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو هريرة : والسنة ثلثمائة يوم وستون يوما كل يوم مثل أيام الدنيا. وعن ابن عمر أيضا : الحقب : أربعون سنة. السدي : سبعون سنة. وقيل : إنه ألف شهر. رواه أبو أمامة مرفوعا. بشير بن كعب : ثلاثمائة سنة. الحسن : الأحقاب لا يدري أحدكم هي ، ولكن ذكروا أنها مائة حقب ، والحقب الواحد منها سبعون ألف سنة ، اليوم منها كألف سنة مما تعدون. وعن أبي أمامة أيضا ،
(19/178)
عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الحُقُب الواحد ثلاثون ألف سنة" ذكره المهدوي. والأول الماوردي. وقال قطرب : هو الدهر الطويل غير المحدود.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : "والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يكون فيها أحقابا ، الحقب بضع وثمانون سنة ، والسنة ثلثمائة وستون يوما ، كل يوم ألف سنة مما تعدون ؛ فلا يتكلن أحدكم على أن يخرج من النار" . ذكره الثعلبي. القُرظي : الأحقاب : ثلاثة وأربعون ، حقبا كل حقب سبعون خريفا ، كل خريف سبعمائة سنة ، كل سنة ثلثمائة وستون يوما ، كل يوم ألف سنة.
قلت : هذه أقوال متعارضة ، والتحديد في الآية للخلود ، يحتاج إلى توقيف يقطع العذر ، وليس ذلك بثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما المعنى - والله أعلم - ما ذكرناه أولا ؛ أي لابثين فيها أزمانا ودهورا ، كلما مضى زمن يعقبه زمن ، ودهر يعقبه دهر ، هكذا أبد الآبدين من غير انقطاع. وقال ابن كيسان : معنى {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} لا غاية لها انتهاء ، فكأنه قال أبدا. وقال ابن زيد ومقاتل : إنها منسوخة بقوله تعالى : "فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا" يعني أن العدد قد انقطع ، والخلود قد حصل.
قلت : وهذا بعيد ؛ لأنه خبر ، وقد قال تعالى : {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} على ما تقدم. هذا في حق الكفار ، فأما العصاة الموحدون فصحيح ويكون النسخ بمعنى التخصيص. والله أعلم. وقيل : المعنى {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} أي في الأرض ؛ إذ قد تقدم ذكرها ويكون الضمير في {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً} لجهنم. وقيل : واحد الأحقاب حقب وحقبة ؛ قال :
فإن تنأ عنها حقبة لا تلاقها ... فأنت بما أحدثته بالمجرب
وقال الكميت :
مر لها بعد حقبة حقب
(19/179)
قوله تعالى : {لا يَذُوقُونَ فِيهَا} أي في الأحقاب {بَرْداً وَلا شَرَاباً} البرد : النوم في قول أبي عبيدة وغيره ؛ قال الشاعر :
ولو شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نُقاخا ولا بردا
وقاله مجاهد والسدي والكسائي والفضل بن خالد وأبو معاذ النحوي ؛ وأنشدوا قول الكندي :
بردت مراشفها علي فصدني ... عنها وعن تقبيلها البرد
يعني النوم. والعرب تقول : منع البرد البرد ، يعني : أذهب البرد النوم.
قلت : وقد جاء الحديث أنه عليه الصلاة والسلام سئل هل في الجنة نوم. فقال : "لا ؛ النوم أخو الموت ، والجنة لا موت فيها" فكذلك النار ؛ وقد قال تعالى : {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} وقال ابن عباس : البرد : برد الشراب. وعنه أيضا : البرد النوم : والشراب الماء. وقال الزجاج : أي لا يذوقون فيها برد ريح ، ولا ظل ، ولا نوم. فجعل البرد برد كل شيء له راحة ، وهذا برد ينفعهم ، فأما الزمهرير فهو برد يتأذون به ، فلا ينفعهم ، فلهم منه من العذاب ما الله أعلم به. وقال الحسن وعطاء وابن زيد : بردا : أي روحا وراحة ؛ قال الشاعر :
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ... ولا الفيء أوقات العشي تذوق
قوله تعالى : {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً} جملة في موضع الحال من الطاغين ، أو نعت للأحقاب ؛ فالأحقاب ظرف زمان ، والعامل فيه "لابثين" أو "لبثين" على تعدية فعل. {إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً} استثناء منقطع في قول من جعل البرد النوم ، ومن جعله من البرودة كان بدلا منه. والحميم : الماء الحار ؛ قاله أبو عبيدة. وقال ابن زيد : الحميم : دموع أعينهم ، تجمع في حياض ثم يسقونه. قال النحاس : أصل الحميم : الماء الحار ، ومنه اشتق الحمام ، ومنه الحمى ، ومنه {وَظِلٍّ مِنْ
(19/180)
يَحْمُومٍ} : إنما يراد به النهاية في الحر. والغساق : صديد أهل النار وقيحهم. وقيل الزمهرير. وقرأ حمزة والكسائي بتشديد السين ، وقد مضى في "ص" القول فيه. {جَزَاءً وِفَاقاً} أي موافقا لأعمالهم. عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما ؛ فالوفاق بمعنى الموافقة كالقتال بمعنى المقاتلة. و"جزاء" نصب على المصدر ، أي جازيناهم جزاء وافق أعمالهم ؛ قال الفراء والأخفش. وقال الفراء أيضا : هو جمع الوفق ، والوفق واللفق واحد. وقال مقاتل. وافق العذاب الذنب ، فلا ذنب أعظم من الشرك ، ولا عذاب أعظم من النار. وقال الحسن وعكرمة : كانت أعمالهم سيئة ، فأتاهم الله بما يسوءهم. {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ} أي لا يخافون {حِسَاباً} أي محاسبة على أعمالهم. وقيل : معناه لا يرجون ثواب حساب. الزجاج : أي إنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث فيرجون حسابهم. {وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا كِذَّاباً} أي بما جاءت به الأنبياء. وقيل : بما أنزلنا من الكتب. وقراءة العامة "كذابا" بتشديد الذال ، وكسر الكاف ، على كذب ، أي كذبوا تكذيبا كبيرا. قال الفراء : هي لغة يمانية فسيحة ؛ يقولون : كذبت [به] كذابا ، وخرقت القميص خراقا ؛ وكل فعل في وزن (فعل) فمصدره فعال مشدد في لغتهم ؛ وأنشد بعض الكلابيين :
لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي ... وعن حوج قضاؤها من شفائنا
وقرأ علي رضي الله عنه "كذابا" بالتخفيف وهو مصدر أيضا. وقال أبو علي : التخفيف والتشديد جميعا : مصدر المكاذبة ، كقول الأعشى :
فصدقتها وكذبتها ... والمرء ينفعه كذابه
أبو الفتح : جاءا جميعا مصدر كذب وكذب جميعا. الزمخشري : "كذابا" بالتخفيف مصدر كذب ؛ بدليل قوله :
فصدقتها وكذبتها ... والمرء ينفعه كذابه
(19/181)
وهو مثل قوله : {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً} يعني وكذبوا بآياتنا أفكذبوا كذابا. أو تنصبه بـ "كذبوا". لأنه يتضمن معنى كذبوا ؛ لأن كل مكذب بالحق كاذب ؛ لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين ، وكان المسلمون عندهم كاذبين ، فبينهم مكاذبة. وقرأ ابن عمر "كذابا" بضم الكاف والتشديد ، جمع كاذب ؛ قاله أبو حاتم. ونصبه على الحال الزمخشري. وقد يكون الكذاب : بمعنى الواحد البليغ في الكذب ، يقال : رجل كذاب ، كقولك حسان وبخال ، فيجعله صفة لمصدر "كذبوا" أي تكذيبا كذابا مفرطا كذبه. وفي الصحاح : وقوله تعالى : {وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا كِذَّاباً} وهو أحد مصادر المشدد ؛ لأن مصدره قد يجيء على (تفعيل) مثل التكليم وعلى (فعال) كذاب وعلى (تفعلة) مثل توصية ، وعلى (مفعل) ؛ {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} . {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} "كل" نصب بإضمار فعل يدل عليه "أحصيناه" أي وأحصينا كل شيء أحصيناه. وقرأ أبو السمال "وكل شيء" بالرفع على الابتداء. "كتابا" نصب على المصدر ؛ لأن معنى أحصينا : كتبنا ، أي كتبناه كتابا. ثم قيل : أراد به العلم ، فإن ما كتب كان أبعد من النسيان. وقيل : أي كتبناه في اللوح المحفوظ لتعرفه الملائكة. وقيل : أراد ما كتب على العباد من أعمالهم. فهذه كتابة صدرت عن الملائكة الموكلين بالعباد بأمر الله تعالى إياهم بالكتابة ؛ دليله قوله تعالى : {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ. كِرَاماً كَاتِبِينَ} . "فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا" قال أبو برزة : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أشد آية في القرآن ؟ فقال : قوله تعالى : {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} أي {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} و {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً}
(19/182)