المجلد السابع
بسم الله الرحمن الرحيم
2- سورة الأنفال الآية : 26 {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
قوله تعالى : {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} قال الكلبي : نزلت في المهاجرين ؛ يعني وصف حالهم قبل الهجرة وفي ابتداء الإسلام. {مُسْتَضْعَفُونَ} نعت. {فِي الْأَرْضِ} أي أرض مكة. {تَخَافُونَ} نعت. {أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ} في موضع نصب. والخطب : الأخذ بسرعة. {النَّاسُ} رفع على الفاعل. قتادة وعكرمة : هم مشركو قريش. وهب بن منبه : فارس والروم. {فَآوَاكُمْ} قال ابن عباس : إلى الأنصار. السدي : إلى المدينة ؛ والمعنى واحد. أوى إليه "بالمد" : ضم إليه. وأوى إليه "بالقصر" : انضم إليه. {وَأَيَّدَكُمْ} قواكم. {بِنَصْرِهِ} أي بعونه. وقيل : بالأنصار. وقيل : بالملائكة يوم بدر. {مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أي الغنائم. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} قد تقدم معناه.
الآية : 27 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
روي أنها نزلت في أبي لبابة بن عبدالمنذر حين أشار إلى بني قريظة بالذبح. قال أبو لبابة : والله ما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله ؛ فنزلت هذه الآية. فلما نزلت شد نفسه إلى سارية من سواري المسجد ، وقال : والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت ، أو يتوب الله علي. الخبر مشهور. وعن عكرمة قال : لما كان شأن قريظة بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه فيمن كان عنده من الناس ؛ فلما انتهى إليهم وقعوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجاء جبريل عليه السلام على فرس أبلق فقالت عائشة رضي الله عنها : فلكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه
(7/394)
جبريل عليهما السلام ؛ فقلت : هذا دحية يا رسول الله ؟ فقال : "هذا جبريل عليه السلام" . قال : "يا رسول الله ما يمنعك من بني قريظة أن تأتيهم" ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فكيف لي بحصنهم" ؟ فقال جبريل : "فإني أدخل فرسي هذا عليهم" . فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا معروري ؛ فلما رآه علي رضي الله عنه قال : يا رسول الله ، لا عليك ألا تأتيهم ، فإنهم يشتمونك. فقال : "كلا إنها ستكون تحية" . فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "يا إخوة القردة والخنازير" فقالوا : يا أبا القاسم ، ما كنت فحاشا! فقالوا : لا ننزل على حكم محمد ، ولكنا ننزل على حكم سعد بن معاذ ؛ فنزل. فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بذلك طرقني الملك سحرا" . فنزل فيهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. نزلت في أبي لبابة ، أشار إلى بني قريظة حين قالوا : ننزل على حكم سعد بن معاذ ، لا تفعلوا فإنه الذبح ، وأشار إلى حلقه. وقيل : نزلت الآية في أنهم يسمعون الشيء من النبي صلى الله عليه وسلم فيلقونه إلى المشركين ويفشونه. وقيل : المعنى بغلول الغنائم. ونسبتها إلى الله ؛ لأنه هو الذي أمر بقسمتها. وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه المؤدي عن الله عز وجل والقيم بها. والخيانة : الغدر وإخفاء الشيء ؛ ومنه : {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} [غافر : 19] وكان عليه السلام يقول : "اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع ومن الخيانة فإنها بئست البطانة" . خرجه النسائي عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ؛ فذكره. {وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} في موضع جزم ، نسقا على الأول. وقد يكون على الجواب ؛ كما يقال : لا تأكل السمك وتشرب اللبن. والأمانات : الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد. وسميت أمانة لأنها يؤمن معها من منع الحق ؛ مأخوذة من الأمن. وقد تقدم في "النساء" القول في أداء الأمانات والودائع وغير ذلك. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي ما في الخيانة من القبح والعار. وقيل : تعلمون أنها أمانة.
(7/395)
الآية : 28 {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}
قوله تعالى : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} كان لأبي لبابة أموال وأولاد في بني قريظة : وهو الذي حمله على ملاينتهم ؛ فهذا إشارة إلى ذلك. {فِتْنَةٌ} أي اختبار ؛ امتحنهم بها. {وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} فآثروا حقه على حقكم.
الآية : 29 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}
قد تقدم معنى {التقوى}. وكان الله عالما بأنهم يتقون أم لا يتقون. فذكر بلفظ الشرط ؛ لأنه خاطب العباد بما يخاطب بعضهم بعضا. فإذا اتقى العبد ربه - وذلك باتباع أوامره واجتناب نواهيه - وترك الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات ، وشحن قلبه بالنية الخالصة ، وجوارحه بالأعمال الصالحة ، وتحفظ من شوائب الشرك الخفي والظاهر بمراعاة غير الله في الأعمال ، والركون إلى الدنيا بالعفة عن المال ، جعل له بين الحق والباطل فرقانا ، ورزقه فيما يريد من الخير إمكانا. قال ابن وهب : سألت مالكا عن قوله سبحانه وتعالى : {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} قال : مخرجا ، ثم قرأ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق : 2]. وحكى ابن القاسم وأشهب عن مالك مثله سواء ، وقاله مجاهد قبله. وقال الشاعر :
مالك من طول الأسى فرقان ... بعد قطين رحلوا وبانوا
وقال آخر :
وكيف أرجي الخلد والموت طالبي ... وما لي من كأس المنية فرقان
ابن إسحاق : {فُرْقَاناً} فصلا بين الحق والباطل ؛ وقال ابن زيد. السدي : نجاة. الفراء : فتحا ونصرا. وقيل : في الآخرة ، فيدخلكم الجنة ويدخل الكفار النار.
(7/396)
الآية : 30 {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}
هذا إخبار بما اجتمع عليه المشركون من المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم في دار الندوة ؛ فاجتمع رأيهم على قتله فبيتوه ، ورصدوه على باب منزل طول ليلتهم ليقتلوه إذا خرج ؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه ، ودعا الله عز وجل أن يعمى عليهم أثره ، فطمس الله على أبصارهم ، فخرج وقد غشيهم النوم ، فوضع على رؤوسهم ترابا ونهض. فلما أصبحوا خرج عليهم علي فأخبرهم أن ليس في الدار أحد ، فعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فات ونجا. الخبر مشهور في السيرة وغيرها. ومعنى {لِيُثْبِتُوكَ} ليحبسوك ؛ يقال : أثبته إذا حبسته. وقال قتادة : {لِيُثْبِتُوكَ} وثاقا. وعنه أيضا وعبدالله بن كثير : ليسجنوك. وقال أبان بن تغلب وأبو حاتم : ليثخنوك بالجراحات والضرب الشديد. قال الشاعر :
قلت ويحكما ما في صحيفتكم ... قالوا الخليفة أمسى مثبتا وجعا
{أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} عطف. {وَيَمْكُرُونَ} مستأنف. والمكر : التدبير في الأمر في خفية. {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ابتداء وخبر. والمكر من الله هو جزاؤهم بالعذاب على مكرهم من حيث لا يشعرون.
الآية : 31 {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}
نزلت في النضر بن الحارث ؛ كان خرج إلى الحيرة في التجارة فاشترى أحاديث كليلة ودمنة ، وكسرى وقيصر ؛ فلما قص رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبار من مضى قال النضر : لو شئت لقلت مثل هذا. وكان هذا وقاحة وكذبا. وقيل : إنهم توهموا أنهم
(7/397)
يأتون بمثله ، كما توهمت سحرة موسى ، ثم راموا ذلك فعجزوا عنه وقالوا عنادا : إن هذا إلا أساطير الأولين. وقد تقدم.
الآية : 32 {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
القراء على نصب {الْحَقَّ} على خبر {كَانَ}. ودخلت {هُوَ} للفصل. ويجوز {هُوَ الْحَقَّ} بالرفع. {مِنْ عِنْدِكَ} قال الزجاج : ولا أعلم أحدا قرأ بها. ولا اختلاف بين النحويين في إجازتها ولكن القراءة سنة ، لا يقرأ فيها إلا بقراءة مرضية. واختلف فيمن قال هذه المقالة ؛ فقال مجاهد وابن جبير : قائل هذا هو النضر بن الحارث. أنس بن مالك : قائله أبو جهل ؛ رواه البخاري ومسلم. ثم يجوز أن يقال : قالوه لشبهة كانت في صدورهم ، أو على وجه العناد والإبهام على الناس أنهم على بصيرة ، ثم حل بهم يوم بدر ما سألوا. حكي أن ابن عباس لقيه رجل من اليهود ؛ فقال اليهودي : ممن أنت ؟ قال : من قريش. فقال : أنت من القوم الذين قالوا : {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} الآية. فهلا عليهم أن يقولوا : إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له! إن هؤلاء قوم يجهلون. قال ابن عباس : وأنت يا إسرائيلي ، من القوم الذين لم تجف أرجلهم من بلل البحر الذي أغرق فيه فرعون وقومه ، وأنجى موسى وقومه ؛ حتى قالوا : {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف : 138] فقال لهم موسى : {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف : 138] فأطرق اليهودي مفحما. {فَأَمْطِرْ} أمطر في العذاب. ومطر في الرحمة ؛ عن أبي عبيدة. وقد تقدم.
الآية : 33 {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}
(7/398)
لما قال أبو جهل : {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} الآية ، نزلت {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} كذا في صحيح مسلم. وقال ابن عباس : لم يعذب أهل قرية حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم منها والمؤمنون ؛ يلحقوا بحيث أمروا. {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} ابن عباس : كانوا يقولون في الطواف : غفرانك. والاستغفار وإن وقع من الفجار يدفع به ضرب من الشرور والإضرار. وقيل : إن الاستغفار راجع إلى المسلمين الذين هم بين أظهرهم. أي وما كان الله معذبهم وفيهم من يستغفر من المسلمين ؛ فلما خرجوا عذبهم الله يوم بدر وغيره ؛ . قاله الضحاك وغيره. وقيل : إن الاستغفار هنا يراد به الإسلام. أي {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي يسلمون ؛ قاله مجاهد وعكرمة. وقيل : {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي في أصلابهم من يستغفر الله. روي عن مجاهد أيضا. وقيل : معنى {يَسْتَغْفِرُونَ} لو استغفروا. أي لو استغفروا لم يعذبوا. استدعاهم إلى الاستغفار ؛ قاله قتادة وابن زيد. وقال المدائني عن بعض العلماء قال : كان رجل من العرب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مسرفا على نفسه ، لم يكن يتحرج ؛ فلما أن توفي النبي صلى الله عليه وسلم لبس الصوف ورجع عما كان عليه ، وأظهر الدين والنسك. فقيل له : لو فعلت هذا والنبي صلى الله عليه وسلم حي لفرح بك. قال : كان لي أمانان ، فمضى واحد وبقي الآخر ؛ قال الله تبارك وتعالى : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ " فهذا أمان. والثاني {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.
الآية : 34 {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}
قوله تعالى : {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} المعنى : وما يمنعهم من أن يعذبوا. أي إنهم مستحقون العذاب لما ارتكبوا من القبائح والأسباب ، ولكن لكل أجل كتاب ؛ فعذبهم الله
(7/399)
بالسيف بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك نزلت : {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج : 1] وقال الأخفش : إن {أن} زائدة. قال النحاس : لو كان كما قال لرفع {يُعَذِّبَهُمُ}. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي إن المتقين أولياؤه.
الآية : 35 {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}
الآية : 36 {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}
الآية : 37 {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
قال ابن عباس : كانت قريش تطوف بالبيت عراة ، يصفقون ويصفرون ؛ فكان ذلك عبادة في ظنهم والمكاء : الصفير. والتصدية : التصفيق ؛ قاله مجاهد والسدي وابن عمر رضي الله عنهم. ومنه قول عنترة :
وحليل غانية تركت مجدلا ... تمكو فريصته كشدق الأعلم
أي تصوت. ومنه مكت أست الدابة إذا نفخت بالريح. قال السدي : المكاء الصفير ، على لحن طائر أبيض بالحجاز يقال له المكاء. قال الشاعر :
إذا غرد المكاء في غير روضة ... فويل لأهل الشاء والحمرات
قتادة : المكاء ضرب بالأيدي ، والتصدية صياح. وعلى التفسيرين ففيه رد على الجهال من الصوفية الذين يرقصون ويصفقون ويصعقون. وذلك كله منكر يتنزه عن مثله العقلاء ، ويتشبه فاعله بالمشركين فيما كانوا يفعلونه عند البيت. وروى ابن جريج وابن أبي نجيح عن مجاهد أنه
(7/400)
قال : المكاء إدخالهم أصابعهم في أفواههم. والتصدية : الصفير ، يريدون أن يشغلوا بذلك محمدا صلى الله عليه وسلم عن الصلاة. قال النحاس : المعروف في اللغة ما روي عن ابن عمر. حكى أبو عبيد وغيره أنه يقال : مكا يمكو ومكاء إذا صفر. وصدى يصدي تصدية إذا صفق ؛ ومنه قول عمرو بن الإطنابة :
وظلوا جميعا لهم ضجة ... مكاء لدى البيت بالتصدية
أي بالتصفيق. سعيد بن جبير وابن زيد : معنى التصدية صدهم عن البيت ؛ فالأصل على هذا تصدده ، فأبدل من أحد الدالين ياء.
معنى {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} أي المؤمن من الكافر. وقيل : هو عام في كل شيء ، من الأعمال والنفقات وغير ذلك.
الآية : 38 {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ}
فيه خمس مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار هذا المعنى ، وسواء قال بهذه العبارة أو غيرها. قال ابن عطية : ولو كان كما ذكر الكسائي أنه في مصحف عبدالله بن مسعود {قل للذين كفروا إن تنتهوا يغفر لكم} لما تأدت الرسالة إلا بتلك الألفاظ بعينها ؛ هذا بحسب ما تقتضيه الألفاظ.
الثانية : قوله تعالى : {إِنْ يَنْتَهُوا} يريد عن الكفر. قال ابن عطية : ولا بد ؛ والحامل على ذلك جواب الشرط {يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} ومغفرة ما قد سلف لا تكون إلا لمنته عن الكفر. ولقد أحسن القائل أبو سعيد أحمد بن محمد الزبيري :
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف ... ثم انتهى عما أتاه واقترف
لقوله سبحانه في المعترف ... إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
(7/401)
روى مسلم عن أبي شماسة المهري قال : حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت يبكي طويلا. الحديث. وفيه : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله" الحديث. قال ابن العربي : هذه لطيفة من الله سبحانه من بها على الخلق ؛ وذلك أن الكفار يقتحمون الكفر والجرائم ، ويرتكبون المعاصي والمآثم ؛ فلو كان ذلك يوجب مؤاخذة لهم لما استدركوا أبدا توبة ولا نالتهم مغفرة. فيسر الله تعالى عليهم قبول التوبة عند الإنابة ، وبذل المغفرة بالإسلام ، وهدم جميع ما تقدم ؛ ليكون ذلك أقرب لدخولهم في الدين ، وأدعى إلى قبولهم لكلمة المسلمين ، ولو علموا أنهم يؤاخذون لما تابوا ولا أسلموا. وفي صحيح مسلم : أن رجلا فيمن كان قبلكم قتل تسعة وتسعين نفسا ثم سأل هل له من توبة فجاء عابدا فسأل هل له من توبة فقال : لا توبة لك فقتله فكمل به مائة ؛ الحديث. فانظروا إلى قول العابد : لا توبة لك ؛ فلما علم أنه قد أيأسه قتله ، فعل الآيس من الرحمة. فالتنفير مفسدة للخليفة ، والتيسير مصلحة لهم. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان إذا جاء إليه رجل لم يقتل فسأل : هل لقاتل من توبة ؟ فيقول : لا توبة ؛ تخويفا وتحذيرا. فإذا جاءه من قتل فسأله : هل لقاتل من توبة ؟ قال له : لك توبة ؛ تيسيرا وتأليفا. وقد تقدم.
الثالثة : قال ابن القاسم وابن وهب عن مالك فيمن طلق في الشرك ثم أسلم فلا طلاق له. وكذلك من حلف فأسلم فلا حنث عليه. وكذا من وجبت عليه هذه الأشياء ؛ فذلك مغفور له. فأما من افترى على مسلم ثم أسلم أو سرق ثم أسلم أقيم عليه الحد للفرية والسرقة. ولو زنى وأسلم ، أو اغتصب مسلمة سقط عنه الحد. وروى أشهب عن مالك أنه قال : إنما يعني الله عز وجل ما قد مضى قبل الإسلام ، من مال أو دم أو شيء. قال ابن العربي : وهذا هو الصواب ؛ لما قدمناه من عموم قوله تعالى : {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} . وقوله : "الإسلام يهدم ما قبله" ، وما بيناه من المعنى من التيسير وعدم التنفير.
قلت : أما الكافر الحربي فلا خلاف في إسقاط ما فعله في حال كفره في دار الحرب. وأما إن دخل إلينا بأمان فقذف مسلما فإنه يحد ، وإن سرق قطع. وكذلك الذمي إذا قذف
(7/402)
حد ثمانين ، وإذا سرق قطع ، وإن قتل قتل. ولا يسقط الإسلام ذلك عنه لنقضه العهد حال كفره ؛ على رواية ابن القاسم وغيره. قال ابن المنذر : واختلفوا في النصراني يزني ثم يسلم ، وقد شهدت عليه بينة من المسلمين ؛ فحكي عن الشافعي رضي الله عنه إذ هو بالعراق لا حد عليه ولا تغريب ؛ لقول الله عز وجل : {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} قال ابن المنذر : وهذا موافق لما روي عن مالك. وقال أبو ثور : إذا أقر وهو مسلم أنه زنى وهو كافر أقيم عليه الحد. وحكي عن الكوفي أنه قال : لا يحد.
الرابعة : فأما المرتد إذا أسلم وقد فاتته صلوات ، وأصاب جنايات وأتلف أموالا ؛ فقيل : حكمه حكم الكافر الأصلي إذا أسلم ؛ لا يؤخذ بشيء مما أحدثه في حال ارتداده. وقال الشافعي في أحد قوليه : يلزمه كل حق لله عز وجل وللآدمي ؛ بدليل أن حقوق الآدميين تلزمه فوجب أن تلزمه حقوق الله تعالى. وقال أبو حنيفة : ما كان لله يسقط ، وما كان للآدمي لا يسقط. قال ابن العربي : وهو قول علمائنا ؛ لأن الله تعالى مستغن عن حقه ، والآدمي مفتقر إليه. ألا ترى أن حقوق الله عز وجل لا تجب على الصبي وتلزمه حقوق الآدميين. قالوا : وقوله تعالى : {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} عام في الحقوق لله تعالى.
الخامسة : قوله تعالى : {وَإِنْ يَعُودُوا} يريد إلى القتال ؛ لأن لفظة {عاد} إذا جاءت مطلقة فإنما تتضمن الرجوع إلى حالة كان الإنسان عليها ثم انتقل عنها. قال ابن عطية : ولسنا نجد في هذه الآية لهؤلاء الكفار حالة تشبه ما ذكرنا إلا القتال. ولا يجوز أن يتأول إلى الكفر ؛ لأنهم لم ينفصلوا عنه ، وإنما قلنا ذلك في "عاد" إذا كانت مطلقة لأنها قد تجيء في كلام العرب داخلة على الابتداء والخبر ، فيكون معناها معنى صار ؛ كما تقول : عاد زيد ملكا ؛ يريد صار. ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
وهذه لا تتضمن الرجوع إلى حالة قد كان العائد عليها قبل. فهي مقيدة بخبرها لا يجوز الاقتصار دونها ؛ فحكمها حكم صار.
(7/403)
قوله تعالى : {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} عبارة تجمع الوعيد والتهديد والتمثيل بمن هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله.
الآيتان : 39 - 40 {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}
قوله تعالى : {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي كفر. إلى آخر الآية تقدم معناها وتفسير ألفاظها في "البقرة" وغيرها والحمد لله.
(7/404)