قوله تعالى : {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً} لما استعجلوا النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب قال الله له : قل لهم يا محمد لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا ؛ أي ليس ذلك لي ولا لغيري. {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} أن أملكه وأقدر عليه ، فكيف أقدر أن أملك ما استعجلتم فلا تستعجلوا. {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} أي لهلاكهم وعذابهم وقت معلوم في علمه سبحانه. {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} أي وقت انقضاء أجلهم. {فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} أي لا يمكنهم أن يستأخروا ساعة باقين في الدنيا ولا يتقدمون فيؤخرون.
الآية : 50 {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ}
قوله تعالى : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً} ظرفان ، وهو جواب لقولهم : {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} وتسفيه لآرائهم في استعجالهم العذاب ؛ أي إن أتاكم العذاب فما نفعكم فيه ، ولا ينفعكم الإيمان حينئذ. {مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} استفهام معناه التهويل والتعظيم ؛ أي ما أعظم ما يستعجلون به ؛ كما يقال لمن يطلب أم أمرا يستوخم عاقبته : ماذا تجني على نفسك! والضمير في {مِنْهُ} قيل : يعود على العذاب ، وقيل : يعود على الله سبحانه وتعالى. قال النحاس : إن جعلت الهاء في {مِنْهُ} تعود على العذاب كان لك في {مَاذَا} تقديران : أحدهما أن يكون {مَا} في موضع رفع بالابتداء ، و{ذَا} : بمعنى الذي ، وهو خبر {مَا} والعائد محذوف. والتقدير الآخر أن يكون {مَاذَا} اسما واحدا في موضع بالابتداء ، والخبر في الجملة ، قاله الزجاج. وإن جعلت الهاء في {مِنْهُ} تعود على اسم الله تعالى جعلت {مَا} ، و{ذَا} شيئا واحدا ، وكانت في موضع نصب بـ {يَسْتَعْجِلُ} ؛ والمعنى : أي شيء يستعجل منه المجرمون عن الله عز وجل.
الآية : 51 {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}
(8/350)
قوله تعالى : {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ} في الكلام حذف ، والتقدير : أتأمنون أن ينزل بكم العذاب ثم يقال لكم إذا حل : آلآن آمنتم به ؟ قيل : هو من قول الملائكة استهزاء بهم. وقيل : هو من قول الله تعالى ، ودخلت ألف الاستفهام على "ثم" والمعنى : التقرير والتوبيخ ، وليدل على أن معنى الجملة الثانية بعد الأولى. وقيل : إن "ثم" ههنا بمعنى : "ثم" بفتح الثاء ، فتكون ظرفا ، والمعنى : أهنالك ؛ وهو مذهب الطبري ، وحينئذ لا يكون فيه معنى الاستفهام. و"الآن" قيل : أصله فعل مبني مثل حان ، والألف واللام لتحويله إلى الاسم. الخليل : بنيت لالتقاء الساكنين ، والألف واللام للعهد والإشارة إلى الوقت ، وهو حد الزمانين. {وَقَدْ كُنْتُمْ} أي بالعذاب {تَسْتَعْجِلُونَ} .
الآية : 52 { ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}
قوله تعالى : {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أي تقول لهم خزنة جهنم. {ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} أي الذي لا ينقطع. {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} أي جزاء كفركم.
الآية : 53 {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}
قوله تعالى : {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ} أي يستخبرونك يا محمد عن كون العذاب وقيام الساعة. {أَحَقٌّ} ابتداء. {هُوَ} سد مسد الخبر ؛ وهذا قول سيبويه. ويجوز أن يكون {هُوَ} مبتدأ ، و{أَحَقٌّ} خبره. {قُلْ إِي} {إِي} كلمة تحقيق وإيجاب وتأكيد بمعنى نعم. {وَرَبِّي} قسم. {نَّهُ لَحَقٌّ} جوابه ، أي كائن لا شك فيه. {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي فائتين عن عذابه ومجازاته.
(8/351)
الآية : 54 {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}
قوله تعالى : {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} أي أشركت وكفرت. {مَا فِي الْأَرْضِ} أي ملكا. {لافْتَدَتْ بِهِ} أي من عذاب الله ، يعني ولا يقبل منها ؛ كما قال : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران : 91] وقد تقدم.
قوله تعالى : {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} أي أخفوها ؛ يعني رؤساءهم ، أي أخفوا ندامتهم عن اتباعهم. {لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} وهذا قبل الإحراق بالنار ، فإذا وقعوا في النار ألهتهم النار عن التصنع ؛ بدليل قولهم : {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون : 106]. فبين أنهم لا يكتمون ما بهم. وقيل : {أَسَرُّوا} أظهروا ، والكلمة من الأضداد ، ويدل عليه أن الآخرة ليست دار تجلد وتصبر. وقيل : وجدوا ألم الحسرة في قلوبهم ؛ لأن الندامة لا يمكن إظهارها. قال كثير :
فأسررت الندامة يوم نادى ... بسرد جمال غاضرة المنادي
وذكر المبرد فيه وجها ثالثا : أنه بدت بالندامة أسرة وجوههم ، وهي تكاسير الجبهة ، واحدها سرار. والندامة : الحسرة لوقوع شيء أو فوت شيء ، وأصلها اللزوم ؛ ومنه النديم لأنه يلازم المجالس. وفلان نادم سادم. والسدم اللهج بالشيء. وندم وتندم بالشيء أي اهتم به. قال الجوهري : السدم (بالتحريك) الندم والحزن ؛ وقد سدم بالكسر أي اهتم وحزن ورجل نادم سادم ، وندمان سدمان ؛ وقيل : هو اتباع. وماله هم ولا سدم إلا ذلك. وقيل : الندم مقلوب الدمن ، والدمن اللزوم ؛ ومنه فلان مدمن الخمر. والدمن : ما اجتمع في الدار وتلبد من الأبوال والأبعار ؛ سمي به للزومه. والدمنة : الحقد الملازم للصدر ، والجمع دمن. وقد دمنت قلوبهم بالكسر ؛ يقال : دمنت على فلان أي ضغنت. {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} أي بين الرؤساء والسفل بالعدل. {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} .
(8/352)
الآية : 55 {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}
{أَلا} كلمة تنبيه للسامع تزاد في أول الكلام ؛ أي انتبهوا لما أقول لكم : {إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الحديد : 2] فلا مانع يمنعه من إنفاذ ما وعده. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ذلك.
الآية : 56 {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
بين المعنى. وقد تقدم
الآية : 57 {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}
قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} يعني قريشا. {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ} أي وعظ. {مِنْ رَبِّكُمْ} بعني القرآن ، فيه مواعظ وحكم. {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} أي من الشك والنفاق والخلاف ، والشقاق. {وَهُدىً} أي ورشدا لمن اتبعه. {وَرَحْمَةٌ} أي نعمة. {لِلْمُؤْمِنِينَ} خصهم لأنهم المنتفعون بالإيمان ؛ والكل صفات القرآن ، والعطف لتأكيد المدح. قال الشاعر :
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
الآية : 58 {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}
قوله تعالى : {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} قال أبو سعيد الخدري وابن عباس رضي الله عنهما : فضل الله القرآن ، ورحمته الإسلام. وعنهما أيضا : فضل الله القرآن ، ورحمته أن جعلكم من أهله. وعن الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة : فضل الله الإيمان ، ورحمته القرآن ؛ على العكس من القول الأول. وقيل : غير هذا. {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} إشارة إلى الفضل والرحمة. والعرب تأتي "بذلك" للواحد والاثنين والجمع. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم
(8/353)
أنه قرأ {فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا} بالتاء ؛ وهي قراءة يزيد بن القعقاع ويعقوب وغيرهما ؛ وفي الحديث "لتأخذوا مصافكم". والفرح لذة في القلب بإدراك المحبوب. وقد ذم الفرج في مواضع ؛ كقوله : {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص : 76] وقوله : {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود : 10] ولكنه مطلق. فإذا قيد الفرح لم يكن ذما ؛ لقوله : {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران : 170] وههنا قال تبارك وتعالى : {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} أي بالقرآن والإسلام فليفرحوا ؛ فقيد. قال هارون : وفي حرف أبي {فبِذلِك فافرحوا}. قال النحاس : سبيل الأمر أن يكون باللام ليكون معه حرف جازم كما أن مع النهي حرفا ؛ إلا أنهم يحذفون ، من الأمر للمخاطب استغناء بمخاطبته ، وربما جاؤوا به على الأصل ؛ منه {فبذلك فلتفرحوا}. {هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} يعني في الدنيا. وقراءة العامة بالياء في الفعلين ؛ وروي عن ابن عامر أنه قرأ {فَلْيَفْرَحُوا} بالياء {تجمعون} بالتاء خطابا للكافرين. وروي عن الحسن أنه قرأ بالتاء في الأول ؛ و{يَجْمَعُونَ} بالياء على العكس. وروى أبان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من هداه الله للإسلام وعلمه القرآن ثم شكا الفاقة كتب الله الفقر بين عينيه إلى يوم يلقاه ثم تلا {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} .
الآية : 59 {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}
فيه مسألتان : -
الأولى : قوله تعالى : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} يخاطب كفار مكة. {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ} {مَا} في موضع نصب بـ {أَرَأَيْتُمْ}. وقال الزجاج : في موضع نصب بـ {أَنْزَلَ}. و{أَنْزَلَ}بمعنى خالق ؛ كما قال : {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر : 6]. {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ
(8/354)
بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد : 25]. فيجوز أن يعبر عن الخلق بالإنزال ؛ لأن الذي في الأرض من الرزق إنما هو بما ينزل من السماء من المطر. {فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً} قال مجاهد : هو ما حكموا به من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وقال الضحاك : هو قول الله تعالى : {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} [الأنعام : 136]. { قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} أي في التحليل والتحريم. {أَمْ عَلَى اللَّهِ} {أَمْ} بمعنى بل. {تَفْتَرُونَ} هو قولهم إن الله أمرنا بها.
استدل بهذه الآية من نفي القياس ، وهذا بعيد ؛ فإن القياس دليل الله تعالى ، فيكون التحليل والتحريم من الله تعالى عند وجود دلالة نصبها الله تعالى على الحكم ، فإن خالف في كون القياس دليلا لله تعالى فهو خروج عن هذا الغرض ورجوع إلى غيره.
الآية : 60 {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ}
قوله تعالى : {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}{ يَوْمَ}منصوب على الظرف ، أو بالظن ؛ نحو ما ظنك زيدا ؛ والمعنى : أيحسبون أن الله لا يؤاخذهم به. {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} أي في التأخير والإمهال. وقيل : أراد أهل مكة حين جعلهم في حرم آمن. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ}يعني الكفار. {لا يَشْكُرُونَ} الله على نعمه ولا في تأخير العذاب عنهم. وقيل : {لا يَشْكُرُونَ} لا يوحدون.
الآية : 61 {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}
(8/355)
قوله تعالى : {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} {مَا} للجحد ؛ أي لست في شأن ، يعني من عبادة أو غيرها إلا والرب مطلع عليك. والشأن الخطب ، والأمر ، وجمعه شؤون. قال الأخفش : تقول العرب ما شانت شأنه ، أي ما عملت عمله. {وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} قال الفراء والزجاج : الهاء في {مِنْهُ} تعود على الشأن ، أي تحدث شأنا فيتلى من أجله القرآن فيعلم كيف حكمه ، أو ينزل فيه قرآن فيتلى. وقال الطبري : {مِنْهُ} أي من كتاب الله تعالى. {مِنْ قُرْآنٍ} أعاد تفخيما ؛ كقوله : {إِنِّي أَنَا اللَّهُ} [القصص : 30]. {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم والأمة. وقوله : {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} خطاب له والمراد هو وأمته ؛ وقد يخاطب الرسول والمراد هو وأتباعه. وقيل : المراد كفار قريش. {إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً} أي نعلمه ؛ ونظيره {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة : 4] {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} أي تأخذون فيه ، والهاء عائدة على العمل ؛ يقال : أفاض فلان في الحديث والعمل إذا اندفع فيه. قال الراعي :
فأفضن بعد كظومهن بجرة ... من ذي الأباطح إذ رعين حقيلا
ابن عباس : {تُفِيضُونَ فِيهِ} تفعلونه. الأخفش : تتكلمون. ابن زيد : تخوضون. ابن كيسان : تنشرون القول. وقال الضحاك : الهاء عائدة على القرآن ؛ المعنى : إذ تشيعون في القرآن الكذب. {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ} قال ابن عباس : يغيب. وقال أبو روق : يبعد. وقال ابن كيسان : يذهب. وقرأ الكسائي {يعزِب} بكسر الزاي حيث وقع ؛ وضم الباقون ؛ وهما لغتان فصيحتان ؛ نحو يعرش ويعرش. {مِنْ مِثْقَالِ} {مِنْ} صلة ؛ أي وما يعزب عن ربك مثقال {ذَرَّةٍ} أي وزن وذرة ، أي نميلة حمراء صغيرة ؛ وقد تقدم في النساء. {فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ} عطف على لفظ مثقال ، وإن شئت على ذرة. وقرأ يعقوب وحمزة برفع الراء فيهما عطفا على موضع مثقال لأن من زائدة للتأكيد. وقال الزجاج : ويجوز الرفع على الابتداء. وخبره
(8/356)
{إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} يعني اللوح المحفوظ مع علم الله تعالى به. قال الجرجاني {إِلَّا} بمعنى واو النسق ، أي وهو في كتاب مبين ؛ كقوله تعالى : {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ} [النمل : 10 - 11] أي ومن ظلم. وقوله : {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة : 150] أي والذين ظلموا منهم ؛ فـ {إِلَّا} بمعنى واو النسق ، وأضمر هو بعده كقوله : {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة : 58]. أي هي حطة. وقوله : {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} [النساء : 171] أي هم ثلاثة. ونظير ما نحن فيه : {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام : 59] وهو في كتاب مبين.
الآية : 62 {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}
قوله تعالى : {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أي في الآخرة. {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} لفقد الدنيا. وقيل : {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي من تولاه الله تعالى وتولى حفظه وحياطته ورضي عنه فلا يخاف يوم القيامة ولا يحزن ؛ قال الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا} أي عن جهنم {مُبْعَدُونَ} إلى قوله {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [الأنبياء : 101 - 103]. وروى سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : من أولياء الله ؟ فقال : "الذين يذكر الله برؤيتهم". وقال عمر بن الخطاب ، في هذه الآية : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن من عباد الله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء تغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله تعالى" . قيل : يا رسول الله ، خبرنا من هم وما أعمالهم فلعلنا نحبهم. قال : "هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطون بها فوالله إن وجوههم لنور وإنهم على منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} . وقال
(8/357)
علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أولياء الله قوم صفر الوجوه من السهر ، عمش العيون من العبر ، خمص البطون من الجوع ، يبس الشفاه من الذوي. وقيل : {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في ذريتهم ، لأن الله يتولاهم. {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} على دنياهم لتعويض الله إياهم في أولاهم وأخراهم لأنه وليهم ومولاهم.
الآية : 63 {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}
هذه صفة أولياء الله تعالى ؛ فيكون : {الَّذِينَ} في موضع نصب على البدل من اسم {إِنَّ} وهو {أَوْلِيَاءَ}. وإن شئت على أعني. وقيل : هو ابتداء ، وخبره. {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} فيكون مقطوعا مما قبله. أي يتقون الشرك والمعاصي.
الآية : 64 {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
قوله تعالى : {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} عن أبي الدرداء قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال : "ما سألني أحد عنها غيرك منذ أنزلت هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له" خرجه الترمذي في جامعه. وقال الزهري وعطاء وقتادة : هي البشارة التي تبشر بها الملائكة المؤمن في الدنيا عند الموت. وعن محمد بن كعب القرظي قال : إذا استنقعت نفس العبد المؤمن جاءه ملك الموت فقال : "السلام عليك ولي الله الله يقرئك السلام" . ثم نزع بهذه الآية : {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ} [النحل : 32] ذكره ابن المبارك. وقال قتادة والضحاك : هي أن يعلم أين هو من قبل أن يموت. وقال الحسن : هي ما يبشرهم الله تعالى في كتابه من جنته وكريم ثوابه ؛ لقوله : {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ
(8/358)
بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ} [التوبة : 21] ، وقوله : {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} [البقرة : 25]. وقوله : {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت : 30] ولهذا قال : {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} أي لا خلف لمواعيده ، وذلك لأن مواعيده بكلماته. {وَفِي الْآخِرَةِ} قيل : بالجنة إذا خرجوا من قبورهم. وقيل : إذا خرجت الروح بشرت برضوان الله. وذكر أبو إسحاق الثعلبي : سمعت أبا بكر محمد بن عبدالله الجوزقي يقول : رأيت أبا عبدالله الحافظ في المنام راكبا برذونا عليه طيلسان وعمامة ، فسلمت عليه وقلت له : أهلا بك ، إنا لا نزال نذكرك ونذكر محاسنك ؛ فقال : ونحن لا نزال نذكرك ونذكر محاسنك ، قال الله تعالى : {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} الثناء الحسن : وأشار بيده. {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} أي لا خلف لوعده. وقيل : لا تبديل لأخباره ، أي لا ينسخها بشيء ، ولا تكون إلا كما قال. {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي ما يصير إليه أولياؤه فهو الفوز العظيم.
الآية : 65 {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
قوله تعالى : {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} أي لا يحزنك افتراؤهم وتكذيبهم لك ، ثم ابتداء فقال : {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ} أي القوة الكاملة والغلبة الشاملة والقدرة التامة لله وحده ؛ فهو ناصرك ومعينك ومانعك. {جَمِيعاً} نصب على الحال ، ولا يعارض هذا قوله : {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون : 8] فإن كل عزة بالله فهي كلها لله ؛ قال الله سبحانه : {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات : 180]. {هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} السميع لأقوالهم وأصواتهم ، العليم بأعمالهم وأفعالهم وجميع حركاتهم.
(8/359)
الآية : 66 {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}
قوله تعالى : {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} أي يحكم فيهم بما يريد ويفعل فيهم ما يشاء سبحانه!.
قوله تعالى : {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} {مَا} للنفي ، أي لا يتبعون شركاء على الحقيقة ، بل يظنون أنها تشفع أو تنفع. وقيل : {مَا} استفهام ، أي أي شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء تقبيحا لفعلهم ، ثم أجاب فقال : {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} أي يحدسون ويكذبون ، وقد تقدم.
الآية : 67 {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}
قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} بين أن الواجب عبادة من يقدر على خلق الليل والنهار لا عبادة من لا يقدر على شيء. {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} أي مع أزواجكم وأولادكم ليزول التعب والكلال بكم. والسكون : الهدوء عن الاضطراب.
قوله تعالى : {وَالنَّهَارَ مُبْصِراً} أي مضيئا لتهتدوا به في حوائجكم. والمبصر : الذي يبصر ، والنهار يبصر فيه. وقال : {مُبْصِراً} تجوزا وتوسعا على عادة العرب في قولهم : "ليل قائم ، ونهار صائم". وقال جرير :
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ... ونمت وما ليل المطي بنائم
وقال قطرب : قال أظلم الليل أي صار ذا ظلمة ، وأضاء النهار وأبصر أي صار ذا ضياء وبصر.
(8/360)
قوله تعالى : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ} أي علامات ودلالات. {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي سماع اعتبار ؟
الآية : 68 {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}
قوله تعالى : {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} يعني الكفار. وقد تقدم. {سُبْحَانَهُ} نزه نفسه عن الصحابة والأولاد وعن الشركاء والأنداد. {هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ثم أخبر بغناه المطلق ، وأن له ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا ؛ {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم : 93]. {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} أي ما عندكم من حجة بهذا.
قوله تعالى : {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} من إثبات الولد له ، والولد يقتضي المجانسة والمشابهة والله تعالى لا يجانس شيئا ولا يشابه شيئا.
الآيتان : 69 - 70 {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ، مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}
قوله تعالى : { قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ} أي يختلقون. {عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} أي لا يفوزون ولا يأمنون ؛ وتم الكلام. {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا} أي ذلك متاع ، أو هو متاع في الدنيا ؛ قاله الكسائي. وقال الأخفش : لهم متاع في الدنيا. قال أبو إسحاق : ويجوز النصب في غير القرآن على معنى يتمتعون متاعا. {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} أي رجوعهم. {ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ} أي الغليظ. {بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} أي بكفرهم.
(8/361)
الآية : 71 {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ}
قوله تعالى : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} أمره عليه السلام أن يذكرهم أقاصيص المتقدمين ، ويخوفهم العذاب الأليم على كفرهم. وحذفت الواو من {اتْلُ} لأنه أمر ؛ أي اقرأ عليهم خبر نوح. {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} {إِذْ} في موضع نصب. {يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ} أي عظم وثقل عليكم. {مَقَامِي} المقام (بفتح الميم) : الموضع الذي يقوم فيه. والمقام (بالضم) الإقامة. ولم يقرأ به فيما علمت ؛ أي إن طال عليكم لبثي فيكم. {وَتَذْكِيرِي} إياكم ، وتخويفي لكم. {بِآياتِ اللَّهِ} وعزمتم على قتلي وطردي. {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} أي اعتمدت. وهذا هو جواب الشرط ، ولم يزل عليه السلام متوكلا على الله في كل حال ؛ ولكن بين أنه متوكل في هذا على الخصوص ليعرف قومه أن الله يكفيه أمرهم ؛ أي إن لم تنصروني فإني أتوكل على من ينصرني.
قوله تعالى : {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} قراءة العامة {فَأَجْمِعُوا} بقطع الألف {شُرَكَاءَكُمْ} بالنصب. وقرأ عاصم الجحدري {فاجْمَعوا} بوصل الألف وفتح الميم ؛ من جمع يجمع. {شُرَكَاءَكُمْ} بالنصب. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ويعقوب {فأجمِعوا} بقطع الألف {شركاؤكم} بالرفع. فأما القراءة الأولى من أجمع على الشيء إذا عزم عليه. وقال الفراء : أجمع الشيء أعده. وقال المؤرج : أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه. وأنشد :
يا ليت شعري والمنى لا تنفع ... هل أغدون يوما وأمري مجمع
(8/362)
قال النحاس : وفي نصب الشركاء على هذه القراءة ثلاثة أوجه ؛ قال الكسائي والفراء : هو بمعنى وادعوا شركاءكم لنصرتكم ؛ وهو منصوب عندهما على إضمار هذا الفعل. وقال محمد بن يزيد : هو معطوف على المعنى ؛ كما قال :
يا ليت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا
والرمح لا يتقلد ، إلا أنه محمول كالسيف. وقال أبو إسحاق الزجاج : المعنى مع شركائكم على تناصركم ؛ كما يقال : التقى الماء والخشبة. والقراءة الثانية من الجمع ، اعتبارا بقوله تعالى : {فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} [طه : 60]. قال أبو معاذ : ويجوز أن يكون جمع وأجمع بمعنى واحد ، {وَشُرَكَاءَكُمْ} على هذه القراءة عطف على {أَمْرَكُمْ} ، أو على معنى فأجمعوا أمركم وأجمعوا شركاءكم ، وإن شئت بمعنى مع ، قال أبو جعفر النحاس : وسمعت أبا إسحاق يجيز قام زيد وعمرا. والقراءة الثالثة على أن يعطف الشركاء على المضمر المرفوع في أجمعوا ، وحسن ذلك لأن الكلام قد طال. قال النحاس وغيره : وهذه القراءة تبعد ؛ لأنه لو كان مرفوعا لوجب أن تكتب بالواو ، ولم ير في المصاحف واو في قوله {وَشُرَكَاءَكُمْ} ، وأيضا فإن شركاءهم الأصنام ، والأصنام لا تصنع شيئا ولا فعل لها حتى تجمع. قال المهدوي : ويجوز أن يرتفع الشركاء بالابتداء والخير محذوف ، أي وشركاءكم ليجمعوا أمرهم ، ونسب ذلك إلى الشركاء وهي لا تسمع ولا تبص ولا تميز على جهة التوبيخ لمن عبدها.
قوله تعالى : {ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} اسم يكن وخبرها. وغمة وغم سواء ، ومعناه التغطية ؛ من قولهم : غم الهلال إذا استتر ؛ أي ليكن أمركم ظاهرا منكشفا تتمكنون فيه مما شئتم ؛ لا كمن يخفى أمره فلا يقدر على ما يريد. قال طرفة :
لعمرك ما أمري علي بغمة ... نهاري ولا ليلي علي بسرمد
(8/363)
الزجاج : غمة ذا غم ، والغم والغمة كالكرب والكربة. وقيل : إن الغمة ضيق الأمر الذي يوجب الغم فلا يتبين صاحبه لأمره مصدرا لينفرج عنه ما يغمه. وفي الصحاح : والغمة الكربة. قال العجاج :
بل لو شهدت الناس إذ تكتمون ... بغمة لو لم تفرج غموا
يقال : أمر غمة ، أي مبهم ملتبس ؛ قال تعالى : {ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} . قال أبو عبيدة : مجازها ظلمة وضيق. والغمة أيضا : قعر النحي وغيره. قال غيره : وأصل هذا كله مشتق من الغمامة.
قوله تعالى : {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} ألف {اقْضُوا} ألف وصل ، من قضى يقضي. قال الأخفش والكسائي : وهو مثل : {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ} [الحجر : 66] أي أنهيناه إليه وأبلغناه إياه. وروي عن ابن عباس {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} قال : امضوا إلي ولا تؤخرون. قال النحاس : هذا قول صحيح في اللغة ؛ ومنه : قضى الميت أي مضى. وأعلمهم بهذا أنهم لا يصلون إليه ، وهذا من دلائل النبوات. وحكى الفراء عن بعض القراء {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ} بالفاء وقطع الألف ، أي توجهوا ؛ يقال : أفضت الخلافة إلى فلان ، وأفضى إلي الوجع. وهذا إخبار من الله تعالى عن نبيه نوح عليه السلام أنه كان بنصر الله واثقا ، ومن كيدهم غير خائف ؛ علما منه بأنهم وآلهتهم لا ينفعون ولا يضرون. وهو تعزية لنبيه صلى الله عليه وسلم وتقوية لقلبه.
الآية : 72 {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
(8/364)
قوله تعالى : {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} أي فإن أعرضتم عما جئتكم به فليس ذلك لأني سألتكم أجرا فيثقل عليكم مكافأتي. {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} في تبليغ رسالته. {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي الموحدين لله تعالى. فتح أهل المدينة وأبو عمرو وابن عامر وحفص ياء {أَجْرِيَ} حيث وقع ، وأسكن الباقون.
الآية : 73 {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ}
قوله تعالى : {فَكَذَّبُوهُ} يعني نوحا. {فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ} أي من المؤمنين {فِي الْفُلْكِ} أي السفينة ، وسيأتي ذكرها. {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ} أي سكان الأرض وخلفا ممن غرق. {بِآياتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} يعني آخر أمر الذين أنذرهم الرسل فلم يؤمنوا.
الآية : 74 {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ}
قوله تعالى : {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ} أي من بعد نوح. {رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ} كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وغيرهم. {فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالمعجزات. {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} التقدير : بما كذب به قوم نوح من قبل. وقيل : {بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} أي من قبل يوم الذر ، فإنه كان فيهم من كذب بقلبه وإن قال الجميع : بلى. قال النحاس : ومن أحسن ما قيل في هذا أنه لقوم بأعيانهم ؛ مثل : {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} . [البقرة : 6] {كَذَلِكَ نَطْبَعُ} أي نختم. {عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} أي المجاوزين الحد في الكفر والتكذيب فلا يؤمنوا. وهذا يرد على القدرية قولهم كما تقدم.
(8/365)
(8/366)