تفسير سورة الزمر
...
سورة الزمر
مقدمة السورة
ويقال سورة الغرف. قال وهب بن منبه : من أحب أن يعرف قضاء الله عز وجل في خلقه فليقرأ سورة الغرف. وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد. وقال ابن عباس : إلا آيتين نزلتا بالمدينة إحداهما { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } والأخرى { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } الآية. وقال آخرون : إلا سبع آيات من قوله تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } إلى آخر سبع آيات نزلت في وحشي وأصحابه على ما يأتي. روى الترمذي عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل. وهي خمس وسبعون آية. وقيل : اثنتان وسبعون آية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية : [1] { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ }
الآية : [2] { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ }
الآية : [3] { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ }
الآية : [4] { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }
قوله تعالى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ } رفع بالابتداء وخبره { مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } . ويجوز أن يكون مرفوعا بمعنى هذا تنزيل ؛ قال الفراء. وأجاز الكسائي والفراء أيضا { تَنْزِيلُ } بالنصب على أنه مفعول به. قال الكسائي : أي اتبعوا واقرؤوا { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ }. وقال الفراء : هو على الإغراء مثل قوله : { كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي الزموا. والكتاب القرآن. سمي بذلك لأنه مكتوب.
(15/232)
قوله تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } أي هذا تنزيل الكتاب من الله وقد أنزلناه بالحق ؛ أي بالصدق وليس بباطل وهزل. { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً } في مسألتان :
الأولى- { مُخْلِصاً } نصب على الحال أي موحدا لا تشرك به شيئا { لَهُ الدِّينَ } أي الطاعة. وقيل : العبادة وهو مفعول به. { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } أي الذي لا يشوبه شيء. وفي حديث الحسن عن أبي هريرة أن رجلا قال : يا رسول الله إني أتصدق بالشيء وأصنع الشيء أريد به وجه الله وثناء الناس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والذي نفس محمد بيده لا يقبل الله شيئا شورك فيه" ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } وقد مضى هذا المعنى في {البقرة} و{النساء} و{الكهف} مستوفى.
قال ابن العربي : هذه الآية دليل على وجوب النية في كل عمل ، وأعظمه الوضوء الذي هو شطر الإيمان ، خلافا لأبي حنيفة والوليد بن مسلم عن مالك اللذين يقولان أن الوضوء يكفي من غير نية ، وما كان ليكون من الإيمان شطرا ولا ليخرج الخطايا من بين الأظافر والشعر بغير نية.
الثانية- قوله تعالى : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } يعني الأصنام والخبر محذوف. أي قالوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } قال قتادة : كانوا إذا قيل لهم من ربكم وخالقكم ؟ ومن خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء ؟ قالوا الله ، فيقال لهم ما معنى عبادتكم الأصنام ؟ قالوا ليقربونا إلى الله زلفى ، ويشفعوا لنا عنده. قال الكلبي : جواب هذا الكلام في الأحقاف { فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً } والزلفى القربة ؛ أي ليقربونا إليه تقريبا ، فوضع { زُلْفَى } في موضع المصدر. وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس ومجاهد { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قالوا مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ
(15/233)
زُلْفَى } وفي حرف أُبيّ : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ } ذكره النحاس. قال : والحكاية في هذا بينة. { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي بين أهل الأديان يوم القيامة فيجازي كلا بما يستحق. { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } أي من سبق له القضاء بالكفر لم يهتد ؛ أي للدين الذي ارتضاه وهو دين الإسلام ؛ كما قال الله تعالى : { وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً } وفي هذا رد على القدرية وغيرهم على ما تقدم.
قوله تعالى : { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } أي لو أراد أن يسمي أحدا من خلقه بهذا ما جعله عز وجل إليهم. { سُبْحَانَهُ } أي تنزيها له عن الولد { هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }.
الآية : [5] { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ }
الآية : [6] { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ }
قوله تعالى : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ } أي هو القادر على الكمال المستغني عن الصاحبة والولد ، ومن كان هكذا فحقه أن يفرد بالعبادة لا أنه يشرك به. ونبه بهذا على أن يتعبد العباد بما شاء وقد فعل. { يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ } قال الضحاك : أي يلقي هذا على هذا وهذا على هذا. وهذا على معنى التكوير في اللغة وهو طرح الشيء بعضه على بعض ؛ يقال كور المتاع أي ألقى بعضه على بعض ؛
(15/234)
ومنه كور العمامة. وقد روي عن ابن عباس هذا في معنى الآية. قال : ما نقص من الليل دخل في النهار وما نقص من النهار دخل في الليل. وهو معنى قوله تعالى : { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } وقيل : تكوير الليل على النهار تغشيته إياه حتى يذهب ضوءه ، ويغشى النهار على الليل فيذهب ظلمته ، وهذا قول قتادة. وهو معنى قوله تعالى : { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً } { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } أي بالطلوع والغروب لمنافع العباد. { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً } أي في فلكه إلى أن تنصرم الدنيا وهو يوم القيامة حين تنفطر السماء وتنتثر الكواكب. وقيل : الأجل المسمى هو الوقت الذي ينتهي فيه سير الشمس والقمر إلى المنازل المرتبة لغروبها وطلوعها. قال الكلبي : يسيران إلى أقصى منازلهما ، ثم يرجعان إلى أدنى منازلهما لا يجاوزانه. وقد تقدم بيان هذا في سورة {يس} . { أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ } { أَلا } تنبيه أي تنبهوا فإني أنا { الْعَزِيزُ } الغالب { الْغَفَّارُ } الساتر لذنوب خلقه برحمته.
قوله تعالى : { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني آدم عليه السلام { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } يعني ليحصل التناسل وقد مضى هذا في {الأعراف} وغيرها. { وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } أخبر عن الأزواج بالنزول ، لأنها تكونت بالنبات والنبات بالماء المنزل. وهذا يسمى التدريج ؛ ومثله قوله تعالى : { قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً } الآية. وقيل : أنزل أنشأ وجعل. وقال سعيد بن جبير : خلق. وقيل : إن الله تعالى خلق هذه الأنعام في الجنة ثم أنزلها إلى الأرض ؛ كما قيل في قوله تعالى : { وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } فإن آدم لما هبط إلى الأرض أنزل معه الحديد. وقيل : { وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ } أي أعطاكم. وقيل : جعل الخلق إنزالا ؛ لأن الخلق إنما يكون بأمر ينزل من السماء. فالمعنى : خلق لكم كذا بأمره النازل. قال قتادة : من الإبل اثنين ومن البقر اثنين ومن الضأن اثنين ومن المعز اثنين كل واحد
(15/235)
زوج. وقد تقدم هذا. { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ } قال قتادة والسدي : نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما ثم لحما. ابن زيد : { خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ } خلقا في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهر آدم. وقيل : في ظهر الأب ثم خلقا في بطن الأم ثم خلقا بعد الوضع ذكره الماوردي. { فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ } ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة. قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك. وقال ابن جبير : ظلمة المشيمة وظلمة الرحم وظلمة الليل. والقول الأول أصح. وقيل : ظلمة صلب الرجل وظلمة بطن المرأة وظلمة الرحم. وهذا مذهب أبي عبيدة. أي لا تمنعه الظلمة كما تمنع المخلوقين. { ذَلِكُمُ اللَّهُ } أي الذي خلق هذه الأشياء { رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ }. { فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } أي كيف تنقلبون وتنصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره. وقرأ حمزة : { أُمَّهَاتِكُمْ } بكسر الهمزة والميم. والكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم. الباقون بضم الهمزة وفتح الميم.
الآية : [7] { إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }
قوله تعالى : { إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ } شرط وجوابه. { وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } أي أن يكفروا أي لا يحب ذلك منهم. وقال ابن عباس والسدي : معناه لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر ، وهم الذين قال الله فيهم : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } وكقوله : { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ } أي المؤمنون. وهذا على قول من لا يفرق بين الرضا والإرادة. وقيل : لا يرضى الكفر وإن أراده ؛ فالله تعالى يريد الكفر من الكافر وبإرادته كفر لا يرضاه ولا يحبه ، فهو يريد كون ما لا يرضاه ، وقد أراد الله عز وجل خلق إبليس وهو لا يرضاه ، فالإرادة غير الرضا. وهذا مذهب أهل السنة.
(15/236)
قوله تعالى : { وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } أي يرضى الشكر لكم ؛ لأن { تَشْكُرُوا } يدل عليه. وقد مضى القول في الشكر في {البقرة} وغيرها. ويرضى بمعنى يثيب ويثني ، فالرضا على هذا إما ثوابه فيكون صفة فعل { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ } وإما ثناؤه فهو صفة ذات. و {يرضه} بالإسكان في الهاء قرأ أبو جعفر وأبو عمرو وشيبة وهبيرة عن عاصم. وأشبع الضمة ابن ذكوان وابن كثير وابن محيصن والكسائي وورش عن نافع. واختلس الباقون. { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } قد تقدم.
الآية : [8] { وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ }
الآية : [9] { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ }
قوله تعالى : { وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ } يعني الكافر { ضُرٌّ } أي شدة من الفقر والبلاء { دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ } أي راجعا إليه مخبتا مطيعا له مستغيثا به في إزالة تلك الشدة عنه. { ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ } أي أعطاه وملكه. يقال : خولك الله الشيء أي ملكك إياه ، وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد :
هنالك إن يستخولوا المال يخولوا ... وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا
(15/237)
وخول الرجل : حشمه الواحد خائل. قال أبو النجم :
أعطى فلم يبخل ولم يبخل ... كوم الذرى من خول المخول
{ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ } أي نسي ربه الذي كان يدعوه من قبل في كشف الضر عنه فـ {ما} على هذا الوجه لله عز وجل وهي بمعنى الذي. وقيل : بمعنى من كقوله : { وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } والمعنى واحد. وقيل : نسي الدعاء الذي كان يتضرع به إلى الله عز وجل. أي ترك كون الدعاء منه إلى الله ، فما والفعل على هذا القول مصدر. { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً } أي أوثانا وأصناما. وقال السدي : يعني أندادا من الرجال يعتمدون عليهم في جميع أمورهم. { لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ } أي ليقتدي به الجهال. { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً } أي قل لهذا الإنسان { تَمَتَّعْ } وهو أمر تهديد فمتاع الدنيا قليل. { إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } أي مصيرك إلى النار.
قوله تعالى : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ } بين تعالى أن المؤمن ليس كالكافر الذي مضى ذكره. وقرأ الحسن وأبو عمرو وعاصم والكسائي { أَمَّنْ } بالتشديد. وقرأ نافع وابن كثير ويحيى ابن وثاب والأعمش وحمزة : { أَمَّنْ هُوَ } بالتخفيف على معنى النداء ؛ كأنه قال يا من هو قانت. قال الفراء : الألف بمنزلة يا ، تقول يا زيد أقبل وأزيد أقبل. وحكي ذلك عن سيبويه وجميع النحويين ؛ كما قال أوس بن حجر :
أبني لبينى لستم بيد ... إلا يدا ليست لها عضد
وقال آخر هو ذو الرمة :
أدارا بحزوي هجت للعين عبرة ... فماء الهوى يرفض أو يترقرق
فالتقدير عل هذا { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } يا من هو قانت إنك من أصحاب الجنة ؛ كما يقال في الكلام : فلان لا يصلي ولا يصوم ، فيا من يصلي ويصوم أبشر ؛ فحذف لدلالة الكلام عليه. وقيل : إن الألف في { أَمَّنْ } ألف استفهام أي { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ } أفضل ؟ أم من جعل لله أندادا ؟ والتقدير الذي هو قانت خير. ومن شدد
(15/238)
{ أَمَّنْ } فالمعنى العاصون المتقدم ذكرهم خير { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ } فالجملة التي عادلت أم محذوفة ، والأصل أم من فأدغمت في الميم. النحاس : وأم بمعنى بل ، ومن بمعنى الذي ؛ والتقدير : أم الذي هو قانت أفضل ممن ذكر. وفي قانت أربعة أوجه : أحدها : أنه المطيع ؛ قاله ابن مسعود. الثاني : أنه الخاشع في صلاته ؛ قاله ابن شهاب. الثالث : أنه القائم في صلاته ؛ قاله يحيى بن سلام. الرابع : أنه الداعي لربه. وقول ابن مسعود يجمع ذلك. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "كل قنوت في القرآن فهو طاعة لله عز وجل" وروي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الصلاة أفضل ؟ فقال : "طول القنوت" وتأوله جماعة من أهل العلم على أنه طول القيام. وروى عبدالله عن نافع عن ابن عمر سئل عن القنوت فقال : ما أعرف القنوت إلا طول القيام ، وقراءة القرآن. وقال مجاهد : من القنوت طول الركوع وغض البصر. وكان العلماء إذا وقفوا في الصلاة غضوا أبصارهم ، وخضعوا ولم يلتفتوا في صلاتهم ، ولم يعبثوا ولم يذكروا شيئا من أمر الدنيا إلا ناسين. قال النحاس : أصل هذا أن القنوت الطاعة ، فكل ما قيل فيه فهو طاعة لله عز وجل ، فهذه الأشياء كلها داخلة في الطاعة وما هو أكثر منها كما قال نافع : قال لي ابن عمر قم فصل فقمت أصلي وكان علي ثوب خلق ، فدعاني فقال لي : أرأيت لو وجهتك في حاجة أكنت تمضى هكذا ؟ فقلت : كنت أتزين قال : فالله أحق أن تتزين له. واختلف في تعيين القانت ها هنا ، فذكر يحيى بن سلام أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس في رواية الضحاك عنه : هو أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال ابن عمر : هو عثمان رضي الله عنه. وقال مقاتل : إنه عمار بن ياسر. الكلبى : صهيب وأبو ذر وابن مسعود. وعن الكلبي أيضا أنه مرسل فيمن كان على هذه الحال. { آنَاءَ اللَّيْلِ } قال الحسن : ساعاته ؛ أوله وأوسطه وآخره. وعن ابن عباس : { آنَاءَ اللَّيْلِ } جوف الليل. قال ابن عباس : من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة ، فليره الله في ظلمة الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ، ويرجو رحمة ربه. وقيل : ما بين المغرب والعشاء. وقول الحسن عام. { يَحْذَرُ الآخِرَةَ } قال سعيد بن جبير : أي عذاب الآخرة. { وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } أي
(15/239)
نعيم الجنة. وروي عن الحسن أنه سئل عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو فقال : هذا متمن. ولا يقف على قوله : { رَحْمَةَ رَبِّهِ } من خفف { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ } على معنى النداء ؛ لأن قوله : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } متصل إلا أن يقدر في الكلام حذف وهو أيسر ، على ما تقدم بيانه. قال الزجاج : أي كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. وقال غيره : الذين يعلمون هم الذين ينتفعون بعلمهم ويعملون به ، فأما من لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به فهو بمنزلة من لم يعلم. { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ } أي أصحاب العقول من المؤمنين.
الآية : [10] { قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }
قوله تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا } أي قل يا محمد لعبادي المؤمنين { اتَّقُوا رَبَّكُمْ } أي أتقوا معاصيه والتاء مبدلة من واو وقد تقدم. وقال ابن عباس : يريد جعفر بن أبي طالب والذين خرجوا معه إلى الحبشة. ثم قال : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ } يعني بالحسنة الأولى الطاعة وبالثانية الثواب في الجنة. وقيل : المعنى للذين أحسنوا في الدنيا حسنة في الدنيا ، يكون ذلك زيادة على ثواب الآخرة ، والحسنة الزائدة في الدنيا الصحة والعافية والظفر والغنيمة. قال القشيري : والأول أصح ؛ لأن الكافر قد نال نعم الدنيا.
قلت : وينالها معه المؤمن ويزاد الجنة إذا شكر تلك النعم. وقد تكون الحسنة في الدنيا الثناء الحسن ، وفي الآخرة الجزاء. { وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ } فهاجروا فيها ولا تقيموا مع من يعمل بالمعاصي. وقد مضى القول في هذا مستوفى في {النساء} وقيل : المراد أرض الجنة ؛ رغبهم في سعتها وسعة نعيمها ؛ كما قال : { عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ } والجنة قد تسمى أرضا ؛
(15/240)
قال الله تعالى : { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ } والأول أظهر فهو أمر بالهجرة. أي ارحلوا من مكة إلى حيث تأمنوا. الماوردي : يحتمل أن يريد بسعة الأرض سعة الرزق ؛ لأنه يرزقهم من الأرض فيكون معناه ورزق الله واسع وهو أشبه ؛ لأنه أخرج سعتها مخرج الامتنان.
قلت : فتكون الآية دليلا على الانتقال من الأرض الغالية ، إلى الأرض الراخية ، كما قال سفيان الثوري : كن في موضع تملأ فيه جرابك خبزا بدرهم .{ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي بغير تقدير. وقيل : يزاد على الثواب ؛ لأنه لو أعطي بقدر ما عمل لكان بحساب. وقيل : { بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي بغير متابعة ولا مطالبة كما تقع المطالبة بنعيم الدنيا. و { الصَّابِرُونَ } هنا الصائمون ؛ دليله قوله عليه الصلاة والسلام مخبرا عن الله عز وجل : "الصوم لي وأنا أجزي به" قال أهل العلم : كل أجر يكال كيلا ويوزن وزنا إلا الصوم فإنه يحثى حثوا ويغرف غرفا ؛ وحكي عن علي رضي الله عنه. وقال مالك بن أنس في قوله : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } قال : هو الصبر على فجائع الدنيا وأحزانها. ولا شك أن كل من سلم فيما أصابه ، وترك ما نهي عنه ، فلا مقدار لأجرهم. وقال قتادة : لا والله ما هناك مكيال ولا ميزان ، حدثني أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "تنصب الموازين فيؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين وكذلك الصلاة والحج ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صبا" ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم
(15/241)
{ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }. ولفظ صابر يمدح به وإنما هو لمن صبر عن المعاصي ، وإذا أردت أنه صبر على المصيبة قلت صابر على كذا ؛ قال النحاس. وقد مضى في {البقرة} مستوفى.
الآية : [11] { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ }
الآية : [12] { وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ }
الآية : [13] { قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }
الآية : [14] { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي }
الآية : [15] { فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }
الآية : [16] { لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ }
قوله تعالى : { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ } تقدم. { وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ } من هذه الأمة ، وكذلك كان ؛ فإنه كان أول من خالف دين آبائه ؛ وخلع الأصنام وحطمها ، وأسلم لله وآمن به ، ودعا إليه صلى الله عليه وسلم. واللام في قوله : { لأَنْ أَكُونَ } صلة زائدة قال الجرجاني وغيره. وقيل : لام أجل. وفي الكلام حذف أي أمرت بالعبادة { لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ }.
قوله تعالى : { قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } يريد عذاب يوم القيامة وقال حين دعاه قومه إلى دين آبائه ؛ قال أكثر أهل التفسير. وقال أبو حمزة الثمالي وابن المسيب : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } فكانت هذه الآية من قبل أن يغفر ذنب النبي صلى الله عليه وسلم.
(15/242)
قوله تعالى : { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ } {الله} نصب بـ { أَعْبُدُ } ، { مُخْلِصاً لَهُ دِينِي } طاعتي وعبادتي. { فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ } أمر تهديد ووعيد وتوبيخ ؛ كقوله تعالى : { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } . وقيل : منسوخة بآية السيف.
قوله تعالى : { قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } قال ميمون بن مهران عن ابن عباس : ليس من أحد إلا وقد خلق الله له زوجة في الجنة ، فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله. في رواية عن ابن عباس : فمن عمل بطاعة الله كان له ذلك المنزل والأهل إلا ما كان له قبل ذلك ، وهو قوله تعالى : { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ }. { لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } سمى ما تحتهم ظللا ؛ لأنها تظل من تحتهم ، وهذه الآية نظير قوله تعالى : { لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } وقوله : { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ }. { ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ } قال ابن عباس : أولياءه. { يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ } أي يا أوليائي فخافون. وقيل : هو عام في المؤمن والكافر. وقيل : خاص بالكفار.
الآية : [17] { وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ }
الآية : [18] { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ }
قوله تعالى : { وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا } قال الأخفش : الطاغوت جمع ويجوز أن تكون واحدة مؤنثة. وقد تقدم. أي تباعدوا من الطاغوت وكانوا منها على جانب فلم يعبدوها. قال مجاهد وابن زيد : هو الشيطان. وقال الضحاك والسدي : هو الأوثان. وقيل : إنه الكاهن. وقيل إنه اسم أعجمي مثل طالوت وجالوت وهاروت وماروت. وقيل : إنه اسم عربي مشتق من الطغيان ، و {أن} في موضع نصب بدلا من الطاغوت ، تقديره : والذين
(15/243)
أجتنبوا عبادة الطاغوت. { وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ } أي رجعوا إلى عبادته وطاعته. { لَهُمُ الْبُشْرَى } في الحياة الدنيا بالجنة في العقبى. روي أنها نزلت في عثمان وعبدالرحمن بن عوف وسعد وسعيد وطلحة والزبير رضي الله عنهم ؛ سألوا أبا بكر رضي الله عنه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا. وقيل : نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر وغيرهما ممن وحد الله تعالى قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله : { فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } قال ابن عباس : هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن وينكف عن القبيح فلا يتحدث به. وقيل : يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن. وقيل : يستمعون القرآن وأقوال الرسول فيتبعون أحسنه أي محكمه فيعملون به. وقيل : يستمعون عزما وترخيصا فيأخذون بالعزم دون الترخيص. وقيل : يستمعون العقوبة الواجبة لهم والعفو فيأخذون بالعفو. وقيل : إن أحسن القول على من جعل الآية فيمن وحد الله قبل الإسلام "لا إله إلا الله". وقال عبدالرحمن بن زيد : نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي ، اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها في جاهليتهم ، واتبعوا أحسن ما صار من القول إليهم. { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ } لما يرضاه. { وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ } أي أصحاب العقول من المؤمنين الذين انتفعوا بعقولهم.
الآية : [19] { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ }
قوله تعالى : { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ } كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على إيمان قوم وقد سبقت لهم من الله الشقاوة فنزلت هذه الآية. قال ابن عباس : يريد أبا لهب وولده ومن تخلف من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان. وكرر الاستفهام في قوله : { أَفَأَنْتَ } تأكيدا لطول الكلام ، وكذا قال سيبويه في قوله تعالى : { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ } على ما تقدم. والمعنى : { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ } أفأنت تنقذه. والكلام شرط وجوابه. وجيء بالاستفهام ؛ ليدل على التوقيف والتقرير. وقال الفراء : المعنى أفأنت تنقذ من حقت عليه
(15/244)
كلمة العذاب. والمعنى واحد. وقيل : إن في الكلام حذفا والتقدير : أفمن حق عليه كلمة العذاب ينجو منه ، وما بعده مستأنف. وقال : { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ } وقال في موضع آخر : { حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ } لأن الفعل إذا تقدم ووقع بينه وبين الموصوف به حائل جاز التذكير والتأنيث ، على أن التأنيث هنا ليس بحقيقي بل الكلمة في معنى الكلام والقول ؛ أي أفمن حق عليه قول العذاب.
الآية : [20] { لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ }
قوله تعالى : { لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ } لما بين أن للكفار ظلا من النار من فوقهم ومن تحتهم بين أن للمتقين غرفا فوقها غرف ؛ لأن الجنة درجات يعلو بعضها بعضا و { لَكِنِ } ليس للاستدرار ؛ لأنه لم يأت نفي كقوله : ما رأيت زيدا لكن عمرا ؛ بل هو لترك قصة إلى قصة مخالفة للأولى كقولك : جاءني زيد لكن عمرو لم يأت. { مَبْنِيَّةٌ } قال ابن عباس : من زبرجد وياقوت { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } أي هي جامعة لأسباب النزهة. { وَعْدَ اللَّهِ } نصب على المصدر ؛ لأن معنى { لَهُمْ غُرَفٌ } وعدهم الله ذلك وعدا. ويجوز الرفع بمعنى ذلك وعد الله. { لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ } أي ما وعد الفريقين.
الآية : [21] { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ }
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } أي إنه لا يخلف الميعاد في إحياء الخلق ، والتمييز بين المؤمن والكافر ، وهو قادر على ذلك كما أنه قادر على إنزال الماء من السماء. { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ } أي من السحاب { مَاءً } أي المطر { فَسَلَكَهُ } أي فأدخله في الأرض
(15/245)
وأسكنه فيها ؛ كما قال : { فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ } { يَنَابِيعَ } جمع ينبوع وهو يفعول من نبع ينبع وينبع وينبع بالرفع والنصب والخفض. النحاس : وحكى لنا ابن كيسان في قول الشاعر :
ينباع من ذفرى غضوب جسرة
أن معناه ينبع فأشبع الفتحة فصارت ألفا ، نبوعا خرج. والينبوع عين الماء والجمع الينابيع. وقد مضى في {سبحان}.{ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ } أي بذلك الماء الخارج من ينابيع الأرض { زَرْعاً } هو للجنس أي زروعا شتى لها ألوان مختلفة ، حمرة وصفرة وزرقة وخضرة ونورا. قال الشعبي والضحاك : كل ماء في الأرض فمن السماء نزل ، إنما ينزل من السماء إلى الصخرة ، ثم تقسم منها العيون والركايا. { ثُمَّ يَهِيجُ } أي ييبس. { فَتَرَاهُ } أي بعد خضرته { مُصْفَرّاً } قال المبرد قال الأصمعي : يقال هاجت الأرض تهيج إذا أدبر نبتها وولى. قال : كذلك هاج النبت. قال : وكذلك قال غير الأصمعي. وقال الجوهري : هاج النبت هياجا أي يبس. وأرض هائجة يبس بقلها أو اصفر ، وأهاجت الريح النبت أيبسته ، وأهيجنا الأرض أي وجدناها هائجة النبات ، وهاج هائجه أي ثار غضبه ، وهدأ هائجه أي سكنت فورته. { ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً } أي فتاتا مكسرا من تحطم العود إذا تفتت من اليبس. والمعنى أن من قدر على هذا قدر على الإعادة. وقيل : هو مثل ضربه الله للقرآن ولصدور من في الأرض ، أي أنزل من السماء قرآنا فسلكه في قلوب المؤمنين { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } أي دينا مختلفا بعضه أفضل من بعض ، فأما المؤمن فيزداد إيمانا ويقينا ، وأما الذي في قلبه مرض فإنه يهيج كما يهيج الزرع. وقيل : هو مثل ضربه الله للدنيا ؛ أي كما يتغير النبت الأخضر فيصفر كذلك الدنيا بعد بهجتها. { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ } .
(15/246)