مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة : من أولها إلى قوله تعالى : {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} مكي. ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى : {أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} مدني. ومن بعد ذلك إلى قوله : {يَكْتُبُونَ} مكي. ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى : {مِنَ الصَّالِحِينَ} مدني ، وما بقي مكي ؛ قاله الماوردي.
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية : [1] {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}
الآية : [2] {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}
الآية : [3] {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ}
قوله تعالى : {نْ وَالْقَلَمِ} أدغم النون الثانية في هجائها في الواو أبو بكر والمفضل وهبيرة وورش وابن محيصن وابن عامر والكسائي ويعقوب. والباقون بالإظهار. وقرأ عيسى بن عمر بفتحها ؛ كأنه أضمر فعلا. وقرأ ابن عباس ونصر وابن أبي إسحاق بكسرها على إضمار حرف ، القسم. وقرأ هارون ومحمد بن السميقع بضمها على البناء. واختلف في تأويله ؛ فروى معاوية بن قرة عن أبيه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ن لوح من نور". وروى ثابت البناني أن "ن" الدواة. وقاله الحسن وقتادة. وروى الوليد بن مسلم قال : حدثنا مالك بن أنس عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "أول ما خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة وذلك قوله تعالى : {نْ وَالْقَلَمِ} ثم قال له اكتب قال : وما أكتب قال : ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل أو أجل أو رزق أو أثر فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة - قال - ثم ختم فم القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة. ثم خلق العقل فقال الجبار ما خلقت خلقا أعجب إلي منك وعزتي وجلالي لأكملنك فيمن أحببت ولأنقصنك فيمن أبغضت" قال : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أكمل الناس عقلا أطوعهم لله وأعملهم بطاعته". وعن مجاهد قال : "ن" الحوت الذي تحت الأرض السابعة. قال : " وَالْقَلَمِ " الذي كتب به الذكر. وكذا قال مقاتل ومرة الهمداني وعطاء الخراساني والسدي والكلبي : إن النون هو الحوت الذي عليه الأرضون. وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال : أول ما خلق الله القلم فجرى بما هو كائن ، ثم رفع بخار الماء فخلق منه السماء ، ثم خلق النون فبسط الأرض
(18/223)
على ظهره ، فمادت الأرض فأثبتت بالجبال ، وإن الجبال لتفخر على الأرض. ثم قرأ ابن عباس {ن وَالْقَلَمِ} الآية. وقال الكلبي ومقاتل : اسمه البهموت. قال الراجز :
مالي أراكم كلكم سكوتا ... والله ربي خلق البهموتا
وقال أبو اليقظان والواقدي : ليوثا. وقال كعب : لوثوثا. وقال : بلهموثا. وقال كعب : إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرضون فوسوس في قلبه ، وقال : أتدري ما على ظهرك يا لوثوثا من الدواب والشجر والأرضين وغيرها ، لو لفظتهم ألقيتهم عن ظهرك أجمع ؛ فهم ليوثا أن يفعل ذلك ، فبعث الله إليه دابة فدخلت منخره ووصلت إلى دماغه ، فضج الحوت إلى الله عز وجل منها فأذن الله لها فخرجت. قال كعب : فوالله إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت كما كانت. وقال الضحاك عن ابن عباس : إن "ن" آخر حروف من حروف الرحمن. قال : الر ، وحم ، ون ؛ الرحمن تعالى متقطعة. وقال ابن زيد : هو قسم أقسم تعالى به. وقال ابن كيسان : هو فاتحة السورة. وقيل : اسم السورة. وقال عطاء وأبو العالية : هو أفتتاح اسمه نصير ونور وناصر. وقال محمد بن كعب : أقسم الله تعالى بنصره للمؤمنين ؛ وهو حق. بيانه قوله تعالى : {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وقال جعفر الصادق : هو نهر من أنهار الجنة يقال له نون. وقيل : هو المعروف من حروف المعجم ، لأنه لو كان غير ذلك لكان معربا ؛ وهو اختيار القشيري أبو نصر عبدالرحيم في تفسيره. قال : لأن "ن" حرف لم يعرب ، فلو كان كلمة تامة أعرب كما أعرب القلم ، فهو إذا حرف هجاء كما في سائر مفاتيح السور. وعلى هذا قيل : هو اسم السورة ، أي هذه السورة "ن". ثم قال : " وَالْقَلَمِ " أقسم بالقلم لما فيه من البيان
(18/224)
كاللسان ؛ وهو واقع على كل قلم مما يكتب به من في السماء ومن في الأرض ؛ ومنه قول أبي الفتح البستي :
إذا أقسم الأبطال يوما بسيفهم ... وعدوه مما يكسب المجد والكرم
كفى قلم الكتاب عزا ورفعة ... مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم
وللشعراء في تفضيل القلم على السيف أبيات كثيرة ؛ ما ذكرناه أعلاها. وقال ابن عباس : هذا قسم بالقلم الذي خلقه الله ؛ فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة. قال : وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض. ويقال. خلق الله القلم ثم نظر إليه فأنشق نصفين ؛ فقال : أجر ؛ فقال : يا رب بم أجري ؟ قال بما هو كائن إلى يوم القيامة ؛ فجرى على اللوح المحفوظ. وقال الوليد بن عبادة بن الصامت : أوصاني أبي عند موته فقال : يا بني ، اتق الله ، وأعلم أنك لن تتقي ولن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده ، والقدر خيره وشره ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "إن أول ما خلق الله القلم فقال له أكتب فقال يا رب وما أكتب فقال أكتب القدر فجرى القلم في تلك الساعة بما كان وما هو كائن إلى الأبد" وقال ابن عباس : أول ما خلق الله القلم فأمره أن يكتب ما هو كائن ؛ فكتب فيما كتب " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ " وقال قتادة : القلم نعمة من الله تعالى على عباده. قال غيره : فخلق الله القلم الأول فكتب ما يكون في الذكر ووضعه عنده فوق عرشه ، ثم خلق القلم الثاني ليكتب به في الأرض ؛ على ما يأتي بيانه في سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}.
قوله تعالى : {وَمَا يَسْطُرُونَ} أي وما يكتبون. يريد الملائكة يكتبون أعمال بني آدم ؛ قاله ابن عباس : وقيل : وما يكتبون أي الناس ويتفاهمون به. وقال ابن عباس : ومعنى {وَمَا يَسْطُرُونَ} وما يعلمون. و" َمَا " موصولة أو مصدرية ؛ أي ومسطوراتهم أو وسطرهم ، ويراد به كل من يسطر أو الحفظة ؛ على الخلاف. {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} هذا جواب القسم وهو نفي ، وكان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم إنه مجنون ، به شيطان.
(18/225)
وهو قولهم : {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} فأنزل الله تعالى ردا عليهم وتكذيبا لقولهم {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} أي برحمة ربك. والنعمة ها هنا الرحمة. ويحتمل ثانيا - أن النعمة ها هنا قسم ؛ وتقديره : ما أنت ونعمة ربك بمجنون ؛ لأن الواو والباء من حروف القسم. وقيل هو كما تقول : ما أنت بمجنون ، والحمد لله. وقيل : معناه ما أنت بمجنون ، والنعمة لربك ؛ كقولهم : سبحانك اللهم وبحمدك ؛ أي والحمد لله. ومنه قول لبيد :
وأفردت في الدنيا بفقد عشيرتي ... وفارقني جار بأربد نافع
أي وهو أربد. وقال النابغة :
لم يحرموا حسن الغذاء وأمهم ... طفحت عليك بناتق مذكار
أي هو ناتق. والباء في {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} متعلقة " بِمَجْنُونٍ " منفيا ؛ كما يتعلق بغافل مثبتا. كما في قولك : أنت بنعمة ربك غافل. ومحله النصب على الحال ؛ كأنه قال : ما أنت بمجنون منعما عليك بذلك. {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً} أي ثوابا على ما تحملت من أثقال النبوة. {غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي غير مقطوع ولا منقوص ؛ يقال : مننت الحبل إذا قطعته. وحبل منين إذا كان غير متين. قال الشاعر :
غُبْسا كواسب لا يُمَنّ طعامها
أي لا يقطع. وقال مجاهد : {غَيْرُ مَمْنُونٍ} محسوب. الحسن : {غَيْرُ مَمْنُونٍ} غير مكدر بالمن. الضحاك : أجرا بغير عمل. وقيل : غير مقدر وهو التفضل ؛ لأن الجزاء مقدر والتفضل غير مقدر ؛ ذكره الماوردي ، وهو معنى قول مجاهد.
(18/226)
الآية : [4] {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}
فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} قال ابن عباس ومجاهد : على خلق ، على دين عظيم من الأديان ، ليس دين أحب إلى الله تعالى ولا أرضى عنده منه. وفي صحيح مسلم عن عائشة : أن خلقه كان القرآن. وقال علي رضي الله عنه وعطية : هو أدب القرآن. وقيل : هو رفقه بأمته وإكرامه إياهم. وقال قتادة : هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه مما نهى الله عنه. وقيل : أي إنك على طبع كريم. الماوردي : وهو الظاهر. وحقيقة الخلق في اللغة : هو ما يأخذ به الإنسان نفسه من الأدب يسمى خلقا ؛ لأنه يصير كالخلقة فيه. وأما ما طبع عليه من الأدب فهو الخيم "بالكسر" : السجية والطبيعة ، لا واحد له من لفظه. وخيم : اسم جبل. فيكون الخلق الطبع المتكلف. والخيم الطبع الغريزي. وقد أوضح الأعشى ذلك في شعره فقال :
وإذا ذو الفضول ضن على المو ... لى وعادت لخيمها الأخلاق
أي رجعت الأخلاق إلى طبائعها.
قلت : ما ذكرته عن عائشة في صحيح مسلم أصح الأقوال. وسئلت أيضا عن خلقه عليه السلام ؛ فقرأت {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} إلى عشر آيات ، وقالت : ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما دعاه أحد من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال لبيك ، ولذلك قال الله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}. ولم يذكر خلق محمود إلا وكان للنبي صلى الله عليه وسلم منه الحظ الأوفر. وقال الجنيد : سمي خلقه عظيما لأنه لم تكن له همة سوى الله تعالى. وقيل سمي خلقه عظيما لاجتماع مكارم الأخلاق فيه ؛ يدل عليه قوله عليه السلام : "إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق" . وقيل : لأنه أمتثل تأديب الله تعالى إياه بقوله تعالى : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وقد روي عنه عليه السلام
(18/227)
أنه قال : "أدبني ربي تأديبا حسنا إذ قال : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} فلما قبلت ذلك منه قال : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
الثانية- روى الترمذي عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن". قال حديث حسن صحيح. وعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء". قال : حديث حسن صحيح. وعنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصلاة والصوم". قال : حديث غريب من هذا الوجه. وعن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ فقال : "تقوى الله وحسن الخلق". وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار ؟ فقال : "الفم والفرج" قال : هذا حديث صحيح غريب. وعن عبدالله بن المبارك أنه وصف حسن الخلق فقال : هو بسط الوجه ، وبذل المعروف ، وكف الأذى. وعن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا - قال - وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون ". قالوا : يا رسول الله ، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون ، فما المتفيهقون ؟ قال : "المتكبرون". قال : وفي الباب عن أبي هريرة وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
الآية : [5] {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ}
الآية : [6] {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ}
الآية : [7] {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}
(18/228)
قوله تعالى : {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} قال ابن عباس : معناه فستعلم ويعلمون يوم القيامة. وقيل : فسترى ويرون يوم القيامة حين يتبين الحق والباطل. {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} الباء زائدة ؛ أي فستبصر ويبصرون أيكم المفتون. أي الذي فتن بالجنون ؛ كقوله تعالى : {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} و { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} وهذا قول قتادة وأبي عبيد والأخفش. وقال الراجز :
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج ... نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
وقيل : الباء ليست بزائدة ؛ والمعنى : "{بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} أي الفتنة. وهو مصدر على وزن المفعول ، ويكون معناه الفتون ؛ كما قالوا : ما لفلان مجلود ولا معقول ؛ أي عقل ولا جلادة. وقاله الحسن والضحاك وابن عباس. وقال الراعي :
حتى إذا لم يتركوا لعظامه ... لحما ولا لفؤاده معقولا
أي عقلا. وقيل في الكلام تقدير حذف مضاف ؛ والمعنى : بأيكم فتنة المفتون. وقال الفراء : الباء بمعنى في ؛ أي فستبصر ويبصرون في أي الفريقين المجنون ؛ أبالفرقة التي أنت فيها من المؤمنين أم بالفرقة الأخرى. والمفتون : المجنون الذي فتنه الشيطان. وقيل : المفتون المعذب. من قول العرب : فتنت الذهب بالنار إذا حميته. ومنه قوله تعالى : {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} أي يعذبون.
ومعظم السورة نزلت في الوليد بن المغيرة وأبي جهل. وقيل : المفتون هو الشيطان ؛ لأنه مفتون في دينه. وكانوا يقولون : إن به شيطانا ، وعنوا بالمجنون هذا ؛ فقال الله تعالى : {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابَ الأَشِرُّ} ؛ أي الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل.
(18/229)
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} أي إن الله هو العالم بمن حاد عن دينه. {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أي الذين هم على الهدى فيجازي كلا غدا بعمله.
الآية : [8] {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ}
نهاه عن ممايلة المشركين ؛ وكانوا يدعونه إلى أن يكف عنهم ليكفوا عنه ، فبين الله تعالى أن ممايلتهم كفر. وقال تعالى : {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً}. وقيل : أي فلا تطع المكذبين فيما دعوك إليه من دينهم الخبيث. نزلت في مشركي قريش حين دعوه إلى دين آبائه.
الآية : [9] {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}
قال ابن عباس وعطية والضحاك والسدي : ودوا لو تكفر فيتمادون على كفرهم. وعن ابن عباس أيضا : ودوا لو ترخص لهم فيرخصون لك. وقال الفراء والكلبي : لو تلين فيلينون لك. والادهان : التليين لمن لا ينبغي له التليين ؛ قاله الفراء. وقال مجاهد : المعنى ودوا لو ركنت إليهم وتركت الحق فيمالئونك. وقال الربيع بن أنس : ودوا لو تكذب فيكذبون. وقال قتادة : ودوا لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبون معك. الحسن : ودوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم. وعنه أيضا : ودوا لو ترفض بعض أمرك فيرفضون بعض أمرهم. زيد بن أسلم : لو تنافق وترائي فينافقون ويراؤون. وقيل : ودوا لو تضعف فيضعفون ؛ قال أبو جعفر. وقيل : ودوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم ؛ قاله القتبي. وعنه : طلبوا منه أن يعبد ألهتهم مدة ويعبدوا إلهه مدة. فهذه آثنا عشر قولا. ابن العربي : ذكر المفسرون فيها نحو عشرة أقوال كلها دعاوى على اللغة والمعنى. أمثلها قولهم : ودوا لو تكذب فيكذبون ، ودوا لو تكفر فيكفرون.
(18/230)
قلت : كلها إن شاء الله تعالى صحيحة على مقتضى اللغة والمعنى ؛ فإن الادهان : اللين والمصانعة. وقيل : مجاملة العدو ممايلته. وقيل : المقاربة في الكلام والتليين في القول. قال الشاعر :
لبعض الغشم أحزم في أمور ... تنوبك من مداهنة العدو
وقال المفضل : النفاق وترك المناصحة. فهي على هذا الوجه مذمومة ، وعلى الوجه الأول غير مذمومة ، وكل شيء منها لم يكن. قال المبرد : يقال أدهن في دينه وداهن في أمره ؛ أي خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر. وقال قوم : داهنت بمعنى واريت ، وأدهنت بمعنى غششت ؛ قال الجوهري. وقال : {فيدهنون} فساقه على العطف ، ولو جاء به جواب النهي لقال فيدهنوا. وإنما أراد : إن تمنوا لو فعلت فيفعلون مثل فعلك ؛ عطفا لا جزاء عليه ولا مكافأة ، وإنما هو تمثيل وتنظير.
الآية : [10] {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ}
الآية : [11] {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}
الآية : [12] {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ}
الآية : [13] {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ}
يعني الأخنس بن شريق ؛ في قول الشعبي والسدي وابن إسحاق. وقيل : الأسود بن عبد يغوث ، أو عبدالرحمن بن الأسود ؛ قاله مجاهد. وقيل : الوليد بن المغيرة ، عرض على النبي صلى الله عليه وسلم مالا وحلف أن يعطيه إن رجع عن دينه ؛ قال مقاتل. وقال ابن عباس : هو أبو جهل بن هشام. والحلاف : الكثير الحلف. والمهين : الضعيف القلب ؛ عن مجاهد. ابن عباس : الكذاب. والكذاب مهين. وقيل : المكثار في الشر ؛ قاله الحسن وقتادة. وقال الكلبي : المهين الفاجر العاجز. وقيل : معناه الحقير عند الله. وقال ابن شجرة : إنه الذليل. الرماني : المهين الوضيع لإكثاره من القبيح. وهو فعيل من المهانة بمعنى القلة. وهي هنا القلة في الرأي والتمييز. أو هو فعيل بمعنى مفعل ؛ والمعنى مهان. {هَمَّازٍ} قال ابن زيد : الهماز الذي يهمز الناس بيده ويضربهم. واللماز باللسان.
(18/231)
وقال الحسن : هو الذي يهمز ناحية في المجلس ؛ كقوله تعالى : {هُمَزَةٍ} وقيل : الهماز الذي يذكر الناس في وجوههم. واللماز الذي يذكرهم في مغيبهم ؛ قاله أبو العالية وعطاء بن أبي رباح والحسن أيضا. وقال مقاتل ضد هذا الكلام : إن الهمزة الذي يغتاب بالغيبة. واللمزة الذي يغتاب في الوجه. وقال مرة : هما سواء. وهو القتات الطعان للمرء إذا غاب. ونحوه عن ابن عباس وقتادة. قال الشاعر :
تدلي بود إذا لاقيتني كذبا ... وإن أغب فأنت الهامز اللمزة
{مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} أي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم. يقال : نم ينم نما ونميما ونميمة ؛ أي يمشي ويسعى بالفساد. وفي صحيح مسلم عن حذيفة أنه بلغه أن رجلا ينم الحديث ، فقال حذيفة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا يدخل الجنة نمام". وقال الشاعر :
ومولى كبيت النمل لا خير عنده ... لمولاه إلا سعيه بنميم
قال الفراء : هما لغتان. وقيل : النميم جمع نميمة. {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} أي للمال أن ينفق في وجوهه. وقال ابن عباس : يمنع عن الإسلام ولده وعشيرته. وقال الحسن : يقول لهم من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبدا. {مُعْتَدٍ} أي على الناس في الظلم متجاوز للحد ، صاحب باطل. {أَثِيمٍ} أي ذي إثم ، ومعناه أثوم ، فهو فعيل بمعنى فعول. {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} العتل الجافي الشديد في كفره. وقال الكلبي والفراء : هو الشديد الخصومة بالباطل. وقيل : إنه الذي يعتل الناس فيجرهم إلى حبس أو عذاب. مأخوذ من العتل وهو الجر ؛ ومنه قوله تعالى : {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ} وفي الصحاح : وعتلت الرجل أعتله وأعتله إذا جذبته جذبا عنيفا. ورجل معتل "بالكسر". وقال يصف فرسا :
نفرعه فرعا ولسنا نعتله
قال ابن السكيت : عتله وعتنه ، باللام والنون جميعا. والعتل الغليظ الجافي. والعتل أيضا :
(18/232)
الرمح الغليظ. ورجل عتل "بالكسر" بين العتل ؛ أي سريع إلى الشر. ويقال : لا أنعتل معك ؛ أي لا أبرح مكاني. وقال عبيد بن عمير : العتل الأكول الشروب القوي الشديد يوضع في الميزان فلا يزن شعيرة ؛ يدفع الملك من أولئك في جهنم بالدفعة الواحدة سبعين ألفا. وقال علي بن أبي طالب والحسن : العتل الفاحش السيئ الخلق. وقال معمر : هو الفاحش اللئيم. قال الشاعر :
بعُتُلّ من الرجال زنيم ... غير ذي نجدة وغير كريم
وفي صحيح مسلم عن حارثة بن وهب سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ألا أخبركم بأهل الجنة - قالوا بلى قال - كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره. ألا أخبركم بأهل النار" - قالوا بلى قال - "كل عتل جواظ مستكبر". وفي رواية عنه "كل جواظ زنيم متكبر". الجواظ : قيل هو الجموع المنوع. وقيل الكثير اللحم المختال في مشيته. وذكر الماوردي عن شهر بن حوشب عن عبدالرحمن بن غنم ، ورواه ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري ولا العتل الزنيم". فقال رجل : ما الجواظ وما الجعظري وما العتل الزنيم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الجواظ الذي جمع ومنع. والجعظري الغليظ. والعتل الزنيم الشديد الخلق الرحيب الجوف المصحح الأكول الشروب الواجد للطعام الظلوم للناس". وذكره الثعلبي عن شداد بن أوس : "لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري ولا عتل زنيم" سمعتهن من النبي صلى الله عليه وسلم قلت : وما الجواظ ؟ قال : الجماع المناع. قلت : وما الجعظري ؟ قال : الفظ الغليظ. قلت : وما العتل الزنيم ؟ قال : الرحيب الجوف الوثير الخلق الأكول الشروب الغشوم الظلوم.
قلت : فهذا التفسير من النبي صلى الله عليه وسلم في العتل قد أربى على أقوال المفسرين. ووقع في كتاب أبي داود في تفسير الجواظ أنه الفظ الغليظ. ذكره من حديث حارثة بن وهب
(18/233)
الخزاعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يدخل الجنة الجواظ ولا الجعظري" قال : والجواظ الفظ الغليظ. ففيه تفسيران مرفوعان حسب ما ذكرناه أولا. وقد قيل : إنه الجافي القلب. وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى : {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "تبكي السماء من رجل أصح الله جسمه ورحب جوفه وأعطاه من الدنيا بعضا فكان للناس ظلوما فذلك العتل الزنيم. وتبكي السماء من الشيخ الزاني ما تكاد الأرض تقله". والزنيم الملصق بالقوم الدعي ؛ عن ابن عباس وغيره. قال الشاعر :
زنيم تداعاه الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع
وعن ابن عباس أيضا : أنه رجل من قريش كانت له زنمة كزنمة الشاة. وروى عنه ابن جبير. أنه الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها. وقال عكرمة : هو اللئيم الذي يعرف بلؤمه كما تعرف الشاة بزنمتها. وقيل : إنه الذي يعرف بالأبنة. وهو مروي عن ابن عباس أيضا. وعنه أنه الظلوم. فهذه ستة أقوال. وقال مجاهد : زنيم كانت له ستة أصابع في يده ، في كل إبهام له إصبع زائدة. وعنه أيضا وسعيد بن المسيب وعكرمة : هو ولد الزنى الملحق في النسب بالقوم. وكان الوليد دعيا في قريش ليس من سنخهم ؛ ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من مولده. قال الشاعر :
زنيم ليس يعرف من أبوه ... بغي الأم ذو حسب لئيم
وقال حسان :
وأنت زنيم نيط في آل هاشم ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
قلت : وهذا هو القول الأول بعينه. وعن علي رضي الله تعالى عنه أنه الذي لا أصل له ؛ والمعنى واحد. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا يدخل الجنة ولد زنى ولا ولده ولا ولد ولده". وقال عبدالله بن عمر : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن أولاد الزنى يحشرون يوم القيامة في صورة القردة والخنازير". وقالت ميمونة : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم
(18/234)
يقول : "لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنى فإذا فشا فيهم ولد الزنى أوشك أن يعمهم الله بعقاب". وقال عكرمة : إذا كثر ولد الزنى قحط المطر.
قلت : أما الحديث الأول والثاني فما أظن لهما سندا يصح ، وأما حديث ميمونة وما قاله عكرمة ففي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوما فزعا محمرا وجهه يقول : "لا إله إلا الله. ويل للعرب من شر قد اقترب. فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه" وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها. قالت فقلت : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : "نعم إذا كثر الخبث" خرجه البخاري. وكثرة الخبث ظهور الزنى وأولاد الزنى ؛ كذا فسره العلماء. وقول عكرمة "قحط المطر" تبيين لما يكون به الهلاك. وهذا يحتاج إلى توقيف ، وهو أعلم من أين قاله. ومعظم المفسرين على أن هذا نزل في الوليد بن المغيرة ، وكان يطعم أهل منى حيسا ثلاثة أيام ، وينادي ألا لا يوقدن أحد تحت برمة ، ألا لا يدخنن أحد بكراع ، ألا ومن أراد الحيس فليأت الوليد بن المغيرة. وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفا وأكثر. ولا يعطي المسكين درهما واحدا فقيل : {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ}. وفيه نزل : {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}. وقال محمد بن إسحاق : نزلت في الأخنس بن شريق ، لأنه حليف ملحق في بني زهرة ، فلذلك سمي زنيما. وقال ابن عباس : في هذه الآية نعت ، فلم يعرف حتى قتل فعرف ، وكان له زنمة في عنقه معلقة يعرف بها. وقال مُرَّة الهمداني : إنما ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة.
الآية : [14] {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ}
الآية : [15] {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}
(18/235)
قوله تعالى : {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} قرأ أبو جعفر وابن عامر وأبو حيوة والمغيرة والأعرج {أَنْ كَانَ} بهمزة واحدة ممدودة على الاستفهام. وقرأ المفضل وأبو بكر وحمزة "أأَنْ كَانَ " بهمزتين محققتين. وقرأ الباقون بهمزة واحدة على الخبر ؛ فمن قرأ بهمزة مطولة أو بهمزتين محققتين فهو استفهام والمراد به التوبيخ ، ويحسن له أن يقف على " زَنِيمٍ " ، ويبتدئ " أَنْ كَانَ " على معنى ألأن كان ذا مال وبنين تطيعه. ويجوز أن يكون التقدير : ألأن كان ذا مال وبنين يقول إذا تتلى عليه آياتنا : أساطير الأولين ويجوز أن يكون التقدير : ألأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر. ودل عليه ما تقدم من الكلام فصار كالمذكور بعد الاستفهام. ومن قرأ " أَنْ كَانَ " بغير استفهام فهو مفعول من أجله والعامل فيه فعل مضمر ، والتقدير : يكفر لأن كان ذا مال وبنين. ودل على هذا الفعل : {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} ولا يعمل في "أن" : "تتلى" ولا " قَالَ " لأن ما بعد " إِذَا " لا يعمل فيما قبلها ؛ لأن " إِذَا " تضاف إلى الجمل التي بعدها ، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف. و" قَالَ " جواب الجزاء ولا يعمل فيما قبل الجزاء ؛ إذا حكم العامل أن يكون قبل المعمول فيه ، وحكم الجواب أن يكون بعد الشرط فيصير مقدما مؤخرا في حال. ويجوز أن يكون المعنى لا تطعه لأن كان ذا يسار وعدد. قال ابن الأنباري : ومن قرأ بلا استفهام لم يحسن أن يقف على " زَنِيمٍ " لأن المعنى لأن كان وبأن كان ، "فأن" متعلقة بما قبلها. قال غيره : يجوز أن يتعلق بقوله : " مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ " والتقدير يمشي بنميم لأن كان ذا مال وبنين. وأجاز أبو علي أن يتعلق "بـ"ـعُتُلَّ". وأساطير الأولين : أباطيلهم وترهاتهم وخرافاتهم. وقد تقدم.
الآية : [16] {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ}
فيه مسألتان :
الأولى- قوله تعالى : {سَنَسِمُهُ} قال ابن عباس : معنى " سَنَسِمُهُ " سنخطمه بالسيف. قال : وقد خطم الذي نزلت فيه يوم بدر بالسيف ؛ فلم يزل مخطوما إلى أن مات.
(18/236)
وقال قتادة : سنسمه يوم القيامة على أنفه سمة يعرف بها ؛ يقال : وسمته وسما وسمة إذا أثرت فيه بسمة وكي. وقد قال تعالى : {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} فهذه علامة ظاهرة. وقال تعالى : {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} وهذه علامة أخرى ظاهرة. فأفادت هذه الآية علامة ثالثة وهي الوسم على الأنف بالنار ؛ وهذا كقوله تعالى : {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} قاله الكلبي وغيره. وقال أبو العالية ومجاهد : {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} أي على أنفه ، ونسود وجهه في الآخرة فيعرف بسواد وجهه. والخرطوم : الأنف من الإنسان. ومن السباع : موضع الشفة. وخراطيم القوم : ساداتهم. قال الفراء : وإن كان الخرطوم قد خص بالسمة فإنه في معنى الوجه ؛ لأن بعض الشيء يعبر به عن الكل. وقال الطبري : نبين أمره تبيانا واضحا حتى يعرفوه فلا يخفى عليهم كما لا تخفى السمة على الخراطيم. وقيل : المعنى سنلحق به عارا وسبة حتى يكون كمن وسم على أنفه. قال القتبي : تقول العرب للرجل يسب سبة سوء قبيحة باقية : قد وسم ميسم سوء ؛ أي الصق به عار لا يفارقه ؛ كما أن السمة لا يمحى أثرها. قال جرير :
لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
أراد به الهجاء. قال : وهذا كله نزل في الوليد بن المغيرة. ولا نعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه منه ؛ فألحقه به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة ؛ كالوسم على الخرطوم. وقيل : هو ما ابتلاه الله به في الدنيا في نفسه وماله وأهله من سوء وذل وصغار ؛ قاله ابن بحر. واستشهد بقول الأعشى :
فدعها وما يغنيك وأعمد لغيرها ... بشعرك وأعلب أنف من أنت واسم
(18/237)
وقال النضر بن شميل : المعنى سنحده على شرب الخمر ، والخرطوم : الخمر ، وجمعه خراطيم ، قال الشاعر :
تظل يومك في لهو وفي طرب ... وأنت بالليل شرَّاب الخراطيم
قال الراجز :
صهباء خرطوما عقارا قرقفا
وقال آخر :
أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه ... ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا
قال ابن العربي : "كان الوسم في الوجه لذي المعصية قديما عند الناس ، حتى أنه روي - كما تقدم - أن اليهود لما أهملوا رجم الزاني اعتاضوا منه بالضرب وتحميم الوجه ؛ وهذا وضع باطل. ومن الوسم الصحيح في الوجه : ما رأى العلماء من تسويد وجه شاهد الزور ، علامة على قبح المعصية وتشديدا لمن يتعاطاها لغيره ممن يرجى تجنبه بما يرجى من عقوبة شاهد الزور وشهرته ؛ فقد كان عزيزا بقول الحق وقد صار مهينا بالمعصية. وأعظم الإهانة إهانة الوجه. وكذلك كانت الاستهانة به في طاعة الله سببا لخيرة الأبد والتحريم له على النار ؛ فإن الله تعالى قد حرم على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود ؛ حسب ما ثبت في الصحيح.
الآية : [17] {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ}
الآية : [18] {وَلا يَسْتَثْنُونَ}
الآية : [19] {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ}
(18/238)
فيه ثلاث مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} يريد أهل مكة. والابتلاء الاختبار. والمعنى أعطيناهم أموالا ليشكروا لا ليبطروا ؛ فلما بطروا وعادوا محمدا صلي الله عليه وسلم ابتليناهم بالجوع والقحط كما بلونا أهل الجنة المعروف خبرها عندهم. وذلك أنها كانت بأرض اليمن بالقرب منهم على فراسخ من صنعاء - ويقال بفرسخين - وكانت لرجل يؤدي حق الله تعالى منها ؛ فلما مات صارت إلى ولده ، فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله فيها ؛ فأهلكها الله من حيث لم يمكنهم دفع ما حل بها. قال الكلبي : كان بينهم وبين صنعاء فرسخان ؛ ابتلاهم الله بأن أحرق جنتهم. وقيل : هي جنة بضوران ، وضوران على فرسخ من صنعاء ، وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى عليه السلام بيسير - وكانوا بخلاء - فكانوا يجدون التمر ليلا من أجل المساكين ، وكانوا أرادوا حصاد زرعها وقالوا : لا يدخلها اليوم عليكم مسكين ، فغدوا عليها فإذا هي قد اقتلعت من أصلها فأصبحت كالصريم ؛ أي كالليل. ويقال أيضا للنهار صريم. فإن كان أراد الليل فلا سواد موضعها. وكأنهم وجدوا موضعها حمأة. وإن كان أراد بالصريم النهار فلذهاب الشجر والزرع ونقاء الأرض منه. وكان الطائف الذي طاف عليها جبريل عليه السلام فاقتلعها. فيقال : إنه طاف بها حول البيت ثم وضعها حيث مدينة الطائف اليوم ؛ ولذلك سميت الطائف. وليس في أرض الحجاز بلدة فيها الشجر والأعناب والماء غيرها. وقال البكري في المعجم : سميت الطائف لأن رجلا من الصدف يقال له الدمون ، بنى حائطا وقال : قد بنيت لكم طائفا حول بلدكم ؛ فسميت الطائف. والله أعلم.
الثانية- قال بعض العلماء : على من حصد زرعا أو جد ثمرة أن يواسي منها من حضره ؛ وذلك معنى قوله : {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وأنه غير الزكاة على ما تقدم في "الأنعام" بيانه. وقال بعضهم : وعليه ترك ما أخطأه الحاصدون. وكان بعض العباد يتحرون أقواتهم
(18/239)