الجزء 13 من الطبعة
سورة الفرقان
الآية : [50] {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} يعني القرآن ، وقد جرى ذكره في أول السورة : قوله تعالى : {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} [الفرقان : 1]. وقوله : {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان : 29] وقوله : {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان : 30]. {لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} أي جحودا له وتكذيبا به. وقيل : {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} هو المطر. روي عن ابن عباس وابن مسعود : وأنه ليس عام بأكثر مطرا من عام ولكن الله يصرفه حيث يشاء ، فما زيد لبعض نقص من غيرهم. فهذا معنى التصريف. وقيل : "صرفناه بينهم" وابلا وطشا وطلا ورهاما - الجوهري : الرهام الأمطار اللينة - ورذاذا. وقيل : تصريفه تنويع الانتفاع به في الشرب والسقي والزراعات به والطهارات وسقي البساتين والغسل وشبهه. {لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} قال عكرمة : هو قولهم في الأنواء : مطرنا بنوء كذا. قال النحاس : ولا نعلم بين أهل التفسير اختلافا أن الكفر ها هنا قولهم مطرنا بنوء كذا وكذا ؛ وأن نظيره فعل النجم كذا ، وأن كل من نسب إليه فعلا فهو كافر. وروى الربيع بن صبيح قال : مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، فلما أصبح قال النبي صلى الله عليه وسلم : "أصبح الناس فيها رجلين شاكر وكافر فأما الشاكر فيحمد الله تعالى على سقياه وغياثه وأما الكافر فيقول مطرنا بنوء كذا وكذا". وهذا متفق على صحته بمعناه وسيأتي في الواقعة إن شاء الله وروي من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ما من سنة بأمطر من أخرى ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي صرف الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار". وقيل : التصريف راجع إلى الريح ، وقد ممضى في {البقرة} بيانه. وقرأ حمزة والكسائي : {لِيَذَّكَّرُوا} مخففة الذال من الذكر. الباقون مثقلا من التذكر ؟ أي ليذكروا نعم الله ويعلموا أن من أنعم بها لا يجوز الإشراك به ؛ فالتذكر قريب من الذكر غير أن التذكر يطلق فيما بعد عن القلب فيحتاج إلى تكلف في التذكر.
(13/57)
الآية : [51] {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً} ،
الآية : [52] {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً}
قوله تعالى : {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً} أي رسولا ينذرهم كما قسمنا. المطر ليخف عليك أعباء النبوة ، ولكنا لم نفعل بل جعلناك نذيرا للكل لترتفع درجتك فاشكر نعمة الله عليك. {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} أي فيما يدعونك إليه من اتباع آلهتهم. {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} قال ابن عباس بالقرآن. ابن زيد : بالإسلام. وقيل : بالسيف ؛ وهذا فيه بعد ؛ لأن السورة مكية نزلت قبل الأمر بالقتال. {جِهَاداً كَبِيراً } لا يخالطه فتور.
الآية : [53] {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً}
قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} عاد الكلام إلى ذكر النعم. و{مَرَجَ} خلى وخلط وأرسل. قال مجاهد : أرسلهما وأفاض أحدهما في الآخر. قال ابن عرفة : {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي خلطهما فهما يلتقيان ؛ يقال : مرجته إذا خلطته. ومرج الدين والأمر اختلط واضطرب ؛ ومنه قوله تعالى : {فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق : 5]. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لعبدالله بن عمرو بن العاصي : "إذا رأيت الناس مرجت عهودهم وخفت أماناتهم وكانوا هكذا وهكذا" وشبك بين أصابعه فقلت له : كيف أصنع عند ذلك ، جعلني الله فداك! قال : "الزم بيتك واملك عليك لسانك وخذ بما تعرف ودع ما تنكر وعليك بخاصة أمر نفسك ودع عنك أمر العامة" خرجه النسائي وأبو داود وغيرهما. وقال الأزهري : {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} خلى بينهما ؛ يقال مرجت الدابة إذا خليتها ترعى. وقال ثعلب : المرج الإجراء ؛ فقوله : {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي أجراهما. وقال الأخفش : يقول قوم أمرج البحرين مثل مرج فعل وأفعل. {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} أي حلو شديد العذوبة.
(13/58)
{وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أي فيه ملوحة ومرارة. وروي عن طلحة أنه قرئ : {وَهَذَا مَلْحٌ} بفتح الميم وكسر اللام. {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً} أي حاجزا من قدرته لا يغلب أحدهما على صاحبه ؛ كما قال في سورة الرحمن {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ. بينهما بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن : 19 - 20]. {وَحِجْراً مَحْجُوراً} أي سترا مستورا يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر. فالبرزخ الحاجز ، والحجر المانع. وقال الحسن : يعني بحر فارس وبحر الروم. وقال ابن عباس وابن جبير : يعني بحر السماء وبحر الأرض. قال ابن عباس : يلتقيان في كل عام وبينهما برزخ قضاء من قضائه. {وَحِجْراً مَحْجُوراً} حراما محرما أن يعذب هذا الملح بالعذب ، أو يصلح هذا العذب بالملح.
الآية : [54] { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً}
قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً} أي خلق من النطفة إنسانا. {فَجَعَلَهُ} أي جعل الإنسان {نَسَباً وَصِهْراً} . وقيل : {مِنَ الْمَاءِ} إشارة إلى أصل الخلقة في أن كل حي مخلوق من الماء. وفي هذه الآية تعديد النعمة على الناس في ، إيجادهم بعد العدم ، والتنبيه على العبرة في ذلك.
قوله تعالى : {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} النسب والصهر معنيان يعمان كل قربى تكون بين آدميين. قال ابن العربي : النسب عبارة عن خلط الماء بين الذكر والأنثى على وجه الشرع ؛ فإن كان بمعصية كان خلقا مطلقا ولم يكن نسبا محققا ، ولذلك لم يدخل تحت قوله : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء : 23] بنته من الزنى ؛ لأنها ليست ببنت له في أصح القولين لعلمائنا وأصح القولين في الدين ؛ وإذا لم يكن نسب شرعا فلا صهر شرعا فلا يحرم الزنى بنت أم ولا أم بنت ، وما يحرم من الحلال لا يحرم من الحرام ؛ لأن الله امتن بالنسب والصهر على عباده ورفع قدرهما ، وعلق الأحكام في الحل والحرمة عليهما فلا يلحق الباطل بهما ولا يساويهما.
(13/59)
قلت : اختلف الفقهاء في نكاح الرجل ابنته من زنى أو أخته أو بنت ابنه من زنى ؛ فحرم ذلك قوم منهم ابن القاسم ، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه ، وأجاز ذلك آخرون منهم عبدالملك بن الماجشون ، وهو قول الشافعي ، وقد مضى هذا في {النِّسَاءَ} مجودا. قال الفراء : النسب الذي لا يحل نكاحه ، والصهر الذي يحل نكاحه. وقاله الزجاج : وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه. واشتقاق الصهر من صهرت الشيء إذا خلطته ؛ فكل واحد من الصهرين قد خالط صاحبه ، فسميت المناكح صهرا لاختلاط الناس بها. وقيل : الصهر قرابة النكاح ؛ فقرابة الزوجة هم الأختان ، وقرابة الزوج هم الأحماء. والأصهار يقع عاما لذلك كله ؛ قاله الأصمعي. وقال ابن الأعرابي : الأختان أبو المرأة وأخوهما وعمها - كما قال الأصمعي - والصهر زوج ابنة الرجل وأخوه وأبوه وعمه. وقال محمد بن الحسن في رواية أبي سليمان الجوزجاني : أختان الرجل أزواج بناته وأخواته وعماته وخالاته ، وكل ذات محرم منه ، وأصهاره كل ذي رحم محرم من زوجته. قال النحاس : الأولى في هذا أن يكون القول في الأصهار ما قال الأصمعي ، وأن يكون من قبلهما جميعا. يقال : صهرت الشيء أي خلطته ؛ فكل واحد منهما قد خلط صاحبه. والأولى في الأختان ما قال محمد بن الحسن لجهتين : إحداهما الحديث المرفوع ، روى محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبدالله بن قسيط عن محمد بن أسامة بن زيد عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما أنت يا علي فختني وأبو ولدي وأنت مني وأنا منك" . فهذا على أن زوج البنت ختن. والجهة الأخرى أن اشتقاق الختن من ختنه إذا قطعه ؛ وكان الزوج قد انقطع عن أهله ، وقطع زوجته عن أهلها. وقال الضحاك : الصهر قرابة الرضاع. قال ابن عطية : وذلك عندي وهم أوجبه أن ابن عباس قال : حرم من النسب سبع ، ومن الصهر خمس. وفي رواية أخرى من الصهر سبع ؛ يريد قوله عز وجل : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} [النساء : 23] فهذا هو النسب. ثم يريد بالصهر قوله تعالى : {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} إلى قوله : {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ}. ثم ذكر المحصنات. ومحمل هذا أن ابن عباس أراد حرم من الصهر ما ذكر معه ، فقد أشار
(13/60)
بما ذكر إلى عظمه وهو الصهر ، لا أن الرضاع صهر ، وإنما الرضاع عديل النسب يحرم منه ما يحرم من النسب بحكم الحديث المأثور فيه. ومن روى وحرم من الصهر خمس أسقط من الآيتين الجمع بين الأختين والمحصنات ؛ وهن ذوات الأزواج.
قلت : فابن عطية جعل الرضاع مع ما تقدم نسبا ، وهو قول الزجاج. قال أبو إسحاق : النسب الذي ليس بصهر من قوله جل ثناؤه : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء : 23] إلى قوله {تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء : 23] والصهر من له التزويج. قال ابن عطية : وحكى الزهراوي قولا أن النسب من جهة البنين والصهر من جهة البنات.
قلت : وذكر هذا القول النحاس ، وقال : لأن المصاهرة من جهتين تكون. وقال ابن سيرين : نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه ؛ لأنه جمعه معه نسب وصهر. قال ابن عطية : فاجتماعهما وكادة حرمة إلى يوم القيامة. {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} على خلق ما يريده.
الآية : [55] {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً}
قوله تعالى : {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ} لما عدد النعم وبين كمال قدرته عجب من المشركين في إشراكهم به من لا يقدر على نفع ولا ضر ؛ أي إن الله هو الذي خلق ما ذكره ، ثم هؤلاء لجهلهم يعبدون من دونه أمواتا جمادات لا تنفع ولا تضر. {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} روي عن ابن عباس {الْكَافِرُ} هنا أبو جهل لعنه الله ؛ وشرحه أنه يستظهر بعبادة الأوثان على أوليائه. وقال عكرمة : {الْكَافِرُ} إبليس ، ظهر على عداوة ربه. وقال مطرف : {الْكَافِرُ} هنا الشيطان. وقال الحسن : {ظَهِيراً} أي معينا للشيطان على المعاصي. وقيل : المعنى ؛ وكان الكافر على ربه هينا ذليلا لا قدر له ولا وزن عنده ؛ من قول العرب : ظهرت به أي جعلته خلف ظهرك ولم تلتفت إليه. ومنه قوله تعالى : {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً} [هود : 92] أي هينا.
(13/61)
ومنه قول الفرزدق :
تميم بن قيس لا تكونن حاجتي ... بظهر فلا يعيا علي جوابها
هذا معنى قول أبي عبيدة. وظهير بمعنى مظهور. أي كفر الكافرين هين على الله تعالى ، والله مستهين به لأن كفره لا يضره. وقيل : وكان الكافر على ربه الذي يعبده وهو الصنم قويا غالبا يعمل به ما يشاء ؛ لأن الجماد لا قدرة له على دفع ضر ونفع.
الآية : [56] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً}
الآية : [57] {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً}
قوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} يريد بالجنة مبشرا ونذيرا من النار ؛ وما أرسلناك وكيلا ولا مسيطرا. {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} يريد على ما جئتكم به من القرآن والوحي. و {مَنْ} للتأكيد. {إِلاَّ مَنْ شَاءَ} لكن من شاء ؛ فهو استثناء منقطع ، والمعنى : لكن من شاء {أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} بإنفاقه من ماله في سبيل الله فلينفق. ويجوز أن يكون متصلا ويقدر حذف المضاف ؛ التقدير : إلا أجر {مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} باتباع ديني حتى ينال كرامة الدنيا والآخرة.
الآية : [58] {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً}
قوله تعالى : {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} تقدم معنى التوكل في {آل عمران} وهذه السورة وأنه اعتماد القلب على الله تعالى في كل الأمور ، وأن الأسباب وسائط أمر بها من غير اعتماد عليها. {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} أي نزه الله تعالى عما يصفه هؤلاء الكفار به من الشركاء. والتسبيح التنزيه ، وقد تقدم. وقيل : {وَسَبِّحْ} أي وصل له ؛ وتسمى الصلاة تسبيحا. { وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} أي عليما فيجازيهم بها.
(13/62)
الآية : [59] {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً}
قوله تعالى : {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} تقدم في {الأعراف} و {ا الَّذِي} في موضع خفض نعتا للحي. وقال : {بَيْنَهُمَا} ولم يقل بينهن ؛ لأنه أراد الصنفين والنوعين والشيئين ؛ كقول القطامي :
ألم يحزنك أن حبال قيس ... وتغلب قد تباينتا انقطاعا
أراد وحبال تغلب فثنى ، والحبال جمع ؛ لأنه أراد الشيئين والنوعين. {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} قال الزجاج : المعنى فاسأل عنه. وقد حكى هذا جماعة من أهل اللغة أن الباء تكون بمعنى عن ؛ كما قال تعالى : {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج : 1] وقال الشاعر :
هلا سألت الخيل يا بنة مالك ... إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
وقال علقمة بن عبدة :
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيب
أي عن النساء وعما لم تعلمي. وأنكره علي بن سليمان وقال : أهل النظر ينكرون أن تكون الباء بمعنى عن ؛ لأن في هذا إفسادا لمعاني قول العرب : لو لقيت فلانا للقيك به الأسد ؛ أي للقيك بلقائك إياه الأسد. المعنى فاسأل بسؤالك إياه خبيرا. وكذلك قال ابن جبير : الخبير هو الله تعالى. فـ {خَبِيراً} نصب على المفعول به بالسؤال.
قلت : قول الزجاج يخرج على وجه حسن ، وهو أن يكون الخبير غير الله ، أي فاسأل عنه خبيرا ، أي عالما به ، أي بصفاته وأسمائه. وقيل : المعنى فاسأل له خبيرا ، فهو نصب
(13/63)
على الحال من الهاء المضمرة. قال المهدوي : ولا يحسن حالا إذ لا يخلو أن تكون الحال من السائل أو المسؤول ، ولا يصح كونها حالا من الفاعل ؛ لأن الخبير لا يحتاج أن يسأل غيره. ولا يكون من المفعول ؛ لأن المسؤول عنه وهو الرحمن خبير أبدا ، والحال في أغلب الأمر يتغير وينتقل ؛ إلا أن يحمل على أنها حال مؤكدة ؛ مثل : {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً} [البقرة : 91] فيجوز. وأما {الرَّحْمَنِ} ففي رفعه ثلاثة أوجه : يكون بدلا من المضمر الذي في {اسْتَوَى}. ويجوز أن يكون مرفوعا بمعنى هو الرحمن. ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء وخبره {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} . ويجوز الخفض بمعنى وتوكل على الحي الذي لا يموت الرحمن ؛ يكون نعتا. ويجوز النصب على المدح.
الآية : [60] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً}
قوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} أي لله تعالى. {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} على جهة الإنكار والتعجب ، أي ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة ، يعنون مسيلمة الكذاب. وزعم القاضي أبو بكر بن العربي أنهم إنما جهلوا الصفة لا الموصوف ، واستدل على ذلك ، بقوله : {وَمَا الرَّحْمَنُ} ولم يقولوا ومن الرحمن. قال ابن الحصار : وكأنه رحمه الله لم يقرأ الآية الأخرى {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد : 30]. {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} هذه قراءة المدنيين والبصريين ؛ أي لما تأمرنا أنت يا محمد. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي : {يأمرنا } بالياء. يعنون الرحمن ؛ كذا تأوله أبو عبيد ، قال : ولو أقروا بأن الرحمن أمرهم ما كانوا كفارا. فقال النحاس : وليس يجب أن يتأول عن الكوفيين في قراءتهم هذا التأويل البعيد ، ولكن الأولى أن يكون التأويل لهم {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فتصح القراءة على هذا ، وإن كانت الأولى أبين وأقرب تناولا. {وَزَادَهُمْ نُفُوراً} أي زادهم قول القائل لهم اسجدوا للرحمن نفورا عن الدين. وكان سفيان الثوري يقول في هذه الآية : إلهي زادني لك خضوعا ما زاد أعداك نفورا.
(13/64)
الآية : [61] {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً}
قوله تعالى : {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} أي منازل. وقد تقدم ذكرها. {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً} قال ابن عباس : يعني الشمس ؛ نظيره ؛ {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً} [نوح : 16]. وقراءة العامة : {سِرَاجا} بالتوحيد. وقرأ حمزة والكسائي : { سِرَاجاً } يريدون النجوم العظام الوقادة. والقراءة الأولى عند أبي عبيد أولى ؛ لأنه تأول أن السرج النجوم ، وأن البروج النجوم ؛ فيجيء المعنى نجوما ونجوما. النحاس : ولكن التأويل لهم أن أبان بن تغلب قال : السرج النجوم الدراري. الثعلبي : كالزهرة والمشترى وزحل والسماكين ونحوها. { وَقَمَراً مُنِيراً} ينير الأرض إذا طلع. وروى عصمة عن الأعمش {وَقَمَراً} بضم القاف لع وإسكان الميم. وهذه قراءة شاذة ، ولو لم يكن فيها إلا أن أحمد بن حنبل وهو إمام المسلمين في وقته قال : لا تكتبوا ما يحكيه عصمة الذي يروي القراءات ، وقد أولع أبو حاتم السجستاني بذكر ما يرويه عصمة هذا.
الآية : [62] {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً}
فيه أربع مسائل :
قوله تعالى : {خِلْفَةً} قال أبو عبيدة : الخلفة كل شيء بعد شيء. وكل واحد من الليل والنهار يخلف صاحبه. ومقال للمبطون : أصابته خلفة ؛ أي قيام وقعود يخلف هذا ذاك. ومنه خلفه النبات ، وهو ورق يخرج بعد الورق الأول في الصيف. ومن هذا المعنى قول زهير بن أبي سلمى :
بها العين والآرام يمشين خلفة ... وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
(13/65)
الرئم ولد الظبي وجمعه آرام ؛ يقول : إذا ذهب فوج جاء فوج. ومنه قول الآخر يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأبا.
ولها بالماطرون إذا ... أكل النمل الذي جمعا
خلفة حتى إذا ارتبعت ... سكنت من حلق بيعا
في بيوت وسط دسكرة ... حولها الزيتون قد ينعا
الأولي- قال مجاهد : {خِلْفَةً} من الخلاف ؛ هذا أبيض وهذا أسود ؛ والأول أقوى. وقيل : يتعاقبان في الضياء والظلام والزيادة والنقصان. وقيل : هو من باب حذف المضاف ؛ أي جعل الليل والنهار ذوي خلفة ، أي اختلاف. {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} أي يتذكر ، فيعلم أن الله لم يجعله كذلك عبثا فيعتبر في مصنوعات الله ، ويشكر الله تعالى على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم. وقال عمر بن الخطاب وابن عباس والحسن : معناه من فاته شيء من الخير بالليل أدركه بالنهار ، ومن فاته بالنهار أدركه بالليل. وفي الصحيح : "ما من امرئ تكون له صلاة بالليل فغلبه عليها نوم فيصلي ما بين طلوع الشمس إلى صلاة الظهر إلا كتب الله له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة". وروى مسلم عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل" .
الثانية- قال ابن العربي : سمعت ذا الشهيد الأكبر يقول : إن الله تعالى خلق العبد حيا عالما ، وبذلك كماله ، وسلط عليه آفة النوم وضرورة الحدث ونقصان الخلقة ؛ إذ الكمال للأول الخالق ، فما أمكن الرجل من دفع النوم بقلة الأكل والسهر في طاعة الله فليفعل. ومن الغبن العظيم أن يعيش الرجل ستين سنة ينام ليلها فيذهب النصف من عمره لغوا ، وينام سدس النهار راحة فيذهب ثلثاه ويبقى له من العمر عشرون سنة ، ومن الجهالة والسفاهة أن يتلف الرجل ثلثي عمره في لذة فانية ، ولا يتلف عمره بسهر في لذة باقية عند الغني الوفي الذي ليس بعديم ولا ظلوم.
(13/66)
اسم العبودية ، ومن كان بعكس هذا شمله قوله تعالى : {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف : 179] يعني في عدم الاعتبار ؛ كما تقدم في {الْأَعْرَافِ}. وكأنه قال : وعباد الرحمن هم الذين يمشون على الأرض ، فحذف هم ؛ كقولك : زيد الأمير ، أي زيد هو الأمير. فـ {الَّذِينَ} خبر مبتدأ محذوف ؛ قاله الأخفش. وقيل : الخبر قوله في آخر السورة : {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان : 75] وما بين المبتدأ والخبر أوصاف لهم وما تعلق بها ؛ قاله الزجاج. قال : ويجوز أن يكون الخبر { الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ }. و {يَمْشُونَ } عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم ، فذكر من ذلك العظم ، لا سيما وفي ذلك الانتقال في الأرض ؛ وهو معاشرة الناس وخلطتهم.
قوله تعالى : {هَوْناً} الهون مصدر الهين وهو من السكينة والوقار. وفي التفسير : يمشون على الأرض حلماء متواضعين ، يمشون في اقتصاد. والقصد والتؤدة وحسن السمت من أخلاق النبوة. وقال صلى الله عليه وسلم : "أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس في الإيضاع" وروي في صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا زال زال تقلعا ، ويخطو تكفؤا ، ويمشي هونا ، ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب. التقلع ، رفع الرجل بقوة والتكفؤ : الميل إلى سنن المشي وقصده. والهون الرفق والوقار. والذريع الواسع الخطا ؛ أي أن مشيه كان يرفع فيه رجله بسرعة ويمد خطوه ؛ خلاف مشية المختال ، ويقصد سمته ؛ وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة. كما قال : كأنما ينحط مكن صبب ، قاله القاضي عياض. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسرع جبلة لا تكلفا. قال الزهري : سرعة المشي تذهب بهاء الوجه. قال ابن عطية : يريد الإسراع الحثيث لأنه يخل بالوقار ؛ والخير في التوسط. وقال زيد بن أسلم : كنت أسأل عن تفسير قوله تعالى : {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} فما وجدت من ذلك شفاء ، فرأيت في المنام من جاءني فقال لى : هم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض. قال القشيري ؛ وقيل لا يمشون لإفساد ومعصية ، بل في طاعة الله والأمور المباحة من غير هوك. وقد قال الله تعالى : {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ
(13/67)
كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان : 18]. وقال ابن عباس : بالطاعة والمعروف والتواضع. الحسن : حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا. وقيل : لا يتكبرون على الناس.
قلت : وهذه كلها معان متقاربة ، ويجمعها العلم بالله والخوف منه ، والمعرفة بأحكامه والخشية من عذابه وعقابه ؛ جعلنا الله منهم بفضله ومنه. وذهبت فرقة إلى أن {هَوْناً} مرتبط بقوله : {مْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ} ، أن المشي هو هون. قال ابن عطية : ويشبه أن يتأول هذا على أن تكون أخلاق ذلك الماشي هونا مناسبة لمشيه ، فيرجع القول إلى نحو ما بيناه. وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل ؛ لأنه رب ماش هونا رويدا وهو ذئب أطلس. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكفأ في مشيه كأنما ينحط في صبب. وهو عليه الصلاة والسلام الصدر في هذه الأمة. وقوله عليه الصلاة والسلام : "من مشى منكم في طمع فليمش رويدا" إنما أراد في عقد نفسه ، ولم يرد المشي وحده. ألا ترى أن المبطلين المتحلين بالدين تمسكوا بصورة المشي فقط ؛ حتى قال فيهم الشاعر ذما لهم :
كلهم يمشي رويد ... كلهم يطلب صيد
قلت : وفي عكسه أنشد ابن العربي لنفسه.
تواضعت في العلياء والأصل كابر ... وحزت قصاب السبق بالهون في الأمر
سكون فلا خبث السريرة أصله ... وجل سكون الناس من عظم الكبر
قوله تعالى : {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} قال النحاس : ليس {سَلاماً} من التسليم إنما هو من التسلم ؛ تقول العرب : سلاما ، أي تسلما منك ، أي براءة منك. منصوب على أحد أمرين : يجوز أن يكون منصوبا بـ {قَالُوا} ، ويجوز أن يكون مصدرا ؛ وهذا قول سيبويه. قال ابن عطية : والذي أقوله : إن {قَالُوا} هو العامل في {سَلاماً} لأن المعنى قالوا هذا اللفظ. وقال مجاهد : معنى {سَلاماً} سدادا. أي يقول للجاهل كلاما
(13/68)
يدفعه به برفق ولين. فـ {قَالُوا} على هذا التأويل عامل في قوله : {سَلاماً} على طريقة النحويين ؛ وذلك أنه بمعنى قولا. وقالت فرقة : ينبغي للمخاطب أن يقول للجاهل سلاما ؛ بهذا اللفظ. أي سلمنا سلاما أو تسليما ، ونحو هذا ؛ فيكون العامل فيه فعلا من لفظه على طريقة النحويين.
مسألة : هذه الآية كانت قبل آية السيف ، نسخ منها ما يخص الكفرة وبقي أدبها في المسلمين إلى يوم القيامة. وذكر سيبويه النسخ في هذه الآية في كتابه ، وما تكلم فيه على نسخ سواه ؛ رجح به أن المراد السلامة لا التسليم ؛ لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالسلام على الكفرة. والآية مكية فنسختها آية السيف. قال النحاس : ولا نعلم لسيبويه كلاما في معنى الناسخ والمنسوخ إلا في هذه الآية. قال سيبويه : لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين لكنه على معنى قوله : تسلما منكم ، ولا خير ولا شر بيننا وبينكم. المبرد : كان ينبغي أن يقال : لم يؤمر المسلمون يومئذ بحربهم ثم أمروا بحربهم. محمد بن يزيد. أخطأ سيبويه في هذا وأساء العبارة. ابن العربي : لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين ولا نهوا عن ذلك ، بل أمروا بالصفح والهجر الجميل ، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقف على أنديتهم ويحييهم ويدانيهم ولا يداهنهم. وقد أتفق الناس على أن السفيه من المؤمنين إذا جفاك يجوز أن تقول له سلام عليك.
قلت : هذا القول أشبه بدلائل السنة. وقد بينا في سورة {مَرْيَمَ} اختلاف العلماء في جواز التسليم على الكفار ، فلا حاجة إلى دعوى النسخ ؛ والله أعلم. وقد ذكر النضر بن شميل قال حدثني الخليل قال : أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم من رأيت ، فإذا هو على سطح ، فلما سلمنا رد علينا السلام وقال لنا : استووا. وبقينا متحيرين ولم ندر ما قال. فقال لنا أعرابي إلى جنبه : أمركم أن ترتفعوا. قال الخليل : هو من قول الله عز وجل : {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت : 11] فصعدنا إليه فقال : هل لكم في خبز فطير ، ولبن هجير ، وماء نمير ؟ فقلنا : الساعة فارقنا. فقال : سلاما. فلم ندر ما قال. قال. قال : الأعرابي : إنه
(13/69)
سألكم متاركة لا خير فيها ولا شر. فقال الخليل : هو من قول الله عز وجل : {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} قال ابن عطية : ورأيت في بعض التواريخ أن إبراهيم بن المهدي - وكان من المائلين على علي بن أبي طالب رضي الله عنه - قال يوما بحضرة المأمون وعنده جماعة : كنت أرى علي بن أبي طالب في النوم فكنت أقول له من أنت ؟ فكان يقول : علي بن أبي طالب. فكنت أجيء معه إلى قنطرة فيذهب فيتقدمني في عبورها. فكنت أقول : إنما تدعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك. فما رأيت له في الجواب بلاغة كما يذكر عنه. قال المأمون : وبماذا جاوبك ؟ قال : فكان يقول لي سلاما. قال الراوي : فكأن إبراهيم بن المهدي لا يحفظ الآية أو ذهبت عنه في ذلك الوقت. فنبه المأمون على الآية من حضره وقال : هو والله يا عم علي بن أبي طالب ، وقد جاوبك بأبلغ جواب ، فخزي إبراهيم واستحيا. وكانت رؤيا لا محالة صحيحة.
الآية : [64] {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً}
قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } قال الزجاج : بات الرجل يبيت إذا أدركه الليل ، نام أو لم ينم. قال زهير :
فبتنا قياما عند رأس جوادنا ... يزاولنا عن نفسه ونزاوله
وأنشدوا في صفة الأولياء :
امنع جفونك أن تذوق مناما ... واذر الدموع على الخدود سجاما
واعلم بأنك ميت ومحاسب ... يا من على سخط الجليل أقاما
لله قوم أخلصوا في حبه ... فرضي بهم واختصهم خداما
قوم إذا جن الظلام عليهم ... باتوا هنالك سجدا وقياما
خمص البطون من التعفف ضمرا ... لا يعرفون سوى الحلال طعاما
(13/70)
وقال ابن عباس : من صلى ركعتين أو أكثر بعد العشاء فقد بات لله ساجدا وقائما. وقال الكلبي : من أقام ركعتين بعد المغرب وأربعا بعد العشاء فقد بات ساجدا وقائما.
الآية : [65] {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً}
الآية : [66] {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً}
قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} أي هم مع طاعتهم مشفقون خائفون وجلون من عذاب الله. ابن عباس : يقولون ذلك في سجودهم وقيامهم. {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} أي لازما دائما غير مفارق. ومنه سمي الغريم لملازمته. ويقال : فلان مغرم بكذا أي لازم له مولع به. وهذا معناه في كلام العرب فيما ذكر ابن الأعرابي وابن عرفة وغيرهما. وقال الأعشى :
إن يعاقب يكن غراما وإن يعـ ... ــط جزيلا فإنه لا يبالي
وقال الحسن : قد علموا أن كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم. وقال الزجاج : الغرام أشد العذاب. وقال ابن زيد : الغرام الشر. وقال أبو عبيدة : الهلاك. والمعنى واحد. وقال محمد بن كعب : طالبهم الله تعالى بثمن النعيم في الدنيا فلم يأتوا به ، فأغرمهم ثمنها بإدخالهم النار .{إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} أي بئس المستقر وبئس المقام. أي إنهم يقولون ذلك عن علم ، وإذا قالوه عن علم كانوا أعرف بعظم قدر ما يطلبون ، فيكون ذلك أقرب إلى النجح.
الآية : 67 {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}
قوله تعالى : {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا} اختلف المفسرون في تأويل هذه الآية. فقال النحاس : ومن أحسن ما قيل في معناه أن من أنفق في غير طاعة الله فهو الإسراف ، ومن أمسك عن طاعة الله عز وجل فهو الإقتار ، ومن أنفق ، في طاعة الله تعالى فهو القوام.
(13/71)
وقال ابن عاس : من أنفق مائة ألف في حق فليس بسرف ، ومن أنفق درهما في غير حقه فهو سرف ، ومن منع من حق عليه فقد قتر. وقاله مجاهد وابن زيد وغيرهما. وقال عون بن عبدالله : الإسراف أن تنفق مال غيرك. قال ابن عطية : وهذا ونحوه غير مرتبط بالآية ، والوجه أن يقال. إن النفقة في معصية أمر قد حظرت الشريعة قليله وكثيره وكذلك التعدي على مال الغير ، وهؤلاء الموصوفون منزهون عن ذلك ، وإنما التأديب في هذه الآية هو في نفقة الطاعات في المباحات ، فأدب الشرع فيها ألا يفرط الإنسان حتى يضيع حقا آخر أو عيالا ونحو هذا ، وألا يضيق أيضا ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح ، والحسن في ذلك هو القوام ، أي العدل ، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله ، وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب ، أو ضد هذه الخصال ، وخير الأمور أوساطها ؛ ولهذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق أن يتصدق بجميع ماله ؛ لأن ذلك وسط بنسبة جلده وصبره في الدين ، ومنع غيره من ذلك. ونعم ما قال إبراهيم النخعي : هو الذي لا يجيع ولا يعرى ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف. وقال يزيد بن أبي حبيب : هم الذين لا يلبسون الثياب لجمال ، ولا يأكلون طعاما للذة. وقال يزيد أيضا في هذه الآية : أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا لا يأكلون طعاما للتنعيم واللذة ، ولا يلبسون ثيابا للجمال ، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربهم ، ومن اللباس ما يستر عوراتهم ويكنهم من الحر والبر. وقال عبدالملك بن مروان لعمر بن عبدالعزيز حين زوجه ابنته فاطمة : ما نفقتك ؟ فقال له عمر : الحسنة بين سيئتين ، ثم تلا هذه الآية. وقال عمر بن الخطاب : كفى بالمرء سرفا ألا يشتهي شيئا إلا اشتراه فأكله. وفي سنن ابن ماجة عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت" وقال أبو عبيدة : لم يزيدوا على المعروف ولم يبخلوا. كقوله تعالى : {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء : 29] وقال الشاعر :
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
(13/72)
وقال آخر :
إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ... ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
وساقت إليه الإثم والعار بالذي ... دعته إليه من حلاوة عاجل
وقال عمر لابنه عاصم : يا بني ، كل في نصف بطنك ؛ ولا تطرح ثوبا حتى تستخلقه ، ولا تكن من قوم يجعلون ما رزقهم الله في بطونهم وعلى ظهورهم. ولحاتم طي :
إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
{وَلَمْ يَقْتُرُوا} قرأ حمزة والكسائي والأعمش وعاصم ويحيى بن وثاب على اختلاف عنهما {يَقْتُرُوا} بفتح الياء وضم التاء ، وهي قراءة حسنة ؛ من قتر يقتر. وهذا القياس في اللازم ، مثل قعد يقعد. وقرأ أبو عمرو بن العلاء وابن كثير بفتح الياء وكسر التاء ، وهي لغة معروفة حسنة. وقرأ أهل المدينة وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بضم الياء وكسر - التاء. قال الثعلبي : كلها لغات صحيحة. النحاس : وتعجب أبو حاتم من قراءة أهل المدينة هذه ؛ لأن أهل المدينة عنده لا يقع في قراءتهم الشاذ ، وإنما يقال : اقتر إذا افتقر ، كما قال عز وجل : {وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة : 236] وتأول أبو حاتم لهم أن المسرف يفتقر سريعا. وهذا تأويل بعيد ، ولكن التأويل لهم أن أبا عمر الجرمي حكى عن الأصمعي أنه يقال للإنسان إذا ضيق : قتر يقتر ويقتر ، وأقتر يقتر. فعلى هذا تصح القراءة ، وإن كان فتح الياء أصح وأقرب متناولا ، وأشهر وأعرف. وقرأ أبو عمرو والناس {قَوَاماً} بفتح القاف ؛ يعني عدلا. وقرأ حسان بن عبدالرحمن : {قواما} بكسر القاف ؛ أي مبلغا وسدادا وملاك حال. والقوام بكسر القاف ، ما يدوم عليه الأمر ويستقر. وقيل : هما لغتان بمعنى. و {قَوَاماً} خبر كان ، واسمها مقدر فيها ، أي كان الإنفاق بين الإسراف والقتر قواما ؛ قال الفراء. وله قول آخر يجعل {بَيْنَ} اسم كان وينصبها ؛ لأن هذه الألفاظ كثير استعمالها فتركت على حالها في موضع الرفع. قال النحاس : ما أدري ما وجه هذا ؛ لأن "بينا" إذا كانت في موضع رفع رفعت ؛ كما يقال : بين عينيه أحمر.
(13/73)