المجلد السابع عشر
سورة الرحمن [عزّ وجلّ]
مقدمة السورة
مكية كلها في قول الحسن وعروة بن الزبير وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس : إلا آية منها هي قوله تعالى : {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرحمن : 29] الآية. وهي ست وسبعون آية. وقال ابن مسعود ومقاتل : هي مدنية كلها. والقول الأول أصح لما روى عروة بن الزبير قال : أول من جهر بالقرآن بمكة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود ؛ وذلك أن الصحابة قالوا : ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قط ، فمن رجل يسمعهموه ؟ فقال ابن مسعود : أنا ، فقالوا : إنا نخشى عليك ، وإنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه ، فأبى ثم قام عند المقام فقال : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن : 2] ثم تمادى رافعا بها صوته وقريش في أنديتها ، فتأملوا وقالوا : ما يقول ابن أم عبد ؟ قالوا : هو يقول الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه ، ثم ضربوه حتى أثروا في وجهه. وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قام يصلي الصبح بنخلة ، فقرأ سورة {الرَّحْمَنُ} ومر النفر من الجن فأمنوا به. وفي الترمذي عن جابر قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة {الرَّحْمَنُ} من أولها إلي آخرها فسكتوا ، فقال : "لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم كنت كلما أتيت على قوله : {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن : 13] قالوا لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد" قال : هذا حديث غريب. وفي هذا دليل على أنها مكية والله أعلم. وروي أن قيس بن عاصم المنقري قال للنبي صلى الله عليه وسلم : اتل علي مما أنزل عليك ، فقرأ عليه سورة {الرَّحْمَنُ} فقال : أعدها ، فأعادها ثلاثا ، فقال : والله إن له لطلاوة ، وإن عليه لحلاوة ، وأسفله لمغدق ، وأعلاه مثمر ، وما يقول هذا بشر ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وروي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لكل شيء عروس وعروس القرآن سورة الرحمن"
(17/151)
بسم الله ارحمن الرحيم
الآية : [1] {الرَّحْمَنُ}
الآية : [2] {عَلَّمَ الْقُرْآنَ}
الآية : [3] {خَلَقَ الإِنْسَانَ}
الآية : [4] {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}
الآية : [5] {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}
الآية : [6] {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}
الآية : [7] {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}
الآية : [8] {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ}
الآية : [9] {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}
الآية : [10] {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ}
الآية : [11] {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ}
الآية : [12] {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ}
الآية : [13] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
قوله تعالى : {الرَّحْمَنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ} قال سعيد بن جبير وعامر الشعبي : {الرَّحْمَنُ} فاتحة ثلاث سور إذا جمعن كن اسما من أسماء الله تعالى {الر} و {حم} و{ن} فيكون مجموع هذه {الرَّحْمَنُ}. {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} أي علمه نبيه صلى الله عليه وسلم حتى أداه إلى جميع الناس. وأنزلت حين قالوا : وما الرحمن ؟ وقيل : نزلت جوابا لأهل مكة حين قالوا : إنما يعلمه بشر وهو رحمن اليمامة ، يعنون مسيلمة الكذاب ، فأنزل الله تعالى : {الرَّحْمَنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ}. وقال الزجاج : معنى {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} أي سهله لأن يذكر ويقرأ كما قال : {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} وقيل : جعله علامة لما تعبد الناس به. {خَلَقَ الإِنْسَانَ} قال ابن عباس وقتادة والحسن يعني آدم عليه السلام. {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} أسماء كل شيء. وقيل : علمه اللغات كلها. وعن ابن عباس أيضا وابن كيسان : الإنسان ها هنا يراد به محمد صلى الله عليه وسلم ، والبيان بيان الحلال من الحرام ، والهدى من الضلال. وقيل : ما كان وما يكون ، لأنه بين عن الأولين والآخرين ويوم الدين. وقال الضحاك : {الإِنْسَانَ} الخير والشر. وقال الربيع بن أنس : هو ما ينفعه وما يضره ، وقاله قتادة. وقيل : {الإِنْسَانَ} يراد به جميع الناس فهو اسم للجنس و {الْبَيَانَ} على هذا الكلام والفهم ، وهو مما فضل به الإنسان على
(17/152)
سائر الحيوان. وقال السدي : علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به. وقال يمان : الكتابة والخط بالقلم. نظيره : {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} أي يجريان بحساب معلوم فأضمر الخبر. قال ابن عباس وقتادة وأبو مالك : أي يجريان بحساب في منازل لا يعدوانها ولا يحيدان عنها. وقال ابن زيد وابن ، كيسان : يعني أن بهما تحسب الأوقات والآجال الأعمار ، ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب شيئا لو كان الدهر كله أو نهاره. وقال السدي : {بِحُسْبَانٍ} تقدير آجالهما أي تجري بآجال كآجال الناس ، فإذا جاء أجلهما هلكا ، نظيره : {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً} وقال الضحاك : بقدر. مجاهد : {بِحُسْبَانٍ} كحسبان الرحى يعني قطبها يدوران في مثل القطب. والحسبان قد يكون مصدر حسبته أحسبته بالضم حسبا وحسبانا ، مثل الغفران والكفران والرجحان ، وحسابة أيضا أي عددته. وقال الأخفش : ويكون جماعة الحساب مثل شهاب وشهبان. والحسبان أيضا بالضم العذاب والسهام القصار ، وقد مضى في {الكهف} الواحدة حسبانة ، والحسبانة أيضا الوسادة الصغيرة ، تقول منه : حسبته إذا وسدته ، قال :
لثويت غير مُحَسِّب
أي غير موسَّد يعني غير مكرم ولا مكفن { والنجم والشجر يسجدان} قال ابن عباس وغيره : النجم ما لا ساق له والشجر ما له ساق ، وأنشد ابن عباس قول صفوان بن أسد التميمي :
لقد أنجم القاع الكبير عضاهه ... وتم به حيا تميم ووائل
وقال زهير بن أبي سلمى :
مكلل بأصول النجم تنسجه ... ريح الجنوب لضاحي مائه حبك
(17/153)
واشتقاق النجم من نجم الشيء ينجم بالضم نجوما ظهر وطلع ، وسجودهما بسجود ظلالهما ، قاله الضحاك. وقال الفراء : سجودهما أنهما يستقبلان الشمس إذا طلعت ثم يميلان معها حتى ينكسر الفيء. وقال الزجاج : سجودهما دوران الظل معهما ، كما قال تعالى : {يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ} وقال الحسن ومجاهد : النجم نجم السماء ، وسجوده في قول مجاهد دوران ظله ، وهو اختيار الطبري ، حكاه المهدوي. وقيل : سجود النجم أفوله ، وسجود الشجر إمكان الاجتناء لثمرها ، حكاه الماوردي. وقيل : إن جميع ذلك مسخر لله ، فلا تعبدوا النجم كما عبد قوم من الصابئين النجوم ، وعبد كثير من العجم الشجر. والسجود الخضوع ، والمعني به آثار الحدوث ، حكاه القشيري. النحاس : أصل السجود في اللغة الاستسلام والانقياد لله عز وجل ، فهو من الموات كلها استسلامها لأمر الله عز وجل وانقيادها له ، ومن الحيوان كذلك ويكون من سجود الصلاة ، وأنشد محمد بن يزيد في النجم بمعنى النجوم قال :
فباتت تعد النجم في مستحيرة ... سريع بأيدي الآكلين جمودها
قوله تعالى : {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا} وقرأ أبو السمال {وَالسَّمَاءَ} بالرفع على الابتداء واختيار ذلك لما عطف على الجملة التي هي : {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} فجعل المعطوف مركبا من مبتدأ وخبر كالمعطوف عليه. الباقون بالنصب على إضمار فعل يدل عليه ما بعده. {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} أي العدل ، عن مجاهد وقتادة والسدي ، أي وضع في الأرض العدل الذي أمر به ، يقال. : وضع الله الشريعة. ووضع فلان كذا أي ألقاه ، وقيل : على هذا الميزان القرآن ، لأن فيه بيان ما يحتاج إليه وهو قول الحسين بن الفضل. وقال الحسن وقتادة - أيضا - والضحاك : هو الميزان ذو اللسان الذي يوزن به لينتصف به الناس بعضهم من بعض ، وهو خبر بمعنى الأمر بالعدل ، يدل عليه قوله تعالى : {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} والقسط العدل. وقيل : هو الحكم. وقيل : أراد وضع الميزان في الآخرة لوزن الأعمال. وأصل ميزان موزان وقد مضى في {الأعراف} القول فيه. {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} موضع {أن} يجوز أن يكون نصبا
(17/154)
على تقدير حذف حرف الجر كأنه قال : لئلا تطغوا ، كقوله تعالى : {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} ويجوز ألا يكون لـ {أن} موضع من الإعراب فتكون بمعنى أي و {تَطْغَوْا} على هذا التقدير مجزوما ، كقوله تعالى : {وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} أي امشوا. والطغيان مجاوزة الحد. فمن قال : الميزان العدل قال طغيانه الجور. ومن قال : إنه الميزان الذي يوزن به قال طغيانه البخس. قال ابن عباس : أي لا تخونوا من وزنتم له. وعنه أنه قال : يا معشر الموالي! وليتم أمرين بهما هلك الناس : المكيال والميزان. ومن قال إنه الحكم قال : طغيانه التحريف. وقيل : فيه إضمار ، أي وضع الميزان وأمركم ألا تطغوا فيه. {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} أي افعلوه مستقيما بالعدل. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه : أقيموا لسان الميزان بالقسط والعدل. وقال ابن عيينة : الإقامة باليد والقسط بالقلب. وقال مجاهد : القسط العدل بالرومية. وقيل : هو كقولك أقام الصلاة أي أتى بها في وقتها ، وأقام الناس أسواقهم أي أتوها لوقتها. أي لا تدعوا التعامل بالوزن بالعدل. {وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} ولا تنقصوا الميزان ولا تبخسوا الكيل والوزن ، وهذا كقوله : {وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} وقال قتادة في هذه الآية : آعدل يا ابن آدم كما تحب أن يعدل لك ، وأوف كما تحب أن يوفى لك ، فإن العدل صلاح الناس. وقيل : المعنى ولا تخسروا ميزان حسناتكم يوم القيامة فيكون ذلك حسرة عليكم. وكرر الميزان لحال رؤوس الآي. وقيل : التكرير للأمر بإيفاء الوزن ورعاية العدل فيه. وقراءة العامة {تُخْسِرُوا} بضم التاء وكسر السين. وقرأ بلال بن أبي بردة وأبان عن عثمان {تَخْسِرُوا} بفتح التاء والسين وهما لغتان ، يقال : أخسرت الميزان وخسرته كأجبرته وجبرته. وقيل : {تَخْسِرُوا} بفتح التاء والسين محمول على تقدير حذف حرف الجر ، والمعنى ولا تخسروا في الميزان. {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} الأنام الناس ، عن ابن عباس. الحسن : الجن والإنس. الضحاك : كل ما دب على وجه الأرض ، وهذا عام.
قوله تعالى : {فِيهَا فَاكِهَةٌ} أي كل
(17/155)
ما يتفكه به الإنسان من ألوان الثمار. {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ} الأكمام جمع كم بالكسر. قال الجوهري : والكمة بالكسر والكمامة وعاء الطلع وغطاء النور والجمع كمام وأكمة وأكمام والأكاميم أيضا. وكم الفصيل إذا أشفق عليه فستر حتى يقوى ، قال العجاج :
بل لو شهدت الناس إذ تكموا ... بغمة لو لم تفرج غموا
وتكموا أي أغمي عليهم وغطوا. وأكمت النخلة وكممت أي أخرجت أكمامها. والكمام بالكسر والكمامة أيضا ما يكم به فم البعير لئلا يعض ، تقول منه : بعير مكموم أي محجوم. وكممت الشيء غطيته. والكم ما ستر شيئا وغطاه ، ومنه كم القميص بالضم والجمع أكمام وكممة ، مثل حب وحببة. والكمة القلنسوة المدورة ، لأنها تغطي الرأس. قال :
فقلت لهم كيلو بكمة بعضكم ... دراهمكم إني كذلك أكيل
قال الحسن : {ذَاتُ الأَكْمَامِ} أي ذات الليف فإن النخلة قد تكمم بالليف ، وكمامها ليفها الذي في أعناقها. ابن زيد : ذات الطلع قبل أن يتفتق. وقال عكرمة : ذات الأحمال. {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} الحب الحنطة والشعير ونحوهما ، والعصف التبن ، عن الحسن وغيره. مجاهد : ورق الشجر والزرع. ابن عباس : تبن الزرع وورقه الذي تعصفه الرياح. سعيد بن جبير : بقل الزرع أي أول ما ينبت منه ، وقاله الفراء. والعرب تقول : خرجنا نعصف ، الزرع إذا قطعوا منه قبل أن يدرك. وكذا في الصحاح : وعصفت الزرع أي جززته قبل أن يدرك. وعن ابن عباس أيضا : العصف ورق الزرع الأخضر إذا قطع رؤوسه ويبس ، نظيره : {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} الجوهري : وقد أعصف الزرع ، ومكان معصف أي كثير الزرع. قال أبو قيس بن الأسلت الأنصاري :
إذا جمادى منعت قطرها ... زان جنابي عطن معصف
(17/156)
والعصف أيضا الكسب ، ومنه قول الراجز :
بغير ما عصف ولا اصطراف
وكذلك الاعتصاف. والعصيفة الورق المجتمع الذي يكون فيه السنبل. وقال الهروي : والعصف والعصيفة ورق السنبل. وحكى الثعلبي : وقال ابن السكيت تقول العرب لورق الزرع العصف والعصيفة والجل بكسر الجيم. قال علقمة بن عبدة :
تسقي مذانب قد مالت عصيفتها ... حدورها من أتى الماء مطموم
وفي "الصحاح" : والجل بالكسر قصب الزرع إذا حصد. والريحان الرزق ، عن ابن عباس ومجاهد. الضحاك : هي لغة حمير. وعن ابن عباس أيضا والضحاك وقتادة : أنه الريحان الذي يشم ، وقاله ابن زيد. وعن ابن عباس أيضا : أنه خضرة الزرع. وقال سعيد بن جبير : هو ما قام على ساق. وقال الفراء : العصف المأكول من الزرع ، والريحان ما لا يؤكل. وقال الكلبي : إن العصف الورق الذي لا يؤكل ، والريحان هو الحب المأكول. وقيل : الريحان كل بقلة طيبة الريح سميت ريحانا ، لأن الإنسان يراح لها رائحة طيبة. أي يشم فهو فعلان روحان من الرائحة ، وأصل الياء في الكلمة واو قلب ياء للفرق بينه وبين الروحاني وهو كل شيء له روح. قال ابن الأعرابي : يقال شيء روحاني وريحاني أي له روح. ويجوز أن يكون على وزن فيعلان فأصله ريوحان فأبدل من الواو ياء وأدغم كهين ولين ، ثم ألزم التخفيف لطول ولحاق الزائدتين الألف والنون ، والأصل فيما يتركب من الراء والواو والحاء الاهتزاز والحركة. وفي "الصحاح" : والريحان نبت معروف ، والريحان الرزق ، تقول : خرجت أبتغي ريحان الله ، قال النمر بن تولب :
سلام الإله وريحانه ... ورحمته وسماء درر
وفي الحديث : "الولد من ريحان الله" وقولهم : سبحان الله وريحانه ، نصبوهما على المصدر يريدون تنزيها له واسترزاقا. وأما قوله : {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} فالعصف
(17/157)
ساق الزرع ، والريحان ورقه ، عن الفراء. وقراءة العامة {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} بالرفع فيها كلها على العطف على الفاكهة. ونصبها كلها ابن عامر وأبو حيوة والمغيرة عطفا على الأرض. وقيل : بإضمار فعل ، أي وخلق الحب ذا العصف والريحان ، فمن هذا الوجه يحسن الوقف على {ذَاتُ الأَكْمَامِ}. وجر حمزة والكسائي {َالرَّيْحَانُ} عطفا على العصف ، أي فيها الحب ذو العصف والريحان ، ولا يمتنع ذلك على قول من جعل الريحان الرزق ، فيكون كأنه قال : والحب ذو الرزق. والرزق من حيث كان العصف رزقا ، لأن العصف رزق للبهائم ، والريحان رزق للناس ، ولا شبهة فيه في قول من قال إنه الريحان المشموم.
قوله تعالى : {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} خطاب للإنس والجن ، لأن الأنام واقع عليهما. وهذا قول الجمهور ، يدل عليه حديث جابر المذكور أول السورة ، وخرجه الترمذي وفيه " للجن أحسن منكم ردا". وقيل : لما قال : {خَلَقَ الْأِنْسَانَ} {وَخَلَقَ الْجَانَّ} دل ذلك على أن ما تقدم وما تأخر لهما. وأيضا قال : {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} خطاب للإنس والجن وقد قال في هذه السورة : {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ}. الجرجاني : خاطب الجن مع الإنس وإن لم يتقدم للجن ذكر ، كقوله تعالى : {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ}. وقد سبق ذكر الجن فيما سبق نزوله من القران ، والقران كالسورة الواحدة ، فإذا ثبت أنهم مكلفون كالإنس خوطب الجنسان بهذه الآيات. وقيل : الخطاب للإنس على عادة العرب في الخطاب للواحد بلفظ التثنية ، حسب ما تقدم من القول في {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} وكذلك قوله :
قفا نبك...
وخليلي مرا بي...
(17/158)
فأما ما بعد {خَلَقَ الأِنْسَانَ} {وَخَلَقَ الْجَانَّ} فإنه خطاب للإنس والجن ، والصحيح قول الجمهور لقوله تعالى : {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} والآلاء النعم ، وهو قول جميع المفسرين ، واحدها إلى وألى مثل معى وعصا ، وإلي وألي أربع لغات حكاها النحاس قال : وفي واحد {اناء الليل} ثلاث تسقط منها المفتوحة الألف المسكنة اللام ، وقد مضى في {الأعراف} و{النجم}. وقال ابن زيد : إنها القدرة ، وتقدير الكلام فبأي قدرة ربكما تكذبان ، وقاله الكلبي واختاره الترمذي محمد بن علي ، وقال : هذه السورة من بين السور علم القرآن ، والعلم إمام الجند والجند تتبعه ، وإنما صارت علما لأنها سورة صفة الملك والقدرة ، فقال : {الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ} فافتتح السورة باسم الرحمن من بين الأسماء ليعلم العباد أن جميع ما يصفه بعد هذا من أفعاله ومن ملكه وقدرته خرج إليهم من الرحمة العظمى من رحمانيته فقال : {الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ} ثم ذكر الإنسان فقال : {خَلَقَ الأِنْسَانَ} ثم ذكر ما صنع به وما من عليه به ، ثم ذكر حسبان الشمس والقمر وسجود الأشياء مما نجم وشجر ، وذكر رفع السماء ووضع الميزان وهو العدل ، ووضع الأرض للأنام ، فخاطب هذبن الثقلين الجن والإنس حين رأوا ما خرج من القدرة والملك برحمانيته التي رحمهم بها من غير منفعة ولا حاجة إلى ذلك ، فأشركوا به الأوثان وكل معبود اتخذوه من دونه ، وجحدوا الرحمة التي خرجت هذه الأشياء بها إليهم ، فقال سائلا لهم : {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي بأي قدرة ربكما تكذبان ، فإنما كان تكذيبهم أنهم جعلوا له في هذه الأشياء التي خرجت من ملكه وقدرته شريكا يملك معه يقدر معه ، فذلك تكذيبهم. ثم ذكر خلق الإنسان من صلصال ، وذكر خلق الجان من مارج من نار ، ثم سألهم فقال : {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي بأي قدرة ربكما تكذبان ، فإن له في كل خلق بعد خلق قدرة بعد قدرة ، فالتكرير في هذه الآيات للتأكيد والمبالغة في التقرير ، واتخاذ الحجة عليهم بما وقفهم على خلق خلق. وقال القتبي : إن الله تعالى عدد في هذه السورة نعماءه ، وذكر خلقه آلاءه ، ثم أتبع
(17/159)
كل ، خلة وصفها ونعمة وضعها بهذه وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقررهم بها ، كما تقول لمن تتابع فيه إحسانك وهو يكفره ومنكره : ألم تكن فقيرا فأغنيتك أفتنكر هذا ؟ ! ألم تكن خاملا فعززتك أفتنكر هذا ؟ ! ألم تكن صرورة فحججت بك أفتنكر هذا! ؟ ألم تكن راجلا فحملتك أفتنكر هذا ؟ ! والتكرير حسن في مثل هذا. قال :
كم نعمة كانت لكم كم كم وكم
وقال آخر :
لا تقتلي مسلما إن كنت مسلمة ... إياك من دمه إياك إياك
وقال آخر :
لا تقطعن الصديق ما طرفت ... عيناك من قول كاشح أش
ولا تملن من زيارته زره ... وزره وزر وزر وزر
وقال الحسين بن الفضل : التكرير طردا للغفلة ، وتأكيدا للحجة.
الآية : [14] {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}
الآية : [15] {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}
الآية : [16] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
الآية : [17] {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ}
الآية : [18] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
قوله تعالى : {خَلَقَ الْأِنْسَانَ} لما ذكر سبحانه خلق العالم الكبير من السماء والأرض ، وما فيهما من الدلالات على وحدانيته وقدرته ذكر خلق العالم الصغير فقال : {خَلَقَ الْأِنْسَانَ} باتفاق من أهل التأويل يعني آدم. {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} الصلصال الطين اليابس الذي يسمع له صلصلة ، شبهه بالفخار الذي طبخ. وقيل : هو طين خلط برمل. وقيل : هو الطين المنتن من صل اللحم وأصل إذا أنتن ، وقد مضى في {الحجر} وقال هنا : {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} وقال هناك : { مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} وقال : {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ
(17/160)
لازِبٍ}. وقال : {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} وذلك متفق المعنى ، وذلك أنه أخذ من تراب الأرض فعجنه فصار طينا ، ثم انتقل فصار كالحمأ المسنون ، ثم انتقل فصار صلصالا كالفخار. {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} قال الحسن : الجان إبليس وهو أبو الجن. وقيل : الجان واحد الجن ، والمارج الهب ، عن ابن عباس ، وقال : خلق الله الجان من خالص النار. وعنه أيضا من لسانها الذي يكون في طرفها إذا التهبت. وقال الليث : المارج الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد. وعن ابن عباس أنه اللهب الذي يعلو النار فيختلط بعضه ببعض أحمر وأصفر وأخضر ، ونحوه عن مجاهد ، وكله متقارب المعنى. وقيل : المارج كل أمر مرسل غير ممنوع ، ونحوه قول المبرد ، قال المبرد : المارج النار المرسلة التي لا تمنع. وقال أبو عبيدة والحسن : المارج خلط النار ، وأصله من مرج إذا أضطرب واختلط ، ويروى أن الله تعالى خلق نارين فمرج إحداهما بالأخرى ، فأكلت إحداهما الأخرى وهي نار السموم فخلق منها إبليس. قال القشيري والمارج في اللغة المرسل أو المختلط وهو فاعل بمعنى مفعول ، كقوله : {مَاءٍ دَافِقٍ} و {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} والمعنى ذو مرج ، قال الجوهري في الصحاح : و {مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} نار لا دخان لها خلق منها الجان. {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} أي هو رب المشرقين. وفي الصافات {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} وقد مضى الكلام في ذلك هنالك.
الآية : [19] {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ}
الآية : [20] {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ}
الآية : [21] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
الآية : [22 ] {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ}
الآية : [23] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
(17/161)
قوله تعالى : {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ. بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} {مَرَجَ} أي خلى وأرسل وأهمل ، يقال : مرج السلطان الناس إذا أهملهم. وأصل المرج الإهمال كما تمرج الدابة في المرعى. ويقال : مرج خلط. وقال الأخفش : ويقول قوم أمرج البحرين مثل مرج ، فعل وأفعل بمعنى. {الْبَحْرَيْنِ} قال ابن عباس : بحر السماء وبحر الأرض ، وقال مجاهد وسعيد بن جبير. {يَلْتَقِيَانِ} في كل عام. وقيل : يلتقي طرفاهما. وقال الحسن ، وقتادة : بحر فارس والروم. وقال ابن جريج : إنه البحر المالح والأنهار العذبة. وقيل : بحر المشرق والمغرب يلتقي طرفاهما. وقيل : بحر اللؤلؤ والمرجان. {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} أي حاجز فعلى القول الأول ما بين السماء والأرض ، قاله الضحاك. وعلى القول الثاني الأرض التي بينهما وهي الحجاز ، قاله الحسن وقتادة. وعلى غيرهما من الأقوال القدرة الإلهية على ما تقدم في {الفرقان}. وفي الخبر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن الله تعالى كلم الناحية الغربية فقال : إني جاعل فيك عبادا لي يسبحوني ويكبروني ويهللوني ويمجدوني فكيف أنت لهم ؟ فقالت : أغرقهم يا رب. قال : إني أحملهم على يدي ، وأجعل بأسك في نواحيك. ثم كلم الناحية الشرقية فقال : إني جاعل فيك عبادا يسبحوني ويكبروني ويهللوني ويمجدوني فكيف أنت لهم ؟ قالت : أسبحك معهم إذا سبحوك ، وأكبرك معهم إذا كبروك ، وأهللك معهم إذا هللوك ، وأمجدك معهم إذا مجدوك ، فأثابها الله الحلية وجعل بينهما برزخا ، وتحول أحدهما ملحا أجاجا ، وبقي الآخر على حالته عذبا فراتا" ذكر هذا الخبر الترمذي الحكيم أبو عبدالله قال : حدثنا صالح بن محمد ، حدثنا القاسم العمري عن سهل عن أبيه عن أبي هريرة : {لا يَبْغِيَانِ} قال قتادة : لا يبغيان على الناس فيغرقانهم ، جعل بينهما وبين الناس يبسأ. وعنه أيضا ومجاهد : لا يبغي أحدهما على صاحبه فيغلبه. ابن زيد : المعنى {لا يَبْغِيَانِ} أن يلتقيا ، وتقدير الكلام : مرج البحرين يلتقيان ، لولا البرزخ الذي بينهما لا يبغيان أن يلتقيا. وقيل : البرزخ ما بين الدنيا والآخرة ، أي بينهما مدة قدرها الله وهي مدة الدنيا فهما لا يبغيان ، فإذا أذن الله في أنقضاء الدنيا صار البحران
(17/162)
شيا واحدا ، وهو كقوله وتعالى : {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ}. وقال سهل بن عبدالله : البحران طريق الخير والشر ، والبرزخ الذي بينهما التوفيق والعصمة.
قوله تعالى : {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} أي يخرج لكم من الماء اللؤلؤ والمرجان ، كما يخرج من التراب الحب والعصف والريحان. وقرأ نافع وأبو عمر {يَخْرُجُ} بضم الياء وفتح الراء على الفعل المجهول. الباقون {يَخْرُجُ} بفتح الياء وضم الراء على أن اللؤلؤ هو الفاعل. وقال : {مِنْهُمَا} وإنما يخرج من الملح لا العذب لأن العرب تجمع الجنسين ثم تخبر عن أحدهما ، كقوله تعالى : {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} وإنما الرسل من الإنس دون الجن ، قال الكلبي وغيره. قال الزجاج : قد ذكرهما الله فإذا خرج من أحدهما شيء فقد خرج منهما ، وهو كقوله تعالى : {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} والقمر في سماء الدنيا ولكن أجمل ذكر السبع فكأن ما في إحداهن فيهن. وقال أبو علي الفارسي : هذا من باب حذف المضاف ، أي من أحداهما ، كقوله : {رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} أي من إحدى القريتين. وقال الأخفش سعيد : زعم قوم أنه يخرج اللؤلؤ من العذب. وقيل : هما بحران يخرج من أحدهما اللؤلؤ ومن الآخر المرجان. ابن عباس : هما بحرا السماء والأرض. فإذا وقع ماء السماء في صدف البحر انعقد لؤلؤا فصار خارجا منهما ، وقاله الطبري. قال الثعلبي : ولقد ذكر لي أن نواة كانت في جوف صدفة ، فأصابت القطرة بعض النواة ولم تصب البعض ، فكان حيث أصاب القطرة من النواة لؤلؤة وسائرها نواة. وقيل : إن العذب والملح قد يلتقيان ، فيكون العذب كاللقاح للملح ، فنسب إليهما كما ينسب الولد إلى الذكر والأنثى وإن ولدته الأنثى ، لذلك قيل : إنه لا يخرج اللؤلؤ إلا من وضع يلتقي فيه العذب والملح. وقيل : المرجان عظام اللؤلؤ وكباره ، قال علي وابن عباس رضي الله عنهما. واللؤلؤ صغاره. وعنهما أيضا بالعكس : إن اللؤلؤ كبار اللؤلؤ والمرجان صغاره ، وقاله الضحاك وقتادة. وقال ابن مسعود وابو مالك : المرجان الخرز الأحمر.
(17/163)
الآية : [24] {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ}
الآية : [25] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
قوله تعالى : {وَلَهُ الْجَوَارِ} يعني السفن. {الْمُنْشَآتُ} قراءة العامة {الْمُنْشَآتُ} بفتح الشين ، قال قتادة : أي المخلوقات للجري مأخوذ من الإنشاء. وقال مجاهد : هي السفن التي رفع قلعها ، قال : وإذا لم يرفع قلعها فليست بمنشآت. وقال الأخفش : إنها المجريات. وفي الحديث : أن عليا رضي الله عنه رأى سفنا مقلعة ، فقال : ورب هذه الجواري المنشآت ما قتلت عثمان ولا مالأت في قتله. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم باختلاف عنه {الْمُنْشَآتُ} بكسر الشين أي المنشئات السير ، أضيف الفعل إليها على التجوز والاتساع. وقيل : الرافعات الشرع أي القلع. ومن فتح الشين قال : المرفوعات الشرع. {كَالأَعْلامِ} أي كالجبال ، والعلم الجبل الطويل ، قال :
إذا قطن علما بدا علم
فالسفن في البحر كالجبال في البر ، وقد مضى في {الشورى} بيانه. وقرأ يعقوب {الْجَوَاريِ} بياء في الوقف ، وحذف الباقون.
الآية : [26] {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}
الآية : [27] {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ}
الآية : [28] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
قوله تعالى : {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} الضمير في {عَلَيْهَا} للأرض ، وقد جرى ذكرها في أول السورة في قوله تعالى : {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ} وقد يقال : هو أكرم من عليها
(17/164)
يعنون الأرض وإن لم يجر لها ذكر. وقال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة هلك أهل الأرض فنزلت : {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} فأيقنت الملائكة بالهلاك ، وقاله مقاتل. ووجه النعمة في فناء الخلق التسوية بينهم في الموت ، ومع الموت تستوي الأقدام. وقيل : وجه النعمة أن الموت سبب النقل إلى دار الجزاء والثواب. {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} أي ويبقى الله ، فالوجه عبارة عن وجوده وذاته سبحانه ، قال الشاعر :
قضى على خلقه المنايا ... فكل شيء سواه فاني
وهذا الذي ارتضاه المحققون من علمائنا : ابن فورك وأبو المعالي وغيرهم. وقال ابن عباس : الوجه عبارة عنه كما قال : {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} وقال أبو المعالي : وأما الوجه فالمراد به عند معظم أئمتنا وجود الباري تعالى ، وهو الذي ارتضاه شيخنا. ومن الدليل على ذلك قوله تعالى : {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} والموصوف بالبقاء عند تعرض الخلق للفناء وجود الباري تعالى. وقد مضى في {البقرة} القول في هذا عند قوله تعالى : {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وقد ذكرناه في الكتاب الأسنى مستوفى. قال القشيري : قال قوم هو صفة زائدة على الذات لا تكيف ، يحصل بها الإقبال على من أراد الرب تخصيصه بالإكرام. والصحيح أن يقال : وجهه وجوده وذاته ، يقال : هذا وجه الأم ووجه الصواب وعين الصواب. وقيل : أي يبقى الظاهر بأدلته كظهور الإنسان بوجهه. وقيل : وتبقى الجهة التي يتقرب بها إلى الله. {ذُو الْجَلالِ} الجلال عظمة الله وكبرياؤه واستحقاقه صفات المدح ، يقال : جل الشيء أي عظم وأجللته أي عظمته ، والجلال اسم من جل. {وَالْأِكْرَامِ} أي هو أهل لأن يكرم عما لا يليق به من الشرك ، كما تقول : أنا أكرمك عن هذا ، ومنه إكرام الأنبياء والأولياء. وقد أتينا على هذين الاسمين لغة ومعنى في الكتاب الأسنى مستوفى. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ألظوا بـ "يا ذا الجلال والإكرام". وروي أنه من قول ابن مسعود ، ومعناه : الزموا ذلك في الدعاء. قال أبو عبيد :
(17/165)
الإلظاظ لزوم الشيء والمثابرة عليه. ويقال : الإلظاظ الإلحاح. وعن سعيد المقبري. أن رجلا ألح فجعل يقول : اللهم يا ذا الجلال والإكرام! اللهم يا ذا الجلال والإكرام! فنودي : إني قد سمعت فما حاجتك ؟
الآية : [29] {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}
الآية : [30] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
قوله تعالى : {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} قيل : المعنى يسأله من في السماوات الرحمة ، ومن في الأرض الرزق. وقال ابن عباس وأبو صالح : أهل السماوات يسألونه المغفرة ولا يسألونه الرزق ، وأهل الأرض يسألونهما جميعا. وقال ابن جريج : وتسأل الملائكة الرزق لأهل الأرض ، فكانت المسألتان جميعا من أهل السماء وأهل الأرض لأهل الأرض. وفي الحديث : "إن الملائكة ملكا له أربعة أوجه وجه كوجه الإنسان وهو يسأل الله الرزق لبني آدم ووجه كوجه الأسد وهو يسأل الله الرزق للسباع ووجه كوجه الثور وهو يسأل الله الرزق للبهائم ووجه كوجه النسر وهو يسأل الله الرزق للطير". وقال ابن عطاء : إنهم سألوه القوة على العبادة. {كل يوم هو في شأن} هذا {كل يوم هو في شأن} كلام مبتدأ. وأنتصب {يَوْمٍ هُوَ} ظرفا ، لقوله : {فِي شَأْنٍ} أو ظرفا للسؤال ، ثم يبتدئ {هُوَ فِي شَأْنٍ}. وروى أبو الدرداء رضي الله عنه عل النبي صلى الله عليه وسلم قال : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} قال : من شأنه أن يغفر ذنبا ومفرج كربا ويرفع قوما ويضع أخرين". وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل : {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} قال : "يغفر ذنبا ويكشف كربا ويجيب داعيا". وقيل : من شأنه أن يحي ويميت ، ويعز ويزل ، ويرزق ويمنع. وقيل : أراد شأنه في يومي الدنيا والآخرة. قال ابن بحر : الدهر كله يومان ، أحدهما مدة أيام الدنيا ، والآخر يوم القيامة ، فشأنه سبحانه وتعالى في أيام الدنيا الابتلاء والاختبار بالأمر والنهى والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع ، وشأنه يوم القيامة الجزاء والحساب ،
(17/166)
والثواب والعقاب. وقيل : المراد بذلك الإخبار عن شأنه في كل يوم من أيام الدنيا وهو الظاهر. والشأن في اللغة الخطب العظيم والجمع الشؤون والمراد بالشأن ها هنا الجمع كقوله تعالى : {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} وقال الكلبي : شانه سوق المقادير إلى المواقيت. وقال عمرو بن ميمون في قوله تعالى : {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} من شأنه أن يميت حيا ، ويقر في الأرحام ما شاء ، ومعز ذليلا ، ويذل عزيزا. وسأل بعض الأمراء وزيره عن قوله تعالى : {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فلم يعرف معناها ، واستمهله إلى الغد فانصرف كئيبا إلى منزل فقال له غلام له أسود : ما شأنك ؟ فأخبره. فقال له : عد إلى الأمير فإني أفسرها له ، فدعاه فقال : أيها الأمير! شأنه أن يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، ويخرج الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي ، ويشفي سقيما ، ويسقم سليما ، ويبتلي معافى ، وحافي مبتلى ، ويعز ذليلا ويذل عزيزا ، ويفقر غنيا ويغني فقيرا ، فقال له : فرجة - عني فرج الله عنك ، ثم أمر بخلع ثياب الوزير وكساها الغلام ، فقال : يا مولاي! هذا من شأن الله تعالى. وعن عبدالله بن طاهر : أنه دعا الحسين بن الفضل وقل له : أشكلت علي ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي : قوله تعالى : {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} وقد صح أن الندم توبة. وقول : {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة. وقول : {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} فما بال الأضعاف ؟ فقال الحسين : يجوز ألا يكون الندم توبة في تلك الأمة ، ويكون توبة في هذه الأمة ، لأن الله تعالى خص هذه الأمة بخصائص لم تشاركهم فيها الأمم. وقيل : إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ولكن على حمله. وأما قوله : {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها. وأما قوله : {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} فمعناه : ليس له إلا ما سعى عدلا ولي أن أجزيه بواحدة ألفا فضلا. فقام عبدا. وقبل رأسه وسوغ خراجه.
(17/167)