المجلد الثامن
تابع سورة الأنفال
الآية : 61 {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
بين تعالى أن في المنافقين من كان يبسط لسانه بالوقيعة في أذية النبي صلى الله عليه وسلم ويقول : إن عاتبني حلفت له بأني ما قلت هذا فيقبله ، فإنه أذن سامعة. قال الجوهري : يقال رجل أذن إذا كان يسمع مقال كل أحد ، يستوي فيه الواحد والجمع. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : {هُوَ أُذُنٌ} قال : مستمع وقابل. وهذه الآية نزلت في عتاب بن قشير ، قال : إنما محمد أذن يقبل كل ما قيل له. وقيل : هو نبتل بن الحارث ، قال ابن إسحاق. وكان نبتل رجلا جسيما ثائر شعر الرأس واللحية ، آدم أحمر العينين أسفع الخدين مشوه الخلقة ، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : "من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث" . السفعة بالضم : سواد مشرب بحمرة. والرجل أسفع ، عند الجوهري. وقرئ {أُذُنٌ} بضم الذال وسكونها. {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} أي هو أذن خير لا أذن شر ، أي يسمع الخير ولا يسمع الشر. وقرأ {قل أذنٌ خيرٌ لكم} بالرفع والتنوين ، الحسن وعاصم في رواية أبي بكر. والباقون بالإضافة ، وقرأ حمزة {ورحمةٍ} بالخفض. والباقون بالرفع عطف على {أُذُنٌ} ، والتقدير : قل هو أذن خير وهو رحمة ، أي هو مستمع خير لا مستمع شر ، أي هو مستمع ما يحب استماعه ، وهو رحمة. ومن خفض فعلى العطف على {خَيْرٍ}. قال النحاس : وهذا عند أهل العربية بعيد ، لأنه قد تباعد ما بين الاسمين ، وهذا يقبح في المخفوض. المهدوي : ومن جر الرحمة فعلى العطف على {خير} والمعنى مستمع خير ومستمع رحمة ، لأن الرحمة من الخير. ولا يصح عطف الرحمة على المؤمنين ، لأن المعنى يصدق بالله ويصدق المؤمنين ؛ فاللام زائدة في قول الكوفيين. ومثله {لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف : 154] أي يرهبون ربهم. وقال أبو علي : كقوله {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل : 72] وهي عند المبرد متعلقة بمصدر دل عليه الفعل ، التقدير : إيمانه للمؤمنين ، أي تصديقه للمؤمنين لا للكفار. أو يكون محمولا على المعنى ، فإن معنى يؤمن يصدق ، فعدي باللام كما عدي في قوله تعالى : {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [المائدة : 46].
(8/192)
الآية : 62 {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ}
فيه ثلاث مسائل : -
الأولى : روي أن قوما من المنافقين اجتمعوا ، فيهم الجلاس بن سويد ووديعة بن ثابت ، وفيهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس ، فحقروه فتكلموا وقالوا : إن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمير. فغضب الغلام وقال : والله إن ما يقول حق وأنتم شر من الحمير ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم ، فحلفوا أن عامرا كاذب ، فقال عامر : هم الكذبة ، وحلف على ذلك وقال : اللهم لا تفرق بيننا حتى يتبين صدق الصادق وكذب الكاذب. فأنزل الله هذه الآية وفيها {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} .
الثانية : قوله تعالى : {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} ابتداء وخبر. ومذهب سيبويه أن التقدير : والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه ، ثم حذف ، كما قال بعضهم :
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
(8/193)
وقال محمد بن يزيد : ليس في الكلام محذوف ، والتقدير ، والله أحق أن يرضوه ورسوله ، على التقديم والتأخير. وقال الفراء : المعنى ورسوله أحق أن يرضوه ، والله افتتاح كلام ، كما تقول : ما شاء الله وشئت. قال النحاس : قول سيبويه أولاها ، لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن أن يقال : ما شاء الله وشئت ، ولا يقدر في شيء تقديم ولا تأخير ، ومعناه صحيح.
قلت : وقيل إن الله سبحانه جعل رضاه في رضاه ، ألا ترى أنه قال : {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء 80]. وكان الربيع بن خثيم إذا مر بهذه الآية وقف ، ثم يقول : حرف وأيما حرف فُوض إليه فلا يأمرنا إلا بخير.
الثالثة : قال علماؤنا : تضمنت هذه الآية قبول يمين الحالف وإن لم يلزم المحلوف له الرضا. واليمين حق للمدعي. وتضمنت أن يكون اليمين بالله عز وجل حسب ما تقدم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "من حلف فليحلف بالله أو ليصمت ومن حلف له فليصدق" . وقد مضى القول في الأيمان والاستثناء فيها مستوفى في المائدة.
الآية : 63 {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ}
قوله تعالى : {أَلَمْ يَعْلَمُوا} يعني المنافقين. وقرأ ابن هرمز والحسن {تعلموا} بالتاء على الخطاب. {أنّه} في موضع نصب بـ "يعلموا" ، والهاء كناية عن الحديث. {مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ} في موضع رفع بالابتداء. والمحادة : وقوع هذا في حد وذاك في حد ، كالمشاقة. يقال : حاد فلان فلانا أي صار في حد غير حده. {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} يقال : ما بعد الفاء في الشرط مبتدأ ، فكان يجب أن يكون "فإن" بكسر الهمزة. وقد أجاز الخليل وسيبويه {فإن له نار جهنم} بالكسر. قال سيبويه : وهو جيد وأنشد :
(8/194)
وعلمي بأسدام المياه فلم تزل ... قلائص تخدي في طريق طلائح
وأني إذا ملت ركابي مناخها ... فإني على حظي من الأمر جامح
إلا أن قراءة العامة {فَأَنَّ} بفتح الهمزة. فقال الخليل أيضا وسيبويه : إن {أَنَّ} الثانية مبدلة من الأولى. وزعم المبرد أن هذا القول مردود ، وأن الصحيح ما قاله الجرمي ، قال : إن الثانية مكررة للتوكيد لما طال الكلام ، ونظيره {وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} [النمل : 5]. وكذا {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا} [الحشر : 17]. وقال الأخفش : المعنى فوجوب النار له. وأنكره المبرد وقال : هذا خطأ من أجل إن {أَنَّ} المفتوحة المشددة لا يبتدأ بها ويضمر الخبر. وقال علي بن سليمان : المعنى فالواجب أن له نار جهنم ، فإن الثانية خبر ابتداء محذوف. وقيل : التقدير فله أن له نار جهنم. فإن مرفوعة بالاستقرار عاف إضمار المجرور بين الفاء وأن.
الآية : 64 {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ}
فيه ثلاث مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ} خبر وليس بأمر. ويدل على أنه خبر أن ما بعده {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} لأنهم كفروا عنادا. وقال السدي : قال بعض المنافقين والله وددت لو أني قدمت فجلدت مائة ولا ينزل فينا شيء يفضحنا ، فنزلت الآية. {يَحْذَرُ} أي يتحرز. وقال الزجاج : معناه ليحذر ، فهو أمر ، كما يقال : يفعل ذلك.
(8/195)
الثانية : قوله تعالى : {أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} {أَنْ} في موضع نصب ، أي من أن تنزل. ويجوز على قول سيبويه أن تكون في موضع خفض على حذف من. ويجوز أن تكون في موضع نصب مفعولة ليحذر ، لأن سيبويه أجاز : حذرت زيدا ، وأنشد :
حذر أمورا لا تضير وآم ... ما ليس منجيه من الأقدار
ولم يجزه المبرد ، لأن الحذر شيء في الهيئة. ومعنى {عَلَيْهِمْ} أي على المؤمنين "سورة" في شأن المنافقين تخبرهم بمخازيهم ومساويهم ومثالبهم ، ولهذا سميت الفاضحة والمثيرة والمبعثرة ، كما تقدم أول السورة. وقال الحسن : كان المسلمون يسمون هذه السورة الحفارة لأنها حفرت ما في قلوب المنافقين فأظهرته.
الثالثة : قوله تعالى : {قُلِ اسْتَهْزِئُوا} هذا أمر وعيد وتهديد. {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ} أي مظهر {مَا تَحْذَرُونَ} ظهوره. قال ابن عباس : أنزل الله أسماء المنافقين وكانوا سبعين رجلا ، ثم نسخ تلك الأسماء من القرآن رأفة منه ورحمة ، لأن أولادهم كانوا مسلمين والناس يعير بعضهم بعضا. فعلى هذا قد أنجز الله وعده بإظهاره ذلك إذ قال : {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ}. وقيل : إخراج الله أنه عرف نبيه عليه السلام أحوالهم وأسماءهم لا أنها نزلت في القرآن ، ولقد قال الله تعالى : {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد : 30] وهو نوع إلهام. وكان من المنافقين من يتردد ولا يقطع بتكذيب محمد عليه السلام ولا بصدقه. وكان فيهم من يعرف صدقه ومعاند.
الآية : 65 {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}
فيه ثلاث مسائل : -
الأولى : هذه الآية نزلت في غزوة تبوك. قال الطبري وغيره عن قتادة : بينا النبي صلى الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا :
(8/196)
انظروا ، هذا يفتح قصور الشام ويأخذ حصون بني الأصفر! فأطلعه الله سبحانه على ما في قلوبهم وما يتحدثون به ، فقال : "احبسوا علي الركب - ثم أتاهم فقال - قلتم كذا وكذا" فحلفوا : ما كنا إلا نخوض ونلعب ، يريدون كنا غير مجدين. وذكر الطبري عن عبدالله بن عمر قال : رأيت قائل هذه المقالة وديعة بن ثابت متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يماشيها والحجارة تنكبه وهو يقول : إنما كنا نخوض ونلعب. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} . وذكر النقاش أن هذا المتعلق كان عبدالله بن أبي بن سلول. وكذا ذكر القشيري عن ابن عمر. قال ابن عطية : وذلك خطأ ، لأنه لم يشهد تبوك. قال القشيري : وقيل إنما قال عليه السلام هذا لوديعة بن ثابت وكان من المنافقين وكان في غزوة تبوك. والخوض : الدخول في الماء ، ثم استعمل في كل دخول فيه تلويث وأذى.
الثانية : قال القاضي أبو بكر بن العربي : لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدا أو هزلا ، وهو كيفما كان كفر ، فإن الهزل بالكفر كفر لا خلاف فيه بين الأمة. فإن التحقيق أخو العلم والحق ، والهزل أخو الباطل والجهل. قال علماؤنا : انظر إلى قوله : {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة : 67].
الثالثة : واختلف العلماء في الهزل في سائر الأحكام كالبيع والنكاح والطلاق على ثلاثة أقوال : لا يلزم مطلقا. يلزم مطلقا. التفرقة بين البيع وغيره. فيلزم في النكاح والطلاق ، وهو قول الشافعي في الطلاق قولا واحدا. ولا يلزم في البيع. قال مالك في كتاب محمد : يلزم نكاح الهازل. وقال أبو زيد عن ابن القاسم في العتبية : لا يلزم. وقال علي بن زياد : يفسخ قبل وبعد. وللشافعي في بيع الهازل قولان. وكذلك يخرج من قول علمائنا القولان. وحكى ابن المنذر الإجماع في أن جد الطلاق وهزله سواء. وقال بعض المتأخرين من أصحابنا : إن اتفقا على الهزل في النكاح والبيع لم يلزم ، وإن اختلفا غلب الجد الهزل. وروى أبو داود والترمذي والدارقطني عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثلاث
(8/197)
جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة" . قال الترمذي : حديث حسن غريب ، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم.
قلت : كذا في الحديث "والرجعة" وفي موطأ مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال : ثلاث ليس فيهم لعب النكاح والطلاق والعتق. وكذا روي عن علي بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود وأبي الدرداء ، كلهم قال : "ثلاث لا لعب فيهن ولا رجوع فيهن واللاعب فيهن جاد النكاح والطلاق والعتق" وعن سعيد بن المسيب عن عمر قال : "أربع جائزات على كل أحد العتق والطلاق والنكاح والنذور" وعن الضحاك قال : ثلاث لا لعب ، فيهن النكاح والطلاق والنذور.
الآية : 66 {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}
قوله تعالى : {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} على جهة التوبيخ ، كأنه يقول : لا تفعلوا ما لا ينفع ، ثم حكم عليهم بالكفر وعدم الاعتذار من الذنب. واعتذر بمعنى أعذر ، أي صار ذا عذر. قال لبيد :
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
والاعتذار : محو أثر الموجدة ، يقال : اعتذرت المنازل درست. والاعتذار الدروس. قال الشاعر :
أم كنت تعرف آيات فقد جعلت ... أطلال إلفك بالودكاء تعتذر
وقال ابن الأعرابي : أصله القطع. واعتذرت إليه قطعت ما في قلبه من الموجدة. ومنه عذرة الغلام وهو ما يقطع منه عند الختان. ومنه عذرة الجارية لأنه يقطع خاتم عذرتها.
(8/198)
قوله تعالى : {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} قيل : كانوا ثلاثة نفر ، هزئ اثنان وضحك واحد ، فالمعفو عنه هو الذي ضحك ولم يتكلم. والطائفة الجماعة ، ومقال للواحد على معنى نفس طائفة. وقال ابن الأنباري : يطلق لفظ الجمع على الواحد ، كقولك : خرج فلان على البغال. قال : ويجوز أن تكون الطائفة إذا أريد بها الواحد طائفا ، والهاء للمبالغة. واختلف في اسم هذا الرجل الذي عفي عنه على أقوال. فقيل : مخشي بن حمير ، قاله ابن إسحاق. وقال ابن هشام : ويقال فيه ابن مخشي. وقال خليفة بن خياط في تاريخه : اسمه مخاشن بن حمير. وذكر ابن عبدالبر مخاشن الحميري وذكر السهيلي مخشن بن خمير. وذكر جميعهم أنه استشهد باليمامة ، وكان تاب وسمي عبدالرحمن ، فدعا الله أن يقتل شهيدا ولا يعلم بقبره. واختلف هل كان منافقا أو مسلما. فقيل : كان منافقا ثم تاب توبة نصوحا. وقيل : كان مسلما ، إلا أنه سمع المنافقين فضحك لهم ولم ينكر عليهم.
الآية : 67 {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
قوله تعالى : {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ} ابتداء. {بَعْضُهُمْ} ابتداء ثان. ويجوز أن يكون بدلا ، ويكون الخبر {مِنْ بَعْضٍ}. ومعنى {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} أي هم كالشيء الواحد في الخروج عن الدين. وقال الزجاج ، هذا متصل بقوله : {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} [التوبة : 56] أي ليسوا من المؤمنين ، ولكن بعضهم من بعض ، أي متشابهون في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف. وقبض أيديهم عبارة عن ترك الجهاد ، وفيما يجب عليهم من حق. والنسيان : الترك هنا ، أي تركوا ما أمرهم الله به فتركهم في الشك. وقيل : إنهم تركوا أمره حتى صار كالمنسي قصيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه. وقال قتادة : {نَسِيَهُمْ} أي من الخير ، فأما من الشر فلم ينسهم. والفسق : الخروج عن الطاعة والدين. وقد تقدم.
(8/199)
الآية : 68 {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}
قوله تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ} يقال : وعد الله بالخير وعدا. ووعد بالشر وعيدا {خَالِدِينَ} نصب على الحال والعامل محذوف ، أي يصلونها خالدين. {هِيَ حَسْبُهُمْ} ابتداء وخبر ، أي هي كفاية ووفاء لجزاء أعمالهم. واللعن : البعد ، أي من رحمة الله ، وقد تقدم. {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي واصب دائم.
الآية : 69 {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} قال الزجاج : الكاف في موضع نصب ، أي وعد الله الكفار نار جهنم وعدا كما وعد الذين من قبلهم. وقيل : المعنى فعلتم كأفعال الذين من قبلكم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ، فحذف المضاف. وقيل : أي أنتم كالذين من قبلكم ، فالكاف في محل رفع لأنه خبر ابتداء محذوف. ولم ينصرف "أشد" لأنه أفعل صفة. والأصل فيه أشدد ، أي كانوا أشد منكم قوة فلم يتهيأ لهم ولا أمكنهم رفع عذاب الله عز وجل.
الثانية : روى سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "تأخذون كما أخذت الأمم قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا بباع حتى لو أن أحدا من أولئك دخل
(8/200)
جحر ضب لدخلتموه" . قال أبو هريرة : وإن شئتم فاقرؤوا القرآن : {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ} قال أبو هريرة : والخلاق ، الدين {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ} حتى فرغ من الآية. قالوا : يا نبي الله ، فما صنعت اليهود والنصارى ؟ قال : "وما الناس إلا هم" . وفي الصحيح عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" قالوا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال : "فمن" ؟ وقال ابن عباس : ما أشبه الليلة بالبارحة ، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم. ونحوه عن ابن مسعود.
الثالثة : قوله تعالى : {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ} أي انتفعوا بنصيبهم من الدين كما فعل الذين من قبلهم. {وَخُضْتُمْ} خروج من الغيبة إلى الخطاب. {كَالَّذِي خَاضُوا} أي كخوضهم. فالكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف ، أي وخضتم خوضا كالذين خاضوا. و"الذي" اسم ناقص مثل من ، يعبر به عن الواحد والجمع. وقد مضى في "البقرة" ويقال : خضت الماء أخوضه خوضا وخياضا. والموضع مخاضة ، وهو ما جاز الناس فيها مشاة وركبانا. وجمعها المخاض والمخاوض أيضا ، عن أبي زيد. وأخضت دابتي في الماء. وأخاض القوم ، أي خاضت خيلهم. وخضت الغمرات : اقتحمتها. ويقال : خاضه بالسيف ، أي حرك سيفه في المضروب. وخوض في نجيعه شدد للمبالغة. والمخوض للشراب كالمجدع للسويق ، يقال منه : خضت ، الشراب. وخاض القوم في الحديث وتخاوضوا أي تفاوضوا فيه ، فالمعنى : خضتم في أسباب الدنيا باللهو واللعب. وقيل : في أمر محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب. {أُولَئِكَ حَبِطَتْ} بطلت. وقد تقدم. {أَعْمَالُهُمْ} حسناتهم. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} وقد تقدم أيضا.
(8/201)
الآية : 70 {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
قوله تعالى : {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ} أي خبر {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الألف لمعنى التقرير والتحذير ، أي ألم يسمعوا إهلاكنا الكفار من قبل. {قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} بدل من الذين. {وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ} أي نمرود بن كنعان وقومه. {وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ} مدين اسم للبلد الذي كان فيه شعيب ، أهلكوا بعذاب يوم الظلة. {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} قيل : يراد به قوم لوط ، لأن أرضهم ائتفكت بهم ، أي انقلبت ، قاله قتادة. وقيل : المؤتفكات كل من أهلك ، كما يقال : انقلبت عليهم الدنيا. {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} يعني جميع الأنبياء. وقيل : أتت أصحاب المؤتفكات رسلهم ، فعلى هذا رسولهم لوط وحده ، ولكنه بعث في كل قرية رسولا ، وكانت ثلاث قريات ، وقيل أربع. وقوله تعالى في موضع آخر : {وَالْمُؤْتَفِكَةَ} [النجم : 53] على طريق الجنس. وقيل : أراد بالرسل الواحد ، كقوله : {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون : 51] ولم يكن في عصره غيره.
قلت : وهذا فيه نظر ، للحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الله خاطب المؤمنين بما أمر به المرسلين" الحديث. وقد تقدم في "البقرة". والمراد جميع الرسل ، والله أعلم.
قوله تعالى : {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} أي ليهلكهم حتى يبعث إليهم الأنبياء. {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ولكن ظلموا أنفسهم بعد قيام الحجة عليهم.
الآية : 71 {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
(8/202)
فيه أربع مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أي قلوبهم متحدة في التواد والتحاب والتعاطف. وقال في المنافقين {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} لأن قلوبهم مختلفة ولكن يقسم بعضهم إلى بعض في الحكم.
الثانية : قوله تعالى : {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} أي بعبادة الله تعالى وتوحيده ، وكل ما أتبع ذلك. {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} عن عبادة الأوثان وكل ما أتبع ذلك. وذكر الطبري عن أبي العالية أنه قال : كل ما ذكر الله في القرآن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الأوثان والشياطين. وقد مضى القول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سورة "المائدة" و"آل عمران" والحمد لله.
الثالثة : قوله تعالى : {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} تقدم في أول "البقرة" القول فيه. وقال ابن عباس : هي الصلوات الخمس ، وبحسب هذا تكون الزكاة هنا المفروضة. ابن عطية : والمدح عندي بالنوافل أبلغ ؛ إذ من يقيم النوافل أحرى بإقامة الفرائض.
الرابعة : قوله تعالى : {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ} في الفرائض {وَرَسُولَهُ} فيما سن لهم. والسين في قوله : {سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} مدخلة في الوعد مهلة لتكون النفوس تتنعم برجائه ؛ وفضله تعالى زعيم بالإنجاز.
الآية : 72 {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
(8/203)
قوله تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} أي بساتين {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي من تحت أشجارها وغرفها الأنهار. وقد تقدم في "البقرة" أنها تجري منضبطة بالقدرة في غير أخدود. {خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} قصور من الزبرجد والدر والياقوت يفوح طيبها من مسيرة خمسمائة عام. {فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي في دار إقامة. يقال : عدن بالمكان إذا أقام به ؛ ومنه المعدن. وقال عطاء الخراساني : {جَنَّاتِ عَدْنٍ} هي قصبة الجنة ، وسقفها عرش الرحمن جل وعز. وقال ابن مسعود : هي بطنان الجنة ، أي وسطها. وقال الحسن : هي قصر من ذهب لا يدخلها إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل ؛ ونحوه عن الضحاك. وقال مقاتل والكلبي : عدن أعلى درجة في الجنة ، وفيها عين التسنيم ، والجنان حولها محفوفة بها ، وهي مغطاة من يوم خلقها الله حتى ينزلها الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن يشاء الله. {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي أكبر من ذلك. {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
الآية : 73 {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
فيه مسألتان : -
الأولى : قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وتدخل فيه أمته من بعده. قيل : المراد جاهد بالمؤمنين الكفار. وقال ابن عباس : أمر بالجهاد مع الكفار بالسيف ، ومع المنافقين باللسان وشدة الزجر والتغليظ. وروي عن ابن مسعود أنه قال : جاهد المنافقين بيدك ، فإن لم تستطع فبلسانك ، فإن لم تستطع فاكفهر في وجوههم. وقال الحسن : جاهد المنافقين بإقامة الحدود عليهم وباللسان - واختار قتادة - وكانوا أكثر من يصيب الحدود. ابن العربي : أما إقامة الحجة باللسان فكانت دائمة وأما بالحدود لأن أكثر إصابة الحدود كانت عندهم فدعوى لا برهان
(8/204)
عليها وليس العاصي بمنافق إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق كامنا لا بما تتلبس به الجوارح ظاهرا وأخبار المحدودين يشهد سياقها أنهم لم يكونوا منافقين.
الثانية : قوله تعالى : {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} الغلظ : نقيض الرأفة ، وهي شدة القلب على إحلال الأمر بصاحبه. وليس ذلك في اللسان ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها" . ومنه قوله تعالى : {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران : 159]. ومنه قول النسوة لعمر : أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى الغلظ خشونة الجانب. فهي ضد قوله تعالى : {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء : 215]. {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء : 24]. وهذه الآية نسخت كل شيء من العفو والصلح والصفح.
الآية : 74 {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}
(8/205)
فيه ست مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} روي أن هذه الآية نزلت في الجُلاس بن سويد بن الصامت ، ووديعة بن ثابت ؛ وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : والله لئن كان محمد صادقا على إخواننا الذين هم ساداتنا وخيارنا لنحن شر من الحمير. فقال له عامر بن قيس : أجل والله إن محمدا لصادق مصدق ؛ وإنك لشر من حمار. وأخبر عامر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. وجاء الجلاس فحلف بالله عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم إن عامرا لكاذب. وحلف عامر لقد قال ، وقال : اللهم أنزل على نبيك الصادق شيئا ، فنزلت. وقيل : إن الذي سمعه عاصم بن عدي. وقيل حذيفة. وقيل : بل سمعه ولد امرأته واسمه عمير بن سعد ؛ فيما قال ابن إسحاق. وقال غيره : اسمه مصعب. فهم الجلاس بقتله لئلا يخبر بخبره ؛ ففيه نزل : {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} . قال مجاهد : وكان الجلاس لما قال له صاحبه إني سأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولك هم بقتله ، ثم لم يفعل ، عجز عن ذلك. قال ، ذلك هي الإشارة بقوله ، {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} . وقيل : إنها نزلت في عبدالله بن أبي ، رأى رجلا من غفار يتقاتل مع رجل من جهينة ، وكانت جهينة حلفاء الأنصار ، فعلا الغفاري الجهني. فقال ابن أبي : يا بني الأوس والخزرج ، انصروا أخاكم فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك ، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فجاءه عبدالله بن أبي فحلف أنه لم يقله ؛ قال قتادة. وقول ثالث أنه قول جميع المنافقين ؛ قال الحسن. ابن العربي : وهو الصحيح ؛ لعموم القول ووجود المعنى فيه وفيهم ، وجملة ذلك اعتقادهم فيه أنه ليس بنبي.
الثانية : قوله تعالى : {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} قال النقاش : تكذيبهم بما وعد الله من الفتح. وقيل : "كلمة الكفر" قول الجلاس : إن كان ما جاء به محمد حقا لنحن أشر من الحمير. وقول عبدالله بن أبي : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال القشيري : كلمة الكفر سب النبي صلى الله عليه وسلم والطعن في الإسلام. {وَكَفَرُوا
(8/206)
بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} أي بعد الحكم بإسلامهم. فدل هذا على أن المنافقين كفار ، وفي قوله تعالى : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [المنافقون : 3] دليل قاطع. ودلت الآية أيضا على أن الكفر يكون بكل ما يناقض التصديق والمعرفة ؛ وإن كان الإيمان لا يكون إلا بلا إله إلا الله دون غيره من الأقوال والأفعال إلا في الصلاة. قال إسحاق بن راهويه : ولقد أجمعوا في الصلاة على شيء لم يجمعوا عليه في سائر الشرائع ؛ لأنهم بأجمعهم قالوا : من عُرف بالكفر ثم رأوه يصلي الصلاة في وقتها حتى صلى صلوات كثيرة. ولم يعلموا منه إقرارا باللسان أنه يحكم له بالإيمان ، ولم يحكموا له في الصوم والزكاة بمثل دلك.
الثالثة : قوله تعالى : {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} يعني المنافقين من قتل النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة في غزوة تبوك ، وكانوا اثني عشر رجلا. قال حذيفة : سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عدهم ولهم. فقلت : ألا تبعث إليهم فتقتلهم ؟ فقال : "أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفيهم الله بالدبيلة" . قيل : يا رسول الله وما الدبيلة ؟ قال : "شهاب من جهنم يجعله على نياط فؤاد أحدهم حتى تزهق نفسه" . فكان كذلك. خرجه مسلم بمعناه. وقيل هموا بعقد التاج على رأس ابن أبي ليجتمعوا عليه. وقد تقدم قول مجاهد في هذا.
الرابعة : قوله تعالى : {وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي ليس ينقمون شيئا ؛ كما قال النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
ويقال : نقَم ينقِم ، ونقِم ينقَم ؛ قال الشاعر في الكسر :
ما نقِموا من بني أمية إلا ... أنهم يحلمون إن غضبوا
وقال زهير :
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقَم
(8/207)
ينشد بكسر القاف وفتحها. قال الشعبي : كانوا يطلبون دية فيقضي لهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغنوا. ذكر عكرمة أنها كانت اثني عشر ألفا. ويقال : إن القتيل كان مولى الجلاس. وقال الكلبي : كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم في ضنك من العيش ، لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة ، فلما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم. وهذا المثل مشهور : اتق شر من أحسنت إليه. قال القشيري أبو نصر : قيل للبجلي أتجد في كتاب الله تعالى اتق شر من أحسنت إليه ؟ قال نعم ، {وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} .
الخامسة : قوله تعالى : {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ} روي أن الجلاس قام حين نزلت الآية فاستغفر وتاب. فدل هذا على توبة الكافر الذي يسر الكفر ويظهر الإيمان ؛ وهو الذي يسميه الفقهاء الزنديق. وقد اختلف في ذلك العلماء ؛ فقال الشافعي : تقبل توبته. وقال مالك : توبة الزنديق لا تعرف ؛ لأنه كان يظهر الإيمان ويسر الكفر ، ولا يعلم إيمانه إلا بقوله. وكذلك يفعل الآن في كل حين ، يقول : أنا مؤمن وهو يضمر خلاف ما يظهر ؛ فإذا عثر عليه وقال : تبت ، لم يتغير حاله عما كان عليه. فإذا جاءنا تائبا من قبل نفسه قبل أن يعثر عليه قبلت توبته ؛ وهو المراد بالآية. والله أعلم.
السادسة : قوله تعالى : {وَإِنْ يَتَوَلَّوْا} أي يعرضوا عن الإيمان والتوبة {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً} في الدنيا بالقتل ، وفي الآخرة بالنار. {وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ} أي مانع يمنعهم {وَلا نَصِيرٍ} أي معين. وقد تقدم.
(8/208)