بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الكهف
سورة الكهف وهي مكية في قول جميع المفسرين. روي عن فرقة أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله "جرزا} [الكهف : 8] ، والأول أصح. وروي في فضلها من حديث أنس أنه قال : من قرأ بها أعطي نورا بين السماء والأرض ووقي بها فتنة القبر. وقال إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ألا أدلكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك ملأ عظمها ما بين السماء والأرض لتاليها مثل ذلك". قالوا : بلى يا رسول الله ؟ قال : "سورة أصحاب الكهف من قرأها يوم الجمعة غفر له الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام وأعطي نورا يبلغ السماء ووقي فتنة الدجال" ذكره الثعلبي ، والمهدوي أيضا بمعناه. وفي مسند الدارمي عن أبي سعيد الخدري قال : من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق. وفي صحيح مسلم عن أبي الدرداء أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال" . وفي رواية "من آخر الكهف" . وفي مسلم أيضا من حديث النواس بن سمعان "فمن أدركه - يعني الدجال - فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف". وذكره الثعلبي. قال : سمرة بن جندب قال النبي صلى الله عليه وسلم : "من قرأ عشر آيات من سورة الكهف حفظا لم تضره فتنة الدجال" . ومن قرأ السورة كلها دخل الجنة.
الآية : 1 {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا}
الآية : 2 {قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً}
الآية : 3 {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً}
ذكر ابن إسحاق أن قريشا بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود وقالوا لهما :
(10/346)
سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله ؛ فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم علم ليس عندنا من علم أنبياء ؛ فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووصفا لهم أمره ، وأخبراهم ببعض قوله ، وقالا لهم : إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهما أحبار يهود : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فروا فيه رأيكم ؛ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ، ما كان أمرهم ؛ فإنه قد كان لهم حديث عجب. سلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبؤه. وسلوه عن الروح ، ما هي ؛ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي ، وإن لم يفعل فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط قدما مكة على قريش فقالا : يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد - صلى الله عليه وسلم - قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها ، فإن أخبركم عنها فهو نبي ، وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فروا فيه رأيكم. فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ، قد كانت لهم قصة عجب ، وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، وأخبرنا عن الروح ما هي ؟ قال فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أخبركم بما سألتم عنه غدا" ولم يستثن. فانصرفوا عنه ، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يزعمون خمس عشرة ليلة ، لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل ، حتى أرجف أهل مكة وقالوا : وعدنا محمد غدا ، واليوم خمس عشرة ليلة ، وقد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه ؛ وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه ، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ، ثم جاءه جبريل عليه السلام من عند الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية ، والرجل الطواف والروح. قال ابن إسحاق : فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل : " لقد احتبست عني
(10/347)
يا جبريل حتى سؤت ظنا" فقال له جبريل : {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم : 64].
فافتتح السورة تبارك وتعالى بحمده ، وذكر نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم لما أنكروا عليه من ذلك فقال : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} يعني محمدا ، إنك رسول مني ، أي تحقيق لما سألوا عنه من نبوتك. {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} أي معتدلا لا اختلاف فيه. {لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ} أي عاجل عقوبته في الدنيا ، وعذابا أليما في الآخرة ، أي من عند ربك الذي بعثك رسولا. {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ ، أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} أي دار الخلد لا يموتون فيها ، الذين صدقوك بما جئت به مما كذبك به غيرهم ، وعملوا بما أمرتهم به من الأعمال. {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [الكهف : 4] بعني قريشا في قولهم : إنا نعبد الملائكة وهي بنات الله. {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ} [الكهف : 5] الذين أعظموا فراقهم وعيب دينهم. {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف : 5] أي لقولهم إن الملائكة بنات الله. {إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً. فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف : 6] لحزنه عليهم حين فاته ما كان يرجوه منهم ، أي لا تفعل. فال ابن هشام : {بَاخِعٌ نَفْسَكَ} مهلك نفسك ؛ فيما حدثني أبو عبيدة. قال ذو الرمة :
ألا أي هذا الباخع الوجد نفسه ... بشيء نحته عن يديه المقادر
وجمعها باخعون وبخعه. وهذا البيت في قصيدة له. وقول العرب : قد بخعت له نصحي ونفسي ، أي جهدت له. {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف : 7] قال ابن إسحاق : أي أيهم اتبع لأمري وأعمل بطاعتي : {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} [الكهف : 8] أي الأرض ، وإن ما عليها لفان وزائل ، وإن المرجع إلي فأجزي كلا بعمله ؛ فلا تأس ولا يحزنك ما ترى وتسمع فيها. قال ابن هشام : الصعيد وجه الأرض ، وجمعه صعد. قال ذو الرمة يصف ظبيا صغيرا :
(10/348)
كأنه بالضحى ترمي الصعيد به ... دبابة في عظام الرأس خرطوم
وهذا البيت في قصيدة له. والصعيد أيضا : الطريق ، وقد جاء في الحديث : "إياكم والقعود على الصعدات" يريد الطرق. والجرز : الأرض التي لا تنبت شيئا ، وجمعها أجراز. ويقال : سنة جرز وسنون أجراز ؛ وهي التي لا يكون فيها مطر. وتكون فيها جدوبة ويبس وشدة. قال ذو الرمة يصف إبلا :
طوى النحز والأجراز ما في بطونها ... فما بقيت إلا الضلوع الجراشع
قال ابن إسحاق : ثم استقبل قصة الخبر فيما سألوه عنه من شأن الفتية فقال : {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} [الكهف : 9] أي قد كان من آياتي فيه وضعت على العباد من حجتي ما هو أعجب من ذلك. قال ابن هشام : والرقيم الكتاب الذي رقم بخبرهم ، وجمعه رقم. قال العجاج :
ومستقر المصحف المرقم
وهذا البيت في أرجوزة له. قال ابن إسحاق : ثم قال : {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً. فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً. ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} [الكهف : 12]. ثم قال : {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف : 13] أي بصدق الخبر {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً. وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} [الكهف : 14] أي لم يشركوا بي كما أشركتم بي ما ليس لكم به علم. قال ابن هشام : والشطط الغلو ومجاوزة الحق. قال أعشى بن قيس بن ثعلبة :
أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط ...
كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
(10/349)
وهذا البيت في قصيدة له. قال ابن إسحاق : {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف : 15]. قال ابن إسحاق : أي بحجة بالغة. {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً. وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً. وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} [الكهف : 17]. قال ابن هشام : تزاور تميل ؛ وهو من الزور. وقال أبو الزحف الكليبي يصف بلدا :
جدب المندي عن هوانا أزور ... ينضي المطايا خمسه العشنزر
وهذان البيتان في أرجوزة له. و"تقرضهم ذات الشمال" تجاوزهم وتتركهم عن شمالها. قال ذو الرمة :
إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف ... شمالا وعن أيمانهن الفوارس
وهذا البيت في قصيدة له. والفجوة : السعة ، وجمعها الفجاء. قال الشاعر :
ألبست قومك مخزاة ومنقصة ... حتى أبيحوا وحلوا فجوة الدار
{ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} أي في الحجة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب ممن أمر هؤلاء بمسألتك عنهم في صدق نبوتك بتحقيق الخبر عنهم. {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ
(10/350)
الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف : ] قال ابن هشام : الوصيد الباب. قال العبسي واسمه عبد بن وهب :
بأرض فلاة لا يسد وصيلاها ... علي ومعروفي بها غير منكر
وهذا البيت في أبيات له. والوصيد أيضا الفناء ، وجمعه وصائد ووصد وصدان. {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً} - إلى قوله –{الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} [الكهف : ] أهل السلطان والملك منهم. {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً. سَيَقُولُونَ} [الكهف : 21] يعني أحبار اليهود الذين أمروهم بالمسألة عنهم. {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ} [أي لا تكابرهم. {إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف : 22] فإنهم لا علم لهم بهم {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً. إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} [الكهف : 24] أي لا تقولن لشيء سألوك عنه كما قلت في هذا إني مخبركم غدا ، واستثن مشيئة الله ، واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لخبر ما سألتموني عنه رشدا ، فإنك لا تدري ما أنا صانع في ذلك. {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} [الكهف : ] أي سيقولون ذلك. {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف : 26] أي لم يخف عليه شيء ما سألوك عنه.
قلت : هذا ما وقع في السيرة من خبر أصحاب الكهف ذكرناه على نسقه. ويأتي خبر ذي القرنين ، ثم نعود إلى أول السورة فنقول :
قد تقدم معنى الحمد لله. وزعم الأخفش والكسائي والفراء وأبو عبيد وجمهور المتأولين أن في أول هذه السورة تقديما وتأخيرا ، وأن المعنى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا. و {قَيِّماً} نصب على الحال. وقال قتادة : الكلام على سياقه من غير تقديم ولا تأخير ، ومعناه : ولم يجعل له عوجا ولكن جعلناه قيما. وقول الضحاك فيه حسن ، وأن
(10/351)
المعنى : مستقيم ، أي مستقيم الحكمة لا خطأ فيه ولا فساد ولا تناقض. وقيل : "قيما" على الكتب السابقة يصدقها. وقيل : "قيما" بالحجج أبدا. "عوجا" مفعول به ؛ والعوج "بكسر العين" في الدين والرأي والأمر والطريق. وبفتحها في الأجسام كالخشب والجدار ؛ وقد تقدم. وليس في القرآن عوج ، أي عيب ، أي ليس متناقضا مختلقا ؛ كما قال تعالى : {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء : 82] وقيل : أي لم يجعله مخلوقا ؛ كما روي عن ابن عباس في قوله تعالى {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر : 28] قال : غير مخلوق. وقال مقاتل : {عِوَجَا} اختلافا. قال الشاعر :
أدوم بودي للصديق تكرما ... ولا خير فيمن كان في الود أعوجا
{لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً} أي لينذر محمد أو القرآن. وفيه إضمار ، أي لينذر الكافرين عقاب الله. وهذا العذاب الشديد قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة. {مِنْ لَدُنْهُ} أي من عنده وقرأ أبو بكر عن عاصم {مِنْ لَدُنْهُ} بإسكان الدال وإشمامها الضم وكسر النون ، والهاء موصولة بياء. والباقون {لَدُنْهُ} بضم الدال وإسكان النون وضم الهاء. قال الجوهري : وفي "لدن" ثلاث لغات : لدن ، ولدي ، ولد. وقال :
من لد لحييه إلى منحوره
المنحور لغة المنحر.
قوله تعالى : {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ} أي بأن لهم {أَجْراً حَسَناً} وهي الجنة. {مَاكِثِينَ} دائمين. {فِيهِ أَبَداً} لا إلى غاية. وإن حملت التبشير على البيان لم يحتج إلى الباء في "بأن". والأجر الحسن : الثواب العظيم الذي يؤدي إلى الجنة.
(10/352)
الآية : 4 {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً}
الآية : 5 {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً}
قوله تعالى : - {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} وهم اليهود ، قالوا عزير ابن الله ، والنصارى قالوا المسيح ابن الله ، وقريش قالت الملائكة بنات الله. فالإنذار في أول السورة عام ، وهذا خاص فيمن قال لله ولد. {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} "من" صلة ، أي ما لهم بذلك القول علم ؛ لأنهم مقلدة قالوه بغير دليل. {وَلا لِآبَائِهِمْ} أي أسلافهم. {كَبُرَتْ كَلِمَةً} "كلمة" نصب على البيان ؛ أي كبرت تلك الكلمة كلمة. وقرأ الحسن ومجاهد ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق "كلمة" بالرفع ؛ أي عظمت كلمة ؛ يعني قولهم اتخذ الله ولدا. وعلى هذه القراءة فلا حاجة إلى إضمار. يقال : كبر الشيء إذا عظم. وكبر الرجل إذا أسن. {تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} في موضع الصفة. {إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} أي ما يقولون إلا كذبا.
الآية : 6 {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً}
قوله تعالى : {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ} {بَاخِعٌ} أي مهلك وقاتل ؛ وقد تقدم. {آثَارِهِمْ} جمع أثر ، ويقال إثر. والمعنى : على أثر توليهم وإعراضهم عنك. {إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ} أي القرآن. {أَسَفاً} أي حزنا وغضبا على كفرهم ؛ وانتصب على التفسير.
الآية : 7 {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}
قوله تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا} فيه مسألتان : -
(10/353)
الأولى : - قوله تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا} "ما" و"زينة" مفعولان. والزينة كل ما على وجه الأرض ؛ فهو عموم لأنه دال على بارئه. وقال ابن جبير عن ابن عباس : أراد بالزينة الرجال ؛ قال مجاهد. وروى عكرمة عن ابن عباس أن الزينة الخلفاء والأمراء. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا} قال : العلماء زينة الأرض. وقالت فرقة : أراد النعم والملابس والثمار والخضرة والمياه ، ونحو هذا مما فيه زينة ؛ ولم يدخل فيه الجبال الصم وكل ما لا زينة فيه كالحيات والعقارب. والقول بالعموم أولى ، وأن كل ما على الأرض فيه زينة من جهة خلقه وصنعه وإحكامه. والآية بسط في التسلية ؛ أي لا تهتم يا محمد للدنيا وأهلها فإنا إنما جعلنا ذلك امتحانا واختبارا لأهلها ؛ فمنهم من يتدبر ويؤمن ، ومنهم من يكفر ، ثم يوم القيامة بين أيديهم ؛ فلا يعظمن عليك كفرهم فإنا نجازيهم.
الثانية : - معنى هذه الآية ينظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الدنيا خضرة حلوة والله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون" . وقوله صلى الله عليه وسلم : "إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا" قال : وما زهرة الدنيا ؟ قال : "بركات الأرض" خرجهما مسلم وغيره من حديث أبي سعيد الخدري. والمعنى : أن الدنيا مستطابة في ذوقها معجبة في منظرها كالثمر المستحلى المعجب المرأى ؛ فابتلى الله بها عباده لينظر أيهم أحسن عملا. أي من أزهد فيها وأترك لها ؛ ولا سبيل للعباد إلى معصية ما زينة الله إلا [أن] يعينه على ذلك. ولهذا كان عمر يقول فيما ذكر البخاري : اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا ، اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه. فدعا الله أن يعينه على إنفاقه في حقه. وهذا معنى قوله عليه السلام : "فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع" . وهكذا هو المكثر من الدنيا لا يقنع بما يحصل له منها بل همته جمعها ؛ وذلك لعدم الفهم عن الله تعالى ورسوله ؛ فإن الفتنة معها حاصلة وعدم السلامة غالبة ، وقد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه
(10/354)
الله بما آتاه. وقال ابن عطية : كان أبي رضى الله عنه يقول في قوله {أَحْسَنُ عَمَلاً} : أحسن العمل أخذ بحق وإنفاق في حق مع الإيمان وأداء الفرائض واجتناب المحارم والإكثار من المندوب إليه.
قلت : هذا قول حسن ، وجيز في ألفاظه بليغ في معناه ، وقد جمعه النبي صلى الله عليه وسلم في لفظ واحد وهو قوله لسفيان بن عبدالله الثقفي لما قال : يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك - في رواية : غيرك. قال : "قل آمنت بالله ثم استقم" خرجه مسلم. وقال سفيان الثوري : "أحسن عملا" أزهدهم فيها. وكذلك قال أبو عصام العسقلاني : "أحسن عملا" أترك لها. وقد اختلفت عبارات العلماء في الزهد ؛ فقال قوم : قصر الأمل وليس بأكل الخشن ولبس العباء ؛ قاله سفيان الثوري. قال علماؤنا : وصدق رضي الله عنه لأن من قصر أمله لم يتأنق في المطعومات ولا يتفنن في الملبوسات ، وأخذ من الدنيا ما تيسر ، واجتزأ منها بما يبلغ. وقال قوم : بغض المحمدة وحب الثناء. وهو قول الأوزاعي ومن ذهب إليه. وقال قوم : ترك الدنيا كلها هو الزهد ؛ أحب تركها أم كره. وهو قول فضيل. وعن بشر بن الحارث قال : حب الدنيا حب لقاء الناس ، والزهد في الدنيا الزهد في لقاء الناس. وعن الفضيل أيضا : علامة الزهد في الدنيا الزهد في الناس. وقال قوم : لا يكون الزاهد زاهدا حتى يكون ترك الدنيا أحب إليه من أخذها ؛ قال إبراهيم بن أدهم. وقال قوم : الزهد أن تزهد في الدنيا بقلبك ؛ قاله ابن المبارك. وقالت فرقة : الزهد حب الموت. والقول الأول يعم هذه الأقوال بالمعنى فهو أولى.
الآية : 8 {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً}
تقدم بيانه. وقال أبو سهل : ترابا لا نبات به ؛ كأنه قطع نباته. والجرز : القطع ؛ ومنه سنة جرز. قال الراجز :
قد جرفتهن السنون الأجراز
(10/355)
والأرض الجرز التي لا نبات فيها ولا شيء من عمارة وغيرها ؛ كأنه قطع وأزيل. يعني يوم القيامة ؛ فإن الأرض تكون مستوية لا مستتر فيها. النحاس : والجرز في اللغة الأرض التي لا نبات بها. قال الكسائي : يقال جرزت الأرض تجرز ، وجرزها القوم يجرزونها إذا أكلوا كل ما جاء فيا من النبات والزرع فهي مجروزة وجرز.
الآية : 9 {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً}
مذهب سيبويه أن "أم" إذا جاءت دون أن يتقدمها ألف استفهام أنها بمعنى بل وألف الاستفهام ، وهي المنقطعة. وقيل : "أم" عطف على معنى الاستفهام في لعلك ، أو بمعنى ألف الاستفهام على الإنكار. قال الطبري : وهو تقرير للنبي صلى الله عليه وسلم على حسابه أن أصحاب الكهف كانوا عجبا ، بمعنى إنكار ذلك عليه ؛ أي لا يعظم ذلك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة ، فإن سائر آيات الله أعظم من قصتهم وأشيع ؛ هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك أن المشركين سألوه عن فتية فقدوا ، وعن ذي القرنين وعن الروح ، وأبطأ الوحي على ما تقدم. فلما نزل قال الله تعالى لنبيه عليه السلام : أحسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ؛ أي ليسوا بعجب من آياتنا ، بل في آياتنا ما هو أعجب من خبرهم. الكلبي : خلق السماوات والأرض أعجب من خبرهم. الضحاك : ما أطلعتك عله من الغيب أعجب. الجنيد : شأنك في الإسراء أعجب. الماوردي : معنى الكلام النفي ؛ أي ما حسبت لولا إخبارنا. أبو سهل : استفهام تقرير ؛ أي أحسبت ذلك فإنهم عجب. والكهف : النقب المتسع في الجبل ؛ وما لم يتسع فهو غار. وحكى النقاش عن أنس بن مالك أنه قال : الكهف الجبل ؛ وهذا غير شهير في اللغة.
واختلف الناس في الرقيم ؛ فقال ابن عباس : كل شيء في القرآن أعلمه إلا أربعة : غسلين وحنان والأواه والرقيم. وسئل مرة عن الرقيم فقال : زعم كعب أنها قرية خرجوا
(10/356)
منها. وقال مجاهد : الرقيم واد. وقال السدي : الرقيم الصخرة التي كانت على الكهف. وقال ابن زيد : الرقيم كتاب غم الله علينا أمره ، ولم يشرح لنا قصته. وقالت فرقة : الرقيم كتاب في لوح من نحاس. وقال ابن عباس : في لوح من رصاص كتب فيه القوم الكفار الذي فر الفتية منهم قصتهم وجعلوها تاريخا لهم ، ذكروا وقت فقدهم ، وكم كانوا ، وبين من كانوا. وكذا قال القراء ، قال : الرقيم لوح من رصاص كتب فيه أسماؤهم وأنسابهم ودينهم وممن هربوا. فال ابن عطية : ويظهر من هذه الروايات أنهم كانوا قوما مؤرخين للحوادث ، وذلك من نبل المملكة ، وهو أمر مفيد. وهذه الأقوال مأخوذة من الرقم ؛ ومنه كتاب مرقوم. ومنه الأرقم لتخطيطه. ومنه رقمة الوادي ؛ أي مكان جري الماء وانعطافه. وما روي عن ابن عباس ليس بمتناقض ؛ لأن القول الأول إنما سمعه من كعب. والقول الثاني يجوز أن يكون عرف الرقيم بعده. وروى عنه سعيد بن جبير قال : ذكر ابن عباس أصحاب الكهف فقال : إن الفتية فقدوا فطلبهم أهلوهم فلم يجدوهم فرفع ذلك إلى الملك فقال : ليكونن لهم نبأ ، وأحضر لوحا من رصاص فكتب فيه أسماءهم وجعله في خزانته ؛ فذلك اللوح هو الرقيم. وقيل : إن مؤمنين كانا في بيت الملك فكتبا شأن الفتية وأسماءهم وأنسابهم في لوح من رصاص ثم جعلاه في تابوت من نحاس وجعلاه في البنيان ؛ فالله اعلم. وعن ابن عباس أيضا : الرقيم كتاب مرقوم كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى عليه السلام. وقال النقاش عن قتادة : الرقيم دراهمهم. وقال أنس بن مالك والشعبي : الرقيم كلبهم. وقال عكرمة : الرقيم الدواة. وقيل : الرقيم اللوح من الذهب تحت الجدار الذي أقامه الخضر. وقيل : الرقيم أصحاب الغار الذي انطبق عليهم ؛ فذكر كل واحد منهم أصلح عمله.
قلت : وفي هذا خير معروف أخرجه الصحيحان ، وإليه نحا البخاري. وقال قوم : أخبر الله عن أصحاب الكهف ، ولم يخبر عن أصحاب الرقيم بشيء. وقال الضحاك : الرقيم بلدة بالروم فيها غار فيه أحد وعشرون نفسا كأنهم نيام على هيئة أصحاب الكهف ، فعلى هذا هم
(10/357)
فتية آخرون جرى لهم ما جرى لأصحاب الكهف. والله اعلم. وقيل : الرقيم واد دون فلسطين فيه الكهف ؛ مأخوذ من رقمة الوادي وهي موضع الماء ؛ يقال : عليك بالرقمة ودع الضفة ؛ ذكره الغزنوي. قال ابن عطية : وبالشام على ما سمعت به من ناس كثير كهف فيه موتى ، يزعم مجاوروه أنهم أصحاب الكهف وعليهم مسجد وبناء يسمى الرقيم ومعهم كلب رمة. وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة ، وأكثرهم قد تجرد لحمه وبعضهم متماسك ، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم أثارة. ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف ، دخلت إليهم ورأيهم سنة أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة ، وعليهم مسجد ، وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم ، كأنه قصر مخلق قد بقي بعض جدرانه ، وهو في فلاة من الأرض خربة ، وبأعلى غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة رومية يقال لها مدينة دقيوس ، وجدنا في آثارها غرائب من قبور ونحوها.
قلت : ما ذكر من رؤيته لهم بالأندلس فإنما هم غيرهم ، لأن الله تعالى يقول في حق أصحاب الكهف : {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} [الكهف : 18]. وقال ابن عباس لمعاوية لما أراد رؤيتهم : قد منع الله من هو خير منك عن ذلك ؛ وسيأتي في آخر القصة. وقال مجاهد في قول {كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} قال : هم عجب. كذا روى ابن جريج عنه ؛ يذهب إلى أنه بإنكار على النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون عنده أنهم عجب. وروى ابن نجيح عنه قال : يقول ليس بأعجب آياتنا.
الآية : 10 {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً}
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : - قوله تعالى : {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} روي أنهم قوم من أبناء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر ، ويقال فيه دقينوس. وروي أنهم كانوا
(10/358)
مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب ، وهم من الروم واتبعوا دين عيسى. وقيل : كانوا قبل عيسى ، والله اعلم. وقال ابن عباس : إن ملكا من الملوك يقال له دقيانوس ظهر على مدينة من مدائن الروم يقال لها أفسوس. وقيل هي طرسوس وكان بعد زمن عيسى عليه السلام فأمر بعبادة الأصنام فدعا أهلها إلى عبادة الأصنام ، وكان بها سبعة أحداث يعبدون سرا ، فرفع خبرهم إلى الملك وخافوه فهربوا ليلا ، ومروا براع معه كلب فتبعهم فآووا إلى الكهف فتبعهم الملك إلى فم الغار ، فوجد أثر دخولهم ولم يجد أثر خروجهم ، فدخلوا فأعمى الله أبصارهم فلم يروا شيئا ؛ فقال الملك : سدوا عليهم باب الغار حتى يموتوا فيه جوعا وعطشا. وروى مجاهد عن ابن عباس أيضا أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الأصنام ويذبح لها ويكفر بالله ، وقد تابعه على ذلك أهل المدينة ، فوقع للفتية علم من بعض الحواريين - حسبما ذكر النقاش أو من مؤمني الأمم قبلهم - فآمنوا بالله ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس ، فأخذوا نفوسهم بالتزام الدين وعبادة الله ؛ فرفع أمرهم إلى الملك وقيل لي : إنهم قد فارقوا دينك واستخفوا آلهتك وكفروا بها ، فاستحضرهم الملك إلى مجلسه وأمرهم باتباع دينه والذبح لآلهته ، وتوعدهم على فراق ذلك بالقتل ؛ فقالوا له فيما روي : {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} - إلى قوله – {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} [الكهف : 16] وروي أنهم قالوا نحو هذا الكلام وليس به ، فقال لهم الملك : إنكم شبان أغمار لا عقول لكم ، وأنا لا أعجل بكم بل استأني فاذهبوا إلى منازلكم ودبروا رأيكم وارجعوا إلى أمري ، وضرب لهم في ذلك أجلا ، ثم إنه خلال الأجل فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم ، فقال لهم أحدهم : إني أعرف كهفا في جبل كذا ، وكان أبي يدخل فيه غنمه فلنذهب فلنختف فيه حتى يفتح الله لنا ؛ فخرجوا فيما روي يلعبون بالصولجان والكرة ، وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم لئلا يشعر الناس بهم. وروي أنهم كانوا مثقفين فحضر عيد خرجوا إليه فركبوا في جملة الناس ، ثم أخذوا باللعب بالصولجان حتى خلصوا بذلك. وروى وهب بن منبه أن أول أمرهم إنما كان حواري لعيسى بن مريم جاء إلى مدينة أصحاب الكهف يريد دخولها ، فأجر نفسه من صاحب الحمام وكان يعمل فيه ، فرأى صاحب الحمام في أعماله بركة. عظيمة ،
(10/359)
فألقى إليه بكل أمره ، وعرف ذلك الرجل فتيان من المدينة فعرفهم الله تعالى فآمنوا به واتبعوه على دينه ، واشتهرت خلطتهم به ؛ فأتى يوما إلى ذلك الحمام ولد الملك بامرأة أراد الخلوة بها ، فنهاه ذلك الحواري فانتهى ، ثم جاء مرة أخرى فنهاه فشتمه ، وأمضى عزمه في دخول الحمام مع البغي ، فدخل فماتا فيه جميعا ؛ فاتهم ذلك الحواري وأصحابه بقتلهما ؛ ففروا جميعا حتى دخلوا الكهف. وقيل في خروجهم غير هذا.
وأما الكلب فروي أنه كان كلب صيد لهم ، وروي أنهم وجدوا في طريقهم راعيا له كلب فاتبعهم الراعي على رأيهم وذهب الكلب معهم ؛ قال ابن عباس. واسم الكلب حمران وقيل قطمير.
وأما أسماء أهل الكهف فأعجمية ، والسند في معرفتها واه. والذي ذكره الطبري هي هذه : مكسلمينا وهو أكبرهم والمتكلم عنهم ، ومحسيميلنينا ويمليخا ، وهو الذي مضى بالورق إلى المدينة عند بعثهم من رقدتهم ، ومرطوس وكشوطوش ودينموس ويطونس وبيرونس. قال مقاتل : وكان الكلب لمكسلمينا ، وكان أسنهم وصاحب غنم.
الثانية : -هذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة. وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم فارا بدينه ، وكذلك أصحابه ، وجلس في الغار حسبما تقدم في سورة "النحل". وقد نص الله تعالى على ذلك في "براءة" وقد تقدم. وهجروا أوطانهم وتركوا أرضهم وديارهم وأهاليهم وأولادهم وقراباتهم وإخوانهم ، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين. فسكنى الجبال ودخول الغيران ، والعزلة عن الخلق والانفراد بالخالق ، وجواز الفرار من الظالم هي سنة الأنبياء صلوات الله عليهم والأولياء. وقد فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم العزلة ، وفضلها جماعة العلماء لا سيما عند ظهور الفتن وفساد الناس ، وقد نص الله تعالى عليها في كتابه فقال : {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} .
(10/360)
وقال العلماء الاعتزال عن الناس يكون مرة في الجبال والشعاب ، ومرة في السواحل والرباط ، ومرة في البيوت ؛ وقد جاء في الخبر : "إذا كانت الفتنة فأخف مكانك وكف لسانك" . ولم يخص موضعا من موضع. وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزال الشر وأهله بقلبك وعملك ، إن كنت بين أظهرهم. وقال ابن المبارك في تفسير العزلة : أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم ، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت. وروى البغوي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم" . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "نعم صوامع المؤمنين بيوتهم" من مراسل الحسن وغيره. وقال عقبة بن عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما النجاة يا رسول الله ؟ فقال : "يا عقبة أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك". وقال صلى الله عليه وسلم : " يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن" . خرجه البخاري. وذكر علي بن سعد عن الحسن بن واقد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا كانت سنة ثمانين ومائة فقد حلت لأمتي العزبة والعزلة والترهب في رؤوس الجبال" . وذكر أيضا علي بن سعد عن عبدالله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر بدينه من شاهق إلى شاهق أو حجر إلى حجر فإذا كان ذلك لم تنل المعيشة إلا بمعصية الله فإذا كان ذلك حلت العزبة" . قالوا : يا رسول الله ، كيف تحل العزبة وأنت تأمرنا بالتزويج ؟ قال : "إذا كان ذلك كان فساد الرجل على يدي أبويه فإن لم يكن له أبوان كان هلاكه على يدي زوجته فإن لم تكن له زوجة كان هلاكه على يدي ولده فإن لم يكن له ولد كان هلاكه على يدي القرابات والجيران" . قالوا وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : "يعيرونه بضيق المعيشة ويكلفونه ما لا يطيق فعند ذلك يورد نفسه الموارد التي يهلك فيها" .
(10/361)
قلت : أحوال الناس في هذا الباب تختلف ، فرب رجل تكون له قوة على سكنى الكهوف والغيران في الجبال ، وهي أرفع الأحوال لأنها الحالة التي اختارها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في بداية أمره ، ونص عليها في كتابه مخبرا عن الفتية ، فقال : {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف : 16]. ورب رجل تكون العزلة له في بيته أخف عليه وأسهل ؛ وقد اعتزل رجال من أهل بدر فلزموا بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم. ورب رجل متوسط بينهما فيكون له من القوة ما يصبر بها على مخالطة الناس وأذاهم ، فهو معهم في الظاهر ومخالف لهم في الباطن. وذكر ابن المبارك حدثنا وهيب بن الورد قال : جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال : إن الناس وقعوا فيما وقعوا وقد حدثت نفسي ألا أخالطهم. فقال : لا تفعل إنه لا بد لك من الناس ، ولا بد لهم منك ، ولك إليهم حوائج ، ولهم إليك حوائج ، ولكن كن فيهم أصم سميعا ، أعمى بصيرا ، سكوتا نطوقا. وقد قيل : إن كل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معنى الجبال والشعاب ؛ مثل الاعتكاف في المساجد ، ولزوم السواحل للرباط والذكر ، ولزوم البيوت فرارا عن شرور الناس. وإنما جاءت الأحاديث بذكر الشعاب والجبال واتباع الغنم - والله اعلم - لأن ذلك هو الأغلب في المواضع التي يعتزل فيها ؛ فكل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معناه ، كما ذكرنا ، والله الموفق وبه العصمة. وروى عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "يعجب ربك من راعي غنم في رأس شظية الجبل يؤذن بالصلاة ويصلي فيقول الله عز وجل انظروا إلى عبدي يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة" . خرجه النسائي.
قوله تعالى : {فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} لما فروا ممن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء ولجؤوا إلى الله تعالى فقالوا : {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} أي مغفرة ورزقا. {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} توفيقا للرشاد. وقال ابن عباس : مخرجا من الغار في سلامة. وقيل صوابا. ومن هذا المعنى أنه عليه السلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
(10/362)