أبوآيه دويمابي برتبة مقدم
عدد الرسائل : 1150
| موضوع: الإصول النفسيه للسلوك السبت 16 يوليو - 23:35 | |
|
الباب الاول: الأصول النفسية للسلوك
الفصل الأول: الاصول المحركة للسلوك
هناك (أصل) عام للسلوك يتجاوزه الباحثون عادة: بصفته بديهة مألوفة، ونعني به مبدأ (البحث عن اللذة والاجتناب عن الالم) حيث تصدر الكائنات البشرية عن هذا المبدأ بعامة. فنحن حيث نجوع مثلاً نبحث عن (لذة) هي (الشبع) ونجتنب ألماً هو (الجوع: متمثلاً في التقلص العضلي للمعدة). وحين تلفنا (العزلة) نبحث عن لذة هي (الانتماء الاجتماعي) ونجتنب ألماً هو: الاحساس المرير بالوحدة أو الوحشة، وحتى حينما نختار (العزلة) مثلاً: فحينئذ نبحث عن لذة الهدوء ونجتنب ألم الضوضاء والصخب الخ.... أقول: اذا تجاوزنا هذه البديهة العامة للسلوك، حينئذ يواجهنا البحث عن (الاصول) المجسدة للمبدأ المذكور من حيث كونها أصولاً تنتسب إلى مفهوم (الغرائز) أو (الحاجات) أو (الدوافع) أو (الميول) أو (البواعث)، ومن حيث كونها فطرية أو مكتسبة أو هي جميعاً، ومن حيث كونها حيوية ونفسية، ومن حيث كونها رئيسة وثانوية... الخ. ويجيء الاصل القائل بأن (الغريزة) هي المجسدة لمبدأ (اللذة) واحداً من النظريات الارضية التي تحاول أن تفسر تقول هذه النظرية (أي نظرية الغريزة): أن الكائن الادمي يصدر عن مجموعة من (الغرائز) تدفعه إلى الحركة والنشاط من نحو غريزة (البحث عن الطعام) (غريزة الاجتماع) (غريزة القتال) الخ... هذه الغرائز قد تكون ذات أصل حيوي مثل (البحث عن الطعام) وقد تكون ذات أصل نفسي مثل (القتال).. وفي الحالتين فان هذه الغرائز تشكل أصلاً (فطرياً) يحمل الادميين على التحرك من خلالها. وقد وضع أحد ممثلي هذا الاتجاه (مكدوكل) قبال كل غريزة استجابة انفعالية خاصة بها مثل: غريزة الطعام ـ انفعالها ـ الجوع. غريزة الاجتماع ـ انفعالها ـ الوحدة. غريزة المقاتلة ـ انفعالها ـ الغضب. الخ... وقد جوبهت هذه النظرية بردود شتى، وفي مقدمتها: الرد الذاهب إلى أن جملة من الغرائز التي ادرجها الباحث المذكور في قائمته، لا تحمل أصلاً (حيوياً) بل هي وليدة (الاكتساب)، فغريزة (المقاتلة) مثلاً لا يمكن درجها تحت عنوان (الغرائز) لان الغريزة تعني ان الانسان مفطور على أن يقاتل، في حين أن النزعة المقاتلة أو النزعة المضادة لها وهي (المسالمة) انما تحددها (البيئة) وليس (الوراثة). وقد عزز هذا الاتجاه وجهة نظره بالدراسات التي أجراها علماء الأقوام على شعوب وقبائل متخلفة اثبتت ـ هذه الدراسات ـ ان المقاتلة والسيطرة والتملك وغيرها من (الأصول النفسية) منعدمة لدى القبائل المذكورة، فهي تتسالم بدلاً من المقاتلة، وتستحق ذاتها بدلاً من حب السيطرة، وتتنازل عن ممتلكاتها بدلاً من حب التملك: مما يعني ـ كما أشرنا ـ إلى ان الأصول النفسية تحددها (البيئة) وليس (الوراثة). والحق: أن كلاً من (نظرية الغرائز) والنظرية المضادة لها تقع في خطأ مماثل: حينما تخلط الاولى بين نمطين من الغرائز (الحيوي والنفسي) وتخضعهما لاصل واحد وحينما تنفي الثانية: الاصل الغريزي أساساً. ان الخطأ الذي غلف النظرية الاولى يتمثل في عدم اصطناعها فارقاً بين أصل حيوي مثل الطعام واصل نفسي مثل السيطرة والمقاتلة والتملك وغيرها: حيث يخضع الاصل الحيوي لإرث فطري لا مناص لنا من اشباعه وإلا تعرض الكائن الادمي للتلف مثلاً، وهذا على الضد من الاصل النفسي: حيث يخضع هذا الاصل إلى طبيعة (البيئة) التي تحدد ذلك: فنحن حين نحس بالرغبة إلى المقاتلة أو التملك: يمكننا أن (نعدّل) أو (نحوّر) هذه الرغبة إلى ما يضادها وهي: نزعة (المسالمة)، والزهد بمتاع الدنيا. إلا أن هذا لا يعني ان الاصل النفسي لا يخضع البته لايّ جهاز فطري، بقدر ما يعني ان الاصل النفسي يخضع للجهاز الفطري بـ (القوة) مقابل الاصل الحيوي الذي يخضع للجهاز الفطري (بالفعل): اننا نرث جهازاً فطرياً (في حالة الجوع مثلاً) يستتبع بالضرورة تقلصاً عضلياً مما يتحتم علينا ازاحة هذا التوتر: بتناول وجبة طعام مثلاً... وهذا ما نقصده بـ (الفعل). وأما (بالقوة) فيعني اننا نمتلك (استعداداً) أو (قابلية) موروثة لأن نصبح ذات يوم (مسالمين) مثلاً أو (عدوانيين). فـ (الاستعداد) أو (القابلية) ذاتها تشكل (إرثاً) فطرياً، أما تحقيقها في (فعل عدواني) أو (مسالم) فأمر خاضع للبيئة الثقافية التي تحملنا على اختيار احدى الممارستين: المسالمة أو العدوان. من هنا فان تسمية (المقاتلة) بـ (غريزة) تظل تسمية مخطئة: طالما لا نولد مزودين بهما، بل نولد مزودين بـ (قابلية) على العدوان أو المسالمة... أما الخطأ الذي غلّف النظرية المضادة للغريزة، فيتمثل في غفلتها عن الفارق بين نمطي الغريزة (الفعل والقوة) حيث تجاهلت كون المسالمة أو العدوان مثلاً فعلين (مكتسبين) خاضعين لأساس (فطري) هو (القابلية) على الصدور عن واحد منهما، لا أنهما (مكتسبان) بصورة مطلقة. في ضوء ما تقدم، يمكننا ان نخلص إلى أن الاصول الحيوية والنفسية تخضعان جميعاً إلى (إرث فطري) أو (غريزي) إلا انّ اولاهما تُجسد إرثاً (فعلياً) والاخرى تجسد إرثاً (بالقوة) كما أشرنا. بيد ان ما تجدر ملاحظته هنا هو: ان البحث عن الاصول المحركة للسلوك ينبغي (في ضوء التصور الاسلامي) إلاّ تطرح من خلال (نظرية الغرائز) أو ما يضادها، بل من خلال البحث عن (اصل عام) يسبق البحث عن الغرائز أو تصنيفها إلى ما هو حيوي أو نفسي، وهو ما نستهدف معالجته في هذا الحقل... يقول الامام علي ـ عليه السلام ـ: ((ان الله ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركّب في بني آدم كليهما. فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم))(1). ان هذا النص الاسلامي يحدد لنا الاصل المحرك للسلوك من خلال سمة رئيسية تطبع (الاصل) المذكور، وهي سمة (الثنائية) في هذا الاصل، بمعنى أن هناك طرفين يتجاذبان الكائن الآدمي في بحثه عن اللذة واجتنابه عن الألم، هما: (العقل والشهوة) أو الخير والشر أو الموضوعية والذاتية، أو الاوامر والنواهي الشرعية. هذا التركيب الثنائي الذي يرثه الفرد فطرياً: يجسد الجانب (الوجداني) من الارث،... ويقابله جانب (ادراكي) من الارث هو الوعي بمباديء كل من (العقل) و(الشهوة)، بمعنى أن الشخص حينما رُكّب فيه (الاستعداد) أو (القابلية) على ممارسة الخير أو الشرّ (العقل والشهوة): قد رُكّب فيه أيضاً (ادراك) كلٍ من الخير والشر، حتى تصبح ممارسته للسلوك خاضعة لعملية (اختيار) وليس لعملية (إجبار) مما يترتب على ذلك تحمل مسؤولية السلوك الذي يمارسه. وقد أشار النص القرآني الكريم إلى هذا الجانب (الادراكي) بوضوح عبر قوله تعالى: (ونفسٍ وما سَوّاها فألهمَها فُجُورها وتَقْواها). ومعنى (إلهامها الفجور والتقوى) هو الادراك لمباديء الشهوة (الفجور) والعقل (التقوى). إذا: التركيب الثنائي الذي يرثه الفرد: حيث يشكل المحرك الاساس للسلوك قد وازنه ـ من الطرف الآخر ـ (وعي) بطبيعة هذا التركيب (العقل والشهوة). والسؤال هو: أولاً: ما هو الفارق بين كل من (العقل) و(الشهوة)؟ ثم: هل ان كلاً من (اللذة) التي يجسدها (العقل والشهوة) متكافئة من حيث الفاعلية أم ان أحداهما أشد فاعلية من الاخرى؟ ________________________________________ (1) الوسائل، باب (9) ح (2) جهاد النفس. الاجابة على هذا السؤال تتحدد بوضوح في الحقول اللاحقة من هذا الكتاب، إلا اننا نضطر هنا أن نشير ـ ولو عابراً ـ الى هذا الجانب ما دمنا نتحدث عن (الاصل الثنائي) المحرّك للسلوك البشري. إن الفارق بين اللذة التي تجسّدها (الشهوة) وبين اللذة التي يجسدها (العقل) يتمثل في أن الشهوة تبحث عن (الاشباع المطلق) دون أن تخضعه للضوابط أو القوانين المرسومة لها: أما (العقل) فيبحث عن (الاشباع النسبي أو المقيد) بالقواعد المرسومة لها. طبيعيّاً إنّ الاشباع المطلق لا يمكن تحقيقه للشخصية: نظراً لطبيعة الحياة التي تقف حاجزاً عن ذلك (كما لو أفترضنا أن أحد الاشخاص بحث عن الاشباع المطلق لدافع السيطرة متمثلاً في طموحه لان يصبح رئيساً للدولة، أو الاشباع المطلق لدافع التملك متمثلاً: في طموحه لتجميع ثروة ضخمة، أو الاشباع المطلق لدافع الجنس: متمثلاً في اقترانه بأجمل أنثى مثلاً...). ان امثلة هذا الاشباع (المطلق) لا يمكن تحقيقه ـ كما قلنا ـ كما ان امكانية تحقيق الاشباع المطلق في مجالات محددة (كما لو أفترضنا تناول أحد الاشخاص لأشهى الاطعمة واكثرها انواعاً ومقادير، تصل به إلى التخمة مثلاً) سوف يستجرّ (ألماً) بدلاً من (اللذة) متمثلاً في المرض الذي تسببه التخمة المشار إليها، .. وهذا يعني ان البحث عن (الاشباع المطلق) لا يحقق هدف الشخصية، مما يترتب على ذلك أن يظل (الاشباع النسبي) هو الاختيار الوحيد للكائن الانساني. يترتب على ذلك أيضاً، ان (الاشباع النسبي) يحقق قدراً أكبر حجماً من القدر الذي يمكن للاشباع المطلق أن يحققه في هذا الميدان. فاذا عدنا الى المثال السابق وافترضنا أن الاشباع النسبي يتحقق في تناول (وجبة عادية) من الطعام لا تصل إلى الارواء الكامل: حينئذ فإن الصحة الجسمية التي سوف يكتسبها الشخص: تحقق اشباعاً لا يمكن أن تحققه (التخمة) التي تستجرّه إلى المرض كما أشرنا. وقد أوضح الامام علي ـ عليه السلام ـ هذا الجانب: حينما وازن بين مباديء (العقل والشهوة) في نص نفسي آخر، حيث تحدث عن الشهوة قائلاً: ((الخطايا (وهي: الشهوة) خيل شُمس حمل عليها وخلعت لجمها)). وتحدث عن الطرق الآخر، (العقل) قائلاً: ((التقوى (وهي: العقل) مطايا ذلل حُمل عليها أهلها وأعطوا أزّمتها))(1). هذا النص يشير بوضوح إلى أن البحث عن (الاشباع المطلق)، يشبه الحصان الذي خلع لجامه: فيما يقتاد الراكب إلى ما فيه هلاكه، وهذا على الضد من البحث عن (الاشباع النسبي) فيما يمسك الراكب الزمام مبتعداً بذلك عن الطرق المحفوفة بالهلاك... نستخلص من هذا ان الاشباع النسبي أو ما يمكن أن نسميه (بالاشباع الموضوعي) أو (المقيّد) بالقوانين المرسومة للشخص، أو ما أطلق عليه الامام علي ـ عليه السلام ـ مصطلح (العقل) يقترن بلذّة أشدّ اشباعاً من اللذة التي تحققها (الشهوة)... كل ما في الامر ان تحقيق هذا الاشباع يتوقف على أن يمارس الشخص عملية (تأجيل) للشهوة أو الاشباع العاجل، بالنحو الذي طالب من خلاله الامام ـ عليه السلام ـ أن يمارس الشخص عملية (تغليب) للعقل على (الشهوة)، وهو أمر يقتادنا إلى الاجابة على السؤال الآخر الذي طرحناه سابقاً وهو: هل أنّ اللذة التي يجسّدها (العقل)، و(الشهوة) متكافئة من حيث الفاعلية أم ان أحداهما أشدّ فاعلية من الأخرى؟ حيث نستخلص بوضوح أن اللذة (العقلية) تقترن بفاعلية أشد من اللذة (الشهوية)، وهو ما لحظناه في النص الاسلامي الذي وازن بين اعطاء الزمام وبين السيطرة عليه... بيد أن هذا لا يمنعنا من الذهاب إلى ان اللذة الشهوية أشدّ (إلحاحاً) من اللذة العقلية: وان كانت هذه الآخرة أشد (تفاعلية)، لان ممارسة التأجيل للشهوة تعني كونها أشد إلحاحاً من اللذة العقلية وإلاّ لما كان للمطالبة بتغليب (العقل) على (الشهوة) أيّ معنًى، فالباحث عن الامتاع الجنسي مثلاً لابد أن يتحسّس بأن المنبّه الجنسي أشد إلحاحاً عليه من المنبّه العقلي: لذلك إمّا ان يمارس ما هو غير مشروع تحقيقاً للاشباع، أو يمارس عملية مقاومة وتغليب وتأجيل للرغبة الجنسية المذكورة. وفي الحالتين ثمة (إلحاح) من الجانب الشهوي ________________________________________ (1) نهج البلاغة، خطبة (15) ـ ص (54) منشورات الاعلمي. يدفعه إلى الاستسلام له أو مقاومته. بيد ان هذا الالحاح من الجانب الشهوي لا يعني كونه أشد فاعلية أو تأثيراً من الجانب العقلي كما أشرنا بقدر ما يعني كونه أشد إغراءً،... وهذا الاغراء سرعان ما يفقد فاعليته اذا مارس الشخص (تدريباً) على مقاومته بحيث يحدث العكس تماماً في عملية التدريب المشار إليها، وهو ما تقررة الآية الكريمة بوضوح حينما تقول: (ان كيد الشيطان كان ضعيفاً) كما ان النبيّ ـ صلى الله عليه وآله ـ ألقى انارة كاملة على هذه الظاهرة، حينما أوضح انّ عملية تأجيل (الشهوة)، وأبدالها باللذة (العقلية) (أي: التدريب على الجانب العقلي من اللّذة) سوف يستتبع نفور الشخص من الجانب (الشهوي) للّذة: حيث قررّ ـ صلى الله عليه وآله ـ بأنه يتشعب: (من المداومة على الخير: كراهية الشر)(1). إن هذا النص الاسلامي الخطير يفصح عن قاعدة لا تزال غائبة عن علم النفس الارضي فيما يتصل بالجانب (العقلي) من اللّذة، ألا وهي: إمكانية النفور من الجانب الشهوي للّذة: في حالة التدريب على ممارسة السلوك الموضوعي (أي المقيّد بالقوانين أو الضوابط المرسومة للشخص)... بل يمكن القول: أن الآية الكريمة التي تقرر بأن الله تعالى قد حببّ الايمان في النفس، وكرّه الفسوق والعصيان والكفر: يمكن القول بأن هذا النص صريح في تقرير الحقيقة النفسية القائلة بأن (اللذة المقيدة) أو (العقلية): ليس أنها أشد فاعلية من اللذة المتحررة من القيد فحسب، بل إن اللذة المتحررة تتحوّل إلى ما يضادها وهو (الالم) طالما تظل (الكراهية) التي أشارت الآية الكريمة إلى أنها تتجه نحو الكفر (وهو: الشهوة): تعبيراً عن (الالم) كما هو واضح. من هنا يمكننا أن ندرك الفارق بين علم النفس الارضي وبين التصور الاسلامي لهذه الظاهرة. فالاتجاهات الارضية بالرغم من ان بعضها يتوافق مع الاتجاه الاسلامي في ذهابه إلى ان الجانب العقلي أشد فاعلية من الشهوي، مثل ما نلحظه لدى ممثّلي ما يسمى بـ (الاتجاه الانساني في علم النفس) حيث يؤكد أحد ممثليه المعاصرين (ماسلو): الحقيقة ________________________________________ (1) البحار، ص (117) ج (1) العقل والجهل. الذاهبة إلى ان الانسان (خيّر) بطبعه، أو انه ـ لا أقل ـ يتسم بحياد الأصل، وإلى أن (تنمية) هذا الاصل يقتاده إلى الكمال... لكن مقابل ذلك، نجد ان هناك اتجاهات أرضية أخرى تقف على الضد من ذلك، حيث تقع في مفارقة علمية ضخمة حينما تصوّر طرفي (التجاذب) في الطبيعة الانسانية وكأنهما قائمان: على حقيقة أن الطرف الباحث عن اللّذة أشدّ فاعلية من الطرف الكابح لها: حتى في حالات التدريب على ذلك. ولعل نظرية (فرويد) في أبنية الشخصية تجسّد قمة المفارقة المذكورة في هذا الميدان. لقد قسّمت هذه النظرية كما هو معروف أبنية الشخصية إلى ثلاثة (ألهو) (الأنا) (الأنا الأعلى). أما (ألهو) فيجسّد مجموعة (الغرائز) التي تبحث عن الاشباع المطلق. وأمّا (الأنا) فمهمّته: كبح غرائز (الهو) في ضوء مبدأ (الواقع)، أي أنه ينظم طرائق الأشباع وفق متطلبات الواقع بما تكتنفه من معايير وقواعد. إلا ان المهمة المذكورة جزء من مهمة أخرى تتعامل مع عنصر آخر هو (الأنا الاعلى): تحاول (الأنا) أن توفق بين مطالب هذا الآخر أيضاً (الأنا الأعلى) وبين المطالب المشار إليها (الهو والواقع). فاذا افترضنا أن شخصاً ما قد واجهه (مثير جنسي) مثلاً: فأن (الهو) يستحثّه لتحقيق الاشباع المطلق، لكن بما أنّ الشخص المذكور يمتلك (جهازاً قيمياً) خاصاً (الانا الاعلى) فأن هذا الجهاز يمنعه من تحقيق الاشباع المطلق. مضافاً لذلك، فأن النظام الاجتماعي (مبدأ الواقع) بما تكتنفه من قواعد وآداب عامة، يمنعه أيضاً من هذا الاشباع: حتى لو افترضنا أن بعض طرائق الاشباع منسجمة مع الجهاز القيمي المذكور. وهذا يعني أن مهمة (الأنا) تتجسد في محاولات التوفيق بين ثلاثة مطالب (الهو) (الأنا الاعلى) (الواقع). إن ما نعتزم مناقشته (في ضوء التصور الاسلامي) هو: أولاً تحديد علاقة (الهو) بصفته مجسداً للغرائز أو الشهوة بـ (مبدأ الواقع) والطريقة التي يسلكها (الأنا) في تعامله مع (الواقع) المذكور. إن أهم نقد يمكن أن يوجّه لمبدأ (الواقع) هو: إن المبدأ المذكور يظل وكأنه نمط من (الأكراه) وليس طرفاً آخر من طرفي التجاذب في الطبيعة البشرية: فقد لحظنا أن الامام علياً ـ عليه السلام ـ قد أوضح بأنّ كلاً من (الشهوة) و(العقل) يمثّلان بحثاً عن اللذة واجتناباً عن الالم، وأن النص القرآني والنبوي قد أوضحا بأن اللذّة العقلية أشد فاعلية من اللذة الشهوية: في حالة التدريب على الاولى: بينما نلحظ أن نظرية (مبدأ الواقع) تفترض أن (الأنا) يضطلع بمهمة الضبط لغرائز (الهو) من خلال الخضوع لعامل خارجي مفروض على الشخصية (وهو مبدأ الواقع) وليس لعامل فطري هو (اللذة العقلية) التي (تنفر) من الاشباع المطلق أو (تكرهه) حسب التعبير القرآني والنبوي. يدلنا على ذلك، أن صاحب النظرية المذكورة يشبّه (الأنا) بالفارس على ظهر الحصان. ألا ان الفارس (يُجْبَر) ـ كما يقول صاحب النظرية نفسه ـ على أن يوجّه الحصان الوجهة التي ينشدها الحصان وليس الفارس. وكم هو الفارق بين التصور الاسلامي الذي قدّم صورة تشبيهية عن الفارس وقد أعطي الزمام بيده، وبين الصورة التشبيهية التي قدمها الباحث الارضي عن الفارس وقد ترك الزمام للحصان يوجّه به الفارس، مما يترتب على ذلك أن يظل الكائن الادمي نهباً لغرائز (الهو ـ الشهوة) توجهه حيث تشاء، وهو أمر اضطر صاحب النظرية المذكور إلى ان يقر من خلاله بأن الكائن الادمي محكوم عليه بالخسارة من صراعه المرير مع الحياة: بالرغم من مختلف المحاولات التي رسمها الباحث المذكور لمعالجة الموقف. ومن البيّن أن السّر في وجهة النظر التشاؤمية المذكورة، كامن وراء جهل صاحب النظرية بمباديء المقاومة أو الكبح التي تخيّلها (مفروضة) على الشخصية: مع إن طبيعة النشاط الذي يقوم (الأنا) به ـ وفقاً للنظرية ذاتها ـ لابد أن ترتكن إلى أساسٍ من (اللذّة العقلية) التي تجاهلها الباحث المذكور. ونحن بمقدورنا أن نسأل: لماذا تحاول (الأنا) إرضاء (الواقع): ما دمنا نعرف بأن محاولة إرضاء (الواقع) مرتبطة بظاهرة (الثواب والعقاب الاجتماعيين) بمعنى أن الكائن الادمي يخشى معاقبة المجتمع ويتطلّع إلى ثوابه لكي يحقق إشباعاً لاحدى حاجاته أو دوافعه وهي الحاجة إلى التقدير الاجتماعي، ولذلك يحاول إرضاء (الواقع) حتى يتجنب الالم الناجم من معاقبة المجتمع إياه، وحتى يحقّق (اللذّة) الناجمة من تقديره إياه: مع ملاحظة أن تحقيق أمثلة هذا اللذة لم يكن ليتيسر: لولا طبيعة التركيب الثنائي الذي أشار المشرّع الاسلامي إليه بحيث تجسّد المتعة العقلية أحد طرفي التركيب، أي أنها تستند إلى (أصل فطري) وليس إلى عنصر خارجي مفروض على الشخصية... وهذا فيما يتصل بمبدأ الواقع.. وحين نتجه إلى (الأنا الأعلى) نجده بدوره ـ في تصور الباحث الارضي المذكور ـ وكأنه (مفروض) على الشخصية وليس أصلاً فطرياً قائماً على البحث الموضوعي عن اللذة، مما يترتب على ذلك أيضاً: إمكانية انتصار غرائز (الهو) في نهاية المطاف. وبالرغم من أن صاحب النظرية يحاول أن يضع لـ (الأنا الاعلى) أصلاً فطرياً، الا أن هذا (الأصل) نفسه يصوّره الباحث المذكور وكأنه قائم على (الاكراه) كما أشرنا. ويمكننا أن نقف على هذه الحقيقة إذا حاولنا الوقوف على طبيعة التفسير الذي يقدمه هذا الباحث عن نشأة التركيبة البشرية وتطوّرها: يقرّر هذا الباحث، ان الانسان البدائي، أو إنسان ما قبل التاريخ كان ذا تركيبة بسيطة لا تُعنى إلاّ بغرائز (ألهو) يشبعها حيث يشاء حيث لم تكن ثمة مبادىء أو ضوابط مقررة. لقد كان أشبه بالحيوان في افتراسه للادميين في اشباع حاجاته الرئيسية: كان متمثلاً في أب متوحش يستأثر بالإناث ويطرد أبناءه. وفي ذات يوم يقرر الأبناء المطرودون قتل أبيهم والتهامه حتى يضعوا حداً لاستئثاره المذكور. ولكي لا تتكرر المأساة جديداً: بدأت أولى المحاولات في إنكار غرائز (الهو) وتحريمها وفي مقدمتها: غشيان المحارم. من هذا المنعطف بالذات: بدأ نشوء (الأنا الاعلى): فعملية قتل الاب استتلت أول (احساس بالذنب). كما انّ إنكار الغرائز استتلى أولى عمليات (الكبت). ثم توالت عمليات إنكار الغرائز حتى اصبحت بمرور الزمن ميراثاً فطرياً يمدّ (الأنا الاعلى) بجهاز قيمي خاص يرثه (النوع الانساني) بأكمله. طبيعياً، أن شطراً من (الانا الاعلى) تحدده التنشئة، بيد ان الشطر الآخر منه المتمثل في (الاحساس بالذنب) و(انكار الغرائز) هو الذي يعنينا الآن ان نعقّب عليه في ضوء التفسير الاسطوري الذي قدمه الباحث المذكور. هنا نطرح ذات السؤال الذي طرحناه عند حديثنا عن (مبدأ الواقع) فتساءل لماذا صدر (انسان ما قبل التاريخ) عن (الاحساس بالذنب)، ولماذا أنكر غرائزه! ألم يكن (الاحساس بالذنب) أصلاً فطرياً، أو جزءاً من التركيبة الثنائية للكائن الادمي فيما تتجاذبه (الشهوة والعقل) بحيث يجسد (الاحساس بالذنب) تعبيراً عن اللذة العقلية التي تنكر (القتل) وتجد في (المسالمة) لذة عقلية؟ ان المسالمة لو لم تقترن بلذة عقلية لما كان للاحساس بالذنب أيّ مسّوغ على الاطلاق، بل كان من الممكن أن تمضي جريمة قتل الاب (حسب منطق الاسطورة) بدون أن يرافقها أيّ ندم. ثم، لماذا أنكر المجتمع البدائي ـ بعد عملية القتل ـ غرائزة؟ ألم يكن هذا الانكار تعبيراً عن لذة عقلية: قد يحكمها مبدأ (الثواب والعقاب) الاجتماعيين ما دام الانكار المذكور ـ كما يرى الباحث نفسه ـ ثمناً للتقدم الحضاري، وإلا كان من الممكن ان لا يتم انكار الغرائز ولو لم يكن الإنكار نفسه مستنداً إلى لذّة عقلية تتحسسها (الذات) حتى لو كانت بمنأى عن الثواب الاجتماعي بل لمجرّد قناعتها بالفائدة الاجتماعية للانكار المذكور. إذاً حتى مع افتراض صحة هذا التفسير التأريخي (وهو تفسير مضاد للعمليات الاجتماعية التي صاحبها الاحساس بالذنب وانكار الغرائز: بدأً من آدم وزوجته، مروراً بابني آدم، في حادثة القتل لأحدهما وامتناع الآخر عن القتل: حيث تفصح هذه العمليات الاجتماعية المبكرة تاريخياً: عن انكار الغرائز والصدور عن الاحساس بالذنب). أقول: حتى مع افتراض صحة التفسير الذي قدّمه الباحث الارضي المذكور، يظل انكار الغرائز والاحساس بالذنب: إفصاحاً عن (لذة عقلية) تحمل صاحبها على الصدور عنهما: وليس عنصراً خارجياً (مفروضاً) على الشخصية. خلاصة الفصل: هناك (أصل محرّك) للطبيعة البشرية يقف وراء نشاط الكائن الادمي بأكمله... هذا الاصل يقوم على طبيعة (ثنائية) تتجاذب الكائن المذكور في بحثه عن اللذة، طرفا التجاذب هما: (العقل والشهوة) أو (الخير والشر) أو (الموضوعية والذاتية) حيث يمثل الطرف الاول بحثاً عن الاشباع المقيد بالمبادىء التي تقررها السماء (التقوى)، ويمثل الطرف الآخر بحثاً عن الاشباع المطلق غير المرتبط بالمبادىء (الفجور). يواكب هذا الاصل النفسي، (أصل ادراكي) قائم على قابلية التمييز بين مبادىء العقل والشهوة (وهو الهام التقوى والفجور)... وبالرغم من أن طرفي التجاذب يحملان سمة (التوازن) إلاّ أن الجانب (الشهوي) أشد إلحاحاً. وبالرغم من هذه الحقيقة فإن فاعلية (اللذة العقلية) تفرض حقيقتها تبعاً لما قرّره القرآن الكريم من أن الله تعالى (حبّب) الايمان في النفوس و(كرّه) الكفر إليها كما ان التدريب على الطرف (العقلي) يستتبع النفور من الطرف، (الشهوي)، والعكس هو الصحيح أيضاً: وفقاً لما سنفصل الحديث عنه في الحقول اللاحقة من هذا الكتاب... العمليات النفسية في ضوئها. | |
|