المجلد السابع عشر
سورة الطور
الآية : 33 - 35 {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى}
قوله تعالى : {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى} الآيات لما بين جهل المشركين في عبادة الأصنام ذكر واحدا منهم معينا بسوء فعله. قال مجاهد وابن زيد ومقاتل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، وكان قد أتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه فعيره بعض المشركين ، وقال : لم تركت دين الأشياخ وضللتهم وزعمت أنهم في النار ؟ قال : إني خشيت عذاب الله ؛ فضمن له إن هو أعطاه شيئا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله ، فأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له ثم بخل ومنعه فانزل الله تعالى هذه الآية. وقال مقاتل : كال الوليد مدح القرآن ثم أمسك عنه فنزل : {وَأَعْطَى قَلِيلاً} أي من الخير بلسانه {وَأَكْدَى} أي قطع ذلك وأمسك عنه. وعنه أنه أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد الإيمان ثم تولى فنزلت : {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} الآية. وقال ابن عباس والسدي والكلبي والمسيب ابن شريك : نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يتصدق وينفق في الخير ، فقال له أخوه من الرضاعة عبدالله بن أبي سرح : ما هذا الذي تصنع ؟ يوشك ألا يبقى لك شيء. فقال عثمان : إن لي ذنوبا وخطايا ، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه! فقال له عبدالله : أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها. فأعطاه وأشهد عليه ، وأمسك عن بعض ما كان يصنع من الصدقة فأنزل الله تعالى : {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى} فعاد عثمان إلى أحسن ذلك وأجمله. ذكر ذلك الواحدي والثعلبي. وقال السدي أيضا : نزلت في العاص بن وائل السهمي ، وذلك أنه
(17/111)
كان ربما يوافق النبي صلى الله عليه وسلم. وقال محمد بن كعب القرظي : نزلت في أبي جهل بن هشام ، قال : والله ما يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق ؛ فذلك قوله تعالى : - {وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى}. وقال الضحاك : هو النضر بن الحرث أعطى خمس قلائص لفقير من المهاجرين حين ارتد عن دينه ، وضمن له أن يتحمل عنه مأثم رجوعه. وأصل {أَكْدَى} من الكدية يقال لمن حفر بئرا ثم بلغ إلى حجر لا يتهيأ له فيه حفر : قد أكدى ، ثم استعملته العرب لمن أعطى ولم يتمم ، ولمن طلب شيئا ولم يبلغ آخره. وقال الحطيئة :
فأعطى قليلا ثم أكدى عطاءه ... ومن يبذل المعروف في الناس يحمد
قال الكسائي وغيره : أكدى الحافر وأجبل إذا بلغ في حفره كدية أو جبلا فلا يمكنه أن يحفر. وحفر فأكدى إذا بلغ إلى الصلب. ويقال : كديت أصابعه إذا كلت من الحفر. وكديت يده إذا كلت فلم تعمل شيئا. وأكدى النبت إذا قل ريعه ، وكدت الأرض تكدو كدوا وكدوا فهي كادية إذا أبطأ نباتها ؛ عن أبى زيد. وأكديت الرجل عن الشيء رددته عنه. وأكدى الرجل إذا قل خيره. وقوله : {وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى} أي قطع القليل.
قوله تعالى : {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} أي أعند هذا المكدي علم ما غاب عنه من أمر العذاب ؟ . {فَهُوَ يَرَى} أي يعلم ما غاب عنه من أمر الآخرة ، وما يكون من أمره حتى يضمن حمل العذاب عن غيره ، وكفى بهذا جهلا وحمقا. وهذه الرؤية هي المتعدية إلى مفعولين والمفعولان محذوفان ؛ كأنه قال : فهو يرى الغيب مثل الشهادة.
الآية : 36 {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}
(17/112)
قوله تعالى : {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} أي صحف {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} كما في سورة "الأعلى" {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى : 19] أي لا تؤخذ نفس بدلا عن أخرى ؛ كما قال {أَنَْ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وخص صحف إبراهيم وموسى بالذكر ؛ لأنه كان ما بين نوح وإبراهيم يؤخذ الرجل بجريرة أخيه وابنه وأبيه ؛ قاله الهذيل بن شرحبيل.و {أَنَْ} هذه المخففة من الثقيلة وموضعها جر بدلاً من "ما" أو يكون في موضع رفع على إضمار هو. وقرأ سعيد بن جبير وقتادة {وَفَى} خفيفة ومعناها صدق في قوله وعمله ، وهي راجعة إلى معنى قراءة الجماعة {وَفَّى} بالتشديد أي قام بجميع ما فرض عليه فلم يخرم منه شيئا. وقد مضى في "البقرة" عند قوله تعالى : {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة : 124] والتوفية الإتمام. وقال أبو بكر الوراق : قام بشرط ما آدعى ؛ وذلك أن الله تعالى قال له : {أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة : 131] فطالبه الله بصحة دعواه ، فابتلاه في ماله وولده ونفسه فوجده وافيا بذلك ؛ فذلك قوله : {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} أي آدعى الإسلام ثم صحح دعواه. وقيل : وفى عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار ؛ رواه الهيثم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى سهل بن سعد الساعدي عن أبيه "ألا أخبركم لم سمى الله تعالى خليله إبراهيم {الَّذِي وَفَّى} لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى : {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم : 17]" الآية. ورواه سهل بن معاذ عن أنس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل : {وَفَّى} أي وفى ما أرسل به ، وهو قوله : {أَنْ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قال ابن عباس : كانوا قبل إبراهيم عليه السلام يأخذون الرجل بذنب غيره ، ويأخذون الولي بالولي في القتل والجراحة ؛ فيقتل الرجل بأبيه وابنه وأخيه وعمه وخاله وابن عمه وقريبه وزوجته وزوجها وعبده ، فبلغهم إبراهيم عليه السلام عن الله تعالى : {أَنْ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير في قوله تعالى {وَفَّى} : عمل بما أمر به وبلغ رسالات ربه. وهذا أحسن ؛ لأنه عام. وكذا قال مجاهد : {وَفَّى} بما فرض عليه. وقال أبو مالك
(17/113)
الغفاري قوله تعالى : { أَنْ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} إلى قوله : {فبأي آلاء ربك تتمارى} [النجم : 55] في صحف إبراهيم وموسى ، وقد مضى في آخر "الأنعام" القول في {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام : 164] مستوفى.
قوله تعالى : {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} روي عن ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى : {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور : 21] فيحصل الولد الطفل يوم القيامة في ميزان أبيه ، ويشفع الله تعالى الآباء في الأبناء والأبناء في الآباء ؛ يدل على ذلك قوله تعالى : {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} [النساء : 11]. وقال أكثر أهل التأويل : هي محكمة ولا ينفع أحدا عمل أحد ، وأجمعوا أن لا يصلي أحد عن أحد. ولم يجز مالك الصيام والحج والصدقة عن الميت ، إلا أنه قال : إن أوصى بالحج ومات جاز أن يحج عنه. وأجاز الشافعي وغيره الحج التطوع عن الميت. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها اعتكفت عن أخيها عبدالرحمن وأعتقت عنه. وروى أن سعد بن عبادة قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي توفيت أفأتصدق عنها ؟ قال : "نعم" قال : فأي الصدقة أفضل ؟ قال : "سقي الماء". وقد مضى جميع هذا مستوفى في "البقرة" و"آل عمران" و"الأعراف". وقد قيل : إن الله عز وجل إنما قال : { وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} ولام الخفض معناها في العربية الملك والإيجاب فلم يجب للإنسان إلا ما سعى ، فإذا تصدق عنه غيره فليس يجب له شيء إلا أن الله عز وجل يتفضل عليه بما لا يجب له ، كما يتفضل على الأطفال بادخالهم الجنة بغير عمل. وقال الربيع بن أنس : {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} يعني الكافر وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره.
قلت : وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول ، وأن المؤمن يصل إلى ثواب العمل الصالح من غيره ، وقد تقدم كثير منها لمن تأملها ، وليس في الصدقة اختلاف ، كما في صدر
(17/114)
كتاب مسلم عن عبدالله بن المبارك. وفي الصحيح : "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث" وفيه "أو ولد صالح يدعو له" وهذا كله تفضل من الله عز وجل ، كما أن زيادة الأضعاف فضل منه ، كتب لهم بالحسنة الواحدة عشرا إلى سبعمائة ضعف إلى ألف ألف حسنة ؛ كما قيل لأبي هريرة : أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألف ألف حسنة" فقال سمعته يقول : "إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة" فهذا تفضل. وطريق العدل {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}
قلت : ويحتمل أن يكون قوله : "{وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} خاص في السيئة ؛ بدليل ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "قال الله عز وجل إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه فإن عملها كتبتها سيئة واحدة" . وقال أبو بكر الوراق : {إِلاَّ مَا سَعَى} إلا ما نوى ؛ بيانه قوله صلى الله عليه وسلم : "يبعث الناس يوم القيامة على نياتهم ".
قوله تعالى : {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} أي يريه الله تعالى جزاءه يوم القيامة {ثُمَّ يُجْزَاهُ} أي يجزى به {الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} قال الأخفش : يقال جزيته الجزاء ، وجزيته بالجزاء سواء لا فرق بينهما قال الشاعر :
إن أجز علقمة بن سعد سعيه ... لم أجزه ببلاء يوم واحد
فجمع بين اللغتين.
قوله تعالى : {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} أي المرجع والمراد والمصير فيعاقب ويثيب. وقيل : منه ابتداء المنة وإليه انتهاء الأمان. وعن أبي بن كعب قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} قال : "لا فكرة في الرب". وعن أنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إذ ذكر الله تعالى فانته".
(17/115)
قلت : ومن هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام : "يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا وكذا حتى يقول له من خلق ربك فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته" وقد تقدم في آخر "الأعراف". ولقد أحسن من قال :
ولا تفكرن في ذي العلا عز وجهه ... فإنك تردى إن فعلت وتخذل
ودونك مصنوعاته فاعتبر بها ... وقل مثل ما قال الخليل المبجل
الآية : 43 - 46 {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى}
قوله تعالى : {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} ذهبت الوسائط وبقيت الحقائق لله سبحانه وتعال فلا فاعل إلا هو ؛ وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : لا والله ما قال رسول الله قط إن المت يعذب ببكاء أحد ، ، ولكنه قال : "إن الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذابا وإن الله لهو أضحك وأبكى وما تزر وازرة وزر أخرى". وعنها قالت : مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم من أصحابه وهم يضحكون ، فقال : "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا" فنزل عليه جبريل فقال : يا محمد! إن الله يقول لك : {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى}. فرجع إليهم فقال : "ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال ايت هؤلاء فقل لهم إن الله تعالى يقول : {هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} أي قضى أسباب الضحك والبكاء. وقال عطاء بن أبي مسلم : يعني أفرح وأحزن ؛ لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء. وقيل لعمر : هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون ؟ قال : نعم! والإيمان والله أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي. وقد تقدم هذا المعنى في ، "النمل" و"التوبة". قال الحسن :
(17/116)
أضحك الله أهل الجنة في الجنة ، وأبكى أهل النار في النار. وقيل : أضحك من شاء في الدنيا بأن سره وأبكى من شاء بأن غمه. الضحاك : أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر. وقيل : أضحك الأشجار بالنوار ، وأبكى السحاب بالأمطار. وقال ذو النون : أضحك قلوب المؤمنين والعارفين بشمس معرفته ، وأبكى قلوب الكافرين والعاصين بظلمة نكرته ومعصيته. وقال سهل بن عبدالله : أضحك الله المطيعين بالرحمة وأبكى العاصين بالسخط. وقال محمد بن علي الترمذي : أضحك المؤمن في الآخرة وأبكاه في الدنيا. وقال بسام بن عبدالله : أضحك الله أسنانهم وأبكى قلوبهم. وأنشد :
السن تضحك والأحشاء تحترق ... وإنما ضحكها زور ومختلق
يارب باك بعين لا دموع لها ... ورب ضاحك سن ما به رمق
وقيل : إن الله تعالىخص الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوان ، وليس في سائر الحيوان من يضحك ويبكي غير الإنسان. وقد قيل : إن القرد وحده يضحك ولا يبكي ، وإن الإبل وحدها تبكي ولا تضحك. وقال يوسف بن الحسين : سئل طاهر المقدسي أتضحك الملائكة ؟ فقال : ما ضحكوا ولا كل من دون العرش منذ خلقت جهنم. {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} أي قضى أسباب الموت والحياة. وقيل : خلق الموت والحياة كما قال : {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك : 2] قاله ابن بحر. وقيل : أمات الكافر بالكفر وأحيا المؤمن بالإيمان ؛ قال الله تعالى : {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام : 122] الآية. وقال : {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} على ما تقدم ، وإليه يرجع قول عطاء : أمات بعدله وأحيا بفضله. وقول من قال : أمات بالمنع والبخل وأحيا بالجود والبذل. وقيل : أمات النطفة وأحيا النسمة. وقيل : أمات الآباء وأحيا الأبناء. وقيل : يريد بالحياة الخصب وبالموت الجدب. وقيل : أنام وأيقظ. وقيل : أمات في الدنيا وأحيا للبعث. {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} أي من أولاد آدم ولم يرد آدم وحواء بأنهما خلقا من نطفة.
(17/117)
والنطفة الماء القليل ، مشتق من نطف الماء إذا قطر. {تُمْنَى} تصب في الرحم وتراق ؛ قاله الكلبي والضحاك وعطاء بن أبي رباح. يقال : منى الرجل وأمنى من المني ، وسميت منى بهذا الاسم لما يمنى فيها من الدماء أي يراق. وقيل : {تُمْنَى} تقدر ؛ قاله أبو عبيدة. يقال : منيت الشيء إذا قدرته ، ومني له أي قدر له ؛ قال الشاعر :
حتى تلاقي ما يَمني لك الماني
أي ما يقدر لك القادر.
الآية : 47 - 55 {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى}
قوله تعالى : {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرى} أي إعادة الأرواح في الأشباح للبعث. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {النَّشَأَةَ} بفتح الشين والمد ؛ أي وعد ذلك ووعده صدق. {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} قال ابن زيد : أغنى من شاء وأفقر من شاء ثم قرأ {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} [سبأ : 39] وقرأ {يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} [ البقرة : 245] واختاره الطبري. وعن ابن زيد أيضا ومجاهد وقتادة والحسن : {أَغْنَى} مول {وَأَقْنَى} أخدم. وقيل : {أَقْنَى} جعل
(17/118)
لكم قنية تقتنونها ، وهو معنى أخدم أيضا. وقيل : معناه أرضى بما أعطى أي أغناه ثم رضاه بما أعطاه ؛ قاله ابن عباس. وقال الجوهري : قني الرجل يقنى قنى ؛ مثل غني يغنى غنى ، وأقناه الله أي أعطاه الله ما يقتنى من القنية والنشب. وأقناه الله أيضا أي رضاه. والقنى الرضا ، عن أبي زيد ؛ قال وتقول العرب : من أعطي مائة من المعز فقد أعطي القنى ، ومن أعطى مائة من الضأن فقد أعطي الغنى ، ومن أعطى مائة من الإبل فقد أعطي المنى. ويقال : أغناه الله وأقناه أي أعطاه ما يسكن إليه. وقيل : {أَغْنَى وَأَقْنَى} أي أغنى نفسه وأفقر خلقه إليه ؛ قال سليمان التيمي. وقال سفيان : أغنى بالقناعة وأقنى بالرضا. وقال الأخفش : أقنى أفقر. قال ابن كيسان : أولد. وهذا راجع لما تقدم. {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} {الشِّعْرَى} الكوكب المضيء الذي يطلع بعد الجوزاء ، وطلوعه في شدة الحر ، وهما الشعريان العبور التي في الجوزاء والشعرى الغميصاء التي في الذراع ؛ وتزعم العرب أنهما أختا سهيل. وإنما ذكر أنه رب الشعرى وإن كان ربا لغيره ؛ لأن العرب كانت تعبده ؛ فأعلمهم الله جل وعز أن الشعرى مربوب ليس برب. واختلف فيمن كان يعبده ؛ فقال السدي : كانت تعبده حمير وخزاعة. وقال غيره : أول من عبده أبو كبشة أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أمهاته ، ولذلك كان مشركو قريش يسمون النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي كبشة حين دعا إلى الله وخالف أديانهم ؛ وقالوا : ما لقينا من ابن أبي كبشة! وقال أبو سفيان يوم الفتح وقد وقف في بعض المضايق وعساكر رسول الله صلى الله عليه وسلم تمر عليه : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة. وقد كان من لا يعبد الشعرى من العرب يعظمها ويعتقد تأثيرها في العالم ، قال الشاعر :
مضى أيلول وارتفع الحرور ... وأخبت نارها الشعرى العبور
وقيل : إن العرب تقول في خرافاتها : إن سهيلا والشعرى كانا زوجين ، فانحدر سهيل فصار يمانيا ، فاتبعته الشعرى العبور فعبرت المجرة فسميت العبور ، وأقامت الغميصاء فبكت
(17/119)
لفقد سهيل حتى غمصت عيناها فسميت غميصاء لأنها أخفى من الأخرى.
قوله تعالى : {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى} سماها الأولى لأنهم كانوا من قبل ثمود. وقيل : إن ثمود من قبل عاد. وقال ابن زيد : قيل لها عاد الأولى لأنها أول أمة أهلكت بعد نوح عليه السلام. وقال ابن إسحاق : هما عادان فالأولى أهلكت بالريح الصرصر ، ثم كانت الأخرى فأهلكت بالصيحة. وقيل : عاد الأولى هو عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح ، وعاد الثانية من ولد عاد الأولى ؛ والمعنى متقارب. وقيل : إن عاد الآخرة الجبارون وهم قوم هود. وقراءة العامة {عَاداً الأُولَى} ببيان التنوين والهمز. وقرأ نافع وابن محيصن وأبو عمرو {عَاداً الأُولَى} بنقل حركة الهمزة إلى اللام وإدغام التنوين فيها ، إلا أن قالون والسوسي يظهران الهمزة الساكنة. وقلبها الباقون واوا على أصلها ؛ والعرب تقلب هذا القلب فتقول : قم الان عنا وضمَّ لِثنين أي قم الآن وضم الاثنين. {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} ثمود هم قوم صالح أهلكوا بالصيحة. قرئ {ثَمُوداً} و{ثَمُودَ} [التوبة : 70] وقد تقدم. وانتصب على العطف على عاد. {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ} أي وأهلك قوم نوج من قبل عاد وثمود {إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} وذلك لطول مدة نوح فيهم ، حتى كان الرجل فيهم يأخذ بيد ابنه فينطلق إلى نوح عليه السلام فيقول : احذر هذا فإنه كذاب ، وإن أبي قد مشى بي إلى هذا وقال لي مثل ما قلت لك ؛ فيموت الكبير على الكفر ، ومنشأ الصغير على وصية أبيه. وقيل : إن الكناية ترجع لى كل من ذكر من عاد وثمود وقوم نوح ؛ أي كانوا أكفر من مشركي العرب وأطغى. فيكون فيه تسلية وتعزية للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ فكأنه يقول له : فاصبر أنت أيضا فالعاقبة الحميدة لك. {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} يعني مدائن قوم لوط عليه السلام ائتفكت بهم ، أي انقلبت وصار عاليها سافلها. يقال : أفكته أي قلبته وصرفته .{أَهْوَى} أي خسف بهم بعد رفعها إلى السماء ؛ رفعها جبريل ثم أهوى بها إلى الأرض. وقال المبرد : جعلها تهوي. ويقال : هوى بالفتح يهوي هويا أي سقط
(17/120)
و{أَهْوَى} أي أسقط. {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} أي ألبسها ما ألبسها من الحجارة ؛ قال الله تعالى : {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر : 74] وقيل : إن الكناية ترجع إلى جميع هذه الأمم ؛ أي غشاها من العذاب ما غشاهم ، وأبهم لأن كلا منهم أهلك بضرب غير ما أهلك به الآخر. وقيل : هذا تعظيم الأمر. {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} أي فبأي نعم ربك تشك. والمخاطبة للإنسان المكذب. والآلاء النعم واحدها ألى وإلى وإلي. وقرأ يعقوب {تَمَارَى} بإدغام إحدى التاءين في الأخرى والتشديد.
الآية : 56 - 62 {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا}
قوله تعالى : {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى} قال ابن جريج ومحمد بن كعب : يريد أن محمدا صلى الله عليه وسلم نذير بالحق الذي أنذر به الأنبياء قبله ، فإن أطعتموه أفلحتم ، وإلا حل بكم ما حل بمكذبي الرسل السالفة. وقال قتادة : يريد القرآن ، وأنه نذير بما أنذرت به الكتب الأولى. وقيل : أي هذا الذي أخبرنا به من أخبار الأمم الماضية الذين هلكوا تخويف لهذه الأمة من أن ينزل بهم ما نزل بأولئك من النذر أي مثل النذر ؛ والنذر في قول العرب بمعنى الإنذار كالنكر بمعنى الإنكار ؛ أي هذا إنذار لكم. وقال أبو مالك : هذا الذي أنذرتكم به من وقائع الأمم الخالية هو في صحف إبراهيم وموسى. وقال السدي أخبرني أبو صالح قال : هذه الحروف التي ذكر الله تعالى من قوله تعالى : {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} [النجم : 37] إلى قوله : {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى} كل هذه في صحف إبراهيم وموسى.
(17/121)
قوله تعالى : {أَزِفَتِ الآزِفَةُ} أي قربت الساعة ودنت القيامة. وسماها آزفة لقرب قيامها عنده ؛ كما قال : {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج : 6 - 7]. وقيل : سماها آزفة لدنوها من الناس وقربها منهم ليستعدوا لها ؛ لأن كل ما هو آت قريب. قال :
أزف الترحل غير أن ركابنا ... لما تزل برحالنا وكأن قد
وفي الصحاح : أزف الترحل يأزف أزفا أي دنا وأفد ؛ ومنه قوله تعالى : {أَزِفَتِ الآزِفَةُ} يعني القيامة ، وأزف الرجل أي عجل فهو آزف على فاعل ، والمتآزف القصير وهو المتداني. قال أبو زيد : قلت لأعرابي ما المحبنطئ ؟ قال : المتكأكئ. قلت : ما المتكأكئ ؟ قال : المتآزف. قلت : ما المتآزف ؟ قال : أنت أحمق وتركني ومر.{ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} أي ليس لها من دون الله من يؤخرها أو يقدمها. وقيل : كاشفة أي أنكشاف أي لا يكشف عنها ولا يبديها إلا الله ؛ فالكاشفة آسم بمعنى المصدر والهاء فيه كالهاء في العاقبة والعافية والداهية والباقية ؛ كقولهم : ما لفلان من باقية أي من بقاء. وقيل : أي لا أحد يرد ذلك ؛ أي إن القيامة إذا قامت لا يكشفها أحد من آلهتهم ولا ينجيهم غير الله تعالى. وقد سميت القيامة غاشية ، فإذا كانت غاشية كان ردها كشفا ، فالكاشفة علي هذا نعت مؤنث محذوف ؛ أي نقس كاشفة أو فرقة كاشفة أو حال كاشفة. وقيل : إن {كَاشِفَةٌ} بمعنى كاشف والهاء للمبالغة مثل راوية وداهية.
قوله تعالى : {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ} يعني القرآن. وهذا استفهام توبيخ {تَعْجَبُونَ} تكذيبا به {وَتَضْحَكُونَ} استهزاء {وَلا تَبْكُونَ} انزجارا وخوفا من الوعيد. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم ما رئي بعد نزول هذه الآية ضاحكا إلا تبسما. وقال أبو هريرة : لما نزلت {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} قال أهل الصفة : {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ثم بكوا حتى جرت دموعهم على خدودهم ، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بكاءهم بكى معهم فبكينا لبكائه ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يلج النار من بكى من
(17/122)
خشية الله ولا يدخل الجنة مصر على معصية الله ولو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيغفر لهم ويرحمهم إنه هو الغفور الرحيم". وقال أبو حازم : نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده رجل يبكي ، فقال له : من هذا ؟ قال : هذا فلان ؛ فقال جبريل : إنا نزن أعمال بني آدم كلها إلا البكاء ، فإن الله تعالى ليطفئ بالدمعة الواحدة بحورا من جهنم. {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} أي لاهون معرضون. عن ابن عباس ؛ رواه الوالبي والعوفي عنه. وقال عكرمة عنه : هو الغناء بلغة حمير ؛ يقال : سمد لنا أي غن لنا ، فكانوا إذا سمعوا القرآن يتلى تغنوا ولعبوا حتى لا يسمعوا. وقال الضحاك : سامدون شامخون متكبرون. وفي الصحاح : سمد سمودا رفع رأسه تكبرا وكل رافع رأسه فهو سامد ؛ قال :
سوامد الليل خفاف الأزواد
يقول : ليس في بطونها علف. وقال ابن الأعرابي : سمدت سمودا علوت. وسمدت الإبل في سيرها جدت. والسمود اللهو ، والسامد اللاهي ؛ يقال للقينه : أسمدينا ؛ أي ألهينا بالغناء. وتسميد الأرض أن يجعل فيها السماد وهو سرجين ورماد. وتسميد الرأس استئصال شعره ، لغة في التسبيد. واسمأد الرجل بالهمز اسمئدادا أي ورم غضبا. وروي عن علي رضي الله عنه أن معنى {سَامِدُونَ} أن يجلسوا غير مصلين ولا منتظر بن الصلاة. وقال الحسن : واقفون للصلاة قبل وقوف الإمام ؛ ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج الناس ينتظرونه قياما فقال : "مالي أراكم سامدين" حكاه الماوردي. وذكره المهدوي عن علي ، وأنه خرج إلى الصلاة فرأى الناس قياما ينتظرونه فقال : "مالكم سامدون" قال المهدوي. والمعروف في اللغة : سمد يسمد سمودا إذا لها وأعرض. وقال المبرد : سامدون خامدون ؛ قال الشاعر :
أتى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدور سمدن له سمودا
(17/123)
وقال صالح أبو الخليل : لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} لم ير ضاحكا إلا مبتسما حتى مات صلى الله عليه وسلم ذكره النحاس.
قوله تعالى : {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} قيل : المراد به سجود تلاوة القرآن. و. هو قول ابن مسعود. وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وقد تقدم أول السورة من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها وسجد معه المشركون. وقيل : إنما سجد معه المشركون لأنهم سمعوا أصوات الشياطين في أثناء قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قوله : {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم : 19] وأنه قال : تلك الغرانيق العلا وشفاعتهن ترتجى. كذا في رواية سعيد بن جبير ترتجى. وفي رواية أبي العالية وشفاعتهن ترتضى ، ومثلهن لا ينسى. ففرح المشركون وظنوا أنه من قول محمد صلى الله عليه وسلم على ما تقدم بيانه في "الحج". فلما بلغ الخبر بالحبشة من كان بها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجعوا ظنا منهم أن أهل مكة آمنوا ؛ فكان أهل مكة أشد عليهم وأخذوا في تعذيبهم إلى أن كشف الله عنهم. وقيل : المراد سجود الفرض في الصلاة وهو قول ابن عمر ؛ كان لا يراها من عزائم السجود. وبه قال مالك. وروى أبي بن كعب رضي الله عنه : كان آخر فعل النبي صلى الله عليه وسلم ترك السجود في المفصل. والأول أصح وقد مضى القول فيه آخر "الأعراف" مبينا والحمد لله رب العالمين.
(17/124)