سورة هود عليه السلام
...
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية : 17 {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}
قوله تعالى : {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} ابتداء والخبر محذوف ؛ أي أفمن كان على بينة من ربه في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه من الفضل ما يتبين به كغيره ممن يريد الحياة الدنيا وزينتها ؟ ! عن علي بن الحسين والحسن بن أبي الحسن. وكذلك قال ابن زيد إن الذي على بينة هو من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم. {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} من الله ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل المراد بقوله {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} النبي صلى الله عليه وسلم والكلام راجع إلى قوله : {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [هود : 12] ؛ أي أفمن كان معه بيان من الله ، ومعجزة كالقرآن ، ومعه شاهد كجبريل - على ما يأتي - وقد بشرت به الكتب السالفة يضيق صدره بالإبلاغ ، وهو يعلم أن الله لا يسلمه. والهاء في "ربه" تعود عليه ، وقوله : {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} وروى عكرمة عن ابن عباس "أنه جبريل" ؛ وهو قول مجاهد والنخعي. والهاء في "منه" لله عز وجل ؛ أي ويتلو البيان والبرهان شاهد من الله عز وجل. وقال مجاهد : الشاهد ملك من الله عز وجل يحفظه ويسدده. وقال الحسن البصري وقتادة : الشاهد لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال محمد بن علي بن الحنفية : قلت لأبي أنت الشاهد ؟ فقال : وددت أن أكون أنا هو ، ولكنه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل : هو علي بن أبي طالب ؛ روي عن ابن عباس أنه قال : "هو علي بن أبي طالب" ؛ وروي عن علي أنه قال : "ما من رجل من قريش إلا وقد أنزلت فيه الآية والآيتان ؛ فقال له رجل : أي شيء نزل فيك ؟ فقال علي : {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} ". وقيل : الشاهد صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه ومخائله ؛ لأن من كان له فضل وعقل فنظر إلى
(9/16)
النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فالهاء على هذا ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، على قول ابن زيد وغيره. وقيل : الشاهد القرآن في نظمه وبلاغته ، والمعاني الكثيرة منه في اللفظ الواحد ؛ قال الحسين بن الفضل ، فالهاء في "منه" للقرآن. وقال الفراء قال بعضهم : {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} الإنجيل ، وإن كان قبله فهو يتلو القرآن في التصديق ؛ والهاء في "منه" لله عز وجل. وقيل : البينة معرفة الله التي أشرقت لها القلوب ، والشاهد الذي يتلوه العقل الذي ركب في دماغه وأشرق صدره بنوره. {وَمِنْ قَبْلِهِ} أي من قبل الإنجيل. {كِتَابُ مُوسَى} رفع بالابتداء ، قال أبو إسحاق الزجاج والمعنى ويتلوه من قبله كتاب موسى ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم موصوف في كتاب موسى {يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} [الأعراف : 157] وحكى أبو حاتم عن بعضهم أنه قرأ {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} بالنصب ؛ وحكاها المهدوي عن الكلبي ؛ يكون معطوفا على الهاء في "يتلوه" والمعنى : ويتلو كتاب موسى جبريل عليه السلام ؛ وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما ؛ المعنى من قبله "تلا جبريل كتاب موسى على موسى". ويجوز على ما ذكره ابن عباس أيضا من هذا القول أن يرفع "كتاب" على أن يكون المعنى : ومن قبله كتاب موسى كذلك ؛ أي تلاه جبريل على موسى كما تلا القرآن على محمد. {إِمَاماً} نصب على الحال. {وَرَحْمَةٌ} معطوف. {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} إشارة إلى بني إسرائيل ، أي يؤمنون بما في التوراة من البشارة بك ؛ وإنما كفر بك هؤلاء المتأخرون فهم الذين موعدهم النار ؛ حكاه القشيري. والهاء في "به" يجوز أن تكون للقرآن ، ويجوز أن تكون للنبي صلى الله عليه وسلم. {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ} أي بالقرآن أو بالنبي عليه السلام. {مِنَ الأَحْزَابِ} يعني من الملل كلها ؛ عن قتادة ؛ وكذا قال سعيد بن جبير : "الأحزاب" أهل الأديان كلها ؛ لأنهم يتحازبون. وقيل : قريش وحلفاؤهم. {فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} أي هو من أهل النار ؛ وأنشد حسان :
أوردتموها حياض الموت ضاحية ... فالنار موعدها والموت لاقيها
(9/17)
وفي صحيح مسلم من حديث أبي يونس عن النبي صلى الله عليه وسلم : "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" . {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ} أي في شك."
قوله تعالى : {مِنْهُ} أي من القرآن. {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أي القرآن من الله ؛ قاله مقاتل. وقال الكلبي : المعنى فلا تك في مرية في أن الكافر في النار. {إِنَّهُ الْحَقُّ} أي القول الحق الكائن ؛ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد جميع المكلفين.
الآية : 18 {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}
الآية : 19 {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}
قوله تعالى : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} أي لا أحد أظلم منهم لأنفسهم لأنهم افتروا على الله كذبا ؛ فأضافوا كلامه إلى غيره ؛ وزعموا أن له شريكا وولدا ، وقالوا للأصنام هؤلاء شفعاؤنا عند الله. {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} أي يحاسبهم على أعمالهم {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ} يعني الملائكة الحفظة ؛ عن مجاهد وغيره ؛ وقال سفيان : سألت الأعمش عن {الأَشْهَادُ} فقال : الملائكة. الضحاك : هم الأنبياء والمرسلون ؛ دليله قوله : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء : 41]. وقيل : الملائكة والأنبياء والعلماء الذين بلغوا الرسالات. وقال قتادة : عن الخلائق أجمع. وفي صحيح مسلم من حديث صفوان بن محرز عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه قال : "وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله" . {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} أي بعده وسخطه وإبعاده من رحمته على الذين وضعوا العبادة في غير موضعها
(9/18)
قوله تعالى : {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} يجوز أن تكون "الذين" في موضع خفض نعتا للظالمين ، ويجوز أن تكون في موضع رفع ؛ أي هم الذين. وقيل : هو ابتداء خطاب من الله تعالى ؛ أي هم الذين يصدون أنفسهم وغيرهم عن الإيمان والطاعة. {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} أي يعدلون بالناس عنها إلى المعاصي والشرك. {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} أعاد لفظ "هم" تأكيدا.
الآية : 20 {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ}
قوله تعالى : {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} أي فائتين من عذاب الله. وقال ابن عباس : لم يعجزوني أن آمر الأرض فتنخسف بهم. {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} يعني أنصارا ، و"من" زائدة. وقيل : "ما" بمعنى الذي تقديره : أولئك لم يكونوا معجزين ، لا هم ولا الذين كانوا لهم من أولياء من دون الله ؛ وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما. {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ} أي على قدر كفرهم ومعاصيهم. {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} "ما" في موضع نصب على أن يكون المعنى : بما كانوا يستطيعون السمع. {وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} ولم يستعملوا ذلك في استماع الحق وإبصاره. والعرب تقول : جزيته ما فعل وبما فعل ؛ فيحذفون الباء مرة ويثبتونها أخرى ؛ وأنشد سيبويه :
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب
ويجوز أن تكون "ما" ظرفا ، والمعنى : يضاعف لهم أبدا ، أي وقت استطاعتهم السمع والبصر ، والله سبحانه يجعلهم في جهنم مستطيعي ذلك أبدا. ويجوز أن تكون "ما" نافية لا موضع لها ؛ إذ الكلام قد تم قبلها ، والوقف على العذاب كاف ؛ والمعنى : ما كانوا
(9/19)
يستطيعون في الدنيا أن يسمعوا سمعا ينتفعون به ، ولا أن يبصروا إبصار مهتد. قال الفراء : ما كانوا يستطيعون السمع ؛ لأن الله أضلهم في اللوح المحفوظ. وقال الزجاج : لبغضهم النبي صلى الله عليه وسلم وعداوتهم له لا يستطيعون أن يسمعوا منه ولا يفقهوا عنه. قال النحاس : وهذا معروف في كلام العرب ؛ يقال : فلان لا يستطيع أن ينظر إلى فلان إذا كان ذلك ثقيلا عليه.
الآية : 21 {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
الآية : 22 {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ}
قوله تعالى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} ابتداء وخبر. {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي ضاع عنهم افتراؤهم وتلف. {لا جَرَمَ} للعلماء فيها أقوال ؛ فقال الخليل وسيبويه : {لا جَرَمَ} بمعنى حق ، فـ "لا" و"جرم" عندهما كلمة واحدة ، و"أن" عندهما في موضع رفع ؛ وهذا قول الفراء ومحمد بن يزيد ؛ حكاه النحاس. قال المهدوي : وعن الخليل أيضا أن معناها لابد ولا محالة ، وهو قول الفراء أيضا ؛ ذكره الثعلبي. وقال الزجاج : "لا" ها هنا نفي وهو رد لقولهم : إن الأصنام تنفعهم ؛ كأن المعنى لا ينفعهم ذلك ، وجرم بمعنى كسب ؛ أي كسب ذلك الفعل لهم الخسران ، وفاعل كسب مضمر ، و"أن" منصوبة بجرم ، كما تقول كسب جفاؤك زيدا غضبه عليك ؛ وقال الشاعر :
نصبنا رأسه في جذع نخل ... بما جرمت يداه وما اعتدينا
أي بما كسبت. وقال الكسائي : معنى {لا جَرَمَ} لا صد ولا منع عن أنهم. وقيل : المعنى لا قطع قاطع ، فحذف الفاعل حين كثر استعماله ؛ والجرم القطع ؛ وقد جرم النخل واجترمه أي صرمه فهو جارم ، وقوم وجرم وجرام وهذا زمن الجرام والجرام ، وجرمت صوف الشاة أي جززته ، وقد جرمت منه أي أخذت منه ؛ مثل جلمت الشيء جلما أي قطعت ،
(9/20)
وجلمت الجزور أجلمها جلما إذا أخذت ما على عظامها من اللحم ، وأخذت الشيء بجلمته - ساكنة اللام - إذا أخذته أجمع ، وهذه جلمة الجزور - بالتحريك - أي لحمها أجمع ؛ قاله الجوهري. قال النحاس : وزعم الكسائي أن فيها أربع لغات : لا جرم ، ولا عن ذا جرم ؛ ولا أن ذا جرم ، قال : وناس من فزارة يقولون : لا جرأنهم بغير ميم. وحكى الفراء فيه لغتين أخريين قال : بنو عامر يقولون لا ذا جرم ، قال : وناس من العرب. يقولون : لا جرم بضم الجيم.
الآية : 23 {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} "الذين" اسم "إن" و"آمنوا" صلة ، أي صدقوا. {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} عطف على الصلة. قال ابن عباس : "أخبتوا أنابوا". مجاهد : أطاعوا. قتادة : خشعوا وخضعوا. مقاتل : أخلصوا. الحسن : الإخبات الخشوع للمخافة الثابتة في القلب ، وأصل الإخبات الاستواء ، من الخبت وهو الأرض المستوية الواسعة : فالإخبات الخشوع والاطمئنان ، أو الإنابة إلى الله عز وجل المستمرة ذلك على استواء. "إلى ربهم" قال الفراء : إلى ربهم ولربهم واحد ، وقد يكون المعنى : وجهوا إخباتهم إلى ربهم. {أُولَئِكَ} خبر "إن".
الآية : 24 {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ}
قوله تعالى : {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} ابتداء ، والخبر {كَالأَعْمَى} وما بعده. قال الأخفش : أي كمثل الأعمى. النحاس : التقدير مثل فريق الكافر كالأعمى والأصم ، ومثل فريق المؤمن كالسميع والبصير ؛ ولهذا قال : {هَلْ يَسْتَوِيَانِ} فرد إلى الفريقين وهما اثنان
(9/21)
روي معناه عن قتادة وغيره. قال الضحاك : الأعمى والأصم مثل للكافر ، والسميع والبصير مثل للمؤمن. وقيل : المعنى هل يستوي الأعمى والبصير ، وهل يستوي الأصم والسميع. {مَثَلاً} منصوب على التمييز. {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} في الوصفين وتنظرون.
الآية : 25 {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}
الآية : 26 {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} ذكر سبحانه قصص الأنبياء عليهم السلام للنبي صلى الله عليه وسلم تنبيها له على ملازمة الصبر على أذى الكفار إلى أن يكفيه الله أمرهم. "إني" أي فقال : إني ؛ لأن في الإرسال معنى القول. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي "أني" بفتح الهمزة ؛ أي أرسلناه بأني لكم نذير مبين. ولم يقل "إنه" لأنه رجع من الغيبة إلى خطاب نوح لقومه ؛ كما قال : {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف : 145] ثم قال : {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الأعراف 145].
قوله تعالى : {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} أي اتركوا الأصنام فلا تعبدوها ، وأطيعوا الله وحده. ومن قرأ "إني" بالكسر جعله معترضا في الكلام ، والمعنى أرسلناه بألا تعبدوا إلا الله. {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} .
الآية : 27 {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}
فيه أربع مسائل : -
الأولى : - قوله تعالى : {فَقَالَ الْمَلأُ} قال أبو إسحاق الزجاج : الملأ الرؤساء ؛ أي هم مليؤون بما يقولون. وقد تقدم هذا في "البقرة" وغيرها. {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً}
(9/22)
أي آدميا. {مِثْلَنَا} نصب على الحال. و {مِثْلَنَا} مضاف إلى معرفة وهو نكرة يقدر فيه التنوين ؛ كما قال الشاعر :
يا رب مثلك في النساء غريرة
الثانية : - قوله تعالى : {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} أراذل جمع أرذل وأرذل جمع رذل ؛ مثل كلب وأكلب وأكالب. وقيل : والأراذل جمع الأرذل ، كأساود جمع الأسود من الحيات. والرذل النذل ؛ أرادوا اتبعك أخساؤنا وسقطنا وسفلتنا. قال الزجاج : نسبوهم إلى الحياكة ؛ ولم يعلموا أن الصناعات لا أثر لها في الديانة. قال النحاس : الأراذل هم الفقراء ، والذين لا حسب لهم ، والخسيسو الصناعات. وفي الحديث "أنهم كانوا حاكة وحجامين". وكان هذا جهلا منهم ؛ لأنهم عابوا نبي الله صلى الله عليه وسلم بما لا عيب فيه ؛ لأن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، إنما عليهم أن يأتوا بالبراهين والآيات ، وليس عليهم تغيير الصور والهيئات ، وهم يرسلون إلى الناس جميعا ، فإذا أسلم منهم الدنيء لم يلحقهم من ذلك نقصان ؛ لأن عليهم أن يقبلوا إسلام كل من أسلم منهم.
قلت : الأراذل هنا هم الفقراء والضعفاء ؛ كما قال هرقل لأبي سفيان : أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ فقال : بل ضعفاؤهم ؛ فقال : هم أتباع الرسل. قال علماؤنا : إنما كان ذلك لاستيلاء الرياسة على الأشراف ، وصعوبة الانفكاك عنها ، والأنفة من الانقياد للغير ؛ والفقير خلي عن تلك الموانع ، فهو سريع إلى الإجابة والانقياد. وهذا غالب أحوال أهل الدنيا.
الثالثة : - اختلف العلماء في تعيين السفلة على أقوال ؛ فذكر ابن المبارك عن سفيان أن السفلة هم الذين يتقلسون ، ويأتون أبواب القضاة والسلاطين يطلبون الشهادات
(9/23)
وقال ثعلب عن ابن الأعرابي : السفلة الذين يأكلون لدنيا بدينهم ؛ قيل له : فمن سفلة السفلة ؟ قال : الذي يصلح دنيا غيره بفساد دينه. وسئل علي رضي الله عنه عن السفلة فقال : الذين إذا اجتمعوا غلبوا ؛ وإذا تفرقوا لم يعرفوا. وقيل لمالك بن أنس رضي الله عنه : من السفلة ؟ قال : الذي يسب الصحابة. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما : "الأرذلون الحاكة والحجامون". يحيى بن أكثم : الدباغ والكناس إذا كان من غير العرب.
الرابعة : - إذا قالت المرأة لزوجها : يا سَفِلة ، فقال : إن كنت منهم فأنت طالق ؛ فحكى النقاش أن رجلا جاء إلى الترمذي فقال : إن امرأتي قالت لي يا سفلة ، فقلت : إن كنت سفلة فأنت طالق ؛ قال الترمذي : ما صناعتك ؟ قال : سماك ؛ قال : سفلة والله ، سفلة والله سفلة.
قلت : وعلى ما ذكره ابن المبارك عن سفيان لا تطلق ، وكذلك على قول مالك ، وابن الأعرابي لا يلزمه شيء.
قوله تعالى : {بَادِيَ الرَّأْيِ} أي ظاهر الرأي ، وباطنهم على خلاف ذلك. يقال : بدا يبدو. إذا ظهر ؛ كما قال :
فاليوم حين بدون للنظار
ويقال للبرية بادية لظهورها. وبدا لي أن أفعل كذا ، أي ظهر لي رأي غير الأول. وقال الأزهري : معناه فيما يبدو لنا من الرأي. ويجوز أن يكون {بَادِيَ الرَّأْيِ} من بدأ يبدأ وحذف الهمزة. وحقق أبو عمرو الهمزة فقرأ : {بَادِيَ الرَّأْيِ} أي أول الرأي ؛ أي اتبعوك حين ابتدؤوا ينظرون ، ولو أمعنوا النظر والفكر لم يتبعوك ؛ ولا يختلف المعنى ههنا بالهمز وترك الهمز. وانتصب على حذف "في" كما قال عز وجل : {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف : 155]. {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} أي في اتباعه ؛ وهذا جحد منهم لنبوته صلى الله عليه وسلم {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} الخطاب لنوح ومن آمن معه.
(9/24)
الآية : 28 {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}
الآية : 29 {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ}
الآية : 30 {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}
الآية : 31 {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ}
قوله تعالى : {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أي على يقين ؛ قاله أبو عمران الجوني. وقيل : على معجزة ؛ وقد تقدم في "الأنعام" هذا المعنى. {وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} أي نبوة ورسالة ؛ عن ابن عباس ؛ "وهي رحمة على الخلق". وقيل : الهداية إلى الله بالبراهين. وقيل : بالإيمان والإسلام. {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } أي عميت عليكم الرسالة والهداية فلم تفهموها. يقال : عميت عن كذا ، وعمي علي كذا أي لم أفهمه. والمعنى : فعميت الرحمة ؛ فقيل : هو مقلوب ؛ لأن الرحمة لا تعمى إنما يعمى عنها ؛ فهو كقولك : أدخلت في القلنسوة رأسي ، ودخل الخف في رجلي. وقرأها الأعمش وحمزة والكسائي "فعميت" بضم العين وتشديد الميم على ما لم يسم فاعله ، أي فعماها الله عليكم ؛ وكذا في قراءة أبي "فعماها" ذكرها الماوردي. { أَنُلْزِمُكُمُوهَا} قيل : شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل : الهاء ترجع إلى الرحمة. وقيل : إلى البينة ؛ أي أنلزمكم قبولها ، وأوجبها عليكم ؟ ! وهو استفهام بمعنى الإنكار ؛ أي لا يمكنني أن أضطركم إلى المعرفة بها ؛ وإنما قصد نوح عليه السلام
(9/25)
بهذا القول أن يرد عليهم. وحكى الكسائي والفراء " أَنُلْزِمْكُمُوهَا" بإسكان الميم الأولى تخفيفا ؛ وقد أجاز مثل هذا سيبويه ، وأنشد :
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل
وقال النحاس : ويجوز على قول يونس [في غير القرآن] أنلزمكمها يجري المضمر مجرى المظهر ؛ كما تقول : أنلزمكم ذلك. {وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} أي لا يصح قبولكم لها مع الكراهة عليها. قال قتادة : والله لو استطاع نبي الله نوح عليه السلام لألزمها قومه ولكنه لم يملك ذلك.
قوله تعالى : {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً} أي على التبليغ ، والدعاء إلى الله ، والإيمان به أجرا أي "مالا" فيثقل عليكم. {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} أي ثوابي في تبليغ الرسالة. {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} سألوه أن يطرد الأراذل الذين آمنوا به ، كما سألت قريش النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرد الموالي والفقراء ، حسب ما تقدم في "الأنعام" بيانه ؛ فأجابهم بقوله : {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} يحتمل أن يكون قال هذا على وجه الإعظام لهم بلقاء الله عز وجل ، ويحتمل أن يكون قاله على وجه الاختصام ؛ أي لو فعلت ذلك لخاصموني عند الله ، فيجازيهم على إيمانهم ، ويجازي من طردهم. {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} في استرذالكم لهم ، وسؤالكم طردهم.
قوله تعالى : {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ} قال الفراء : أي يمنعني من عذابه. {إِنْ طَرَدْتُهُمْ} أي لأجل إيمانهم. {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أدغمت التاء في الذال. ويجوز حذفها فتقول : تَذَكرون.
قوله تعالى : {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} أخبر بتذلله وتواضعه لله عز وجل ، وأنه لا يدعي ما ليس له من خزائن الله ؛ وهي إنعامه على من يشاء
(9/26)
من عباده ؛ وأنه لا يعلم الغيب ؛ لأن الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل. {وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} أي لا أقول إن منزلتي عند الناس منزلة الملائكة. وقد قالت العلماء : الفائدة في الكلام الدلالة على أن الملائكة أفضل من الأنبياء ؛ لدوامهم على الطاعة ، واتصال عباداتهم إلى يوم القيامة ، صلوات الله عليهم أجمعين. وقد تقدم هذا المعنى في "البقرة". {وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} أي تستثقل وتحتقر أعينكم ؛ والأصل تزدريهم حذفت الهاء والميم لطول الاسم. والدال مبدلة من تاء ؛ لأن الأصل في تزدري تزتري ، ولكن التاء تبدل بعد الزاي دالا ؛ لأن الزاي مجهورة والتاء مهموسة ، فأبدل من التاء حرف مجهور من مخرجها. ويقال : أزريت عليه إذا عبته. وزريت عليه إذا حقرته. وأنشد الفراء :
يباعده الصديق وتزدريه ... حليلته وينهره الصغير
قوله تعالى : {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً} أي ليس لاحتقاركم لهم تبطل أجورهم ، أو ينقص ثوابهم.
قوله تعالى : {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} فيجازيهم عليه ويؤاخذهم به. {إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أي إن قلت هذا الذي تقدم ذكره. و {إِذاً} ملغاة ؛ لأنها متوسطة.
الآية : 32 {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
الآية : 33 {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}
الآية : 34 {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
الآية : 35 {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ}
قوله تعالى : {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} أي خاصمتنا فأكثرت خصومتنا وبالغت فيها. والجدل في كلام العرب المبالغة في الخصومة ؛ مشتق من الجدل
(9/27)
وهو شدة الفتل ؛ ويقال للصقر أيضا أجدل لشدته في الطير ؛ وقد مضى هذا المعنى في "الأنعام" بأشبع من هذا. وقرأ ابن عباس "فأكثرت جدلنا" ذكره النحاس. والجدل في الدين محمود ؛ ولهذا جادل نوج والأنبياء قومهم حتى يظهر الحق ، فمن قبله أنجح وأفلح ، ومن رده خاب وخسر. وأما الجدال لغير الحق حتى يظهر الباطل في صورة الحق فمذموم ، وصاحبه في الدارين ملوم. {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} أي من العذاب. {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في قولك.
قوله تعالى : {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ} أي إن أراد إهلاككم عذبكم. {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي بفائتين. وقيل : بغالبين بكثرتكم ، لأنهم أعجبوا بذلك ؛ كانوا ملؤوا الأرض سهلا وجبلا على ما يأتي.
قوله تعالى : {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي} أي إبلاغي واجتهادي في إيمانكم. {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} أي لأنكم لا تقبلون نصحا ؛ وقد تقدم في "براءة" معنى النصح لغة."
قوله تعالى : {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} أي يضلكم. وهذا مما يدل على بطلان مذهب المعتزلة والقدرية ومن وافقهما ؛ إذ زعموا أن الله تعالى لا يريد أن يعصي العاصي ، ولا يكفر الكافر ، ولا يغوي الغاوي ؛ وأن يفعل ذلك ، والله لا يريد ذلك ؛ فرد الله عليهم بقوله : {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} . وقد مضى هذا المعنى في "الفاتحة" وغيرها. وقد أكذبوا شيخهم اللعين إبليس على ما بيناه في "الأعراف" في إغواء الله تعالى إياه حيث قال : {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الأعراف : 16] ولا محيص لهم عن قول نوح عليه السلام : {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} فأضاف إغواءهم إلى الله سبحانه وتعالى ؛ إذ هو الهادي والمضل ؛ سبحانه عما يقول الجاحدون والظالمون علوا كبيرا. وقيل : {أَنْ يُغْوِيَكُمْ} يهلككم ؛ لأن الإضلال يفضي إلى الهلاك. الطبري : {يُغْوِيَكُمْ} يهلككم بعذابه ؛ حكي عن طيء أصبح فلان غاويا أي مريضا ، وأغويته أهلكته ؛ ومنه {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} . [مريم : 59]. { هُوَ رَبُّكُمْ} فإليه الإغواء ، وإليه الهداية. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تهديد ووعيد.
(9/28)
قوله تعالى : {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} يعنون النبي صلى الله عليه وسلم. افترى أفتعل ؛ أي اختلق القرآن من قبل نفسه ، وما أخبر به عن نوح وقومه ؛ قال مقاتل. وقال ابن عباس : "هو من محاورة نوح لقومه" وهو أظهر ؛ لأنه ليس قبله ولا بعده إلا ذكر نوح وقومه ؛ فالخطاب منهم ولهم. {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ} أي اختلقته وافتعلته ، يعني الوحي والرسالة. {فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} أي عقاب إجرامي ، وإن كنت محقا فيما أقوله فعليكم عقاب تكذيبي. والإجرام مصدر أجرم ؛ وهو اقتراف السيئة. وقيل المعنى : أي جزاء جرمي وكسبي. وجرم وأجرم بمعنى ؛ عن النحاس وغيره. قال :
طريد عشيرة ورهين جرم ... بما جرمت يدي وجنى لساني
ومن قرأ "أجرامي" بفتح الهمزة ذهب إلى أنه جمع جرم ؛ وذكره النحاس أيضا. {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} أي من الكفر والتكذيب.
الآية : 36 {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}
الآية : 37 {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}
قوله تعالى : {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} "أنه" في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسم فاعله. ويجوز أن يكون في موضع نصب ، ويكون التقدير : بـ "أنه". و"آمن" في موضع نصب بـ "يؤمن" ومعنى الكلام الإياس من إيمانهم ، واستدامة كفرهم ، تحقيقا لنزول الوعيد بهم. قال الضحاك : فدعا عليهم لما أخبر بهذا فقال : {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح : 26] الآيتين. وقيل : إن رجلا من قوم نوح حمل ابنه على كتفه ، فلما رأى الصبي نوحا قال لأبيه : اعطني حجرا ؛ فأعطاه حجرا ، ورمى به نوحا عليه السلام فأدماه ؛ فأوحى الله تعالى إليه {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ
(9/29)
إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ}. {فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} أي فلا تغتم بهلاكهم حتى تكون بائسا ؛ أي حزينا. والبؤس الحزن ؛ ومنه قول الشاعر :
وكم من خليل أو حميم رزئته ... فلم أبتئس والرزء فيه جليل
يقال : ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه. والابتئاس حزن في استكانة.
قوله تعالى : {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} أي اعمل السفينة لتركبها أنت ومن آمن معك. "بأعيننا" أي بمرأى منا وحيث نراك. وقال الربيع بن أنس : بحفظنا إياك حفظ من يراك. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : "بحراستنا" ؛ والمعنى واحد ؛ فعبر عن الرؤية بالأعين ؛ لأن الرؤية تكون بها. ويكون جمع الأعين للعظمة لا للتكثير ؛ كما قال تعالى : {فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات : 23] {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات : 47]. وقد يرجع معنى الأعين في هذه الآية وغيرها إلى معنى عين ؛ كما قال : {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} وذلك كله عبارة عن الإدراك والإحاطة ، وهو سبحانه منزه عن الحواس والتشبيه والتكييف ؛ لا رب غيره. وقيل : المعنى "بأعيننا" أي بأعين ملائكتنا الذين جعلناهم عيونا على حفظك ومعونتك ؛ فيكون الجمع على هذا التكثير على بابه. وقيل : "بأعيننا" أي بعلمنا ؛ قاله مقاتل : وقال الضحاك وسفيان : "بأعيننا" بأمرنا. وقيل : بوحينا. وقيل : بمعونتنا لك على صنعها. "ووحينا" أي على ما أوحينا إليك ، من صنعتها. {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} أي لا تطلب إمهالهم فإني مغرقهم.
(9/30)