فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الأحد 16 يناير - 23:14 | |
|
________________________________________ ثم قطعها قطعا صغارا ، وخلط لحوم البعض إلى لحوم البعض مع الدم والريش حتى يكون أعجب ، ثم جعل من ذلك المجموع المختلط جزءا على كل جبل ، ووقف هو من حيث يرى تلك الأجزاء وأمسك رؤوس الطير في يده ، ثم قال : تعالين بإذن الله ، فتطايرت تلك الأجزاء وطار الدم إلى الدم والريش إلى الريش حتى التأمت مثل ما كانت أولا وبقيت بلا رؤوس ، ثم كرر النداء فجاءته سعيا ، أي عدوا على أرجلهن. ولا يقال للطائر : "سعى" إذا طار إلا على التمثيل ، قاله النحاس. وكان إبراهيم إذا أشار إلى واحد منها بغير رأسه تباعد الطائر ، وإذا أشار إليه برأسه قرب حتى لقي كل طائر رأسه ، وطارت بإذن الله. وقال الزجاج : المعنى ثم اجعل على كل جبل من كل واحد جزءا. وقرأ أبو بكر عن عاصم وأبو جعفر "جزءا" على فعل. وعن أبي جعفر أيضا "جزا" مشددة الزاي. الباقون مهموز مخفف ، وهي لغات ، ومعناه النصيب. "{ يَأْتِينَكَ سَعْياً} " نصب على الحال. و "{فَصُرْهُنَّ} " معناه قطعهن ، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو عبيدة وابن الأنباري ، يقال : صار الشيء يصوره أي قطعه ، وقاله ابن إسحاق. وعن أبي الأسود الدؤلي : هو بالسريانية التقطيع ، قاله توبة بن الحمير يصفه : فلما جذبت الحبل أطت نسوعه ... بأطراف عيدان شديد سيورها فأدنت لي الأسباب حتى بلغتها ... بنهضي وقد كاد ارتقائي يصورها أي يقطعها. والصور : القطع. وقال الضحاك وعكرمة وابن عباس في بعض ما روي عنه : إنها لفظة بالنبطية معناه قطعهن. وقيل : المعنى أملهن إليك ، أي اضممهن واجمعهن إليك ، يقال : رجل أصْور إذا كان مائل العنق. وتقول : إني إليكم لأصور ، يعني مشتاقا مائلا. وامرأة صوراء ، والجمع صور مثل أسود وسود ، قال الشاعر : الله يعلم أنا في تلفتنا ... يوم الفراق إلى جيراننا صور فقوله "إليك" على تأويل التقطيع متعلق بـ "خذ" ولا حاجة إلى مضمر ، وعلى تأويل الإمالة والضم متعلق بـ "صرهن" وفي الكلام متروك : فأملهن إليك ثم قطعهن. وفيها خمس قراءات : اثنتان في السبع وهما ضم الصاد وكسرها وتخفيف الراء. وقرأ قوم "فصرهن" بضم الصاد (3/301) ________________________________________ وشد الراء المفتوحة ، كأنه يقول فشدهن ، ومنه صرة الدنانير. وقرأ قوم "فصرهن" بكسر الصاد وشد الراء المفتوحة ، ومعناه صيحهن ، من قولك : صر الباب والقلم إذا صوت ، حكاه النقاش. قال ابن جني : هي قراءة غريبة ، وذلك أن يفعل بكسر العين في المضاعف المتعدي قليل ، وإنما بابه يفعل بضم العين ، كشد يشد ونحوه ، ولكن قد جاء منه نم الحديث يَنُمه ويَنِمه ، وهر الحرب يَهُرها ويهِرها ، ومنه بيت الأعشى : ليعتورنك القول حتى تهره إلى غير ذلك في حروف قليلة. قال ابن جني : وأما قراءة عكرمة بضم الصاد فيحتمل في الراء الضم والفتح والكسر كمد وشد والوجه ضم الراء من أجل ضمة الهاء من بعد. /القراءة الخامسة "صرهن" بفتح الصاد وشد الراء مكسورة ، حكاها المهدوي وغيره عن عكرمة ، بمعنى فاحبسهن ، من قولهم : صرى يصري إذا حبس ، ومنه الشاة المصراة. وهنا اعتراض ذكره الماوردي وهو يقال : فكيف أجيب إبراهيم إلى آيات الآخرة دون موسى في قوله {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف : 143] ؟ فعنه جوابان : أحدهما أن ما سأله موسى لا يصح مع بقاء التكليف ، وما سأله إبراهيم خاص يصح معه بقاء التكليف. الثاني أن الأحوال تختلف فيكون الأصلح في بعض الأوقات الإجابة ، وفي وقت آخر المنع فيما لم يتقدم فيه إذن. وقال ابن عباس : أمر الله تعالى إبراهيم بهذا قبل أن يولد له وقبل أن ينزل عليه الصحف ، والله أعلم. *3*الآية : 261 {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} فيه خمس مسائل : الأولى : - لما قص الله سبحانه ما فيه من البراهين ، حث على الجهاد ، وأعلم أن من جاهد بعد هذا البرهان الذي لا يأتي به إلا نبي فله في جهاده الثواب العظيم. روى البستي (3/302) ________________________________________ في صحيح مسنده عن ابن عمر قال : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رب زد أمتي" فنزلت {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة : 245] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رب زد أمتي" فنزلت { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر : 10]. وهذه الآية لفظها بيان مثال لشرف النفقة في سبيل الله ولحسنها ، وضمنها التحريض على ذلك. وفي الكلام حذف مضاف تقديره مثل نفقة الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة. وطريق آخر : مثل الذين ينفقون أموالهم كمثل زارع زرع في الأرض حبة فأنبتت الحبة سبع سنابل ، يعني أخرجت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ، فشبه المتصدق بالزارع وشبه الصدقة بالبذر فيعطيه الله بكل صدقة له سبعمائة حسنة ، ثم قال تعالى : { وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} يعني على سبعمائة ، فيكون مثل المتصدق مثل الزارع ، إن كان حاذقا في عمله ، ويكون البذر جيدا وتكون الأرض عامرة يكون الزرع أكثر ، فكذلك المتصدق إذا كان صالحا والمال طيبا ويضعه موضعه فيصير الثواب أكثر ، خلافا لمن قال : ليس في الآية تضعيف على سبعمائة ، على ما نبينه إن شاء الله. الثانية : - روي أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهما ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حث الناس على الصدقة حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك جاءه عبدالرحمن بأربعة آلاف فقال : يا رسول الله ، كانت لي ثمانية آلاف فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلاف ، وأربعة آلاف أقرضتها لربي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت". وقال عثمان : يا رسول الله علي جهاز من لا جهاز له ، فنزلت هذه الآية فيهما. وقيل : نزلت في نفقة التطوع. وقيل : نزلت قبل آية الزكاة ثم نسخت بآية الزكاة ، ولا حاجة إلى دعوى النسخ ، لأن الإنفاق في سبيل الله مندوب إليه في كل وقت. وسبل الله كثيرة وأعظمها الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا. (3/303) ________________________________________ الثالثة : - قوله تعالى : {كَمَثَلِ حَبَّةٍ} الحبة اسم جنس لكل ما يزدرعه ابن آدم ويقتاته وأشهر ذلك البر فكثيرا ما يراد بالحب ، ومنه قول المتلمس : آليت حب العراق الدهر أطعمه ... والحب يأكله في القرية السوس وحبة القالب : سويداؤه ، ويقال ثمرته وهو ذاك. والحبة بكسر الحاء : بذور البقول مما ليس بقوت ، وفي حديث الشفاعة : " فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل" والجمع حبب. والحبة بضم الحاء الحب يقال : نعم وحبة وكرامة. والحب المحبة وكذلك الحب بالكسر. والحب أيضا الحبيب مثل خدن وخدين وسنبلة فنعلة من أسبل الزرع إذا صار فيه السنبل ، أي استرسل بالسنبل كما يسترسل الستر بالإسبال. وقيل : معناه صار فيه حب مستور كما يستر الشيء بإسبال الستر عليه. والجمع سنابل. ثم قيل : المراد سنبل الدخن فهو الذي يكون في السنبلة منه هذا العدد. قلت : هذا ليس بشيء فإن سنبل الدخن يجيء في السنبلة منه أكثر من هذا العدد بضعفين وأكثر ، على ما شاهدناه. قال ابن عطية : وقد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة ، فأما في سائر الحبوب فأكثر ولكن المثال وقع بهذا القدر. وقال الطبري في هذه الآية : إن قوله {فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} معناه إن وجد ذلك ، وإلا فعلى أن يفرضه ، ثم نقل عن الضحاك أنه قال : "{فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} " معناه كل سنبلة أنبتت مائة حبة. قال ابن عطية : فجعل الطبري قول الضحاك نحو ما قال ، وذلك غير لازم من قول الضحاك. وقال أبو عمرو الداني : وقرأ بعضهم "مائة" بالنصب على تقدير أنبتت مائة حبة. قلت : وقال يعقوب الحضرمي : وقرأ بعضهم {فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} على : أنبتت مائة حبة ، وكذلك قرأ بعضهم {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} [الملك : 6] على {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك : 5] وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي "أنبتت سبع سنابل" بإدغام التاء في السين ، لأنهما مهموستان ، ألا ترى أنهما يتعاقبان. وأنشد أبو عمرو : (3/304) ________________________________________ يا لعن الله بني السعلاة ... عمرو بن ميمون لئام النات أراد الناس فحول السين تاء. الباقون بالإظهار على الأصل لأنهما كلمتان. الرابعة : - ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشر أمثالها ، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد حسنتها بسبعمائة ضعف. واختلف العلماء في معنى قوله {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } فقالت طائفة : هي مبينة مؤكدة لما تقدم من ذكر السبعمائة ، وليس ثم تضعيف فوق السبعمائة. وقالت طائفة من العلماء : بل هو إعلام بأن الله تعالى يضاعف لمن يشاء أكثر من سبعمائة ضعف. قلت : وهذا القول أصح لحديث ابن عمر المذكور أول الآية. وروى ابن ماجة حدثنا هارون بن عبدالله الحمال حدثنا ابن أبي فديك عن الخليل بن عبدالله عن الحسن عن علي بن أبي طالب وأبي الدرداء وعبدالله بن عمرو وأبي أمامة الباهلي وعبدالله بن عمرو وجابر بن عبدالله وعمران بن حصين كلهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم - ثم تلا هذه الآية { وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} ". وقد روي عن ابن عباس أن التضعيف ينتهي لمن شاء الله إلى ألفي ألف. قال ابن عطية : وليس هذا بثابت الإسناد عنه. الخامسة : - في هذه الآية دليل على أن اتخاذ الزرع من أعلى الحرف التي يتخذها الناس والمكاسب التي يشتغل بها العمال ، ولذلك ضرب الله به المثل فقال : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} الآية. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة" . وروى هشام بن عروة (3/305) ________________________________________ عن أبيه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " التمسوا الرزق في خبايا الأرض" يعني الزرع ، أخرجه الترمذي. وقال صلى الله عليه وسلم في النخل : "هي الراسخات في الوحل المطعمات في المحل" . وهذا خرج مخرج المدح والزراعة من فروض الكفاية فيجب على الإمام أن يجبر الناس عليها وما كان في معناها من غرس الأشجار. ولقي عبدالله بن عبدالملك بن شهاب الزهري فقال : دلني على مال أعالجه ، فأنشأ ابن شهاب يقول : أقول لعبدالله يوم لقيته ... وقد شد أحلاس المطي مشرقا تتبع خبايا الأرض وادع مليكها ... لعلك يوما أن تجاب فترزقا فيؤتيك مالا واسعا ذا مثابة ... إذا ما مياه الأرض غارت تدفقا وحكي عن المعتضد أنه قال : رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المنام يناولني مسحاة وقال : خذها فإنها مفاتيح خزائن الأرض. *3*الآية : 262 {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} قوله تعالى : {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قيل : إنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه. قال عبدالرحمن بن سمرة : جاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يدخل يده فيها ويقلبها ويقول : " ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم اللهم لا تنس هذا اليوم لعثمان". وقال أبو سعيد الخدري : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رافعا يديه يدعو لعثمان يقول : " يا رب عثمان إني رضيت عن عثمان فارض عنه" فما زال يدعو حتى طلع الفجر فنزلت : { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً} الآية. (3/306) ________________________________________ الثانية : - لما تقدم في الآية التي قبل ذكر الإنفاق في سبيل الله على العموم بين في هذه الآية أن ذلك الحكم والثواب إنما هو لمن لا يتبع إنفاقه منا ولا أذى ، لأن المن والأذى مبطلان لثواب الصدقة كما أخبر تعالى في الآية بعد هذا ، وإنما على المرء أن يريد وجه الله تعالى وثوابه بإنفاقه على المنفق عليه ، ولا يرجو منه شيئا ولا ينظر من أحواله في حال سوى أن يراعي استحقاقه ، قال الله تعالى : {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان : 9]. ومتى أنفق ليريد من المنفق عليه جزاء بوجه من الوجوه فهذا لم يرد وجه الله ، فهذا إذا أخلف ظنه فيه منّ بإنفاقه وآذى. وكذلك من أنفق مضطرا دافع غرم إما لمانة للمنفق عليه أو لقرينة أخرى من اعتناء معتن فهذا لم يرد وجه الله. وإنما يقبل ما كان عطاؤه لله وأكثر قصده ابتغاء ما عند الله ، كالذي حكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أعرابيا أتاه فقال : يا عمر الخير جزيت الجنه ... اكس بنياتي وأمهنه وكن لنا من الزمان جنة ... أقسم بالله لتفعلنه قال عمر : إن لم أفعل يكون ماذا ؟ قال : إذاً أبا حفص لأذهبنه قال : إذا ذهبت يكون ماذا ؟ - قال : تكون عن حالي لتسألنه ... يوم تكون الأعطيات هنه وموقف المسؤول بينهنه ... إما إلى نار وإما جنه (3/307) ________________________________________ فبكى عمر حتى اخضلت لحيته ثم قال : يا غلام ، أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره والله لا أملك غيره. قال الماوردي : وإذا كان العطاء على هذا الوجه خاليا من طلب جزاء وشكر وعريا عن امتنان ونشر كان ذلك أشرف للباذل وأهنأ للقابل. فأما المعطي إذا التمس بعطائه الجزاء ، وطلب به الشكر والثناء ، كان صاحب سمعة ورياء ، وفي هذين من الذم ما ينافي السخاء. وإن طلب كان تاجرا مربحا لا يستحق حمدا ولا مدحا. وقد قال ابن عباس في قوله تعالى : {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر : 6] أي لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها. وذهب ابن زيد إلى أن هذه الآية إنما هي في الذين لا يخرجون في الجهاد بل ينفقون وهم قعود ، وإن الآية التي قبلها هي في الذين يخرجون بأنفسهم ، قال : ولذلك شرط على هؤلاء ولم يشترط على الأولين. قال ابن عطية : وفي هذا القول نظر ، لأن التحكم فيه باد. الثالثة : - قوله تعالى : { مَنّاً وَلا أَذىً} المن ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها مثل أن يقول : قد أحسنت إليك ونعشتك وشبهه. وقال بعضهم : المن : التحدث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه. والمن من الكبائر ، ثبت ذلك في صحيح مسلم وغيره ، وأنه أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ، وروى النسائي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه والمرأة المترجلة تتشبه بالرجال والديوث ، وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والمدمن الخمر والمنان بما أعطى ". وفي بعض طرق مسلم : " المنان هو الذي لا يعطي شيئا إلا منة ". والأذى : السب والتشكي ، وهو أعم من المن لأن المن جزء من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه. وقال ابن زيد : لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه تريد وجه الله فلا تسلم عليه. وقالت له امرأة : يا أبا أسامة دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا فإنهم إنما يخرجون يأكلون الفواكه فإن عندي أسهما وجعبة. فقال : لا بارك الله في أسهمك وجعبتك فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم. قال علماؤنا رحمة الله عليهم : فمن أنفق في سبيل الله ولم يتبعه منا ولا أذى كقوله : ما أشد إلحاحك وخلصنا الله منك وأمثال هذا فقد تضمن الله له بالأجر ، والأجر الجنة ، (3/308) ________________________________________ ونفى عنه الخوف بعد موته لما يستقبل ، والحزن على ما سلف من دنياه ، لأنه يغتبط بآخرته فقال : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} . وكفى بهذا فضلا وشرفا للنفقة في سبيل الله تعالى. وفيها دلالة لمن فضل الغني على الفقير حسب ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. *3*الآية : 263 { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} ابتداء والخبر محذوف ، أي قول معروف أولى وأمثل ، ذكره النحاس والمهدوي. قال النحاس : ويجوز أن يكون { قول معروف} خبر ابتداء محذوف ، أي الذي أمرتم به قول معروف. والقول المعروف هو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله ، خير من صدقة هي في ظاهرها صدقة وفي باطنها لا شيء ، لأن ذكر القول المعروف فيه أجر وهذه لا أجر فيها. قال صلى الله عليه وسلم : "الكلمة الطيبة صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق" أخرجه مسلم. فيتلقى السائل بالبشر والترحيب ، ويقابله بالطلاقة والتقريب ، ليكون مشكورا إن أعطى ومعذورا إن منع. وقد قال بعض الحكماء : الق صاحب الحاجة بالبشر فإن عدمت شكره لم تعدم عذره. وحكى ابن لنكك أن أبا بكر بن دريد قصد بعض الوزراء في حاجة لم يقضها وظهر له منه ضجر فقال : لا تدخلنك ضجرة من سائل ... فلخير دهرك أن ترى مسؤولا لا تجبهن بالرد وجه مؤمل ... فبقاء عزك أن ترى مأمولا تلقى الكريم فتستدل ببشره ... وترى العبوس على اللئيم دليلا واعلم بأنك عن قليل صائر ... خبرا فكن خبرا يروق جميلا (3/309) ________________________________________ وروي من حديث عمر رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتى يفرغ منها ثم ردوا عليه بوقار ولين أو ببذل يسير أو رد جميل فقد يأتيكم من ليس بإنس ولا جان ينظرون صنيعكم فيما خولكم الله تعالى ". قلت : دليله حديث أبرص وأقرع وأعمى ، خرجه مسلم وغيره. وذلك أن ملكا تصور في صورة أبرص مرة وأقرع أخرى وأعمى أخرى امتحانا للمسؤول. وقال بشر بن الحارث : رأيت عليا في المنام فقلت : يا أمير المؤمنين قل لي شيئا ينفعني الله به ، قال : ما أحسن عطف الأنبياء على الفقراء رغبة في ثواب الله تعالى ، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء ثقة بموعود الله. فقلت : يا أمير المؤمنين زدني ، فولى وهو يقول : قد كنت ميتا فصرت حيا ... وعن قليل تصير ميتا فاخرب بدار الفناء بيتا ... وابن بدار البقاء بيتا الثانية : - قوله تعالى : { وَمَغْفِرَةٌ} المغفرة هنا : الستر للخلة وسوء حالة المحتاج ، ومن هذا قول الأعرابي - وقد سأل قوما بكلام فصيح - فقال له قائل : ممن الرجل ؟ فقال له : اللهم غفرا! سوء الاكتساب يمنع من الانتساب. وقيل : المعنى تجاوز عن السائل إذا ألح وأغلظ وجفى خير من التصدق عليه من المن والأذى ، قال معناه النقاش. وقال النحاس : هذا مشكل يبينه الإعراب. {وَمَغْفِرَةٌ} رفع بالابتداء والخبر {خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ} . والمعنى والله أعلم وفعل يؤدي إلى المغفرة خير من صدقة يتبعها أذى ، وتقديره في العربية وفعل مغفرة. ويجوز أن يكون مثل قولك : تفضل الله عليك أكبر من الصدقة التي تمن بها ، أي غفران الله خير من صدقتكم هذه التي تمنون بها. الثالثة : - قوله تعالى : {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} أخبر تعالى عن غناه المطلق أنه غني عن صدقة العباد ، وإنما أمر بها ليثيبهم ، وعن حلمه بأنه لا يعاجل بالعقوبة من منّ وآذى بصدقته. (3/310) ________________________________________ *3*الآية : 264 { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} فيه ثلاث مسائل : الأولى : - قوله تعالى : { بِالْمَنِّ وَالأَذَى} قد تقدم معناه. وعبر تعالى عن عدم القبول وحرمان الثواب بالإبطال ، والمراد الصدقة التي يمن بها ويؤذي ، لا غيرها. والعقيدة أن السيئات لا تبطل الحسنات ولا تحبطها ، فالمن والأذى في صدقة لا يبطل صدقة غيرها. قال جمهور العلماء في هذه الآية : إن الصدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمن أو يؤذي بها فإنها لا تقبل. وقيل : بل قد جعل الله للملك عليها أمارة فهو لا يكتبها ، وهذا حسن. والعرب تقول لما يمن به : يد سوداء. ولما يعطى عن غير مسألة : يد بيضاء. ولما يعطى عن مسألة : يد خضراء. وقال بعض البلغاء : من من بمعروفه سقط شكره ، ومن أعجب بعمله حبط أجره. وقال بعض الشعراء : وصاحب سلفت منه إلي يد ... أبطا عليه مكافاتي فعاداني لما تيقن أن الدهر حاربني ... أبدى الندامة فيما كان أولاني وقال آخر : أفسدت بالمن ما أسديت من حسن ... ليس الكريم إذا أسدى بمنان وقال أبو بكر الوراق فأحسن : أحسن من كل حسن ... في كل وقت وزمن صنيعة مربوبة ... خالية من المنن (3/311) ________________________________________ وسمع ابن سيرين رجلا يقول لرجل : فعلت إليك وفعلت! فقال له : اسكت فلا خير في المعروف ، إذا أحصي. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر - ثم تلا – {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} . الثانية : - قال علماؤنا رحمة الله عليهم : كره مالك لهذه الآية أن يعطي الرجل صدقته الواجبة أقاربه لئلا يعتاض منهم الحمد والثناء ، ويظهر منته عليهم ويكافئوه عليها فلا تخلص لوجه الله تعالى. واستحب أن يعطيها الأجانب ، واستحب أيضا أن يولى غيره تفريقها إذا لم يكن الإمام عدلا ، لئلا تحبط بالمن والأذى والشكر والثناء والمكافأة بالخدمة من المعطى. وهذا بخلاف صدقة التطوع السر ، لأن ثوابها إذا حبط سلم من الوعيد وصار في حكم من لم يفعل ، والواجب إذا حبط ثوابه توجه الوعيد عليه لكونه في حكم من لم يفعل. الثالثة : - قوله تعالى : {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} الكاف في موضع نصب ، أي إبطال "كالذي" فهي نعت للمصدر المحذوف. ويجوز أن تكون موضع الحال. مثل الله تعالى الذي يمن ويؤذي بصدقته بالذي ينفق ماله رئاء الناس لا لوجه الله تعالى ، وبالكافر الذي ينفق ليقال جواد وليثنى عليه بأنواع الثناء. ثم مثل هذا المنفق أيضا بصفوان عليه تراب فيظنه الظان أرضا منبتة طيبة ، فإذا أصابه وابل من المطر أذهب عنه التراب وبقي صلدا ، فكذلك هذا المرائي. فالمن والأذى والرياء تكشف عن النية في الآخرة فتبطل الصدقة كما يكشف الوابل عن الصفوان ، وهو الحجر الكبير الأملس. وقيل : المراد بالآية إبطال الفضل دون الثواب ، فالقاصد بنفقته الرياء غير مثاب كالكافر ، لأنه لم يقصد به وجه الله تعالى فيستحق الثواب. وخالف صاحب المن والأذى القاصد وجه الله المستحق ثوابه - وإن كرر عطاءه - وأبطل فضله. وقد قيل : إنما يبطل المن ثواب صدقته من وقت منه وإيذائه ، وما قبل ذلك يكتب له ويضاعف ، فإذا من وآذى انقطع التضعيف ، لأن الصدقة تربى لصاحبها حتى تكون أعظم من الجبل ، فإذا خرجت من يد صاحبها خالصة على الوجه المشروع ضوعفت ، فإذا جاء المن بها والأذى وقف بههناك وانقطع زيادة التضعيف عنها ، والقول الأول أظهر والله أعلم. (3/312) ________________________________________ والصفوان جمع واحده صفوانة ، قاله الأخفش. قال : وقال بعضهم : صفوان واحد ، مثل حجر. وقال الكسائي : صفوان واحد وجمعه صِفْوان وصُفِي وصِفِي ، وأنكره المبرد وقال : إنما صفي جمع صفا كقفا وقفي ، ومن هذا المعنى الصفواء والصفا ، وقد تقدم. وقرأ سعيد بن المسيب والزهري "صفوان" بتحريك الفاء ، وهي لغة. وحكى قطرب صفوان. قال النحاس : صَفْوان وصَفَوان يجوز أن يكون جمعا ويجوز أن يكون واحدا ، إلا أن الأولى به أن يكون واحدا لقوله عز وجل : { عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} وإن كان يجوز تذكير الجمع إلا أن الشيء لا يخرج عن بابه إلا بدليل قاطع ، فأما ما حكاه الكسائي في الجمع فليس بصحيح على حقيقة النظر ، ولكن صفوان جمع صفاً ، وصفاً بمعنى صفوان ، ونظيره ورل وورلان وأخ وإخوان وكراً وكروان ، كما قال الشاعر : لنا يوم وللكروان يوم ... تطير البائسات ولا نطير والضعيف في العربية كِرْوان جمع كَرَوَان ، وصُفِي وصِفِي جمع صفا مثل عصا. والوابل : المطر الشديد. وقد وبلت السماء تبل ، والأرض موبولة. قال الأخفش : ومنه قوله تعالى : {أخذناه أخذا وبيلا} [المزمل : 16] أي شديدا. وضرب وبيل ، وعذاب وبيل أي شديد. والصلد : الأملس من الحجارة. قال الكسائي : صَلِد يَصْلَدُ صَلَدا بتحريك اللام فهو صلد بالإسكان ، وهو كل ما لا ينبت شيئا ، ومنه جبين أصلد ، وأنشد الأصمعي لرؤبة : براق أصلاد الجبين الأجله قال النقاش : الأصلد الأجرد بلغة هذيل. ومعنى {لا يَقْدِرُونَ} يعني المرائي والكافر والمان {عَلَى شَيْءٍ} أي على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم وهو كسبهم عند حاجتهم إليه ، إذا كان لغير الله فعبر عن النفقة بالكسب ، لأنهم قصدوا بها الكسب. وقيل : ضرب هذا مثلا للمرائي في إبطال ثوابه ولصاحب المن والأذى في إبطال فضله ، ذكره الماوردي. (3/313) ________________________________________ الآية : 265 {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قوله تعالى : {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} {ابْتِغَاءَ} مفعول من أجله. { وتثبيتا من أنفسهم} عطف عليه. وقال مكي في المشكل : كلاهما مفعول من أجله. قال ابن عطية : وهو مردود ، ولا يصح في {وَتَثْبِيتاً} أنه مفعول من أجله ، لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت. و { ابْتِغَاءَ } نصب على المصدر في موضع الحال ، وكان يتوجه فيه النصب على المفعول من أجله ، لكن النصب على المصدر هو الصواب من جهة عطف المصدر الذي هو { وَتَثْبِيتاً} عليه. ولما ذكر الله تعالى صفة صدقات القوم الذين لا خلاق لصدقاتهم ، ونهى المؤمنين عن مواقعة ما يشبه ذلك بوجه ما ، عقب في هذه الآية بذكر نفقات القوم الذين تزكو صدقاتهم إذ كانت على وفق الشرع ووجهه. و {ابْتِغَاءَ} معناه طلب. و {مَرْضَاتِ} مصدر من رضي يرضى. {وَتَثْبِيتاً} معناه أنهم يتثبتون أين يضعون صدقاتهم ، قاله مجاهد والحسن. قال الحسن : كان الرجل إذا هم بصدقه تثبت ، فإن كان ذلك لله أمضاه وإن خالطه شك أمسك. وقيل : معناه تصديقا ويقينا ، قاله ابن عباس. وقال ابن عباس أيضا وقتادة : معناه واحتسابا من أنفسهم. وقال الشعبي والسدي وقتادة أيضا وابن زيد وأبو صالح وغيرهم : {وَتَثْبِيتاً} معناه وتيقنا أي أن نفوسهم لها بصائر فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تعالى تثبيتا. وهذه الأقوال الثلاث أصوب من قول الحسن ومجاهد ، لأن المعنى الذي ذهبا إليه إنما عبارته { وَتَثْبِيتاً} مصدر على غير المصدر. قال ابن عطية : وهذا لا يسوغ إلا مع ذكر المصدر والإفصاح بالفعل المتقدم ، كقوله تعالى : {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} [نوح : 17] ، {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [المزمل : 8]. وأما إذا لم يقع إفصاح بفعل فليس لك أن تأتي بمصدر في غير معناه ثم تقول : أحمله على معنى كذا وكذا ، لفعل لم يتقدم له ذكر. قال ابن عطية : هذا مهْيَعُ كلام العرب فيما علمته. وقال النحاس : (3/314) ________________________________________ لو كان كما قال مجاهد لكان وتثبتا من تثبت كتكرمت تكرما ، وقول قتادة : احتسابا ، لا يعرف إلا أن يراد به أن أنفسهم تثبتهم محتسبة ، وهذا بعيد. وقول الشعبي حسن ، أي تثبيتا من أنفسهم لهم على إنفاق ذلك في طاعة الله عز وجل ، يقال : ثبت فلانا في هذا الأمر ، أي صححت عزمه ، وقويت فيه رأيه ، أثبته تثبيتا ، أي أنفسهم موقنة بوعد الله على تثبيتهم في ذلك. وقيل : { وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي يقرون بأن الله تعالى يثبت عليها ، أي وتثبيتا من أنفسهم لثوابها ، بخلاف المنافق الذي لا يحتسب الثواب. قوله تعالى : {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} " الجنة البستان ، وهي قطعة أرض تنبت فيها الأشجار حتى تغطيها ، فهي مأخوذة من لفظ الجن والجنين لاستتارهم. وقد تقدم. والربوة : المكان المرتفع ارتفاعا يسيرا ، معه في الأغلب كثافة تراب ، وما كان كذلك فنباته أحسن ، ولذلك خص الربوة بالذكر. قال ابن عطية : ورياض الحزن ليست من هذا كما زعم الطبري ، بل تلك هي الرياض المنسوبة إلى نجد ، لأنها خير من رياض تهامة ، ونبات نجد أعطر ، ونسيمه أبرد وأرق ، ونجد يقال لها حزن. وقلما يصلح هواء تهامة إلا بالليل ، ولذلك قالت الأعرابية : "زوجي كليل تهامة". وقال السدي : "بربوة" أي برباوة ، وهو ما انخفض من الأرض. قال ابن عطية : وهذه عبارة قِلقة ، ولفظ الربوة هو مأخوذ من ربا يربو إذا زاد. قلت : عبارة السدي ليست بشيء ، لأن بناء "رَبَ و" معناه الزيادة في كلام العرب ، ومنه الربو للنفس العالىِ. ربا يربو إذا أخذه الربو. وربا الفرس إذا أخذه الربو من عدو أو فزع. وقال الفراء في قوله تعالى : { فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة : 10] أي زائدة ، كقولك : أربيت إذا أخذت أكثر مما أعطيت. وربوت في بني فلان وربيت أي نشأت فيهم. وقال الخليل : الربوة أرض مرتفعة طيبة وخص الله تعالى بالذكر التي لا يجري فيها ماء من حيث العرف في بلاد العرب ، فمثل لهم ما يحسونه ويدركونه. وقال ابن عباس : الربوة المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار ، لأن قوله تعالى : { أَصَابَهَا وَابِلٌ} إلى آخر الآية يدل على أنها ليس فيها ماء جار ، ولم يرد جنس التي تجري فيها الأنهار ، لأن الله تعالى قد ذكر ربوة (3/315) ________________________________________ ذات قرار ومعين. والمعروف من كلام العرب أن الربوة ما ارتفع عما جاوره سواء جرى فيها ماء أو لم يجر. وفيها خمس لغات "ربوة" بضم الراء ، وبها قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ونافع وأبو عمرو. و"ربوة" بفتح الراء ، وبها قرأ عاصم وابن عامر والحسن. "وربوة" بكسر الراء ، وبها قرأ ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي. و"رباوة" بالفتح ، وبها قرأ أبو جعفر وأبو عبدالرحمن ، وقال الشاعر : من منزلي في روضة برباوة ... بين النخيل إلى بقيع الغرقد ؟ و "رباوة" بالكسر ، وبها قرأ الأشهب العقيلي. قال الفراء : ويقال بِرَباوة وبرِباوة ، وكله من الرابية ، وفعله ربا يربو. قوله تعالى : {أَصَابَهَا} يعني الربوة. "وابل" أي مطر شديد قال الشاعر : ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها وابل هطل قوله تعالى : { فَآتَتْ} أي أعطت. {أُكُلَهَا} بضم الهمزة : الثمر الذي يؤكل ، ومنه قوله تعالى : { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم : 25]. والشيء المأكول من كل شيء يقال له أكل. والأكلة : اللقمة ، ومنه الحديث : " فإن كان الطعام مشفوها قليلا فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين " يعني لقمة أو لقمتين ، خرجه مسلم. وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص ، كسرج الفرس وباب الدار. وإلا فليس الثمر مما تأكله الجنة. وقرأ نافع ، وابن كثير وأبو عمرو "أكلها" بضم الهمزة وسكون الكاف ، وكذلك كل مضاف إلى مؤنث ، وفارقهما أبو عمرو فيما أضيف إلى مذكر مثل أُكُلَه أو كان غير مضاف إلى شيء مثل "أكل خمط" فثقل أبو عمرو ذلك وخففاه. وقرأ عاصم (3/316) ________________________________________ وابن عامر وحمزة والكسائي في جميع ما ذكرناه بالتثقيل. ويقال : أَكْل وأُكُل بمعنى.{ضِعْفَيْنِ} أي أعطت ضعفي ثمر غيرها من الأرضين. وقال بعض أهل العلم : حملت مرتين في السنة ، والأول أكثر ، أي أخرجت من الزرع ما يخرج غيرها في سنتين. قوله تعالى : {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} تأكيد منه تعالى لمدح هذه الربوة بأنها إن لم يصبها وابل فإن الطل يكفيها وينوب مناب الوابل في إخراج الثمرة ضعفين ، وذلك لكرم الأرض وطيبها. قال المبرد وغيره : تقديره فطل يكفيها. وقال الزجاج : فالذي يصيبها طل. والطل : المطر الضعيف المستدق من القطر الخفيف ، قاله ابن عباس وغيره ، وهو مشهور اللغة. وقال قوم منهم مجاهد : الطل : الندى. قال ابن عطية : وهو تجوز وتشبيه. قال النحاس : وحكى أهل اللغة وَبَلَت وأوْبَلَت ، وطَلّت وأَطَلّت. وفي الصحاح : الطل أضعف المطر والجمع الطلال ، تقول منه : طلت الأرض وأطلها الندى فهي مطلولة. قال الماوردي : وزرع الطل أضعف من زرع المطر وأقل ريعا ، وفيه - وإن قل - تماسك ونفع. قال بعضهم الآية تقديم وتأخير ، ومعناه كمثل جنة بربوة أصابها وابل فإن لم يصبها وابل فطل فآتت أكلها ضعفين. يعني اخضرت أوراق البستان وخرجت ثمرتها ضعفين. قلت : التأويل الأول أصوب ولا حاجة إلى التقديم والتأخير. فشبه تعالى نمو نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربي الله صدقاتهم كتربية الفُلُوّ والفصيل بنمو نبات الجنة بالربوة الموصوفة ، بخلاف الصفوان الذي انكشف عنه ترابه فبقي صلدا. وخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل أو أعظم" خرجه الموطأ أيضا. قوله تعالى : { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وعد ووعيد. وقرأ الزهري "يعملون" بالياء كأنه يريد به الناس أجمع ، أو يريد المنفقين فقط ، فهو وعد محض. (3/317)
| |
|