المجلد السابع عشر
سورة القمر
مكية كلها في قول الجمهور. وقال مقاتل : إلا ثلاث آيات : {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} ولا يصح على ما يأتي. وهي خمس وخمسون آية.
الآية : 1 - 8 {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ}
قوله تعالى : {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} {اقْتَرَبَتِ} أي قربت مثل {أَزِفَتِ الآزِفَةُ} [النجم : 57] على ما بيناه. فهي بالإضافة إلى ما مضى قريبة ؛ لأنه قد مضى أكثر الدنيا كما روى قتادة عن أنس قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كادت الشمس تغيب فقال : "ما بقي من دنياكم فيما مضى إلا مثل ما بقي من هذا اليوم فيما مضى" وما نرى من الشمس إلا يسيرا. وقال كعب ووهب : الدنيا ستة آلاف سنة. قال وهب : قد مضى منها خمسة آلاف سنة وستمائة سنة. ذكره النحاس.
قوله تعالى : {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} أي وقد انشق القمر. وكذا قرأ حذيفة {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَقَد انْشَقَّ الْقَمَرُ} بزيادة {قَد} وعلى هذا الجمهور من العلماء ؛ ثبت ذلك في صحيح
(17/125)
البخاري وغيره من حديث ابن مسعود وابن عمر وأنس وجبير بن مطعم وابن عباس رضي الله عنهم. وعن أنس قال : سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية ، فانشق القمر بمكة مرتين فنزلت : {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} إلى قوله : {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} يقول ذاهب قال أبو عيسى الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. ولفظ البخاري عن أنسى قال : انشق القمر فرقتين. وقال قوم : لم يقع انشقاق القمر بعد وهو منتظر ؛ أي اقترب قيام الساعة وانشقاق القمر ؛ وأن الساعة إذا قامت انشقت السماء بما فيها من القمر وغيره. وكذا قال القشيري. وذكر الماوردي : أن هذا قول الجمهور ، وقال : لأنه إذا انشق ما بقي أحد إلا رآه ؛ لأنه آية والناس في الآيات سواء. وقال الحسن : اقتربت الساعة فإذا جاءت انشق القمر بعد النفخة الثانية. وقيل : {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} أي وضح الأمر وظهر ؛ والعرب تضرب بالقمر مثلا فيما وضح ؛ قال :
أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى حي سواكم لأميل
فقد حمت الحاجات والليل مقمر ... وشدت لطيات مطايا وأرحل
وقيل : انشقاق القمر هو انشقاق الظلمة عنه بطلوعه في أثنائها ، كما يسمى الصبح فلقا ؛ لانفلاق الظلمة عنه. وقد يعبر عن انفلاقه بانشقاقه كما قال النابغة :
فلما أدبروا ولهم دوي ... دعانا عند شق الصبح داع
قلت : وقد ثبت بنقل الأحاد العدول أن القمر انشق بمكة ، وهو ظاهر التنزيل ، ولا يلزم أن يستوي الناس فيها ؛ لأنها كانت آية ليلية ؛ وأنها كانت باستدعاء النبي صلى الله عليه وسلم من الله تعالى عند التحدي. فروي أن حمزة بن عبدالمطلب حين أسلم غضبا من سب أبي جهل الرسول صلى الله عليه وسلم طلب أن يريه آية يزداد بها يقينا في إيمانه. وقد تقدم في الصحيح أن أهل مكة هم الذين سألوا وطلبوا أن يريهم آية ، فأراهم انشقاق القمر فلقتين كما في حديث ابن مسعود وغيره. وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال : ألا إن الساعة قد اقتربت ، وأن القمر قد انشق على عهد نبيكم صلى الله عليه وسلم. وقد قيل : هو على
(17/126)
التقديم والتأخير ، وتقديره انشق القمر واقتربت الساعة ؛ قاله ابن كيسان. وقد مر عن الفراء أن الفعلين إذا كانا متقاربي المعنى فلك أن تقدم وتؤخر عند قوله تعالى : {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم : 8].
قوله تعالى : {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} هذا يدل على أنهم رأوا انشقاق القمر. قال ابن عباس : اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : إن كنت صادقا فاشقق لنا القمر فرقتين ، نصف على أبي قبيس ونصف على قعيقعان ؛ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن فعلت تؤمنون" قالوا : نعم ؟ وكانت ليلة بدر ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يعطيه ما قالوا ؛ فانشق القمر فرقتين ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي المشركين : "يا فلان يا فلان اشهدوا". وفي حديث ابن مسعود : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت قريش : هذا من سحر بن أبي كبشة ؛ سحركم فاسألوا السفار ؛ فسألوهم فقالوا : قد رأينا القمر انشق فنزلت : {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} أي إن يروا آية تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم أعرضوا عن الإيمان {وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} أي ذاهب ؛ من قولهم : مر الشيء واستمر إذا ذهب ؛ قال أنس وقتادة ومجاهد والفراء والكسائي وأبو عبيدة ، واختاره النحاس. وقال أبو العالية والضحاك : محكم قوي شديد ، وهو من المرة وهي القوة ؛ كما قال لقيط :
حتى استمرت على شزر مريرته ... مر العزيمة لا قحما ولا ضرعا
وقال الأخفش : هو مأخوذ من إمرار الحبل وهو شدة فتله. وقيل : معناه مر من المرارة. يقال : أمر الشيء صار مرا ، وكذلك مر الشيء يمر بالفتح مرارة فهو مر ، وأمره غيره ومره. وقال الربيع : مستمر نافذ. يمان : ماض. أبو عبيدة : باطل. وقيل : دائم. قال :
وليس على شيء قويم بمستمر
(17/127)
أي بدائم. وقيل : يشبه بعضه بعضا ؛ أي قد استمرت أفعال محمد على هذا الوجه فلا. يأتي بشيء له حقيقة بل الجميع تخييلات. وقيل : معناه قد مر من الأرض إلى السماء .{وَكَذَّبُوا} نبينا {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} أي ضلالاتهم واختياراتهم .{وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} أي يستقر بكل عامل عمله ، فالخير مستقر بأهله في الجنة ، والشر مستقر بأهله في النار. وقرأ شيبة {مُسْتَقِرٌّ} بفتح القاف ؛ أي لكل شيء وقت يقع فيه من غير تقدم وتأخر. وقد روي عن أبي جعفر بن القعقاع .{وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} بكسر القاف والراء جعله نعتا لأمر و {كُلُّ} على هذا يجوز أن يرتفع بالابتداء والخبر محذوف ، كأنه قال : وكل أمر مستقر في أم الكتاب كائن. ويجوز أن يرتفع بالعطف على الساعة ؛ المعنى : اقتربت الساعة وكل أمر مستقر ؛ أي اقترب استقرار الأمور يوم القيامة. ومن رفعه جعله خبرا عن {كُلُّ}.
قوله تعالى : {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ} أي من بعض الأنباء ؛ فذكر سبحانه من ذلك ما علم أنهم يحتاجون إليه ، وأن لهم فيه شفاء. وقد كان هناك أمور أكثر من ذلك ، وإنما اقتص علينا ما علم أن بنا إليه حاجة وسكت عما سوى ذلك ؛ وذلك قوله تعالى : {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ} أي جاء هؤلاء الكفار من أنباء الأمم الخالية {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي ما يزجرهم عن الكفر لو قبلوه. وأصله مزتجر فقلبت التاء دالا ؛ لأن التاء حرف مهموس والزاي حرف مجهور ، فأبدل من التاء دالا توافقها في المخرج وتوافق الزاي في الجهر. و {مُزْدَجَرٌ} من الزجر وهو الانتهاء ، يقال : زجره وازدجره فانزجر وازدجر ، وزجرته أنا فانزجر أي كففته فكف ، كما قال :
فأصبح ما يطلب الغانيا ... ت مزدجرا عن هواه ازدجارا
وقرئ {مُزْدَجَرٌ} بقلب تاء الافتعال زايا وإدغام الزاي فيها ؛ حكاه الزمخشري.
قوله تعالى : {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} يعني القران وهو بدل من {مَا} من قوله : {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف ؛ أي هو حكمة .{فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ}
(17/128)
إذا كذبوا وخالفوا كما قال الله تعالى : {وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس : 101] فـ {مَا} نفي أي ليست تغني عنهم النذر. ويجوز أن يكون استفهاما بمعنى التوبيخ ؛ أي فأي شيء تغني ، النذر عنهم وهم معرضون عنها و {النُّذُرُ} يجوز أن تكون بمعنى الإنذار ، ويجوز أن تكون جمع نذير. {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أي أعرض عنهم. قيل : هذا منسوخ بآية السيف. وقيل : هو تمام الكلام. {يََوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} العامل في {يََوْمَ} {يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ} أو {خُشَّعاً} أو فعل مضمر تقديره واذكر يوم. وقيل : على حذف حرف الفاء وما عملت فيه من جواب الأمر ، تقديره : فتول عنهم فإن لهم يوم يدعو الداعي. وقيل : تول عنهم يا محمد فقد أقمت الحجة وأبصرهم يوم يدعو الداعي. وقيل : أي أعرض عنهم يوم القيامة ولا تسأل عنهم وعن أحوالهم ، فإنهم يدعون {إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} وينالهم عذاب شديد. وهو كما تقول : لا تسأل عما جرى على فلان إذا أخبرته بأمر عظيم. وقيل : أي وكل أمر مستقر يوم يدعوا الداعي. وقرأ ابن كثير {نُكْرٍ} بإسكان الكاف ، وضمها الباقون وهما لغتان كعسر وعسر وشغل وشغل ، ومعناه الأمر الفظيع العظيم وهو يوم القيامة. والداعي هو إسرافيل عليه السلام. وقد روي عن مجاهد وقتادة أنهما قرأ {إِلَى شَيْءٍ نُكِرٍ} بكسر الكاف وفتح الراء على الفعل المجهول. {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ} الخشوع في البصر الخضوع والذلة ، وأضاف الخشوع إلى الأبصار لأن أثر العز والذل يتبين في ناظر الإنسان ؛ قال الله تعالى : {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} [النازعات : 9] وقال تعالى : {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى : 45]. ويقال : خشع واختشع إذا ذل. وخشع ببصره أي غضه. وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو {خَاشِعاً} بالألف ويجوز في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد ، نحو : { خَاشِعاً أَبْصَارُهُمْ} والتأنيث نحو : {خَاشِعةًً أَبْصَارُهُمْ} [القلم : 43] ويجوز الجمع نحو : {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ} قال :
وشباب حسن أوجههم ... من إياد بن نزار بن معد
(17/129)
و {خُشَّعاً} جمع خاشع والنصب فيه على الحال من الهاء والميم في {عَنْهُمْ} فيقبح الوقف على هذا التقدير على {عَنْهُمْ} ويجوز أن يكون حالا من المضمر في {يَخْرُجُونَ} فيوقف على {عَنْهُمْ} وقرئ {خُشَّعٌ أَبْصَارُهُمْ} على الابتداء والخبر ، ومحل الجملة النصب على الحال ، كقوله :
وجدته حاضراه الجود والكرم
قوله تعالى : {يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ} أي القبور واحدها جدث. {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} وقال في موضع آخر : {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة : 4] فهما صفتان في وقتين مختلفين ؛ أحدهما : عند الخروج من القبور ، يخرجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون ، فيدخل بعضهم في بعض ؛ فهم حينئذ كالفراش المبثوث بعضه في بعض لا جهة له يقصدها الثاني : فإذا سمعوا المنادي قصدوه فصاروا كالجراد المنتشر ؛ لأن الجراد له جهة يقصدها. و{مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} معناه مسرعين ؛ قاله أبو عبيدة. ومنه قول الشاعر :
بدجلة دارهم ولقد أراهم ... بدجلة مهطعين إلى السماع
الضحاك : مقبلين. قتادة : عامدين. ابن عباس : ناظرين. عكرمة : فاتحين آذانهم إلى الصوت. والمعنى متقارب. يقال : هطع الرجل يهطع هطوعا إذا أقبل على الشيء ببصره لا يقلع عنه ؛ وأهطع إذا مد عنقه وصوب رأسه. قال الشاعر :
تعبدني نمر بن سعد وقد أرى ... ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع
وبعير مهطع : في عنقه تصويب خلقة. وأهطع في عدوه أي أسرع. {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} يعني يوم القيامة لما ينالهم فيه من الشدة.
(17/130)
الآية : 9 - 17 {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
قوله تعالى : {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} ذكر جملا من وقائع الأمم الماضية تأنيسا للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية له .{قَبْلَهُمْ} أي قبل قومك .{فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} يعني نوحا. الزمخشري : فإن قلت ما معنى قوله : {فَكَذَّبُوا} بعد قوله : {كَذَّبَتْ} ؟ قلت : معناه كذبوا فكذبوا عبدنا ؛ أي كذبوه تكذيبا على عقب تكذيب كلما مضى منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب ، أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا ؛ أي لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأسا كذبوا نوحا لأنه من جملة الرسل. {وَقَالُوا مَجْنُونٌ} أي هو مجنون {وَازْدُجِرَ} أي زجر عن دعوى النبوة بالسب والوعيد بالقتل. وقيل إنما قال : {وَازْدُجِرَ} بلفظ ما لم يسم فاعله لأنه رأس آية . {فَدَعَا رَبَّهُ} أي دعا عليهم حينئذ نوح فقال رب {أَنِّي مَغْلُوبٌ} أي غلبوني بتمردهم {فَانْتَصِرْ} أي فانتصر لي. وقيل : إن الأنبياء كانوا لا يدعون على قومهم بالهلاك إلا بإذن الله عز وجل لهم فيه. {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِر} أي فأجبنا دعاءه وأمرناه باتخاذ السفينة وفتحنا أبواب السماء {بِمَاءٍ مُنْهَمِر} أي كثير. ؛ قاله السدي. قال الشاعر :
أعيني جودا بالدموع الهوامر ... على خير باد من معد وحاضر
وقيل : إنه المنصب المتدفق ؛ ومنه قول امرئ القيس يصف غيثا :
(17/131)
راح تمريه الصبا ثم انتحى فيه شؤبوب جنوب منهمر
الهمر الصب ؛ وقد همر الماء والدمع يهمر همرا. وهمر أيضا إذا أكثر. الكلام وأسرع. وهمر له من ماله أي أعطاه. قال ابن عباس : ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر من غير سحاب لم يقلع أربعين يوما. وقرأ ابن عامر ويعقوب : {فَفَتَّحْنَا} مشددة على التكثير. الباقون {فَفَتَحْنَا} مخففا. ثم قيل ، : إنه فتح رتاجها وسعة مسالكها. وقيل : إنه المجرة وهي شرج السماء ومنها فتحت بماء منهمر ؛ قاله علي رضي الله عنه. {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً} قال عبيد بن عمير : أوحى الله إلى الأرض أن تخرج ماءها فتفجرت بالعيون ، وإن عينا تأخرت فغضب عليها فجعل ماءها مرا أجاجا إلى يوم القيامة. {فَالْتَقَى الْمَاءُ} أي ماء السماء وماء الأرض {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي على مقدار لم يزد أحدهما على الآخر ؛ حكاه ابن قتيبة. أي كان ماء السماء والأرض سواء. وقيل : {قُدِرَ} بمعنى قضي عليهم. قال قتادة : قدر لهم إذا كفروا أن يغرقوا. وقال محمد بن كعب : كانت الأقوات قبل الأجساد ، وكان القدر قبل البلاء ؛ وتلا هذه الآية. وقال : {التقى الماء} والالتقاء إنما يكون في اثنين فصاعدا ؛ لأن الماء يكون جمعا وواحدا. وقيل : لأنهما لما اجتمعا صارا ماء واحدا. وقرأ الجحدري : {فَالْتَقَى الْمَاءَانِ} وقرأ الحسن : {فَالْتَقَى الْمَاوَانِ} وهما خلاف المرسوم. القشيري : وفي بعض المصاحف {فَالْتَقَى الْمَاوَانِ} وهي لغة طيء. وقيل : كان ماء السماء باردا مثل الثلج وماء الأرض حارا مثل الحميم. {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ} أي على سفينة ذات ألواح. {وَدُسُرٍ} قال قتادة : يعني المسامير التي دسرت بها السفينة أي شدت ؛ وقال القرظي وابن زيد وابن جبير ورواه الوالبي عن ابن عباس. وقال الحسن وشهر بن حوشب وعكرمة : هي صدر السفينة التي تضرب بها الموج سميت بذلك لأنها تدسر الماء أي تدفعه ، والدسر الدفع والمخر ؛ ورواه العوفي عن ابن عباس قال : الدسر كلكل السفينة.
(17/132)
وقال الليث : الدسار خيط من ليف تشد به ألواح السفينة. وفي الصحاح : الدسار واحد الدسر وهي خيوط تشد بها ألواح السفينة ، ويقال : هي المسامير ، وقال تعالى : {عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ}. ودسر أيضا مثل عسر وعسر. والدسر الدفع ؛ قال ابن عباس في العنبر : إنما هو شيء يدسره البحر دسرا أي يدفعه. ودسره بالرمح. ورجل مدسر.
قوله تعالى : {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أي بمرأى منا. وقيل : بأمرنا. وقيل : بحفظ منا وكلاءة : وقد مضى في "هود". ومنه قول الناس للمودع : عين الله عليك ؛ أي حفظه وكلاءته. وقيل : بوحينا. وقيل : أي بالأعين النابعة من الأرض. وقيل : بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها ، وكل ما خلق الله تعالى يمكن أن يضاف إليه. وقيل : أي تجري بأوليائنا ، كما في الخبر : مرض عين من عيوننا فلم تعده. {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} أي جعلنا ذلك ثوابا وجزاء لنوح على صبره على أذى قومه وهو المكفور به ؛ فاللام في {لِمَنْ} لام المفعول له ؛ وقيل : {كُفِرَ} أي جحد ؛ ف {مَنْ} كناية عن نوح. وقيل : كناية عن الله والجزاء بمعنى العقاب ؛ أي عقابا لكفرهم بالله تعالى. وقرأ يزيد بن رومان وقتادة ومجاهد وحميد {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} بفتح الكاف والفاء بمعنى : كان الغرق جزاء وعقابا لمن كفر بالله ، وما نجا من الغرق غير عوج بن عنق ؛ كان الماء إلى حجزته. وسبب نجاته أن نوحا احتاج إلى خشبة الساج لبناء السفينة فلم يمكنه حملها ، فحمل عوج تلك الخشبة إليه من الشام فشكر الله له ذلك ، ونجاه من الغرق.
قوله تعالى : {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً} يريد هذه الفعلة عبرة. وقيل : أراد السفينة تركها آية لمن بعد قوم نوح يعتبرون بها فلا يكذبون الرسل. قال قتادة : أبقاها الله بباقردى من أرض الجزيرة عبرة وآية ، حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة ، وكم من سفينة كانت بعدها فصارت رمادا. {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} متعظ خائف ، وأصله مذتكر مفتعل من الذكر ، فثقلت على الألسنة فقلبت التاء دالا لتوافق الذال في الجهر وأدغمت الذال فيها. {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي إنذاري ؛
(17/133)
قال الفراء : إنذاري ؛ قال مصدران. وقيل : {نُذُرِ} جمع نذير ونذير بمعنى الإنذار كنكير بمعنى الإنكار .{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} أي سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه ؛ فهل من طالب لحفظه فيعان عليه ؟ ويجوز أن يكون المعنى : ولقد هيأناه للذكر مأخوذ من يسر ناقته للسفر : إذا رحلها ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه ؛ قال :
وقمت إليه باللجام ميسرا ... هنالك يجزيني الذي كنت أصنع
وقال سعيد بن جبير : ليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهرا إلا القران ؛ وقال غيره : ولم يكن هذا لبني إسرائيل ، ولم يكونوا يقرؤون التوراة إلا نظرا ، غير موسى وهارون ويوشع بن نون وعزير صلوات الله عليهم ، ومن أجل ذلك افتتنوا بعزير لما كتب لهم التوراة عن ظهر قلبه حين أحرقت ؛ على ما تقدم بيانه في سورة "التوبة" فيسر الله تعالى على هذه الأمة حفظ كتابه ليذكروا ما فيه ؛ أي يفتعلوا الذكر ، والافتعال هو أن ينجع فيهم ذلك حتى يصير كالذات وكالتركيب. فيهم. {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} قارئ يقرؤه. وقال أبو بكر الوراق وابن شوذب : فهل من طالب خير وعلم فيعان عليه ، وكرر في هذه السورة للتنبيه والإفهام. وقيل : إن الله تعالى اقتص في هذه السورة على هذه الأمة أنباء الأمم وقصص المرسلين ، وما عاملتهم به الأمم ، وما كان من عقبى أمورهم وأمور المرسلين ؛ فكان في كل قصة ونبأ ذكر للمستمع أن لو ادكر ، وإنما كرر هذه الآية عند ذكر كل قصة بقوله : {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} لأن {هَلْ} كلمة استفهام تستدعي أفهامهم التي ركبت في أجوافهم وجعلها حجة عليهم ؛ فاللام من {هَلْ} للاستعراض والهاء للاستخراج.
الآية : 18 - 22 { كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إنا إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
(17/134)
قوله تعالى : {كَذَّبَتْ عَادٌ} هم قوم هود .{ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} وقعت {وَنُذُرِ} في هذه السورة في ستة أماكن محذوفة الياء في جميع المصاحف ، وقرأها يعقوب مثبته في الحالين ، وورش في الوصل لا غير ، وحذف الباقون. ولا خلاف في حذف الياء من قوله : {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر : 5] والواو من قوله : {يَدْعُ} فأما الياء من {الدَّاعِ} الأول فأثبتها في الحالين ابن محيصن ويعقوب وحميد والبزي ، وأثبتها ورش وأبو عمرو في الوصل ، وحذف الباقون. وأما {الدَّاعِ} الثانية فأثبتها يعقوب وابن محيصن وابن كثير في الحالين ، وأثبتها أبو عمرو ونافع في الوصل ، وحذفها الباقون {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} أي شديدة البرد ؛ قاله قتادة والضحاك. وقيل : شديدة الصوت. وقد مضى في "حم السجدة". {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} أي في يوم كان مشؤوما عليهم. وقال ابن عباس : أي في يوم كانوا يتشاءمون به. الزجاج : قيل في يوم أربعاء. ابن عباس : كان آخر أربعاء في الشهر أفنى صغيرهم وكبيرهم. وقرأ هارون الأعور {نَحْسٍ} بكسر الحاء وقد مضى القول فيه في فصلت {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت : 16]. و {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} أي دائم الشؤم استمر عليهم بنحوسه ، واستمر عليهم فيه العذاب إلى الهلاك. وقيل : استمر بهم إلى نار جهنم. وقال الضحاك : كان مرا عليهم. وكذا حكى الكسائي أن قوما قالوا هو من المرارة ؛ يقال : مر الشيء وأمر أي كان كالشيء المر تكرهه النفوس. وقد قال : {فَذُوقُوا} والذي يذاق قد يكون مرا. وقد قيل : هو من المرة بمعنى القوة. أي في يوم نحس مستمر مستحكم الشؤم كالشيء المحكم الفتل الذي لا يطاق نقضه. فإن قيل : فإذا كان يوم الأربعاء يوم نحس مستمر فكيف يستجاب فيه الدعاء ؟ وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم استجيب له فيه فيما بين الظهر والعصر. وقد مضى في "البقرة" حديث جابر بذلك. فالجواب - والله أعلم - ما جاء في خبر يرويه مسروق عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "أتاني جبريل فقال إن الله يأمرك أن تقضي باليمين مع الشاهد وقال يوم الأربعاء يوم نحس مستمر"
(17/135)
ومعلوم أنه لم يرد بذلك أنه نحس على الصالحين ، بل أراد أنه نحس على الفجار والمفسدين ؛ كما كانت الأيام النحسات المذكورة في القران ؛ نحسات على الكفار من قوم عاد لا على نبيهم والمؤمنين به منهم ، وإذا كان كذلك لم يبعد أن يمهل الظالم من أول يوم الأربعاء إلى أن تزول الشمس ، فإذا أدبر النهار ولم يحدث رجعة استجيب دعاء المظلوم عليه ، فكان اليوم نحسا على الظالم ؛ ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان على الكفار ، وقول جابر في حديثه "لم ينزل بي أمر غليظ" إشارة إلى هذا. والله أعلم.
قوله تعالى : {تَنْزِعُ النَّاسَ} في موضع الصفة للريح أي تقلعهم من مواضعهم. قيل : قلعتهم من تحت أقدامهم اقتلاع النخلة من أصلها. وقال مجاهد : كانت تقلعهم من الأرض ، فترمي بهم على رؤوسهم فتندق أعناقهم وتبين رؤوسهم عن أجسادهم. وقيل : تنزع الناس من البيوت. وقال محمد بن كعب عن أبيه قال النبي صلى الله عليه وسلم : "انتزعت الريح الناس من قبورهم". وقيل : حفروا حفرا ودخلوها فكانت الريح تنزعهم منها وتكسرهم ، وتبقى تلك الحفر كأنها أصول نخل قد هلك ما كان فيها فتبقى مواضعها منقعرة. يروى أن سبعة منهم حفروا حفرا وقاموا فيها ليردوا الريح. قال ابن إسحاق : لما هاجت الريح قام نفر سبعة من عاد سمي لنا منهم ستة من أشد عاد وأجسمها منهم عمرو بن الحلى والحرث بن شداد والهلقام وابنا تقن وخلجان بن سعد فأولجوا العيال في شعب بين جبلين ، ثم اصطفوا على باب الشعب ليردوا الريح عمن في الشعب من العيال ، فجعلت الريح تجعفهم رجلا رجلا ، فقالت امرأة من عاد :
ذهب الدهر بعمرو بـ ... ـن حلي والهنيات
ثم بالحرث والهلـ ... ـقام طلاع الثنيات
والذي سد مهب الر ... يح أيام البليات
(17/136)
الطبري : في الكلام حذف ، والمعنى تنزع الناس فتتركهم كأنهم أعجاز نخل منقعر ؛ فالكاف في موضع نصب بالمحذوف. الزجاج : الكاف في موضع نصب على الحال ، والمعنى تنزع الناس والمعنى تنزع الناس مشبهين بأعجاز نخل. والتشبيه قيل إنه للحفر التي كانوا فيها. والأعجاز جمع عجز وهو مؤخر الشيء ، وكانت عاد موصوفين بطول القامة ، فشبهوا بالنخل انكبت لوجوهها. وقال : {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} للفظ النخل وهو من الجمع الذي يذكر ويؤنث. والمنقعر : المنقلع من أصله ؛ قعرت الشجرة قعرا قلعتها من أصلها فانقعرت. الكسائي : قعرت البئر أي نزلت حتى أنتهيت إلى قعرها ، وكذلك الإناء إذا شربت ما فيه حتى انتهيت إلى قعره. وأقعرت البئر جعلت لها قعرا. وقال أبو بكر بن الأنباري : سئل المبرد بحضرة إسماعيل القاضي عن ألف مسألة هذه من جملتها ، فقيل له : ما الفرق بين قوله تعالى : {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} [الأنبياء : 81] و {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} [يونس : 22] ، وقوله : {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة : 7] و {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} ؟ فقال : كلما ورد عليك من هذا الباب فإن شئت رددته إلى اللفظ تذكيرا ، أو إلى المعنى تأنيثا. وقيل : إن النخل والنخيل بمعنى يذكر ويؤنث ، كما ذكرنا. {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} تقدم.
الآية : 23 {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ}
قوله تعالى : {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} هم قوم صالح كذبوا الرسل ونبيهم ، أو كذبوا بالآيات التي هي النذر {فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ} وندع جماعة. وقرأ أبو الأشهب وابن السميقع وأبو السمال العدوي "أبشر" بالرفع {وَاحِدٌ} كذلك رفع بالابتداء والخبر {نَتَّبِعُهُ} الباقون بالنصب على معنى أنتبع بشرا منا واحدا نتبعه. وقرأ أبو السمال :
(17/137)
{أَبَشَرٌ} بالرفع {مِنَّا وَاحِداً} بالنصب ، رفع {أَبَشَرٌ} بإضمار فعل يدل عليه {أَأُلْقِيَ} كأنه قال : أينبأ بشر منا ، وقوله : {وَاحِداً} يجوز أن يكون حالا من المضمر في {مِنَّا} والناصب له الظرف ، والتقدير أينبأ بشر كائن منا منفردا ؛ ويجوز أن يكون حالا من الضمير في {نَتَّبِعُهُ} منفردا لا ناصر له. {إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ} أي ذهاب عن الصواب {وَسُعُرٍ} أي جنون ، من قولهم : ناقة مسعورة ، أي كأنها من شدة نشاطها مجنونة ، ذكره ابن عباس. قال الشاعر يصف ناقته :
تخال بها سعرا إذا السفر هزها ... ذميل وإيقاع من السير متعب
الذميل ضرب من سير الإبل. قال أبو عبيد : إذا ارتفع السير عن العنق قليلا فهو التزيد ، فإذا ارتفع عن ذلك فهو الذميل ، ثم الرسيم ؛ يقال : ذمل ويذمل ويذمل ذميلا. قال الأصمعي : ولا يذمل بعير يوما وليلة إلا مهري قاله ج. وقال ابن عباس أيضا : السعر العذاب ، وقاله الفراء. مجاهد : بعد الحق. السدي : في احتراق. قال :
أصحوت اليوم أم شاقتك هر ... ومن الحب جنون مستعر
أي متقد ومحترق. أبو عبيدة : هو جمع سعير وهو لهيب النار. والبعير المجنون يذهب كذا وكذا لما يتلهب به من الحدة. ومعنى الآية : إنا إذا لفي شقاء وعناء مما يلزمنا.
قوله تعالى : {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} أي خصص بالرسالة من بين ال ثمود وفيهم من هو أكثر مالا وأحسن حالا ؟ ! وهو استفهام معناه الإنكار. {بََلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} أي ليس كما يدعيه وإنما يريد أن يتعاظم ويلتمس التكبر علينا من غير استحقاق. والأشر المرح والتجبر والنشاط. يقال : فرس أشر إذا كان مرحا نشيطا قال امرؤ القيس يصف كلبا :
فيدركنا فغم داجن ... سميع بصير طلوب نكر
ألص الضروس حني الضلوع ... تبوع أريب نشيط أشر
(17/138)
وقيل : {أَشِرٌ} بطر. والأشر البطر ؛ قال الشاعر :
أشرتم بلبس الخز لما لبستم ... ومن قبل ما تدرون من فتح القرى
وقد أشر بالكسر يأشر أشرا فهو أشر وأشران ، وقوم أشارى مثل سكران وسكارى ؛ قال الشاعر :
وخلت وعولا أشارى بها ... وقد أزهف الطعن أبطالها
وقيل : إنه المتعدي إلى منزلة لا يستحقها ؛ والمعنى واحد. وقال ابن زيد وعبدالرحمن بن حماد : الأشر الذي لا يبالي ما قال. وقرأ أبو جعفر وأبو قلابة {أَشَرٌّ} بفتح الشين وتشديد الراء يعني به أشرنا وأخبثنا. {سَيَعْلَمُونَ غَداً} أي سيرون العذاب يوم القيامة ، أو في حال نزول العذاب بهم في الدنيا. وقرأ ابن عامر وحمزة بالتاء على أنه من قول صالح لهم على الخطاب. الباقون بالياء إخبار من الله تعالى لصالح عنهم. وقوله : {غَداً} على التقريب على عادة الناس في قولهم للعواقب : إن مع اليوم غدا ؛ قال :
للموت فيها سهام غير مخطئة ... من لم يكن ميتا في اليوم مات غدا
وقال الطرماح :
ألا عللاني قبل نوح النوائح ... وقبل اضطراب النفس بين الجوانح
وقبل غد يا لهف نفسي على غد ... إذا راح أصحابي ولست برائح
وإنما أراد وقت الموت ولم يرد غدا بعينه. {مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ} وقرأ أبو قلابة {الأَشَرُّ} بفتح الشين وتشديد الراء جاء به على الأصل. قال أبو حاتم : لا تكاد العرب تتكلم بالأشر والأخير إلا في ضرورة الشعر ؛ كقول رؤية :
بلال خير الناس وابن الأخير
(17/139)
وإنما يقولون هو خير قومه ، وهو شر الناس ؛ قال الله تعالى : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [ آل عمران : 110] وقال : {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً} [مريم : 75]. وعن أبي حيوة بفتح الشين وتخفيف الراء. وعن مجاهد وسعيد بن جبير ضم الشين والراء والتخفيف ، قال النحاس : وهو معنى {الأَشِرُ} ومثله رجل حذر وحذر.
الآية : 27 - 32 {إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
قوله تعالى : {إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ} أي مخرجوها من الهضبة التي سألوها ، فروي أن صالحا صلى ركعتين ودعا فانصدعت الصخرة التي عينوها عن سنامها ، فخرجت ناقة عشراء وبراء. {فِتْنَةً لَهُمْ} أي اختبارا وهو مفعول له. {فَارْتَقِبْهُمْ} أي انتظر ما يصنعون. {وَاصْطَبِرْ} أي اصبر على أذاهم ، وأصل الطاء في اصطبر تاء فتحولت طاء لتكون موافقة للصاد في الإطباق. {وَنَبِّئْهُمْ} أي أخبرهم {أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} أي بين ال ثمود وبين الناقة ، لها يوم ولهم يوم ، كما قال تعالى : {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } [الشعراء : 155]. قال ابن عباس : كان يوم شربهم لا تشرب الناقة شيئا من الماء وتسقيهم لبنا وكانوا في نعيم ، وإذا كان يوم الناقة شربت الماء كله فلم تبق لهم شيئا. وإنما قال : {بَيْنَهُمْ} لأن العرب إذا أخبروا عن بني ادم مع البهائم غلبوا بني ادم. وروى أبو الزبير عن جابر قال : لما نزلنا الحجر في مغزى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك ، قال : "أيها الناس لا تسألوا في هذه الآيات هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث الله لهم ناقة فبعث الله عز وجل
(17/140)
إليهم الناقة فكانت ترد من ذلك الفج فتشرب ماءهم يوم وردها ويحلبون منها مثل الذي كانوا يشربون يوم غبها" وهو معنى قوله تعالى : {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ. كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} الشرب - بالكسر - الحظ من الماء ؛ وفي المثل : "آخرها أقلها شربا" وأصله في سقي الإبل ، لأن آخرها يرد وقد نزف الحوض. ومعنى {مُحْتَضَرٌ} أي يحضره من هو له ؛ فالناقة تحضر الماء يوم وردها ، وتغيب عنهم يوم وردهم ؛ قاله مقاتل. وقال مجاهد : إن ثمود يحضرون الماء يوم غبها فيشربون ، ويحضرون اللبن يوم وردها فيحتلبون.
قوله تعالى : {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ} يعني بالحض على عقرها {فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} ومعنى تعاطى تناول الفعل ؛ من قولهم : عطوت أي تناولت ؛ ومنه قول حسان :
كلتاهما حلب العصير فعاطني ... بزجاجة أرخاهما للمفصل
قال محمد بن إسحاق : فكمن لها في أصل شجرة على طريقها فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها ، ثم شد عليها بالسيف فكشف عرقوبها ، فخرت ورغت رغاءة واحدة : تحدر سقبها من بطنها ثم نحرها ، وانطلق سقبها حتى أتى صخرة في رأس جبل فرغا ثم لاذ بها ، فأتاهم صالح عليه السلام ؛ فلما رأى الناقة قد عقرت بكى وقال : قد انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله. وقد مضى في "الأعراف" بيان هذا المعنى. قال ابن عباس : وكان الذي عقرها أحمر أزرق أشقر أكشف أقفى. ويقال في اسمه قدار ابن سالف. وقال الأفوه الأودي :
أو قبله كقدار حين تابعه ... على الغواية أقوام فقد بادوا
والعرب تسمي الجزار قدارا تشبيها بقدار بن سالف مشؤوم ال ثمود ؛ قال مهلهل :
إنا لنضرب بالسيوف رؤوسهم ... ضرب القدار نقيعة القدام
(17/141)
وذكره زهير فقال :
فتنتح لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
يريد الحرب ؛ فكنى عن ثمود بعاد.
قوله تعالى : {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} يريد صيحة جبريل عليه السلام ، وقد مضى في "هود". {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} وقرأ الحسن وقتادة وأبو العالية {الْمُحْتَظَرِ} بفتح الظاء أرادو الحظيرة. الباقون بالكسر أرادوا صاحب الحظيرة. وفي الصحاح : والمحتظر الذي يعمل الحظيرة. وقرئ {كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} فمن كسره جعله الفاعل ومن فتحه جعله المفعول به. ويقال للرجل القليل الخير : إنه لنكد الحظيرة. قال أبو عبيد : أواه سمى أمواله حظيرة لأنه حظرها عنده ومنعها ، وهي فعيلة بمعنى مفعولة. المهدوي : من فتح الظاء من {الْمُحْتَظَرِ} فهو مصدر ، والمعنى كهشيم الاحتظار. ويجوز أن يكون "المحتظر" هو الشجر المتخذ منه الحظيرة. قال ابن عباس : {الْمُحْتَظَرِ} هو الرجل يجعل لغنمه حظيرة بالشجر والشوك ؛ فما سقط من ذلك وداسته الغنم فهو الهشيم. قال :
أثرن عجاجة كدخان نار ... تشب بغرقد بال هشيم
وعنه : كحشيش تأكله الغنم. وعنه أيضا : كالعظام النخرة المحترقة ، وهو قول قتادة. وقال سعيد بن جبير : هو التراب المتناثر من الحيطان في يوم ريح. وقال سفيان الثوري : هو ما تناثر من الحظيرة إذا ضربتها بالعصا ، وهو فعيل بمعنى مفعول وقال ابن زيد : العرب تسمي كل شيء كان رطبا فيبس هشيما. والحظر المنع ، والمحتظر المفتعل يقال منه : احتظر على إبله وحظر أي جمع الشجر ووضع بعضه فوق بعض ليمنع برد الريح والسباع عن إبله ؛ قال الشاعر :
ترى جيف المطي بجانبيه ... كأن عظامها خشب الهشيم
وعن ابن عباس : أنهم كانوا مثل القمح الذي ديس وهشم ؛ فالمحتظر على هذا الذي يتخذ حظيرة على زرعه ، والهشيم فتات السنبلة والتبن. {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
(17/142)