تفسير سورة الشعراء
الآية : [224] {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}
الآية : [225] {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ}
الآية : [226] {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ}
الآية : [227] {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}
قوله تعالى : {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} فيه ست مسائل :
الأولي- قوله تعالى : {وَالشُّعَرَاءُ} جمع شاعر مثل جاهل وجهلاء ؛ قال ابن عباس : هم الكفار {يَتَّبِعُهُمُ} ضلال الجن والإنس. وقيل {الْغَاوُونَ} الزائلون عن الحق ، ودل بهذا أن الشعراء أيضا غاوون ؛ لأنهم لو لم يكونوا غاوين ما كان أتباعهم كذلك. وقد قدمنا في سورة {النور} أن من الشعر ما يجوز إنشاده ، ويكره ، ويحرم. روي مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال : ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال : "هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء" قلت : نعم. قال : "هيه" فأنشدته بيتا. فقال : "هيه" ثم أنشدته بيتا. فقال : "هيه" حتى أنشدته مائة بيت. هكذا صواب هذا السند وصحيح روايته. وقد وقع لبعض رواة كتاب مسلم : عن عمرو بن الشريد عن الشريد أبيه ؛ وهو وهم ؛ لأن الشريد هو الذي أردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم. واسم أبي الشريد سويد. وفي هذا دليل على حفظ الأشعار والاعتناء بها إذا تضمنت الحكم والمعاني المستحسنة شرعا وطبعا ، وإنما استكثر النبي صلى الله عليه وسلم من شعر أمية ؛ لأنه
(13/144)
كان حكيما ؛ ألا ترى قوله عليه السلام : "وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم" فأما ما تضمن ذكر الله وحمده والثناء عليه فذلك مندوب إليه ، كقول القائل :
الحمد لله العلي المنان ... صار الثريد في رؤوس العيدان
أو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مدحه كقول العباس :
من قبلها طبت في الظلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورق
ثم هبطت البلاد لا بشر ... أنت ولا مضغة ولا علق
بل نطفة تركب السفين وقد ألجم ... نسرا وأهله الغرق
تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يفضض الله فاك". أو الذب عنه كقول حسان :
هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
وهي أبيات ذكرها مسلم في صحيحه وهي في السير أتم. أو الصلاة عليه ؛ كما روى زيد بن أسلم ؛ خرج عمر ليلة يحرس فرأى مصباحا في بيت ، وإذا عجوز تنفش صوفا وتقول :
على محمد صلاة الأبرار ... صلى عليه الطيبون الأخيار
قد كنت قواما بكا بالأسحار ... يا ليت شعري والمنايا أطوار
هل يجمعني وحبيبي الدار
يعني النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فجلس عمر يبكي. وكذلك ذكر أصحابه ومدحهم رضي الله عنهم ؛ ولقد أحسن محمد بن سابق حيث قال :
إني رضيت عليا للهادي علما ... كما رضيت عتيقا صاحب الغار
وقد رضيت أبا حفص وشيعته ... وما رضيت بقتل الشيخ في الدار
كل الصحابة عندي قدوة علم ... فهل علي بهذا القول من عار
إن كنت تعلم إني لا أحبهم ... إلا من أجلك فاعتقني من النار
(13/145)
وقال آخر فأحسن :
حب النبي رسول الله مفترض ... وحب أصحابه نور ببرهان
من كان يعلم أن الله خالقه ... لا يرمين أبا بكر ببهتان
ولا أبا حفص الفاروق صاحبه ... ولا الخليفة عثمان بن عفان
أما علي فمشهور فضائله ... والبيت لا يستوي إلا بأركان
قال ابن العربي : أما الاستعارات في التشبيهات فمأذون فيها وإن استغرقت الحد وتجاوزت المعتاد ؛ فبذلك يضرب الملك الموكل بالرؤيا المثل ، وقد أنشد كعب بن زهير النبي صلى الله عليه وسلم :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل بالراح معلول
فجاء في هذه القصيدة من الاستعارات والتشبيهات بكل بديع ، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ولا ينكر في تشبيهه ريقها بالراح. وأنشد أبو بكر رضي الله عنه :
فقدنا الوحى إذ وليت عنا ... وودعنا من الله الكلام
سوى ما قد تركت لنا رهينا ... توارثه القراطيس الكرام
فقد أورثتنا ميراث صدق ... عليك به التحية والسلام
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعه وأبو بكر ينشده ، فهل للتقليد والاقتداء موضع أرفع من هذا. قال أبو عمر : ولا ينكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولي النهي ، وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا وقد قال الشعر ، أو تمثل به أو سمعه فرضيه ما كان حكمة أو مباحا ، ولم يكن فيه فحش ولا خنا ولا لمسلم أذى ، فإذا كان كذلك فهو والمنثور من القول سواء لا يحل سماعه ولا قوله ؛ وروي أبو هريرة قال
(13/146)
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول : "أصدق كلمة - أو أشعر كلمة - قالتها العرب قول لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
أخرجه مسلم وزاد : "وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم" وروي عن ابن سيرين أنه أنشد شعرا فقال له بعض جلسائه : مثلك ينشد الشعر يا أبا بكر. فقال : ويلك يا لكع! وهل الشعر إلا كلام لا يخالف سائر الكلام إلا في القوافي ، فحسنه حسن وقبيحه قبيح! قال : وقد كانوا يتذاكرون الشعر. قال : وسمعت ابن عمر ينشد :
يحب الخمر من مال الندامى ... ويكره أن يفارقه الغلوس
وكان عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة العشرة ثم المشيخة السبعة شاعرا مجيدا مقدما فيه. وللزبير بن بكار القاضي في أشعاره كتاب ، وكانت له زوجة حسنة تسمى عثمة فعتب عليها في بعض الأمر فطلقها ، وله فيها أشعار كثيرة ؛ منها قوله :
تغلغل حب عثمة في فؤادي ... فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ... ولا حزن ولم يبلغ سرور
أكاد إذا ذكرت العهد منها ... أطير لوان إنسانا يطير
وقال ابن شهاب : قلت له تقول الشعر في نسكك وفضلك! فقال : إن المصدور إذا نفث برأ.
الثانية- وأما الشعر المذموم الذي لا يحل سماعه وصاحبه ملوم ، فهو المتكلم بالباطل حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة ، وأشحهم على حاتم ، وإن يبهتوا البريء ويفسقوا التقي ، وأن يفرطوا في القول بما لم يفعله المرء ؛ رغبة في تسلية النفس وتحسين القول ؛ كما روي عن الفرزدق أن سليمان بن عبدالملك سمع قوله :
فبتن بجانبي مصرعات ... وبت أفض أغلاق الختام
(13/147)
فقال : قد وجب عليك الحد. فقال : يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحد بقوله : {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} . وروي أن النعمان بن عدي بن نضلة كان عاملا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال :
من مبلغ الحسناء أن حليلها ... بميسان يسقي في زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قرية ... ورقاصة تجذو على كل منسم
فإن كنت ندماني فبالأكبر أسقني ... ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوءه ... تنادمنا بالجوسق المتهدم
فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه بالقدوم عليه. وقال : إي والله إني ليسوءني ذلك. فقال : يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئا مما قلت ؛ وإنما كانت فضلة من القول ، وقد قال الله تعالى : {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} فقال له عمر : أما عذرك فقد درأ عنك الحد ؛ ولكن لا تعمل لي عملا أبدا وقد قلت ما قلت. وذكر الزبير بن بكار قال : حدثني مصعب بن عثمان أن عمر بن عبدالعزيز لما ولي الخلافة لم يكن له هم إلا عمر بن أبي ربيعة والأحوص فكتب إلى عامله على المدينة : إني قد عرفت عمر والأحوص بالشر والخبث فإذا أتاك كتابي هذا فاشدد عليهما وأحملهما إلي. فلما أتاه الكتاب حملهما إليه ، فأقبل على عمر ، فقال : هيه!
فلم أر كالتجمير منظر ناظر ... ولا كليالي الحج أفلتن ذا هوى
وكم مالئ عينيه من شيء غيره ... إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
أما والله لو اهتممت بحجك لم تنظر إلى شيء غيرك ؛ فإذا لم يفلت الناس منك في هذه الأيام فمتى يفلتون! ثم أمر بنفيه. فقال : يا أمير المؤمنين! أو خير من ذلك ؟ فقال : ما هو ؟ قال : أعاهد الله أني لا أعود إلى مثل هذا الشعر ، ولا أذكر النساء في شعر أبدا ، وأجدد توبة ، فقال : أو تفعل ؟ قال : نعم ، فعاهد الله على توبته وخلاه ؛ ثم دعا بالأحوص ، فقال هيه!
الله بيني وبين قيمها ... يفر مني بها وأتَّبع
(13/148)
بل الله بين قيمها وبينك! ثم أمر بنفيه ؛ فكلمه فيه رجال من الأنصار فأبى ، وقال : والله لا أرده ما كان لي سلطان ، فإنه فاسق مجاهر. فهذا حكم الشعر المذموم وحكم صاحبه ، فلا يحل سماعه ولا إنشاده في مسجد ولا غيره ، كمنثور الكلام القبيح ونحوه. وروي إسماعيل بن عياش عن عبدالله بن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "حسن الشعر كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام" رواه إسماعيل عن عبدالله الشامي وحديثه عن أهل الشام صحيح فيما قال يحيى بن معين وغيره. وروى عبدالله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام" .
الثالثة- روي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرا" وفي الصحيح أيضا عن أبي سعيد الخدري قال : بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عرض شاعر ينشد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خذوا الشيطان - أو أمسكوا الشطان - لان يمتلئ جوف رجل قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا" قال علماؤنا : وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا مع هذا الشاعر لما علم من حاله ، فلعل هذا الشاعر كان ممن قد عرف من حاله أنه قد اتخذ الشعر طريقا للتكسب ، فيفرط في المدح إذا أعطي ، وفي الهجو والذم إذا منع ، فيؤذي الناس في أموالهم وأعراضهم. ولا خلاف في أن من كان على مثل هذه الحالة فكل ما يكتسبه بالشعر حرام. وكل ما يقوله من ذلك حرام عليه ، ولا يحل الإصغاء إليه ، بل يجب الإنكار عليه ؛ فإن لم يكن ذلك لمن خاف من لسانه قطعا تعين عليه أن يداريه بما استطاع ، ويدافعه بما أمكن ، ولا يحل له أن يعطي شيئا ابتداء ، لأن ذلك عون على المعصية ؛ فإن لم يجد من ذلك بدا أعطاه بنية وقاية العرض ؛ فما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقة. قلت : قوله : "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه" القيح المدة يخالطها دم. يقال منه : قاح الجرح يقيح وتقيح وقيح. و"يريه" قال الأصمعي : هو من الوري على
(13/149)
مثال الرمي وهو أن يدوي جوفه ، يقال منه : رجل موري مشدد غير مهموز. وفي الصحاح : وروي القيح جوفه يريه وريا إذا أكله. وأنشد اليزيدي :
قالت له وريا إذا تنحنحا
وهذا الحديث أحسن ما قيل في تأويله : إنه الذي قد غلب عليه الشعر ، وامتلأ صدره منه دون علم سواه ولا شيء من الذكر ممن يخوض به في الباطل ، ويسلك به مسالك لا تحمد له ، كالمكثر من اللغط والهذر والغيبة وقبيح القول. ومن كان الغالب عليه الشعر لزمته هذه الأوصاف المذمومة الدنية ، لحكم العادة الأدبية. وهذا المعنى هو الذي أشار إليه البخاري في صحيحه لما بوب على هذا الحديث "باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر". وقد قيل في تأويله : إن المراد بذلك الشعر الذي هجي به النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره. وهذا ليس بشيء ؛ لأن القليل من هجو النبي صلى الله عليه وسلم وكثيره سواء في أنه كفر ومذموم ، وكذلك هجو غير النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين محرم قليله وكثيره ، وحينئذ لا يكون لتخصيص الذم بالكثير معني.
الرابعة- قال الشافعي : الشعر نوع من الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيح كقبيح الكلام ، يعني أن الشعر ليس يكره لذاته وإنما يكره لمضمناته ، وقد كان عند العرب عظيم الموقع. قال الأول منهم :
وجرح اللسان كجرح اليد
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الشعر الذي يرد به حسان على المشركين : "إنه لأسرع فيهم من رشق النبل" أخرجه مسلم. وروى الترمذي وصححه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبدالله بن رواحة يمشي بين يديه ويقول :
خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
فقال عمر : يا ابن رواحة! في حرم الله وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خل عنه يا عمر فلهو أسرع فيهم من نضح النبل" .
(13/150)
الخامسة- قوله تعالى : {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} لم يختلف القراء في رفع {وَالشُّعَرَاءُ} فيما علمت. ويجوز النصب على إضمار فعل يفسره {يَتَّبِعُهُمُ} وبه قرأ عيسى بن عمر ؛ قال أبو عبيد : كان الغالب عليه حب النصب ؛ قرأ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة : 38] و {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد : 4] و {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} [النور : 1]. وقرأ نافع وشيبة والحسن والسلمي : {يَتَّبِعُهُمُ} مخففا. الباقون {يَتَّبِعُهُمُ} . وقال الضحاك : تهاجى رجلان أحدهما أنصاري والآخر مهاجري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل واحد غواة قومه وهم السفهاء فنزلت ؛ وقاله ابن عباس. وعنه هم الرواة للشعر. وروى عنه علي بن أبي طلحة أنهم هم الكفار يتبعهم ضلال الجن والإنس ؛ وقد ذكرناه. وروى غضيف عن النبي صلى الله عليه وسلم : "من أحدث هجاء في الإسلام فاقطعوا لسانه" وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة رن إبليس رنة وجمع إليه ذريته ؛ فقال ايئسوا أن تريدوا أمة محمد على الشرك بعد يومكم هذا ولكن أفشوا فيهما - يعني مكة والمدينة - الشعر.
السادسة- قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} يقول : في كل لغو يخوضون ، ولا يتبعون سنن الحق ؛ لأن من اتبع الحق وعلم أنه يكتب عليه ما يقوله تثبت ، ولم يكن هائما يذهب على وجهه لا يبالي ما قال. نزلت في عبدالله بن الزبعرى ومسافع بن عبد مناف وأمية بن أبي الصلت. {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} يقول : أكثرهم يكذبون ؛ أي يدلون بكلامهم على الكرم والخير ولا يفعلونه. وقيل : إنها نزلت في أبي عزة الجمحي حيث قال :
ألا أبلغا عني النبي محمدا ... بأنك حق والمليك حميد
ولكن إذا ذكرت بدرا وأهله ... تأوه مني أعظم وجلود
ثم استثنى شعر المؤمنين : حسان بن ثابت وعبدالله بن رواحة وكعب بن مالك وكعب بن زهير ومن كان على طريقهم من القول الحق ؛ فقال : {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً} في كلامهم {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} وإنما يكون الانتصار بالحق ،
(13/151)
وبما حده الله عز وجل ، فإن تجاوز ذلك فقد انتصر بالباطل. وقال أبو الحسن المبرد. لما نزلت : {والشعراء} جاء حسان وكعب بن مالك وابن رواحة يبكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقالوا : يا نبي الله! أنزل الله تعالى هذه الآية ، وهو تعالى يعلم أنا شعراء ؟ فقال : "اقرؤوا ما بعدها {إِلاِّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} - الآية - أنتم { وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا } أنتم" أي بالرد على المشركين. قال النبي صلى الله عليه وسلم : "انتصروا ولا تقولوا إلا حقا ولا تذكروا الآباء والأمهات" فقال حسان لأبي سفيان :
هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
وإن أبي ووالدتي وعرضي ... عرض محمد منكم وقاء
أتشتمه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
لساني صارم لا عيب فيه ... وبحري لا تكدره الدلاء
وقال كعب يا رسول الله! إن الله قد أنزل في الشعر ما قد علمت فكيف ترى فيه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن المؤمن يجاهد بنفسه وسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل". وقال كعب :
جاءت سخينة كي تغالب ربها ... وليغلبن مغالب الغلاب
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لقد مدحك الله يا كعب في قولك هذا" . وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى : {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} منسوخ بقوله : {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . قال المهدوي : وفي الصحيح عن ابن عباس أنه استثناء. {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} في هذا تهديد لمن انتصر بظلم قال شريح سيعلم الظالمون كيف يخلصون من بين يدي الله عز وجل ؛ فالظالم ينتظر العقاب ، والمظلوم ينتظر النصرة. وقرأ ابن عباس : {أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} بالفاء والتاء ومعناهما واحد ذكره الثعلبي. ومعنى : {أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} أي مصير يصيرون وأي مرجع يرجعون ؛ لأن مصيرهم إلى
(13/152)
النار ، وهو أقبح مصير ، ومرجعهم إلى العقاب وهو شر مرجع. والفرق بين المنقلب والمرجع أن المنقلب الانتقال إلى ضد ما هو فيه ، والمرجع العود من حال هو فيها إلى حال كان عليها فصار كل مرجع منقلبا ، وليس كل منقلب مرجعا ؛ والله أعلم ؛ ذكره الماوردي. و {أَيُّ} منصوب بـ {يَنْقَلِبُونَ} وهو بمعنى المصدر ، ولا يجوز أن يكون منصوبا بـ {سيعلم} لأن أيا وسائر أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها فيما ذكر النحويون ؛ قال النحاس : وحقيقة القول في ذلك أن الاستفهام معنى وما قبله معنى آخر فلو عمل فيه ما قبله لدخل بعض المعاني في بعض.
(13/153)
تفسير سورة النمل
...
سورة النمل
مكية كلها في قول الجميع ، وهي ثلاث وتسعون آية وقيل أربع وتسعون آية :
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية : [1] {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ}
الآية : [2] {هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}
الآية : [3] {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}
الآية : [4] {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ}
الآية : [5] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ}
الآية : [6] {وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم}
قوله تعالى : {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} مضى الكلام في الحروف المقطعة في {البقرة} وغيرها. و {تِلْكَ} بمعنى هذه ؛ أي هذه السورة آيات القرآن وآيات كتاب مبين. وذكر القرآن بلفظ المعرفة ، وقال : {وَكِتَابٍ مُبِينٍ} بلفظ النكرة وهما في معنى المعرفة ؛ كما تقول : فلان رجل عاقل وفلان الرجل العاقل. والكتاب هو القرآن ، فجمع له بين الصفتين : بأنه قرآن وأنه كتاب ؛ لأنه ما يظهر بالكتابة ، ويظهر بالقراءة. وقد مضى
(13/154)
اشتقاقهما في {البقرة}. وقال في سورة الحجر : {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر : 1] فأخرج الكتاب بلفظ المعرفة والقرآن بلفظ النكرة ؛ وذلك لأن القرآن والكتاب اسمان يصلح لكل واحد منهما أن يجعل معرفة ، وأن يجعل صفة. ووصفه بالمبين لأنه بين فيه أمره ونهيه وحلاله وحرامه ووعده ووعيده ؛ وقد تقدم.
قوله تعالى : {هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} {هُدىً} في موضع نصب على الحال من الكتاب ؛ أي تلك آيات الكتاب هادية ومبشرة. ويجوز فيه الرفع على الابتداء ؛ أي هو هدى. وإن شئت على حذف حرف الصفة ؛ أي فيه هدى. ويجوز أن يكون الخبر {لِلْمُؤْمِنِينَ} ثم وصفهم فقال : {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} وقد مضى بيانه.
قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} أي لا يصدقون بالبعث. {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} قيل : أعمالهم السيئة حتى رأوها حسنة. وقيل : زينا لهم أعمالهم الحسنة فلم يعملوها. وقال الزجاج : جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه. {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} أي يترددون في أعمالهم الخبيثة ، وفي ضلالتهم. عن ابن عباس. أبو العالية : يتمادون. قتادة : يلعبون. الحسن : يتحيرون ؛ قال الراجز :
ومهمه أطرافه في مهمه ... أعمى الهدى بالحائرين العمه
قوله تعالى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} وهو جهنم. {وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ} {فِي الآخِرَةِ} تبيين وليس بمتعلق بالأخسرين فإن من الناس من خسر الدنيا وربح الآخرة ، وهؤلاء خسروا الآخرة بكفرهم فهم أخسر كل خاسر.
قوله تعالى : {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} أي يلقى عليك فتلقاه وتعلمه وتأخذه. {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} {لَدُنْ} بمعنى عند إلا أنها مبنية غير معربة ، لأنها لا تتمكن ، وفيها لغات ذكرت في {الكهف}. وهذه الآية بساط وتمهيد لما يريد أن يسوق من الأقاصيص ، وما في ذلك من لطائف حكمته ، ودقائق علمه.
(13/155)
الآية : [7] {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}
الآية : [8] {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
الآية : [9] {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
الآية : [10] {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ}
الآية : [11] {إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}
الآية : [12] {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ}
الآية : [13] {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}
الآية : [14] {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}
قوله تعالى : {إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ} {إِذْ} منصوب بمضمر وهو أذكر ؛ كأنه قال على أثر قوله. {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} : خذ يا محمد من آثار حكمته وعلمه قصة موسى إذ قال لأهله. {إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} أي أبصرتها من بعد. قال الحرث بن حلزة :
آنست نبأة وأفزعها القناص ... عصرا وقد دنا الإمساء
{سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} قرأ عاصم وحمزة والكسائي : {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} بتنوين {بِشِهَابٍ} . والباقون بغير تنوين على الإضافة ؛ أي بشعلة نار ؛ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وزعم الفراء في ترك التنوين أنه بمنزلة قولهم : ولدار الآخرة ، ومسجد الجامع ، وصلاة الأولى ؛ يضاف الشيء إلى نفسه إذا اختلفت أسماؤه. قال النحاس : إضافة الشيء إلى نفسه محال عند البصريين ، لأن معنى الإضافة في اللغة ضم شيء إلى شيء
(13/156)
فمحال أن يضم الشيء إلى نفسه ، وإنما يضاف الشيء إلى الشيء ليتبين به معنى الملك أو النوع ، فمحال أن يتبين أنه مالك نفسه أو من نوعها. و {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} إضافة النوع والجنس ، كما تقول : هذا ثوب خز ، وخاتم حديد وشبهه. والشهاب كل ذي نور ؛ نحو الكوكب والعود الموقد. والقبس اسم لما يقتبس من جمر وما أشبهه ؛ فالمعنى بشهاب من قبس. يقال. أقبست قبسا ؛ والاسم قبس. كما تقول : قبضت قبضا. والاسم القبض. ومن قرأ : {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} جعله بدلا منه. المهدوي : أو صفة له ؛ لأن القبس يجوز أن يكون اسما غير صفة ، ويجوز أن يكون صفة ؛ فأما كونه غير صفة فلأنهم قالوا قبسته أقبسه قبسا والقبس المقبوس ؛ وإذا كان صفة فالأحسن أن يكون نعتا. والإضافة فيه إذا كان غير صفة أحسن. وهي إضافة النوع إلى جنسه كخاتم فضة وشبهه. ولو قرئ بنصب قبس على البيان أو الحال كان أحسن. ويجوز في غير القرآن بشهاب قبسا على أنه مصدر أو بيان أو حال. {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أصل الطاء تاء فأبدل منها هنا طاء ؛ لأن الطاء مطبقة والصاد مطبقة فكان الجمع بينهما حسنا ، ومعناه يستدفئون من البرد. يقال : اصطلى يصطلي إذا استدفأ. قال الشاعر :
النار فاكهة الشتاء فمن يرد ... أكل الفواكه شاتيا فليصطل
الزجاج : كل أبيض ذي نور فهو شهاب. أبو عبيدة : الشهاب النار. قال أبو النجم :
كأنما كان شهابا واقدا ... أضاء ضوءا ثم صار خامدا
أحمد بن يحيى : أصل الشهاب عود في أحد طرفيه جمرة والآخر لا نار فيه ؛ وقول النحاس فيه حسن ، والشهاب الشعاع المضيء ومنه الكوكب الذي يمد ضوءه في السماء. وقال الشاعر :
في كفه صعدة مثقفة ... فيها سنان كشعلة القبس
قوله تعالى : {فَلَمَّا جَاءَهَا} أي فلما جاء موسى الذي ظن أنه نار وهي نور ؛ قال وهب بن منبه. فلما رأى موسى النار وقف قريبا منها ، فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها العليق ، لا تزداد النار إلا عظما وتضرما ، ولا تزداد الشجرة
(13/157)
إلا خضرة وحسنا ؛ فعجب منها وأهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها ؛ فمالت إليه ؛ فخافها فتأخر عنها ؛ ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها إلى أن وضح أمرها على أنها مأمورة لا يدري من أمرها ، إلى أن {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وقد مضى هذا المعنى في {طه}. {نُودِيَ} أي ناداه الله ؛ كما قال : {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} [مريم : 52]. {أَنْ بُورِكَ} قال الزجاج : {أَنْ} في موضع نصب ؛ أي بأنه. قال : ويجوز أن تكون في موضع رفع جعلها اسم ما لم يسم فاعله. وحكى أبو حاتم أن في قراءة أبي وابن عباس ومجاهد {أَنْ بُورِكَت مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} . قال النحاس : ومثل هذا لا يوجد بإسناد صحيح ، ولو صح لكان على التفسير ، فتكون البركة راجعة إلى النار ومن حولها الملائكة وموسى. وحكى الكسائي عن العرب : باركك الله ، وبارك فيك. الثعلبي : العرب تقول باركك الله ، وبارك فيك ، وبارك عليك ، وبارك لك ، أربع لغات. قال الشاعر :
فبوركت مولودا وبوركت ناشئا ... وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب
الطبري : قال { أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} ولم يقل بورك في من في النار على لغة من يقول باركك الله. ويقال باركه الله ، وبارك له ، وبارك عليه ، وبارك فيه بمعنى ؛ أي بورك على من في النار وهو موسى ، أو على من في قرب النار ؛ لا أنه كان في وسطها. وقال السدي : كان في النار ملائكة فالتبريك عائد إلى موسى والملائكة ؛ أي بورك فيك يا موسى وفي الملائكة الذين هم حولها. وهذا تحية من الله تعالى لموسى وتكرمة له ، كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه ؛ قال : {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود : 73]. وقول ثالث قاله ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير : قدس من في النار وهو الله سبحانه وتعالى ، عنى به نفسه تقدس وتعالى. قال ابن عباس ومحمد بن كعب : النار نور الله عز وجل ؛ نادى الله موسى وهو في النور ؛ وتأويل هذا أن موسى عليه السلام رأى نورا عظيما فظنه نارا ؛ وهذا لأن الله تعالى ظهر لموسى بآياته وكلامه من النار لا أنه يتحيز في جهة {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف : 84]
(13/158)
لا أنه يتحيز فيهما ، ولكن يظهر في كل فعل فيعلم به وجود الفاعل. وقيل على هذا : أي بورك من في النار سلطانه وقدرته. وقيل : أي بورك ما في النار من أمر الله تعالى الذي جعله علامة.
قلت : ومما يدل على صحة قول ابن عباس ما خرجه مسلم في صحيحه ، وابن ماجة في سننه واللفظ له عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه حجابه النور لو كشفها لأحرقت سحبات وجهه كل شيء أدركه بصره" ثم قرأ أبو عبيدة : {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أخرجه البيهقي أيضا. ولفظ مسلم عن أبي موسى قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات ؛ فقال : إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور - وفي رواية أبي بكر النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أنتهى إليه بصره من خلقه" قال أبو عبيد : يقال السبحات إنها جلال وجهه ، ومنها قيل : سبحان الله إنما هو تعظيم له وتنزيه. وقوله : "لو كشفها" يعني لو رفع الحجاب عن أعينهم ولم يثبتهم لرؤيته لاحترقوا وما استطاعوا لها. قال ابن جريج : النار حجاب من الحجب وهي سبعة حجب ؛ حجاب العزة ، وحجاب الملك ، وحجاب السلطان ، وحجاب النار ، وحجاب النور ، وحجاب الغمام ، وحجاب الماء. وبالحقيقة فالمخلوق المحجوب والله لا يحجبه شيء ؛ فكانت النار نورا وإنما ذكره بلفظ النار ؛ لأن موسى حسبه نارا ، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر. وقال سعيد بن جبير : كانت النار بعينها فأسمعه تعالى كلامه من ناحيتها ، وأظهر له ربوبيته من جهتها. وهو كما روي أنه مكتوب في التوراة : "جاء الله من سيناء وأشرف من ساعير واستعلى من جبال فاران". فمجيئه من سيناء بعثه موسى منها ، وإشرافه من ساعير بعثه المسيح منها ، واستعلاؤه من فاران بعثه محمدا صلي الله عليه وسلم ، وفاران مكة. وسيأتي في {القصص} بإسماعه سبحانه كلامه من الشجرة زيادة بيان إن شاء الله تعالى.
(13/159)
قوله تعالى : {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تنزيها وتقديسا لله رب العالمين. وقد تقدم في غير موضع ، والمعنى : أي يقول من حولها : {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} فحذف. وقيل : إن موسى عليه السلام قاله حين فرغ من سماع النداء ؛ استعانة بالله تعالى وتنزيها له ؛ قال السدي. وقيل : هو من قول الله تعالى. ومعناه : وبورك فيمن سبح الله تعالى رب العالمين ؛ حكاه ابن شجرة.
قوله تعالى : {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الهاء عماد وليست بكناية في قول الكوفيين. والصحيح أنها كناية عن الأمر والشأن. {أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الغالب الذي ليس كمثله شيء {الْحَكِيمُ} في أمره وفعله. وقيل : قال موسى يا رب من الذي نادى ؟ فقال له : {إِنَّهُ} أي إني أنا المنادي لك {أَنَا اللَّهُ} .
قوله تعالى : {وَأَلْقِ عَصَاكَ} قال وهب بن منبه : ظن موسى أن الله أمره أن يرفضها فرفضها وقيل : إنما قال له ذلك ليعلم موسى أن المكلم له هو الله ، وأن موسى رسوله ؛ وكل نبي لابد له من آية في نفسه يعلم بها نبوته. وفي الآية حذف : أي وألق عصاك فألقاها من يده فصارت حية تهتز كأنها جان ، وهي الحية الخفيفة الصغيرة الجسم. وقال الكلبي : لا صغيرة ولا كبيرة. وقيل : إنها قلبت له أولا حية صغيرة فلما أنس منها قلبت حية كبيرة. وقيل : انقلبت مرة حية صغيرة ، ومرة حية تسعى وهي الأنثى ، ومرة ثعبانا وهو الذكر الكبير من الحيات. وقيل : المعنى انقلبت ثعبانا تهتز كأنها جان لها عظم الثعبان وخفة الجان واهتزازه وهي حية تسعى. وجمع الجان جنان ؛ ومنه الحديث : "نهي عن قتل الجنان التي في البيوت". {وَلَّى مُدْبِراً} خائفا على عادة البشر {وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي لم يرجع ؛ قاله مجاهد. وقال قتادة : لم يلتفت. {يَا مُوسَى لا تَخَفْ} أي من الحية وضررها. {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} وتم الكلام ثم استثنى استثناء منقطعا فقال : {إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} وقيل : إنه استثناء من محذوف ؛ والمعنى : إني لا يخاف لدي المرسلون وإنما يخاف غيرهم ممن ظلم {إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ} فإنه لا يخاف ؛ قاله الفراء.
(13/160)
قال النحاس : استثناء من محذوف محال ؛ لأنه استثناء من شيء لم يذكر ولو جاز هذا لجاز إني لأضرب القوم إلا زيدا بمعنى إني لا أضرب القوم وإنما أضرب غيرهم إلا زيدا ؛ وهذا ضد البيان ، والمجيء بما لا يعرف معناه. وزعم الفراء أيضا أن بعض النحويين يجعل إلا بمعنى الواو أي ولا من ظلم ؛ قال :
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
قال النحاس : وكون {إِلاَّ} بمعنى الواو لا وجه له ولا يجوز في شيء من الكلام ، ومعنى {إِلاَّ} خلاف الواو ؛ لأنك إذا قلت : جاءني إخوتك إلا زيدا أخرجت زيدا مما دخل فيه الإخوة فلا نسبة بينهما ولا تقارب. وفي الآية قول آخر : وهو أ يكون الاستثناء متصلا ؛ والمعنى إلا من ظلم من المرسلين بإتيان الصغائر التي لا يسلم منها أحد ، سوى ما روي عن يحيى بن زكريا عليه السلام ، وما ذكره الله تعالى في نبينا عليه السلام في قوله : {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح : 2] ذكره المهدوي واختاره النحاس ؛ وقال : علم الله من عصى منهم يسر الخيفة فاستثناه فقال : {إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ} فإنه يخاف وإن كنت قد غفرت له. الضحاك : يعني آدم وداود عليهما السلام الزمخشري. كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف ، ومن موسى عليه السلام بوكزه القبطي. فإن قال قائل : فما معنى الخوف بعد التوبة والمغفرة ؟ قيل له : هذه سبيل العلماء بالله عز وجل أن يكونوا خائفين من معاصيهم وجلين ، وهم أيضا لا يأمنون أن يكون قد بقي من أشراط التوبة شيء لم يأتوا به ، فهم يخافون من المطالبة به. وقال الحسن وابن جريج : قال الله لموسى إني أخفتك لقتلك النفس. قال الحسن : وكانت الأنبياء تذنب فتعاقب. قال الثعلبي والقشيري والماوردي وغيرهم : فالاستثناء على هذا صحيح ؛ أي إلا من ظلم نفسه من النبيين والمرسلين فيما فعل من صغيرة قبل النبوة. وكان موسى خاف من قتل القبطي وتاب منه. وقد قيل : إنهم بعد النبوة معصومون من الصغائر والكبائر. وقد مضى هذا في {البقرة}.
(13/161)
قلت : والأول أصح لتنصلهم من ذلك في القيامة كما في حديث الشفاعة ، وإذا أحدث المقرب حدثا فهو وإن غفر له ذلك الحدث فأثر ذلك الحدث باق ، وما دام الأثر والتهمة قائمة فالخوف كائن لا خوف العقوبة ولكن خوف العظمة ، والمتهم عند السلطان يجد للتهمة حزازة تؤديه إلى أن يكدر عليه صفاء الثقة. وموسى عليه السلام قد كان منه الحدث في ذلك الفرعوني ، ثم استغفر وأقر بالظلم على نفسه ، ثم غفر له ، ثم قال بعد المغفرة : {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص : 17] ثم ابتلى من الغد بالفرعوني الآخر وأراد أن يبطش به ، فصار حدثا آخر بهذه الإرادة. وإنما ابتلي من الغد لقوله : {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} وتلك كلمة اقتدار من قوله لن أفعل ، فعوقب بالإرادة حين أراد أن يبطش ولم يفعل ، فسلط عليه الإسرائيلي حتى أفشى سره ؛ لأن الإسرائيلي لما رآه تشمر للبطش ظن أنه يريده ، فأفشى عليه فـ {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ} [القصص : 19] فهرب الفرعوني وأخبر فرعون بذلك أفشى الإسرائيلي على موسى ، وكان القتيل بالأمس مكتوما أمره لا يدري من قتله ، فلما علم فرعون بذلك ، وجه في طلب موسى ليقتله ، واشتد الطلب وأخذوا مجامع الطرق ؛ جاء رجل يسعى فـ {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص : 20] الآية. فخرج كما أخبر الله. فخوف موسى إنما كان من أجل هذا الحدث ؛ فهو وإن قربه وبه وأكرمه واصطفاه بالكلام فالتهمة الباقية ولت به ولم يعقب.
قوله تعالى : {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} تقدم في {طه}. {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} قال النحاس أحسن ما قيل فيه أن المعنى : هذه الآية داخلة في تسع آيات. المهدوي : المعنى : {أَلْقِ عَصَاكَ} {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} فهما آيتان من تسع آيات. وقال القشيري معناه : كما تقول خرجت في عشرة نفر وأنت أحدهم. أي خرجت عاشر عشرة. فـ {ـفِي} بمعنى {مِنْ} لقربها منها كما تقول خذ لي عشرا من الإبل فيها فحلان أي منها. وقال الأصمعي في قول امرئ القيس :
وهل ينعمن من كان آخر عهده ... ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال
(13/162)
في بمعنى من. وقيل : في بمعنى مع ؛ فالآيات عشرة منها اليد ، والتسع : الفلق والعصا والجراد والقمل والطوفان والدم والضفادع والسنين والطمس. وقد تقدم بيان جميعه. {إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} قال الفراء : في الكلام إضمار لدلالة الكلام عليه ، أي إنك مبعوث أو مرسل إلى فرعون وقومه. {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} أي خارجين عن طاعة الله ؛ وقد تقدم.
قوله تعالى : {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} أي واضحة بينة. قال الأخفش : ويجوز مبصرة وهو مصدر كما يقال : الولد مجبنة. {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} جروا على عادتهم في التكذيب فلهذا قال : {بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} أي تيقنوا أنها من عند الله وأنها ليست سحرا ، ولكنهم كفروا بها وتكبروا أن يؤمنوا بموسى. وهذا يدل على أنهم كانوا معاندين. و {ظُلْماً} و {عُلُوّاً} منصوبان على نعت مصدر محذوف ، أي وجحدوا بها جحودا ظلما وعلوا. والباء زائدة أي وجحدوها ؛ قال أبو عبيدة. {فَانْظُرْ} يا محمد {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أي آخر أمر الكافرين الطاغين ، انظر ذلك بعين قلبك وتدبر فيه. الخطاب له والمراد غيره.
(13/163)