الآية : 18 {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ}
قوله تعالى : {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أي فجأة. وهذا وعيد للكفار. {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} أي أماراتها وعلاماتها. وكانوا قد قرؤوا في كتبهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء ، فبعثه من أشراطها وأدلتها ، قاله الضحاك والحسن. وفي الصحيح عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بعثت أنا والساعة كهاتين" وضم السبابة والوسطى ، لفظ مسلم : وخرجه البخاري والترمذي وابن ماجه. ويروى "بعثت والساعة كفرسي رهان". وقيل : أشراط الساعة أسبابها التي هي دون معظمها. ومنه يقال للدون من الناس : الشرط. وقيل : يعني علامات الساعة انشقاق القمر والدخان ، قال الحسن أيضا. وعن الكلبي : كثرة المال والتجارة وشهادة الزور وقطع الأرحام ، وقلة الكرام وكثرة اللئام. وقد أتينا على هذا الباب في كتاب "التذكرة" مستوفى والحمد لله. وواحد الأشراط شرط ، وأصله الأعلام. ومنه قيل الشرط ، لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها. ومنه الشرط في البيع وغيره. قال أبو الأسود :
فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا ... فقد جعلت أشراط أوله تبدو
ويقال : أشرط فلان نفسه في عمل كذا أي أعلمها وجعلها له. قال أوس بن حجر يصف رجلا تدلى بحبل من رأس جبل إلى نبعة يقطعها ليتخذ منها قوسا :
فأشرط نفسه فيها وهو معصم ... وألقى بأسباب له وتوكلا
(16/240)
{أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} {أن} بدل اشتمال من {الساعة} ، نحو قوله : {أَنْ تَطَأُوهُمْ} [الفتح : 25] من قوله : {رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} [الفتح : 25]. وقرئ {بَغْتَةً} بوزن جربة ، وهي غريبة لم ترد في المصادر أختها ، وهي مروية عن أبي عمرو. الزمخشري : وما أخوفني أن تكون غلطة من الراوي عن أبي عمرو ، وأن يكون الصواب {بَغَتَةً} بفتح الغين من غير تشديد ، كقراءة الحسن. وروى أبو جعفر الرؤاسي وغيره من أهل مكة {إن تأتهم بغتة} . قال المهدوي : ومن قرأ {إن تأتهم بغتة} كان الوقف على {الساعة} ثم استأنف الشرط. وما يحتمله الكلام من الشك مردود إلى الخلق ، كأنه قال : إن شكوا في مجيئها {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} .
قوله تعالى : {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} {ذِكْرَاهُمْ} ابتداء و{أنى لهم} الخبر. والضمير المرفوع في {جَاءَتْهُمْ} للساعة ، التقدير : فمن أين لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة ، قال معناه قتادة وغيره. وقيل : فكيف لهم بالنجاة إذا جاءتهم الذكرى عند مجيء الساعة ، قاله ابن زيد. وفي الذكرى وجهان : أحدهما : تذكيرهم بما عملوه من خير أو شر. الثاني : هو دعاؤهم بأسمائهم تبشيرا وتخويفا ، روى أبان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أحسنوا أسماءكم فإنكم تدعون بها يوم القيامة يا فلان قم إلى نورك يا فلان قم لا نور لك" ذكره الماوردي.
الآية : 19 {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}
قوله تعالى : {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} قال الماوردي : وفيه - وإن كان الرسول عالما بالله - ثلاثة أوجه : يعني اعلم أن الله أعلمك أن لا إله إلا الله. الثاني : ما علمته استدلالا فاعلمه خبرا يقينا. الثالث : يعني فاذكر أن لا إله إلا الله ، فعبر عن الذكر بالعلم
(16/241)
لحدوثه عنه. وعن سفيان بن عيينة أنه سئل عن فضل العلم فقال : ألم تسمع قوله حين بدأ به {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} فأمر بالعمل بعد العلم وقال : {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} إلى قوله {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد : 20 - 21] وقال : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال : 28]. ثم قال بعد : {فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن : 14]. وقال تعالى : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال : 41]. ثم أمر بالعمل بعد.
قوله تعالى : {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} يحتمل وجهين : أحدهما : يعني استغفر الله أن يقع منك ذنب. الثاني : استغفر الله ليعصمك من الذنوب. وقيل : لما ذكر له حال الكافرين والمؤمنين أمره بالثبات على الإيمان ، أي اثبت على ما أنت عليه من التوحيد والإخلاص والحذر عما تحتاج معه إلى استغفار. وقيل : الخطاب له والمراد به الأمة ، وعلى هذا القول توجب الآية استغفار الإنسان لجميع المسلمين. وقيل : كان عليه السلام يضيق صدره من كفر الكفار والمنافقين ، فنزلت الآية. أي فاعلم أنه لا كاشف يكشف ما بك إلا الله ، فلا تعلق قلبك بأحد سواه. وقيل : أمر بالاستغفار لتقتدي به الأمة. {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي ولذنوبهم. وهذا أمر بالشفاعة. وروى مسلم عن عاصم الأحول عن عبدالله بن سرجس المخزومي قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأكلت من طعامه فقلت : يا رسول الله ، غفر الله لك فقال له صاحبي : هل استغفر لك النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، ولك. ثم تلا هذه الآية : {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} ثم تحولت فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه ، جمعا عليه خيلان كأنه الثآليل.
قوله تعالى : {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} فيه خمسة أقوال : أحدها : يعلم أعمالكم في تصرفكم وإقامتكم. الثاني : {مُتَقَلَّبَكُمْ} في أعمالكم نهارا {وَمَثْوَاكُمْ} في ليلكم نياما. وقيل
(16/242)
{مُتَقَلَّبَكُمْ} في الدنيا. {وَمَثْوَاكُمْ} في الدنيا والآخرة ، قال ابن عباس والضحاك. وقال عكرمة : {مُتَقَلَّبَكُمْ} في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات. {وَمَثْوَاكُمْ} مقامكم في الأرض. وقال ابن كيسان {مُتَقَلَّبَكُمْ} من ظهر إلى بطن الدنيا. {وَمَثْوَاكُمْ} في القبور.
قلت : والعموم يأتي على هذا كله ، فلا يخفى عليه سبحانه شيء من حركات بني آدم وسكناتهم ، وكذا جميع خلقه. فهو عالم بجميع ذلك قبل كونه جملة وتفصيلا أولى وأخرى. سبحانه! لا إله إلا هو.
الآية : 20 - 21 {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ، طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ}
قوله تعالى : {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} أي المؤمنون المخلصون. {لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} اشتياقا للوحي وحرصا على الجهاد وثوابه. ومعنى {لولا} هلا. {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ} لا نسخ فيها. قال قتادة : كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة ، وهي أشد القرآن على المنافقين. وفي قراءة عبدالله {فإذا أنزلت سورة محدثة} أي محدثة النزول. {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} أي فرض فيها الجهاد. وقرئ {فإذا أنزلت سورة وذكر فيها القتال} على البناء للفاعل ونصب القتال. {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي شك ونفاق. {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} أي نظر مغموصين مغتاظين بتحديد وتحديق ، كمن يشخص بصره عند الموت ، وذلك لجبنهم عن القتال جزعا وهلعا ، ولميلهم في السر إلى الكفار.
قوله تعالى : {فَأَوْلَى لَهُمْ} قال الجوهري : وقولهم : أولى لك ، تهديد ووعيد. قال الشاعر :
فأولى ثم أولى ثم أولى ... وهل للدر يحلب من مرد
(16/243)
قال الأصمعي : معناه قاربه ما يهلكه ، أي نزل به. وأنشد :
فعادى بين هاديتين منها ... وأولى أن يزيد على الثلاث
أي قارب أن يزيد. قال ثعلب : ولم يقل أحد في {أولى} أحسن مما قال الأصمعي. وقال المبرد : يقال لمن هم بالعطب ثم أفلت : أولى لك ، أي قاربت العطب. كما روي أن أعرابيا كان يوالي رمي الصيد فيفلت منه ليقول : أولى لك. ثم رمى صيدا فقاربه ثم أفلت منه فقال :
فلو كان أولى يطعم القوم صدتهم ... ولكن أولى يترك القوم جوعا
وقيل : هو كقول الرجل لصاحبه : يا محروم ، أي شيء فاتك وقال الجرجاني : هو مأخوذ من الويل ، فهو أفعل ، ولكن فيه قلب ، وهو أن عين الفعل وقع موقع اللام. وقد تم الكلام على قوله : {فأولى لهم}. قال قتادة : كأنه قال العقاب أولى لهم. وقيل : أي وليهم المكروه. ثم قال : "طاعة وقول معروف" أي طاعة وقول معروف أمثل وأحسن ، وهو مذهب سيبويه والخليل. وقيل : إن التقدير أمرنا طاعة وقول معروف ، فحذف المبتدأ فيوقف على {فَأَوْلَى لَهُمْ} وكذا من قدر يقولون منا طاعة. وقيل : إن الآية الثانية متصلة بالأولى. واللام في قوله : {لهم} بمعنى الباء ، أي الطاعة أولى وأليق بهم ، وأحق لهم من ترك أمتثال أمر الله. وهي قراءة أبي {يقولون طاعة} . وقيل إن : {طاعة} نعت لـ "سورة" ، على تقدير : فإذا أنزلت سورة ذات طاعة ، فلا يوقف على هذا على {فأولى لهم} . قال ابن عباس : إن قولهم {طاعة} إخبار من الله عز وجل عن المنافقين. والمعنى لهم طاعة وقول معروف ، قيل : وجوب الفرائض عليهم ، فإذا أنزلت الفرائض شق عليهم نزولها. فيوقف على هذا على {فأولى} . {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} أي جد القتال ، أو وجب فرض القتال ، كرهوه. فكرهوه جواب {إذا} وهو محذوف. وقيل : المعنى فإذا عزم أصحاب الأمر. {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} أي في الإيمان والجهاد. {لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} من المعصية والمخالفة.
(16/244)
الآية : 22 - 24 {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}
فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} اختلف في معنى {إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} فقيل : هو من الولاية. قال أبو العالية : المعنى فهل عسيتم إن توليتم الحكم فجُعِلتم حكاما أن تفسدوا في الأرض بأخذ الرشا. وقال الكلبي : أي فهل عسيتم إن توليتم أمر الأمة أن تفسدوا في الأرض بالظلم. وقال ابن جريج : المعنى فهل عسيتم إن توليتم عن الطاعة أن تفسدوا في الأرض بالمعاصي وقطع الأرحام. وقال كعب : المعنى فهل عسيتم إن توليتم الأمر أن يقتل بعضكم بعضا. وقيل : من الإعراض عن الشيء. قال قتادة : أي فهل عسيتم إن توليتم عن كتاب الله أن تفسدوا في الأرض بسفك الدماء الحرام ، وتقطعوا أرحامكم. وقيل : {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} أي فلعلكم إن أعرضتم عن القرآن وفارقتم أحكامه أن تفسدوا في الأرض فتعودوا إلى جاهليتكم. وقرئ بفتح السين وكسرها. وقد مضى في "البقرة" القول فيه مستوفى. وقال بكر المزني : إنها نزلت في الحرورية والخوارج ، وفيه بعد. والأظهر أنه إنما عني بها المنافقون. وقال ابن حيان : قريش. ونحوه قال المسيب بن شريك والفراء ، قالا : نزلت في بني أمية وبني هاشم ، ودليل هذا التأويل ما روى عبدالله بن مغفل قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} - ثم قال - هم هذا الحي من قريش أخذ الله عليهم إن ولوا الناس ألا يفسدوا في الأرض ولا يقطعوا أرحامهم". وقرأ علي بن أبي طالب {إن تُوُليتم أن تفسدوا في الأرض} بضم التاء والواو وكسر اللام. وهي قراءة ابن أبي إسحاق ، ورواها رويس عن
(16/245)
يعقوب. يقول : إن وليتكم ولاة جائرة خرجتم معهم في الفتنة وحاربتموهم.
قوله تعالى : {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} بالبغي والظلم والقتل. وقرأ يعقوب وسلام وعيسى وأبو حاتم {وتَقْطعوا} بفتح التاء وتخفيف القاف ، من القطع ، اعتبارا بقوله تعالى : {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة : 27]. وروى هذه القراءة هارون عن أبى عمرو. وقرأ الحسن {وتقطعوا} مفتوحة الحروف مشددة ، أعتبارا بقوله تعالى : {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [الأنبياء : 93]. الباقون {وتُقَطِّعوا} بضم التاء مشددة الطاء ، من التقطيع على التكثير ، وهو اختيار أبي عبيد. وتقدم ذكر {عسيتم} [البقرة : 246] في "البقرة". وقال الزجاج في قراءة نافع : لو جاز هذا لجاز "عيسى" بالكسر. قال الجوهري : ويقال عسيت أن أفعل ذلك ، وعسيت بالكسر. وقرئ {فهل عَسِيتم} بالكسر.
قلت : ويدل قوله هذا على أنهما لغتان. وقد مضى القول فيه في "البقرة" مستوفى.
قوله تعالى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} أي طردهم وأبعدهم من رحمته. {فَأَصَمَّهُمْ} عن الحق. {وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} أي قلوبهم عن الخير. فأتبع الأخبار بأن من فعل ذلك حقت عليه لعنته ، وسلبه الانتفاع بسمعه وبصره حتى لا ينقاد للحق وإن سمعه ، فجعله كالبهيمة التي لا تعقل. وقال : {فهل عسيتم} ثم قال : {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} فرجع من الخطاب إلى الغيبة على عادة العرب في ذلك.
قوله تعالى : {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} أي يتفهمونه فيعلمون ما أعد الله للذين لم يتولوا عن الإسلام. {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} أي بل على قلوب أقفال أقفلها الله عز وجل عليهم فهم لا يعقلون. وهذا يرد على القدرية والإمامية مذهبهم. وفي حديث مرفوع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن عليها أقفالا كأقفال الحديد حتى يكون الله يفتحها" . وأصل القفل اليبس والصلابة. ويقال لما يبس من الشجر : القفل. والقفيل مثله. والقفيل أيضا نبت. والقفيل : الصوت. قال الراجز :
لما أتاك يابسا قرشبا ... قمت إليه بالقفيل ضربا
كيف قريت شيخك الأزبا
(16/246)
القِرْشَبُّ (بكسر القاف) المسن ، عن الأصمعي. وأقفله الصوم أي أيبسه ، قاله القشيري والجوهري. فالأقفال ها هنا إشارة إلى ارتجاج القلب وخلوه عن الإيمان. أي لا يدخل قلوبهم الإيمان ولا يخرج منها الكفر ، لأن الله تعالى طبع على قلوبهم وقال : "على قلوب" لأنه لو قال على قلوبهم لم يدخل قلب غيرهم في هذه الجملة. والمراد أم على قلوب هؤلاء وقلوب من كانوا بهذه الصفة أقفالها.
الثالثة : في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت هذا مقام العائذ من القطيعة قال نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى قال فذاك لك - ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - اقرؤوا إن شئتم {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} " . وظاهر الآية أنها خطاب لجميع الكفار. وقال قتادة وغيره : معنى الآية فلعلكم ، أو يخاف عليكم ، إن أعرضتم عن الإيمان أن تعودوا إلى الفساد في الأرض لسفك الدماء. قال قتادة : كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله تعالى ألم يسفكوا الدماء الحرام ويقطعوا الأرحام وعصوا الرحمن. فالرحم على هذا رحم دين الإسلام والإيمان ، التي قد سماها الله إخوة بقوله تعالى : {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات : 10]. وعلى قول الفراء أن الآية نزلت في بني هاشم وبني أمية ، والمراد من أضمر منهم نفاقا ، فأشار بقطع الرحم إلى ما كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من القرابة بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك يوجب القتال. وبالجملة فالرحم على وجهين : عامة وخاصة ، فالعامة رحم الدين ، ويوجب مواصلتها بملازمة الإيمان والمحبة لأهله ونصرتهم ، والنصيحة وترك مضارتهم والعدل بينهم ، والنصفة في معاملتهم والقيام بحقوقهم الواجبة ، كتمريض المرضى وحقوق الموتى من غسلهم والصلاة عليهم ودفنهم ، وغير ذلك من الحقوق المترتبة لهم. وأما الرحم الخاصة وهي رحم القرابة من طرفي الرجل أبيه وأمه ، فتجب لهم الحقوق الخاصة وزيادة ، كالنفقة وتفقد أحوالهم ،
(16/247)
وترك التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضروراتهم ، وتتأكد في حقهم حقوق الرحم العامة ، حتى إذا تزاحمت الحقوق بدئ بالأقرب فالأقرب. وقال بعض أهل العلم : إن الرحم التي تجب صلتها هي كل رحم محرم وعليه فلا تجب في بني الأعمام وبني الأخوال. وقيل : بل هذا في كل رحم ممن ينطلق عليه ذلك من ذوي الأرحام في المواريث ، محرما كان أو غير محرم. فيخرج من هذا أن رحم الأم التي لا يتوارث بها لا تجب صلتهم ولا يحرم قطعهم. وهذا ليس بصحيح ، والصواب أن كل ما يشمله ويعمه الرحم تجب صلته على كل حال ، قربة ودينية ، على ما ذكرناه أولا والله أعلم. قد روى أبو داود الطيالسي في مسنده قال : حدثنا شعبة قال أخبرني محمد بن عبدالجبار قال سمعت محمد بن كعب القرظي يحدث عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن للرحم لسانا يوم القيامة تحت العرش يقول يا رب قطعت يا رب ظلمت يا رب أسيء إلي فيجيبها ربها ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك" . وفي صحيح مسلم عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا يدخل الجنة قاطع" . قال ابن أبي عمر قال سفيان : يعني قاطع رحم. ورواه البخاري.
الرابعة : قوله عليه السلام : "إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم..." "خلق" بمعنى اخترع وأصله التقدير ، كما تقدم. والخلق هنا بمعنى المخلوق. ومنه قوله تعالى : {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان : 11] أي مخلوقه. ومعنى [فرغ منهم] كمل خلقهم. لا أنه اشتغل بهم ثم فرغ من شغله بهم ، إذ ليس فعله بمباشرة ولا مناولة ، ولا خلقه بآلة ولا محاولة ، تعالى عن ذلك. وقوله : [قامت الرحم فقالت] يحمل على أحد وجهين : أحدهما : أن يكون الله تعالى أقام من يتكلم عن الرحم من الملائكة فيقول ذلك ، وكأنه وكل بهذه العبادة من يناضل عنها ويكتب ثواب من وصلها ووزر من قطعها ، كما وكل الله بسائر الأعمال كراما كاتبين ، وبمشاهدة أوقات الصلوات ملائكة متعاقبين. وثانيهما :
(16/248)
أن ذلك على جهة التقدير والتمثيل المفهم للإعياء وشدة الاعتناء. فكأنه قال : لو كانت الرحم ممن يعقل ويتكلم لقالت هذا الكلام ، كما قال تعالى : {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} ثم قال {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر : 21]. وقوله : "فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة" مقصود هذا الكلام الإخبار بتأكد أمر صلة الرحم ، وأن الله سبحانه قد نزلها بمنزلة من استجار به فأجاره ، وأدخله في ذمته وخفارته. وإذا كان كذلك فجار الله غير مخذول وعهده غير منقوض. ولذلك قال مخاطبا للرحم : "أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك". وهذا كما قال عليه السلام : "ومن صلى الصبح فهو في ذمة الله تعالى فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فإنه من يطلبه بذمته بشيء يدركه ثم يكبه في النار على وجهه".
الآية : 25 {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ}
قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} قال قتادة : هم كفار أهل الكتاب ، كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفوا نعته عندهم ، قاله ابن جريج. وقال ابن عباس والضحاك والسدي : هم المنافقون ، قعدوا عن القتال بعد ما علموه في القرآن. {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ} أي زين لهم خطاياهم ، قاله الحسن. {وَأَمْلَى لَهُمْ} أي مد لهم الشيطان في الأمل ووعدهم طول العمر ، عن الحسن أيضا. وقال : إن الذي أملى لهم في الأمل ومد في آجالهم هو الله عز وجل ، قاله الفراء والمفضل. وقال الكلبي ومقاتل : إن معنى {أملى لهم} أمهلهم ، فعلى هذا يكون الله تعالى أملى لهم بالإمهال في عذابهم. وقرأ أبو عمرو وابن إسحاق وعيسى بن عمرو أبو جعفر وشيبة {وَأُمْلِى لَهُمْ} بضم الهمزة وكسر اللام وفتح الياء ، على ما لم يسم فاعله. وكذلك قرأ ابن هرمز ومجاهد والجحدري ويعقوب ، إلا أنهم سكنوا الياء على وجه الخبر من الله تعالى عن نفسه أنه يفعل ذلك بهم ، كأنه قال : وأنا أملي لهم. واختاره أبو حاتم ، قال : لأن فتح الهمزة يوهم أن الشيطان
(16/249)
يملي لهم ، وليس كذلك ، فلهذا عدل إلى الضم. قال المهدوي : ومن قرأ {وأملى لهم} فالفاعل اسم الله تعالى. وقيل الشيطان. واختار أبو عبيد قراءة العامة ، قال : لأن المعنى معلوم ، لقوله : {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} [الفتح : 9] رد التسبيح على اسم الله ، والتوقير والتعزير على اسم الرسول.
الآية : 26 {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ}
قوله تعالى : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا} أي ذلك الإملاء لهم حتى يتمادوا في الكفر بأنهم قالوا ، يعني المنافقين واليهود. {قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ} وهم المشركون. {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} أي في مخالفة محمد والتظاهر على عداوته ، والقعود عن الجهاد معه وتوهين أمره في السر. وهم إنما قالوا ذلك سرا فأخبر الله نبيه. وقراءة العامة {أسرارهم} بفتح الهمزة جمع سر ، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ الكوفيون وابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم {إسرارهم} بكسر الهمزة على المصدر ، نحو قوله تعالى : {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} [نوح : 9] جمع لاختلاف ضروب السر.
الآية : 27 {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}
قوله تعالى : {فَكَيْفَ} أي فكيف تكون حالهم. {إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} أي ضاربين ، فهو في موضع الحال. ومعنى الكلام التخويف والتهديد ، أي إن تأخر عنهم العذاب فإلى انقضاء العمر. وقد مضى في "الأنفال والنحل". وقال ابن عباس : لا يتوفى أحد على معصية إلا بضرب شديد لوجهه وقفاه. وقيل : ذلك عند القتال نصرة لرسول الله
(16/250)
صلى الله عليه وسلم ، بضرب الملائكة وجوههم عند الطلب وأدبارهم عند الهرب. وقيل : ذلك في القيامة عند سوقهم إلى النار.
الآية : 28 {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}
قوله تعالى : {ذَلِكَ} أي ذلك جزاؤهم. {بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} قال ابن عباس : هو كتمانهم ما في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم. وإن حملت على المنافقين فهو إشارة إلى ما أضمروا عليه من الكفر. {وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} يعني الإيمان. {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} أي ما عملوه من صدقة وصلة رحم وغير ذلك ، على ما تقدم.
الآية : 29 - 30 {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ، وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ}
قوله تعالى : {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} نفاق وشك ، يعني المنافقين. {أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} الأضغان ما يضمر من المكروه. واختلف في معناه ، فقال السدي : غشهم. وقال ابن عباس : حسدهم. وقال قطرب : عداوتهم ، وأنشد قول الشاعر :
قل لابن هند ما أردت بمنطق ... ساء الصديق وشيد الأضغانا
وقيل : أحقادهم. واحدها ضغن. قال :
وذي ضغن كففت النفس عنه
وقد تقدم. وقال عمرو بن كلثوم :
وإن الضغن بعد الضغن يفشو ... عليك ويخرج الداء الدفينا
(16/251)
قال الجوهري : الضغن والضغينة : الحقد. وقد ضغن عليه "بالكسر" ضغنا. وتضاغن القوم واضطغنوا : أبطنوا على الأحقاد. واضطغنت الصبي إذا أخذته تحت حضنك. وأنشد الأحمر :
كأنه مضطغن صبيا
أي حامله في حجره. وقال ابن مقبل :
إذا اضطغنت سلاحي عند مغرضها ... ومرفق كرئاس السيف إذ شسفا
وفرس ضاغن : لا يعطي ما عنده من الجري إلا بالضرب. والمعنى : أم حسبوا أن لن يظهر الله عداوتهم وحقدهم لأهل الإسلام. {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ} أي لعرفناكهم. قال ابن عباس : وقد عرفه إياهم في سورة "التوبة". تقول العرب : سأريك ما أصنع ، أي سأعلمك ، ومنه قوله تعالى : {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء : 105] أي بما أعلمك. {فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} أي بعلاماتهم. قال أنس. ما خفي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية أحد من المنافقين ، كان يعرفهم بسيماهم. وقد كنا في غزاة وفيها سبعة من المنافقين يشك فيهم الناس ، فأصبحوا ذات ليلة وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب "هذا منافق" فذلك سيماهم. وقال ابن زيد : قدر الله إظهارهم وأمر أن يخرجوا من المسجد فأبوا إلا أن يتمسكوا بلا إله إلا الله ، فحقنت دماؤهم ونكحوا وأنكحوا بها. {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} أي في فحواه ومعناه. ومنه قول الشاعر :
وخير الكلام ما كان لحنا
أي ما عرف بالمعنى ولم يصرح به. مأخوذ من اللحن في الإعراب ، وهو الذهاب عن الصواب ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : "إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض" أي أذهب بها في الجواب لقوته على تصريف الكلام. أبو زيد :
(16/252)
لحنت له (بالفتح) ألحن لحنا إذا قلت له قولا يفهمه عنك ويخفى على غيره. ولحنه هو عني (بالكسر) يلحنه لحنا أي فهمه. وألحنته أنا إياه ، ولاحنت الناس فاطنتهم ، قال الفزاري :
وحديث ألذه هو مما ... ينعت الناعتون يوزن وزنا
منطق رائع وتلحن أحيانا ... وخير الحديث ما كان لحنا
يريد أنها تتكلم بشيء وهي تريد غيره ، وتعرض في حديثها فتزيله عن جهته من فطنتها وذكائها. وقد قال تعالى : {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}. وقال القتال الكلابي :
ولقد وحيت لكم لكيما تفهموا ... ولحنت لحنا ليس بالمرتاب
وقال مرار الأسدي :
ولحنت لحنا فيه غش ورابني ... صدودك ترضين الوشاة الأعاديا
قال الكلبي : فلم يتكلم بعد نزولها عند النبي صلى الله عليه وسلم منافق إلا عرفه. وقيل : كان المنافقون يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بكلام تواضعوه فيما بينهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ذلك ويأخذ بالظاهر المعتاد ، فنبهه الله تعالى عليه ، فكان بعد هذا يعرف المنافقين إذا سمع كلامهم. قال أنس : فلم يخف منافق بعد هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عرفه الله ذلك بوحي أو علامة عرفها بتعريف الله إياه. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} أي لا يخفى عليه شيء منها.
الآية : 31 {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}
قوله تعالى : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} أي نتعبدكم بالشرائع لان علمنا عواقب الأمور. وقيل : لنعاملنكم معاملة المختبرين. {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} عليه. قال ابن عباس : {حَتَّى نَعْلَمَ} حتى نميز. وقال على رضي الله عنه. {حَتَّى نَعْلَمَ} حتى نرى. وقد مضى
(16/253)
في "البقرة". وقراءة العامة بالنون في {نبلونكم} و {نعلم} {ونبلو} . وقرأ أبو بكر عن عاصم بالياء فيهن. وروى رويس عن يعقوب إسكان الواو من {نبلو} على القطع مما قبل. ونصب الباقون ردا على قوله : {حتى نعلم} . وهذا العلم هو العلم الذي يقع به الجزاء ، لأنه إنما يجازيهم بأعمالهم لا بعلمه القديم عليهم. فتأويله : حتى نعلم المجاهدين علم شهادة ، لأنهم إذا أمروا بالعمل يشهد منهم ما عملوا ، فالجزاء بالثواب والعقاب يقع على علم الشهادة. {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} نختبرها ونظهرها. قال إبراهيم بن الأشعث : كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : اللهم لا تبتلنا فإنك إذا بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا.
الآية : 32 {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ}
قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} يرجع إلى المنافقين أو إلى اليهود. وقال ابن عباس : هم المطعمون يوم بدر. نظيرها : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال : 36] الآية. {وَشَاقُّوا الرَّسُولَ} أي عادوه وخالفوه. {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} أي علموا أنه نبي بالحجج والآيات. {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} بكفرهم. {وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} أي ثواب ما عملوه.
الآية : 33 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}
فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} لما بين حال الكفار أمر المؤمنين بلزوم الطاعة في أوامره والرسول في سننه. {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} أي حسناتكم بالمعاصي ، قال الحسن. وقال الزهري : بالكبائر. ابن جريج : بالرياء والسمعة.
(16/254)
وقال مقاتل والثمالي : بالمن ، وهو خطاب لمن كان يمن على النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه. وكله متقارب ، وقول الحسن يجمعه. وفيه إشارة إلى أن الكبائر تحبط الطاعات ، والمعاصي تخرج عن الإيمان.
الثانية : احتج علماؤنا وغيرهم بهذه الآية على أن التحلل من التطوع - صلاة كان أو صوما - بعد التلبس به لا يجوز ، لأن فيه إبطال العمل وقد نهى الله عنه. وقال من أجاز ذلك - وهو الإمام الشافعي وغيره - : المراد بذلك إبطال ثواب العمل المفروض ، فنهى الرجل عن إحباط ثوابه. فأما ما كان نفلا فلا ، لأنه ليس واجبا عليه. فان زعموا أن اللفظ عام فالعام يجوز تخصيصه أن النفل تطوع ، والتطوع يقتضي تخبيرا. وعن أبي العالية كانوا يرون أنه لا يضر مع الإسلام ذنب ، حتى نزلت هذه الآية فخافوا الكبائر أن تحبط الأعمال. وقال مقاتل : يقول الله تعالى إذا عصيتم الرسول فقد أبطلتم أعمالكم.
الآية : 34 {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}
بين أن الاعتبار بالوفاة على الكفر يوجب الخلود في النار. وقد مضى في "البقرة" الكلام فيه. وقيل : إن المراد بالآية أصحابة القليب. وحكمها عام.
الآية : 35 {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {فَلا تَهِنُوا} أي تضعفوا عن القتال. والوهن : الضعف وقد وهن الإنسان ووهنه غيره ، يتعدى ولا يتعدى. قال :
إنني لست بموهون فقر
(16/255)
ووهن أيضا (بالكسر) وهنا أي ضعف ، وقرئ {فما وهنوا} بضم الهاء وكسرها. وقد مضى في (آل عمران".
الثانية : قوله تعالى : {وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} أي الصلح. {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} أي وأنتم أعلم بالله منهم. وقيل : وأنتم الأعلون في الحجة. وقيل : المعنى وأنتم الغالبون لأنكم مؤمنون وإن غلبوكم في الظاهر في بعض الأحوال. وقال قتادة : لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها.
الثالثة : واختلف العلماء في حكمها ، فقيل : إنها ناسخة لقوله تعالى : {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال : 61] ، لأن الله تعالى منع من الميل إلى الصلح إذا لم يكن بالمسلمين حاجة إلى الصلح. وقيل : منسوخة بقوله تعالى : {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} . وقيل : هي محكمة. والآيتان نزلتا في وقتين مختلفي الحال. وقيل : إن قوله : {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} مخصوص في قوم بأعيانهم ، والأخرى عامة. فلا يجوز مهادنة الكفار إلا عند الضرورة ، وذلك إذا عجزنا عن مقاومتهم لضعف المسلمين. وقد مضى هذا المعنى مستوفى. {وَاللَّهُ مَعَكُمْ} أي بالنصر والمعونة ، مثل : {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت : 69] : {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أي لن ينقصكم ، عن ابن عباس وغيره. ومنه الموتور الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه ، تقول منه : وتره يتره وترا وترة. ومنه قوله عليه السلام : "من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله" أي ذهب بهما. وكذلك وتره حقه أي نقصه. وقوله تعالى : {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أي لن ينتقصكم في أعمالكم ، كما تقول : دخلت البيت ، وأنت تريد في البيت ، قاله الجوهري. الفراء : {ولن يتركم} هو مشتق من الوتر وهو الفرد ، فكان المعنى : ولن يفردكم بغير ثواب.
(16/256)