9- {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً}.
10- {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً}.
11- {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً}
قوله تعالى : {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} قرأ أهل الحرمين وابن محيصن ومجاهد وأبو عمرو وابن أبي إسحاق وحفص "ربُ" بالرفع على الابتداء والخبر {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَْْ} . وقيل : على إضمار "هو". الباقون "رب" بالخفض على نعت الرب تعالى في قوله تعالى : {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} {رَبُّ الْمَشْرِقِ} ومن علم أنه رب المشارق والمغارب انقطع بعمله وأمله إليه. {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} أي قائما بأمورك. وقيل : كفيلا بما وعدك.
قوله تعالى : {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أي من الأذى والسب والاستهزاء ، ولا تجزع من قولهم ، ولا تمتنع من دعائهم. {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} أي لا تتعرض لهم ، ولا تشتغل بمكافأتهم ، فإن في ذلك ترك الدعاء إلى الله. وكان هذا قبل الأمر بالقتال ، ثم أمر بعد بقتالهم وقتلهم ، فنسخت آية القتال ما كان قبلها من الترك ؛ قاله قتادة وغيره. وقال أبو الدرداء : إنا لنكشر في وجوه (أقوام) ونضحك إليهم وإن قلوبنا لتقليهم أو لتلعنهم.
قوله تعالى : {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} أي أرض بي لعقابهم. نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين. وقال مقاتل : نزلت في المطعمين يوم بدر وهم عشرة. وقد تقدم ذكرهم في "الأنفال". وقال يحيى بن سلام : إنهم بنو المغيرة. وقال سعيد بن جبير أخبرت أنهم اثنا عشر رجلا. {أُولِي النَّعْمَةِ} أي أولي الغنى والترفه واللذة في الدنيا
(19/45)
{وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} يعني إلى مدة آجالهم. قالت عائشة رضي الله عنها : لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيرا حتى وقعت وقعة بدر. وقيل : "وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً" يعني إلى مدة الدنيا.
12- {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً}.
13- {وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً}.
14- {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً}
قوله تعالى : {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً} الأنكال : القيود. عن الحسن ومجاهد وغيرهما. واحدها نكل ، وهو ما منع الإنسان من الحركة. وقيل : سمى نكلا ، لأنه ينكل به. قال الشعبي : أترون أن الله تعالى جعل الأنكال في أرجل أهل النار خشية أن يهربوا ؟ لا والله! ولكنهم إذا أرادوا أن يرتفعوا استفلت بهم.
وقال الكلبي : الأنكال : الأغلال ، والأول أعرف في اللغة ؛ ومنه قول الخنساء :
دعاك فقطعت أنكاله ... وقد كن قبلك لا تقطع
وقيل : إنه أنواع العذاب الشديد ؛ قاله مقاتل. وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله يحب النكل على النكل" بالتحريك ، قال الجوهري. قيل : وما النكل ؟ قال : "الرجل القوي المجرب ، على الفرس القوي المجرب" ذكره الماوردي قال : ومن ذلك سمي القيد نكلا لقوته ، وكذلك ، الغل ، وكل عذاب قوي فاشتد ، والجحيم النار المؤججة.{وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ} أي غير سائغ ؛ يأخذ بالحلق ، لا هو نازل ولا هو خارج ، وهو الغسلين والزقوم والضريع ؛ قاله ابن عباس. وعنه أيضا : انه شوك يدخل الحلق ، فلا ينزل ولا يخرج. وقال الزجاج : أي طعامهم الضريع ؛ كما قال : {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} وهو شوك كالعوسج. وقال مجاهد : هو الزقوم ، كما قال : {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ} . والمعنى واحد. وقال حمران بن أعين : قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً. وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ}
(19/46)
فصعق. وقال خليد بن حسان : أمسى الحسن عندنا صائما ، فأتيته بطعام فعرضت له هذه الآية {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً. وَطَعَاماً} فقال : أرفع طعامك. فلما كانت الثانية أتيته بطعام فعرضت له هذه الآية ، فقال : ارفعوه. ومثله في الثالثة ؛ فانطلق ابنه إلى ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى البكاء فحدثهم ، فجاؤوه فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق. والغصة : الشجا ، وهو ما ينشب في الحلق من عظم أو غيره. وجمعها غصص. والغصص بالفتح مصدر قولك : غصصت يا رجل تغص ، فأنت غاص بالطعام وغصان ، وأغصصته أنا ، والمنزل غاص بالقوم أي ممتلئ بهم.
قوله تعالى : {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} أي تتحرك وتضطرب بمن عليها. وانتصب "يوم" على الظرف أي ينكل بهم ويعذبونر {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ}. وقيل : بنزع الخافض ؛ يعني هذه العقوبة في يوم ترجف الأرض والجبال. وقيل : العامل "ذرني" أي وذرني والمكذبين يوم ترجف الأرض والجبال. {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً} أي وتكون. والكثيب الرمل المجتمع - قال حسان :
عرفت ديار زينب بالكثيب ... كخط الوحي في الورق القشيب
والمهيل : الذي يمر تحت الأرجل. قال الضحاك والكلبي : المهيل : هو الذي إذا وطئته بالقدم زل من تحتها ، وإذا أخذت أسفله انهال. وقال ابن عباس : "مهيلا" أي رملا سائلا متناثرا وأصله مهيول وهو مفعول من قولك : هلت عليه التراب أهيله هيلا : إذا صببته. يقال : مهيل ومهيول ، ومكيل ومكيول ، ومدين ومديون ، ومعين ومعيون ؛ قال الشاعر :
قد كان قومك يحسبونك سيدا ... وإدخال أنك سيد معيون
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنهم شكوا إليه الجدوبة ؛ فقال : "أتكيلون أم تهيلون" قالوا : نهيل. قال : "كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه". وأهلت الدقيق لغة في هلت فهو
(19/47)
مهال ومهيل. وإنما حذفت الواو ، لأن الياء تثقل فيها الضمة ، فحذفت فسكنت هي والواو فحذفت الواو لالتقاء الساكنين.
15- {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً}.
16- {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً}.
17- {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً}.
18- {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً}.
19- {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً}
قوله تعالى : {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً} يريد النبي صلى الله عليه وسلم أرسله إلى قريش {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} وهو موسى {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} أي كذب به ولم يؤمن. قال مقاتل : ذكر موسى وفرعون ؛ لأن أهل مكة ازدروا محمدا صلى الله عليه وسلم واستخفوا به ؛ لأنه ولد فيهم ، كما أن فرعون أزدرى موسى ؛ لأنه رباه ونشأ فيما بينهم ، كما قال تعالى : {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} .
قال المهدوي : ودخلت الألف واللام في الرسول لتقدم ذكره ؛ ولذلك اختير في أول الكتب سلام عليكم ، وفي آخرها السلام عليكم. {وَبِيلاً} أي ثقيلا شديدا. وضرب وبيل وعذاب وبيل : أي شديد ؛ قال ابن عباس ومجاهد. ومنه مطر وابل أي شديد ؛ قال الأخفش. وقال الزجاج : أي ثقيلا غليظا.
ومنه قيل للمطر وابل. وقيل : مهلكا (والمعنى عاقبناه عقوبة غليظة) قال :
أكلت بنيك أكل الضب حتى ... وجدت مرارة الكلأ الوبيل
واستوبل فلان كذا : أي لم يحمد عاقبته. وماء وبيل : أي وخيم غير مريء ، وكلأ مستوبل وطعام وبيل ومستوبل : إذا لم يمرئ ولم يستمرأ ، قال زهير :
(19/48)
فقضوا منايا بينهم ثم أصدروا ... إلى كلأ مستوبل متوخم
وقالت الخنساء :
لقد أكلت بجيلة يوم لاقت ... فوارس مالك أكلا وبيلا
والوبيل أيضا : العصا الضخمة ؛ قال :
لو أصبح في يمنى يدي زمامها ... وفي كفي الأخرى وبيل تحاذره
وكذلك الموبل بكسر الباء ، والموبلة أيضا : الحزمة من الحطب ، وكذلك الوبيل ، قال طرفة :
عقيلة شيخ كالوبيل يلندد
قوله تعالى : {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} هو توبيخ وتقريع ، أي كيف تتقون العذاب إن كفرتم. وفيه تقديم وتأخير ، أي كيف تتقون يوما يجعل الولدان شيبا إن كفرتم. وكذا قراءة عبدالله وعطية.
قال الحسن : أي بأي صلاة تتقون العذاب ؟ بأي صوم تتقون العذاب ؟ وفيه إضمار ، أي كيف تتقون عذاب يوم. وقال قتادة : والله ما يتقى من كفر بالله ذلك اليوم بشيء. و"يوما" مفعول بـ "تتقون" على هذه القراءة وليس بظرف ، وإن قدر الكفر بمعنى الجحود كان اليوم مفعول "كفرتم". وقال بعض المفسرين : وقف التمام على قوله : (كفرتم) والابتداء (يوما) يذهب إلى أن اليوم مفعول "يجعل" والفعل لله عز وجل ، وكأنه قال : يجعل الله الولدان شيبا في يوم. قال ابن الأنباري ؛ وهذا لا يصلح ؛ لأن اليوم هو الذي يفعل هذا من شدة هوله. المهدوي : والضمير في "يجعل" يجوز أن يكون لله عز وجل ، ويجوز أن يكون لليوم ، وإذا كان لليوم صلح أن يكون صفة له ، ولا يصلح ذلك إذا كان الضمير لله عز وجل إلا مع تقدير حذف ؛ كأنه قال : يوما يجعل الله الولدان فيه شيبا. ابن الأنباري : ومنهم من نصب اليوم
(19/49)
بـ"ـــكفرتم" وهذا قبيح ؛ لأن اليوم إذا علق بـ "كفرتم" احتاج إلى صفة ؛ أي كفرتم بيوم. فإن احتج محتج بأن الصفة قد تحذف وينصب ما بعدها ، احتججنا عليه بقراءة عبدالله "فكيف تتقون يوما".
قلت : هذه القراءة ليست متواترة ، وإنما جاءت على وجه التفسير. وإذا كان الكفر بمعنى الجحود فـ "يوما" مفعول صريح من غير صفة ولا حذفها ؛ أي فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء. وقرأ أبو السمال قعنب "فكيف تتقون" بكسر النون على الإضافة. و"الولدان" الصبيان. وقال السدي : هم أولاد الزنا. وقيل : أولاد المشركين. والعموم أصح ؛ أي يشيب فيه الضمير من غير كبر. وذلك حين يقال : "يا آدم قم فابعث بعث النار". على ما تقدم في أول سورة "الحج". قال القشيري : ثم إن أهل الجنة يغير الله أحوالهم وأوصافهم على ما يريد.
وقيل : هذا ضرب مثل لشدة ذلك اليوم وهو مجاز ؛ لأن يوم القيامة لا يكون فيه ولدان ولكن معناه أن هيبة ذلك اليوم بحال لو كان فيه هناك صبي لشاب رأسه من الهيبة. ويقال : هذا وقت الفزع ، وقيل أن ينفخ في الصور نفخة الصعق ، فالله أعلم. الزمخشري : وقد مر بي في بعض الكتب أن رجلا أمسى فاحم الشعر كحنك الغراب ، فأصبح وهو أبيض الرأس واللحية كالثغامة ، فقال : أريت القيامة والجنة والنار في المنام ، ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار ، فمن هول ذلك أصبحت كما ترون. ويجوز أن يوصف اليوم بالطول ، وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب.
قوله تعالى : {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} أي متشققة لشدته. ومعنى "به" أي فيه ؛ أي في ذلك اليوم لهوله. هذا أحسن ما قيل فيه. ويقال : مثقلة به إثقالا يؤدي إلى انفطارها لعظمته عليها وخشيتها من وقوعه ، كقوله تعالى : {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . وقيل : "به" أي له ، أي لذلك اليوم ؛ يقال : فعلت كذا بحرمتك ولحرمتك ، والباء واللام
(19/50)
وفي : متقاربة في مثل هذا الموضع ؛ قال الله تعالى : {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي في يوم القيامة. وقيل : "به" أي بالأمر أي السماء منفطر بما يجعل الولدان شيبا. وقيل : منفطر بالله ، أي بأمره ، وقال أبو عمرو بن العلاء : لم يقل منفطرة ؛ لأن مجازها السقف ؛ تقول : هذا سماء البيت ؛ قال الشاعر :
فلو رفع السماء إليه قوما ... لحقنا بالسماء وبالسحاب
وفي التنزيل : {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} . وقال الفراء : السماء يذكر ويؤنث. وقال أبو علي : هو من باب الجراد المنتشر ، والشجر الأخضر ، و {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} . وقال أبو علي أيضا : أي السماء ذات انفطار ؛ كقولهم : امرأة مرضع ، أي ذات إرضاع ، فجرى على طريق النسب. {كَانَ وَعْدُهُ} أي بالقيامة والحساب والجزاء {مَفْعُولاً} كائنا لا شك فيه ولا خلف. وقال مقاتل : كان وعده بأن يظهر دينه على الدين كله.
قوله تعالى : {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} يريد هذه السورة أو الآيات عظة. وقيل : آيات القرآن ، إذ هو كالسورة الواحدة. {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ} أي من أراد أن يؤمن ويتخذ بذلك إلى ربه {سَبِيلاً} أي طريقا إلى رضاه ورحمته فليرغب ، فقد أمكن له ؛ لأنه أظهر له الحجج والدلائل. ثم قيل : نسخت بآية السيف ، وكذلك قوله تعالى : {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} قال الثعلبي : والأشبه أنه غير منسوخ.
20- {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
(19/51)
اللَّهِ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
فيه ثلاث عشر مسألة :
الأولى- قوله تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} هذه الآية تفسير لقوله تعالى : {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} كما تقدم ، وهي الناسخة لفرضية قيام الليل كما تقدم. {تَقُومُ} معناه تصلي و {أَدْنَى} أي أقل. وقرأ ابن السميقع وأبو حيوة وهشام عن أهل الشام {ثُلُثَيِ} بإسكان اللام. {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} بالخفض قراءة العامة عطفا على {ثُلُثَيِ} ؛ المعنى : تقوم أدنى من ثلثي الليل ومن نصفه وثلثه. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ؛ كقوله تعالى : {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} فكيف يقومون نصفه أو ثلثه وهم لا يحصونه. وقرأ ابن كثير والكوفيون "وَنِصٌفِهِ وَثُلُثِهِ" بالنصب عطفا على {أَدْنَى} التقدير : تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفه وثلثه. قال الفراء : وهو أشبه بالصواب ؛ لأنه قال أقل من الثلثين ، ثم ذكر نفس القلة لا أقل من القلة. القشيري : وعلى هذه القراءة يحتمل أنهم كانوا يصيبون الثلث والنصف ؛ لخفة القيام عليهم بذلك القدر ، وكانوا يزيدون ، وفي الزيادة إصابة المقصود ، فأما الثلثان فكان يثقل عليهم قيامه فلا يصيبونه ، وينقصون منه. ويحتمل أنهم أمروا بقيام نصف الليل ، ورخص لهم في الزيادة والنقصان ، فكانوا ينتهون في الزيادة إلى قريب من الثلثين ، وفي النصف إلى الثلث. ويحتمل أنهم قدر لهم النصف وأنقص إلى الثلث ، والزيادة إلى الثلثين ، وكان فيهم من يفي بذلك ، وفيهم من يترك ذلك إلى أن نسخ عنهم. وقال قوم : إنما افترض الله عليهم الربع ، وكانوا ينقصون من الربع. وهذا القول تحكم.
(19/52)
الثانية- قوله تعالى : {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي يعلم مقادير الليل والنهار على حقائقها ، وأنتم تعلمون بالتحري والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ. {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} أي لن تطيقوا معرفة حقائق ذلك والقيام به. وقيل : أي لن تطيقوا قيام الليل. والأول أصح ؛ فإن قيام الليل ما فرض كله قط. قال مقاتل وغيره : لما نزلت : {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} شق ذلك عليهم ، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه ، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ ، فانتقخت أقدامهم ، وانتقعت ألوانهم ، فرحمهم الله وخفف عنهم ؛ فقال تعالى : {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} و"أن" مخففة من الثقيلة ؛ أي علم أنكم لن تحصوه ؛ لأنكم إن زدتم ثقل عليكم ، واحتجتم إلى تكليف ما ليس فرضا ، وإن نقصتم شق ذلك عليكم.
الثالثة- قوله تعالى : {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي فعاد عليكم بالعفو ، وهذا يدل على أنه كان فيهم في ترك بعض ما أمر به. وقيل : أي فتاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم. وأصل التوبة الرجوع كما تقدم ؛ فالمعنى رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف ، ومن عسر إلى يسر. وإنما أمروا بحفظ الأوقات على طريق التحري ، فخفف عنهم ذلك التحري. وقيل : معنى {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} يخلقهما مقدرين ؛ كقوله تعالى : {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} . ابن العربي : تقدير الخلقة لا يتعلق به حكم ، وإنما يربط الله به ما يشاء من وظائف ، التكليف.
الرابعة- قوله تعالى : {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} فيه قولان : أحدهما أن المراد نفس القراءة ؛ أي فاقرؤوا فيما تصلونه بالليل ما خف عليكم. قال السدي : مائة آية. الحسن : من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن. وقال كعب : من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين. وقال سعيد : خمسون آية.
قلت : قول كعب أصح ؛ لقول عليه السلام : "من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين" خرجه أبو داود
(19/53)
الطيالسي في مسنده من حديث عبدالله بن عمرو. وقد ذكرناه في مقدمة الكتاب والحمد لله. القول الثاني : {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} أي فصلوا ما تيسر عليكم ، والصلاة تسمى قرآنا ؛ كقوله تعالى : {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} أي صلاة الفجر. ابن العربي : وهو الأصح ؛ لأنه عن الصلاة أخبر ، وإليها يرجع القول.
قلت : الأول أصح حملا للخطاب على ظاهر اللفظ ، والقول الثاني مجاز ؛ فإنه من تسمية الشيء ببعض ما هو من أعماله.
الخامسة- قال بعض العلماء : قوله تعالى : {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} نسخ قيام الليل ونصفه ، والنقصان من النصف والزيادة عليه. ثم احتمل قول الله عز وجل : {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} معنيين أحدهما أن يكون فرضا ثانيا ؛ لأنه أزيل به فرض غيره. والآخر أن يكون فرضا منسوخا أزيل بغيره كما أزيل به غيره ؛ وذلك لقوله تعالى : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} فاحتمل قوله تعالى : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} أي يتهجد بغير الذي فرض عليه مما تيسر منه. قال الشافعي : فكان الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين ، فوجدنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس.
السادسة- قال القشيري أبو نصر : والمشهور أن نسخ قيام الليل كان في حق الأمة ، وبقيت الفريضة في حق النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل : نسخ التقدير بمقدار ، وبقي أصل الوجوب ؛ كقوله تعالى : {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} فالهدي لا بد منه ، كذلك لم يكن بده من صلاة الليل ، ولكن فوض قدره إلى اختيار المصلي ، وعلى هذا فقد قال قوم : فرض قيام الليل بالقليل باق ؛ وهو مذهب الحسن. وقال قوم : نسخ بالكلية ، فلا تجب صلاة الليل أصلا ؛ وهو مذهب الشافعي. ولعل الفريضة التي بقيت في حق النبي صلى الله عليه وسلم هي هذا ، وهو قيامه ، ومقداره مفوض إلى خيرته. وإذا ثبت أن القيام ليس فرضا
(19/54)
فقوله تعالى : {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} معناه أقرؤوا إن تيسر عليكم ذلك ، وصلوا إن شئتم. وصار قوم إلى أن النسخ بالكلية تقرر في حق النبي صلى الله عليه وسلم أيضا ، فما كانت صلاة الليل واجبة عليه. وقوله : {نَافِلَةً لَكَ} محمول على حقيقة النفل. ومن قال : نسخ المقدار وبقي أصل وجوب قيام الليل ثم نسخ ، فهذا النسخ الثاني وقع ببيان مواقيت الصلاة ؛ كقوله تعالى : {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ، وقوله : {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} ، ما في الخبر من أن الزيادة على الصلوات الخمس تطوع. وقيل : وقع النسخ بقوله تعالى : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللأمة ، كما أن فرضية الصلاة وإن خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ} كانت عامة له ولغيره. وقد قيل : إن فريضة الله امتدت إلى ما بعد الهجرة ، ونسخت بالمدينة ؛ لقوله تعالى : {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، وإنما فرض القتال بالمدينة ؛ فعلى هذا بيان المواقيت جرى بمكة ، فقيام الليل نسخ بقوله تعالى : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} . وقال ابن عباس : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخ قول الله تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} وجوب صلاة الليل.
السابعة- قوله تعالى : {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} الآية ؛ بين سبحانه علة تخفيف قيام الليل ، فإن الخلق منهم المريض ، ويشق عليهم قيام الليل ، ويشق عليهم أن تفوتهم الصلاة ، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل ، والمجاهد كذلك ، فخفف الله عن الكل لأجل هؤلاء. و"أن" في "أن سيكون" مخففة من الثقيلة ؛ أي علم أنه سيكون.
الثامنة- سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعياله ، والإحسان والإفضال ، فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد ؛ لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله. وروى إبراهيم عن علقمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد فيبيعه بسعر يومه إلا كانت
(19/55)
منزلته عند الله منزلة الشهداء" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وقال ابن مسعود : أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا ، فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء. وقرأ {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ} الآية. وقال ابن عمر : ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إلي من الموت بين شعبتي رحلي ، ابتغى من فضل الله ضاربا في الأرض. وقال طاوس : الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله. وعن بعض السلف أنه كان بواسط ، فجهز سفينة حنطة إلى البصرة ، وكتب إلى وكيله : بع الطعام يوم تدخل البصرة ، ولا تؤخره إلى غد ، فوافق سعة في السعر ؛ فقال التجار للوكيل : إن أخرته جمعة ربحت فيه أضعافه ، فأخره جمعة فربح فيه أمثاله ، فكتب إلى صاحبه بذلك ، فكتب إليه صاحب الطعام : يا هذا! إنا كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا ، وقد جنيت علينا جناية ، فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال وتصدق به على فقراء البصرة ، وليتني أنجو من الاحتكار كفافا لا علي ولا لي. ويروى أن غلاما من أهل مكة كان ملازما للمسجد ، فافتقده ابن عمر ، فمشى إلى بيته ، فقالت أمه : هو على طعام له يبيعه ؛ فلقيه فقال له : يا بني! ما لك وللطعام ؟ فهلا إبلا ، فهلا بقرا ، فهلا غنما! إن صاحب الطعام يحب المحل ، وصاحب الماشية يحب الغيث.
التاسعة- قوله تعالى : {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} أي صلوا ما أمكن ؛ فأوجب الله من صلاة الليل ما تيسر ، ثم نسخ ذلك بإيجاب الصلوات الخمس على ما تقدم. قال ابن العربي وقد قال قوم : إن فرض قيام الليل سن في ركعتين من هذه الآية ؛ قال البخاري وغيره ، وعقد بابا ذكر فيه حديث "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد ، يضرب على كل عقدة مكانها : عليك ليل طويل فارقد. فإن استيقظ فذكر الله أنحلت عقدة ، فإن توضأ انحلت عقدة ، فإن صلى أنحلت عقده كلها ، فأصبح نشيطا طيب النفس ، وإلا أصبح خبيث
(19/56)
النفس كسلان" وذكر حديث سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا قال : "أما الذي يثلغ رأسه بالحجر فإنه يأخذ القرآن فيرفضه ، وينام عن الصلاة المكتوبة" . وحديث عبدالله بن مسعود قال : ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل ينام الليل كله فقال : "ذلك رجل بال الشيطان في أذنيه" فقال ابن العربي : فهذه أحاديث مقتضية حمل مطلق الصلاة على المكتوبة ؛ فيحمل المطلق على المقيد لاحتماله له ، وتسقط الدعوى ممن عينه لقيام الليل. وفي الصحيح واللفظ للبخاري : قال عبدالله بن عمرو : وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا عبدالله لا تكن مثل فلان ، كان يقوم الليل فترك قيام الليل" ولو كان فرضا ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم عليه ، ولا أخبر بمثل هذا الخبر عنه ، بل كان يذمه غاية الذم ، وفي الصحيح عن عبدالله بن عمر قال : كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على النبي صلى الله عليه وسلم ، وكنت غلاما شابا عزبا ، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار ، فإذا هي مطوية كطي البئر ، وإذا لها قرنان ، وإذا فيها ناس قد عرفتهم ، فجعلت أقول : أعوذ بالله من النار. قال : ولقينا ملك آخر ، فقال لي : لم ترع. فقصصتها على حفصة ، فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : "نعم الرجل عبدالله لو كان يصلي من الليل" فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلا ؛ فلو كان ترك القيام معصية لما قال له الملك : لم ترع. والله أعلم.
العاشرة- إذا ثبت أن قيام الليل ليس بفرض ، وأن قوله : {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} ، {اقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} محمول على ظاهره من القراءة في الصلاة فاختلف العلماء في قدر ما يلزمه أن يقرأ به في الصلاة ؛ فقال مالك والشافعي : فاتحة الكتاب لا يجزئ العدول عنها ، ولا الاقتصار على بعضها ، وقدره أبو حنيفة بآية واحدة ، من أي القرآن كانت. وعنه ثلاث
(19/57)
آيات ؛ لأنها أقل سورة. ذكر القول الأول الماوردي والثاني ابن العربي. والصحيح ما ذهب إليه مالك والشافعي ، على ما بيناه في سورة "الفاتحة" أول الكتاب والحمد لله. وقيل : إن المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة ؛ قال الماوردي : فعلى هذا يكون مطلق هذا الأمر محمولا على الوجوب ، أو على الاستحباب دون الوجوب. وهذا قول الأكثرين ؛ لأنه لو وجب عليه أن يقرأ لوجب عليه أن يحفظه. الثاني أنه محمول على الوجوب ؛ ليقف بقراءته على إعجازه ، وما فيه من دلائل التوحيد وبعث الرسل ، ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ودلائل التوحيد منه أن يحفظه ؛ لأن حفظ القرآن من القرب المستحبة دون الواجبة. وفي قدر ما تضمنه هذا الأمر من القراءة خمسة أقوال : أحدها جميع القرآن ؛ لأن الله تعالى يسره على عباده ؛ قاله الضحاك. الثاني ثلث القرآن ؛ حكاه جويبر. الثالث مائتا آية ؛ قال السدي. الرابع مائة آية ؛ قال ابن عباس. الخامس ثلاث آيات كأقصر سورة ؛ قاله أبو خالد الكناني.
الحادي عشرة- قوله تعالى : {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} يعني المفروضة وهي الخمس لوقتها. {وَآتُوا الزَّكَاةَ} الواجبة في أموالكم ؛ قال عكرمة وقتادة. وقال الحارث العكلي : صدقة الفطر لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك. وقيل : صدقة التطوع. وقيل : كل أفعال الخير.
وقال ابن عباس : طاعة الله والإخلاص له.
الثانية عشر- قوله تعالى : {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} القرض الحسن ما قصد به وجه الله تعالى خالصا من المال الطيب. وقد مضى في سورة "الحديد" بيانه. وقال زيد بن أسلم : القرض الحسن النفقة على الأهل. وقال عمر بن الخطاب : هو النفقة في سبيل الله.
الثالثة عشرة- قوله تعالى : {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} وروي عن عمر بن الخطاب أنه اتخذ حيسا - يعني تمرا بلبن - فجاءه مسكين فأخذه ودفعه إليه. فقال بعضهم : ما يدري هذا المسكين ما هذا ؟ فقال عمر : لكن رب المسكين يدري ما هو وكأنه تأول : {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} أي مما تركتم وخلفتم ، ومن الشح والتقصير. {وَأَعْظَمَ أَجْراً} قال أبو هريرة : الجنة ؛ ويحتمل أن يكون أعظم أجرا ؛ لإعطائه بالحسنة عشرا. ونصب "خيرا وأعظم" على المفعول الثاني "لتجدوه" و"هو" : فضل عند البصريين ، وعماد في قول الكوفيين ، لا محل له من الإعراب. و"أجرا" تمييز. {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} أي سلوه المغفرة لذنوبكم {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لما كان قبل التوبة {رَحِيمٌ} لكم بعدها ؛ قاله سعيد بن جبير. ختمت السورة.
(19/58)