فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الأحد 26 يونيو - 2:45 | |
| الآية : 157 {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فيه عشر مسائل : - الأولى : روى يحيى بن أبي كثير عن نوف البكالي الحميري : لما اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقات ربه قال الله تعالى لموسى : أن أجعل لكم الأرض مسجدا وطهورا تصلون حيث أدركتكم الصلاة إلا عند مرحاض أو حمام أو قبر ، وأجعل السكينة في قلوبكم ، وأجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهر قلوبكم ، يقرأها الرجل منكم والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير. فقال ذلك موسى لقومه ، فقالوا : لا نريد أن نصلي إلا في الكنائس ، ولا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا ، ونريد أن تكون كما كانت في التابوت ، ولا نستطيع أن نقرأ التوراة عن ظهر قلوبنا ، ولا نريد أن نقرأها إلا نظرا. فقال الله تعالى : {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ - إلى قوله – المُفْلِحُونَ} . فجعلها لهذه الأمة. فقال موسى : يا رب ، اجعلني نبيهم. فقال : نبيهم منهم. قال : رب اجعلني منهم. قال : إنك لن تدركهم. فقال موسى : يا رب ، أتيتك بوفد بني إسرائيل ، فجعلت وفادتنا لغيرنا. فأنزل الله عز وجل : {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف : 159]. فرضي موسى. قال نوف : فاحمدوا الله الذي جعل وفادة بني إسرائيل لكم. وذكر أبو نعيم أيضا هذه القصة من حديث الأوزاعي قال : حدثنا يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال حدثني نوف البكالي إذا افتتح موعظة قال : ألا تحمدون ربكم الذي حفظ غيبتكم وأخذ لكم بعد سهمكم وجعل وفادة القوم لكم. وذلك أن موسى عليه السلام (7/297) وفد ببني إسرائيل فقال الله لهم : إني قد جعلت لكم الأرض مسجدا حيثما صليتم فيها تقبلت صلاتكم إلا في ثلاثة مواطن من صلى فيمن لم أقبل صلاته المقبرة والحمام والمرحاض. قالوا : لا ، إلا في الكنيسة. قال : وجعلت لكم التراب طهورا إذا لم تجدوا الماء. قالوا : لا ، إلا بالماء. قال : وجعلت لكم حيثما صلى الرجل فكان وحده تقبلت صلاته. قالوا : لا ، إلا في جماعة. الثانية : قوله تعالى : {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} هذه الألفاظ كما ذكرنا أخرجت اليهود والنصارى من الاشتراك الذي يظهر في ، قوله : {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} وخلصت هذه العدة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ قال ابن عباس وابن جبير وغيرهما. و {يَتَّبِعُونَ} يعني في شرعه ودينه وما جاء به. والرسول والنبي صلى الله عليه وسلم اسمان لمعنيين ؛ فإن الرسول أخص من النبي. وقدم الرسول اهتماما بمعنى الرسالة ، وإلا فمعنى النبوة هو المتقدم ؛ ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على البراء حين قال : وبرسولك الذي أرسلت. فقال له : "قل آمنت بنبيك الذي أرسلت" خرجه في الصحيح. وأيضا فإن في قوله : "وبرسولك الذي أرسلت" تكرير الرسالة ؛ وهو معنى واحد فيكون كالحشو الذي لا فائدة فيه. بخلاف قوله : "ونبيك الذي أرسلت" فإنهما لا تكرار فيهما. وعلى هذا فكل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولا ؛ لأن الرسول والنبي قد اشتركا في أمر عام وهو النبأ ، وافترقا في أمر خاص وهي الرسالة. فإذا قلت : محمد رسول من عند الله تضمن ذلك أنه نبي ورسول الله. وكذلك غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. الثالثة : قوله تعالى : {الْأُمِّيَّ} هو منسوب إلى الأمة الأمية ، التي هي على أصل ولادتها ، لم تتعلم الكتابة ولا قراءتها ؛ قال ابن عزيز. وقال ابن عباس رضي الله عنه : كان نبيكم صلى الله عليه وسلم أميا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب ؛ قال الله تعالى : {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت : 48]. وروي في الصحيح عن ابن عمر عن (7/298) النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" . الحديث. وقيل : نسب النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة أم القرى ؛ ذكره النحاس. الرابعة : قوله تعالى : {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} روى البخاري قال : حدثنا محمد بن سنان قال حدثنا فليح قال حدثنا هلال عن عطاء بن يسار لقيت عبدالله بن عمرو بن العاص قلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. فقال : أجل ، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} ، وحرزا للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ، ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ، ويفتح بها أعينا عميا ، وآذانا صما ، وقلوبا غلقا. في غير البخاري قال عطاء : ثم لقيت كعبا فسألته عن ذلك فما اختلفا حرفا ؛ إلا أن كعبا قال بلغته : قلوبا غلوفيا وآذانا صموميا وأعينا عموميا. قال ابن عطية : وأظن هذا وهما أو عجمة. وقد روي عن كعب أنه قالها : قلوبا غلوفا وآذانا صموما وأعينا عموميا. قال الطبري : هي لغة حميرية. وزاد كعب في صفة النبي صلى الله عليه وسلم قال : مولده بمكة ، وهجرته بطابة ، وملكه بالشأم ، وأمته الحامدون ، يحمدون الله على كل حال وفي كل منزل ، يوضؤون أطرافهم ويأتزرون إلى أنصاف ساقهم ، رعاة الشمس ، يصلون الصلوات حيثما أدركتهم ولو على ظهر الكناسة ، صفهم في القتال مثل صفهم في الصلاة. ثم قرأ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف : 4]. الخامسة : قوله تعالى : {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} قال عطاء : {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} بخلع الأنداد ، ومكارم الأخلاق ، وصلة الأرحام . {وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} عبادة الأصنام ، وقطع الأرحام. (7/299) السادسة : قوله تعالى : {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} مذهب مالك أن الطيبات هي المحللات ؛ فكأنه وصفها بالطيب ؛ إذ هي لفظة تتضمن مدحا وتشريفا. وبحسب هذا نقول في الخبائث : إنها المحرمات ؛ ولذلك قال ابن عباس : الخبائث هي لحم الخنزير والربا وغيره. وعلى هذا حلل مالك المتقذرات كالحيات والعقارب والخنافس ونحوها. ومذهب الشافعي رحمه الله أن الطيبات هي من جهة الطعم ؛ إلا أن اللفظة عنده ليست على عمومها ؛ لأن عمومها بهذا الوجه من الطعم يقتضي تحليل الخمر والخنزير ، بل يراها مختصة فيما حلله الشرع. ويرى الخبائث لفظا عاما في المحرمات بالشرع وفي المتقذرات ؛ فيحرم العقارب والخنافس والوزغ وما جرى هذا المجرى. والناس على هذين القولين. السابعة : قوله تعالى : {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} الإصر : الثقل ؛ قال مجاهد وقتادة وابن جبير. والإصر أيضا : العهد ؛ قال ابن عباس والضحاك والحسن. وقد جمعت هذه الآية المعنيين ، فإن بني إسرائيل قد كان أخذ عليهم عهد أن يقوموا بأعمال ثقال ؛ فوضع عنهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك العهد وثقل تلك الأعمال ؛ كغسل البول ، وتحليل الغنائم ، ومجالسة الحائض ومؤاكلتها ومضاجعتها ؛ فإنهم كانوا إذا أصاب ثوب أحدهم بول قرضه. وروي : جلد أحدهم. وإذا جمعوا الغنائم نزلت نار من السماء فأكلتها ، وإذا حاضت المرأة لم يقربوها ، إلى غير ذلك مما ثبت في الحديث الصحيح وغيره. الثامنة : قوله تعالى : {وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} فالأغلال عبارة مستعارة لتلك الأثقال. ومن الأثقال ترك الاشتغال يوم السبت ؛ فإنه يروى أن موسى عليه السلام رأى يوم السبت رجلا يحمل قصبا فضرب عنقه. هذا قول جمهور المفسرين. ولم يكن فيهم الدية ، وإنما كان القصاص. وأمروا بقتل أنفسهم علامة لتوبتهم ، إلى غير ذلك. فشبه ذلك بالأغلال ؛ كما قال الشاعر : (7/300) فليس كعهد الدار يا أم مالك ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل عاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... سوى العدل شيئا فاستراح العواذل فشبه حدود الإسلام وموانعه عن التخطي إلى المحظورات بالسلاسل المحيطات بالرقاب. ومن هذا المعنى قول أبي أحمد بن جحش لأبي سفيان : اذهب بها اذهب بها ... طوقتها طوق الحمامه أي لزمك عارها. يقال : طوق فلان كذا إذا لزمه. التاسعة : إن قيل : كيف عطف الأغلال وهو جمع على الإصر وهو مفرد ؛ فالجواب أن الإصر مصدر يقع على الكثرة. وقرأ ابن عامر {آصارهم} بالجمع ؛ مثل أعمالهم. فجمعه لاختلاف ضروب المآثم. والباقون بالتوحيد ؛ لأنه مصدر يقع على القليل والكثير من جنسه مع إفراد لفظه. وقد أجمعوا على التوحيد في قوله : {وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} [البقرة : 286]. وهكذا كلما يرد عليك من هذا المعنى ؛ مثل {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة : 7]. {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} [إبراهيم : 43]. و {مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى : 45]. كله بمعنى الجمع. قوله تعالى : {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ} أي وقروه ونصروه. قال الأخفش : وقرأ الجحدري وعيسى {وَعَزَّرُوهُ} بالتخفيف. وكذا {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} [المائدة : 12]. يقال : عزره يعزره ويعزره. {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} القرآن {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} {الفَلاَحُ} الظفر بالمطلوب. وقد تقدم هذا. الآية : 158 {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (7/301) ذكر أن موسى بشر به ، وأن عيسى بشر به. ثم أمره أن يقول بنفسه {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} .و {كَلِمَاتِهِ} كلمات الله تعالى كتبه من التوراة والإنجيل والقرآن. الآية : 159 {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} أي يدعون الناس إلى الهداية. و {يَعْدِلُونَ} معناه في الحكم. وفي التفسير : إن هؤلاء قوم من وراء الصين ، من وراء نهر الرمل ، يعبدون الله بالحق والعدل ، آمنوا بمحمد وتركوا السبت ، يستقبلون قبلتنا ، لا يصل إلينا منهم أحد ، ولا منا إليهم أحد. فروي أنه لما وقع الاختلاف بعد موسى كانت منهم أمة يهدون بالحق ، ولم يقدروا أن يكونوا بين ظهراني بني إسرائيل حتى أخرجهم الله إلى ناحية من أرضه في عزلة من الخلق ، فصار لهم سرب في الأرض ، فمشوا فيه سنة ونصف سنة حتى خرجوا وراء الصين ؛ فهم على الحق إلى الآن. وبين الناس وبينهم بحر لا يوصل إليهم بسببه. ذهب جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم إليهم ليلة المعراج فآمنوا به وعلمهم سورا من القرآن وقال لهم : هل لكم مكيال وميزان ؟ قالوا : لا ، قال : فمن أين معاشكم ؟ قالوا : نخرج إلى البرية فنزرع ، فإذا حصدنا وضعناه هناك ، فإذا احتاج أحدنا إليه يأخذ حاجته. قال : فأين نساؤكم ؟ قالوا : في ناحية منا ، فإذا احتاج أحدنا لزوجته صار إليها في وقت الحاجة. قال : فيكذب أحدكم في حديثه ؟ قالوا : لو فعل ذلك أحدنا أخذته لظى ، إن النار تنزل فتحرقه. قال : فما بال بيوتكم مستوية ؟ قالوا لئلا يعلو بعضنا على بعض. قال : فما بال قبوركم على أبوابكم ؟ قالوا : لئلا نغفل عن ذكر الموت. ثم لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا ليلة الإسراء أنزل عليه : {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف : 181] يعني أمة محمد عليه السلام. يعلمه أن الذي أعطيت موسى في قومه أعطيتك في أمتك. وقيل : هم الذين آمنوا بنبينا محمد عليه السلام من أهل الكتاب. وقيل : هم قوم من بني إسرائيل تمسكوا بشرع موسى قبل نسخه ، ولم يبدلوا ولم يقتلوا الأنبياء. (7/302) الآية : 160 {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} الآية : 161 {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} الآية : 162 {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} قوله تعالى : {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً} عدد نعمه على بني إسرائيل ، وجعلهم أسباطا ليكون أمر كل سبط معروفا من جهة رئيسهم ؛ فيخف الأمر على موسى. وفي التنزيل : {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} [المائدة : 12] وقد تقدم. وقوله : {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ} والسبط مذكر لأن بعده {أُمَماً} فذهب التأنيث إلى الأمم. ولو قال : اثني عشر لتذكير السبط جاز ؛ عن الفراء. وقيل : أراد بالأسباط القبائل والفرق ؛ فلذلك أنث العدد. قال الشاعر : وإن قريشا كلها عشر أبطن ... وأنت بريء من قبائلها العشر فذهب بالبطن إلى القبيلة والفصيلة ؛ فلذلك أنثها. والبطن مذكر ؛ كما أن الأسباط جمع مذكر. الزجاج : المعنى قطعناهم اثنتي عشرة فرقة. {أَسْبَاطاً} بدل من اثنتي عشرة {أُمَماً} نعت للأسباط. وروى المفضل عن عاصم {وقَطَعناهم} مخففا.{{أَسْبَاطاً}}الأسباط في ولد إسحاق بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل عليهما السلام. والأسباط مأخوذ من السبط وهو شجر تعلفه الإبل. وقد مضى في "البقرة" مستوفى.وروى معمر عن همام بن منبه (7/303) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل : {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} قالوا : حبة في شعرة. وقيل لهم : {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} فدخلوا متوركين على أستاههم. {بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} مرفوع ؛ لأنه فعل مستقبل وموضعه نصب. و{مَا} بمعنى المصدر ، أي بظلمهم. وقد مضى في "البقرة" ما في هذه الآية من المعاني والأحكام. والحمد لله. الآيتان : 163 - 164 {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ، وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} قوله تعالى : {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ} أي عن أهل القرية ؛ فعبر عنهم بها لما كانت مستقرا لهم أو سبب اجتماعهم. نظيره {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف : 82]. وقوله عليه السلام : "اهتز العرش لموت سعد بن معاذ" يعني أهل العرش من الملائكة ، فرحا واستبشارا بقدومه ، رضي الله عنه. أي واسأل اليهود الذين هم جيرانك عن أخبار أسلافهم وما مسخ الله منهم قردة وخنازير. هذا سؤال تقرير وتوبيخ. وكان ذلك علامة لصدق النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ أطلعه الله على تلك الأمور من غير تعلم. وكانوا يقولون : نحن أبناء الله وأحباؤه ، لأنا من سبط خليله إبراهيم ، ومن سبط إسرائيل وهم بكر الله ، ومن سبط موسى كليم الله ؛ ومن سبط ولده عزير ، فنحن من أولادهم. فقال الله عز وجل لنبيه : سلهم يا محمد عن القرية ، أما عذبتهم بذنوبهم ؛ وذلك بتغيير فرع من فروع الشريعة. (7/304) واختلف في تعيين هذه القرية ؛ فقال ابن عباس وعكرمة والسدي : هي أيلة. وعن ابن عباس أيضا أنها مدين بين أيلة والطور. الزهري : طبرية. قتادة وزيد بن أسلم : هي ساحل من سواحل الشأم ، بين مدين وعينون ، يقال لها : مقناة. وكان اليهود يكتمون هذه القصة لما فيها من السبة عليهم. {الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} أي كانت بقرب البحر ؛ تقول : كنت بحضرة الدار أي بقربها .{إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} أي يصيدون الحيتان ، وقد نهوا عنه ؛ يقال : سبت اليهود ؛ تركوا العمل في سبتهم. وسبت الرجل للمفعول سباتا أخذه ذلك ، مثل الخرس. وأسبت سكن فلم يتحرك. والقوم صاروا في السبت. واليهود دخلوا في السبت ، وهو اليوم المعروف. وهو من الراحة والقطع. ويجمع أسبت وسبوت وأسبات. وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من احتجم يوم السبت فأصابه برص فلا يلومن إلا نفسه" . قال علماؤنا : وذلك لأن الدم يجمد يوم السبت ، فإذا مددته لتستخرجه لم يجر وعاد برصا. وقراءة الجماعة {يَعْدُون}. وقرأ أبو نهيك {يُعِدّون} بضم الياء وكسر العين وشد الدال. الأولى من الاعتداء والثانية من الإعداد ؛ أي يهيئون الآلة لأخذها. وقرأ ابن السميقع {في الأسبات} على جمع السبت. {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ} وقرئ {أسباتهم}. {شُرَّعاً} أي شوارع ظاهرة على الماء كثيرة. وقال الليث : حيتان شرع رافعة رؤوسها. وقيل : معناه أن حيتان البحر كانت ترد يوم السبت عنقا من البحر فتزاحم أيلة. ألهمها الله تعالى أنها لا تصاد يوم السبت ؛ لنهيه تعالى اليهود عن صيدها. وقيل : إنها كانت تشرع على أبوابهم ؛ كالكباش البيض رافعة رؤوسها. حكاه بعض المتأخرين ؛ فتعدوا فأخذوها في السبت ؛ قاله الحسن. وقيل : يوم الأحد ، وهو الأصح على ما يأتي بيانه. {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ} أي لا يفعلون السبت ؛ يقال : سبت يسبت إذا عظم السبت. وقرأ الحسن {يُسْبِتون} بضم الياء ، أي يدخلون في السبت ؛ كما يقال : أجمعنا وأظهرنا وأشهرنا ، أي دخلنا في الجمعة والظهر والشهر. {لا تَأْتِيهِمْ} أي حيتانهم. {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ} أي نشدد (7/305) عليهم في العبادة ونختبرهم. والكاف في موضع نصب. {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} أي بفسقهم. وسئل الحسين بن الفضل : هل تجد في كتاب الله الحلال لا يأتيك إلا قوتا ، والحرام يأتيك جزفا جزفا ؟ قال : نعم ، في قصة داود وأيلة {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} . وروي في قصص هذه الآية أنها كانت في زمن داود عليه السلام ، وأن إبليس أوحى إليهم فقال : إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت ، فاتخذوا الحياض ؛ فكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم الجمعة فتبقى فيها ، فلا يمكنها الخروج منها لقلة الماء ، فيأخذونها يوم الأحد. وروى أشهب عن مالك قال : زعم ابن رومان أنهم كانوا يأخذ الرجل خيطا ويضع فيه وهقة ، وألقاها في ذنب الحوت ، وفي الطرف الآخر من الخيط وتد وتركه كذلك إلى الأحد ، ثم تطرق الناس حين رأوا من صنع هذا لا يبتلى حتى كثر صيد الحوت ، ومشي به في الأسواق ، وأعلن الفسقة بصيده ؛ فقامت فرقة من بني إسرائيل ونهت ، وجاهرت بالنهي واعتزلت. وقيل : إن الناهين قالوا : لا نساكنكم ؛ فقسموا القرية بجدار. فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد ، فقالوا : إن للناس لشأنا ؛ فعلوا على الجدار فنظروا فإذا هم قردة ؛ ففتحوا الباب ودخلوا عليهم ، فعرفت القردة أنسابها من الإنس ، ولم تعرف الإنس أنسابهم من القردة ؛ فجعلت القردة تأتي نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي ؛ فيقول : ألم ننهكم! فتقول برأسها نعم. قال قتادة : صار الشبان قردة والشيوخ خنازير ، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم. فعلى هذا القول إن بني إسرائيل لم تفترق إلا فرقتين. ويكون المعنى في قوله تعالى : {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} أي قال الفاعلون للواعظين حين وعظوهم : إذا علمتم أن الله مهلكنا فلم تعظوننا ؟ فمسخهم الله قردة. قوله تعالى : {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي قال الواعظون : موعظتنا إياكم معذرة إلى ربكم ؛ أي إنما يجب علينا أن نعظكم لعلكم تتقون. أسند (7/306) هذا القول الطبري عن ابن الكلبي. وقال جمهور المفسرين : إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق ، وهو الظاهر من الضمائر في الآية. فرقة عصمت وصادت ، وكانوا نحوا من سبعين ألفا. وفرقة اعتزلت ولم تنه ولم تعص ، وإن هذه الطائفة قالت للناهية : لم تعظون قوما - تريد العاصية - الله مهلكهم أو معذبهم على غلبة الظن ، وما عهد من فعل الله تعالى حينئذ بالأمم العاصية. فقالت الناهية : موعظتنا معذرة إلى الله لعلهم يتقون. ولو كانوا فرقتين لقالت الناهية للعاصية : ولعلكم تتقون ، بالكاف. ثم اختلف بعد هذا ؛ فقالت فرقة : إن الطائفة التي لم تنه ولم تعص هلكت مع العاصية عقوبة على ترك النهي ؛ قاله ابن عباس. وقال أيضا : ما أدري ما فعل بهم ؛ وهو الظاهر من الآية. وقال عكرمة : قلت لابن عباس لما قال ما أدري ما فعل بهم : ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم فقالوا : لم تعظون قوما الله مهلكهم ؟ فلم أزل به حتى عرفته أنهم قد نحوا ؛ فكساني حلة. وهذا مذهب الحسن. ومما يدل على أنه إنما هلكت الفرقة العادية لا غير قوله : {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأعراف : 165]. وقوله : {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة : 65] الآية. وقرأ عيسى وطلحة {معذرِةً} بالنصب. ونصبه عند الكسائي من وجهين : أحدهما على المصدر. والثاني على تقدير فعلنا ذلك معذرة. وهي قراءة حفص عن عاصم. والباقون بالرفع : وهو الاختيار ؛ لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذارا مستأنفا من أمر ليموا عليه ، ولكنهم قيل لهم : لم تعظون ؟ فقالوا : موعظتنا معذرة. ولو قال رجل لرجل : معذرة إلى الله وإليك من كذا ، يريد اعتذارا ؛ لنصب. هذا قول سيبويه. ودلت الآية على القول بسد الذرائع. وقد مضى في "البقرة". ومضى فيها الكلام في الممسوخ هل ينسل أم لا ، مبينا. والحمد لله. ومضى في آل عمران والمائدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومضى في "النساء" اعتزال أهل الفساد ومجانبتهم ، وأن من جالسهم كان مثلهم ؛ فلا معنى للإعادة. (7/307) الآية : 165 {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} النسيان يطلق على الساهي. والعامد : التارك ؛ لقوله تعالى : {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} أي تركوه عن قصد ؛ ومنه {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة : 67]. ومعنى {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} أي شديد. وفيه إحدى عشرة قراءة : الأولى : قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي {بئيس} على وزن فعيل. الثانية : قراءة أهل مكة {بِئيس} بكسر الباء والوزن واحد. والثالثة : قراءة أهل المدينة {بِيْسٍ} الباء مكسورة بعدها ياء ساكنة بعدها سين مكسورة منونة ، وفيها قولان. قال الكسائي : الأصل فيه {بِيِيس} خفيفة الهمزة ، فالتقت ياءان فحذفت إحداهما وكسر أوله : كما يقال : رغيف وشهيد. وقيل : أراد {بئس} على وزن فعل ؛ فكسر أوله وخفف الهمزة وحذف الكسرة ؛ كما يقال : رحم ورحم. الرابعة : قراءة الحسن ، الباء مكسورة بعدها همزة ساكنة بعدها سين مفتوحة. الخامسة : قرأ أبو عبدالرحمن المقرئ {بَئِسٍ} الباء مفتوحة والهمزة مكسورة والسين مكسورة منونة. السادسة : قال يعقوب القارئ : وجاء عن بعض القراء {بعذاب بَئِسَ} الباء مفتوحة والهمزة مكسورة والسين مفتوحة. السابعة : قراءة الأعمش {بَيْئسٍ} على وزن فيعل. وروي عنه {بَيْأسٍ} على وزن فيعل. وروي عنه {بَئِّسٍ} بباء مفتوحة وهمزة مشددة مكسورة ، والسين في كله مكسورة منونة ، أعني قراءة الأعمش. العاشرة : قراءة نصر بن عاصم {بعذاب بَيّس} الباء مفتوحة والياء مشددة بغير همز. قال يعقوب القارئ : وجاء عن بعض القراء {بِئيسٍ} الباء مكسورة بعدها همزة ساكنة بعدها ياء مفتوحة. فهذه إحدى عشرة قراءة ذكرها النحاس. قال علي بن سليمان : العرب تقول جاء ببنات بيس أي بشيء رديء. فمعنى {بِعَذَابٍ بِيسٍ} بعذاب رديء. وأما قراءة الحسن فزعم أبو حاتم أنه لا وجه لها ، قال : لأنه لا يقال مررت برجل بئس ، حتى يقال : بئس الرجل ، أو بئس رجلا. قال النحاس : وهذا مردود من (7/308) كلام أبي حاتم ؛ حكى النحويون : إن فعلت كذا وكذا فبها ونعمت. يريدون فيها ونعمت الخصلة. والتقدير على قراءة الحسن : بعذاب بئس العذاب. الآية : 166 {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} قوله تعالى : {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا} أي فلما تجاوزوا في معصية الله. {قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} يقال : خسأته فخسأ ؛ أي باعدته وطردته. ودل على أن المعاصي سبب النقمة : وهذا لا خفاء به. فقيل : قال لهم ذلك بكلام يسمع ، فكانوا كذلك. وقيل : المعنى كوناهم قردة. الآية : 167 {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أي أعلم أسلافهم أنهم إن غيروا ولم يؤمنوا بالنبي الأمي بعث الله عليهم من يعذبهم. وقال أبو علي : {آذن} بالمد ، أعلم. و{أذّن} بالتشديد ، نادى. وقال قوم : آذن وأذن بمعنى أعلم ؛ كما يقال : أيقن وتيقن. قال زهير : فقلت تعلم إن للصيد غرة ... فإلا تضعيها فإنك قاتلة وقال آخر : تعلم إن شر الناس حي ... ينادى في شعارهم يسار أي اعلم. ومعنى {يَسُومُهُمْ} يذيقهم ؛ وقد تقدم في "البقرة". قيل : المراد بختنصر. وقيل : العرب. وقيل : أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو أظهر ؛ فإنهم الباقون إلى يوم القيامة. والله أعلم. قال ابن عباس : {سُوءَ الْعَذَابِ} هنا أخذ الجزية. فإن قيل : فقد (7/309) مسخوا ، فكيف تؤخذ منهم الجزية ؟ فالجواب أنها تؤخذ من أبنائهم وأولادهم ، وهم أذل قوم ، وهم اليهود. وعن سعيد بن جبير {سُوءَ الْعَذَابِ} قال : الخراج ، ولم يجب نبي قط الخراج ، إلا موسى عليه السلام هو أول من وضع الخراج ، فجباه ثلاث عشرة سنة ، ثم أمسك ، ونبينا عليه السلام. الآية : 168 {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قوله تعالى : {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً} أي فرقناهم في البلاد. أراد به تشتيت أمرهم ، فلم تجمع لهم كلمة. {مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ} رفع على الابتداء. والمراد من آمن بمحمد عليه السلام. ومن لم يبدل منهم ومات قبل نسخ شرع موسى. أو هم الذين وراء الصين ؛ كما سبق. {وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} منصوب على الظرف. قال النحاس : ولا نعلم أحدا رفعه. والمراد الكفار منهم. {وَبَلَوْنَاهُمْ} أي اختبرناهم. {بِالْحَسَنَاتِ} أي بالخصب والعافية. {وَالسَّيِّئاتِ} أ ي الجدب والشدائد. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ليرجعوا عن كفرهم. الآية : 169 {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} قوله تعالى : {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} يعني أولاد الذين فرقهم في الأرض. قال أبو حاتم : {الخَلْف} بسكون اللام : الأولاد ، الواحد والجميع فيه سواء. و{الخلَف} بفتح اللام البدل ، ولدا كان أو غريبا. وقال ابن الأعرابي : {الْخَلَفُ} بالفتح الصالح ، وبالجزم الطالح. قال لبيد : ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب (7/310) ومنه قيل للرديء من الكلام : خلف. ومنه المثل السائر "سكت ألفا ونطق خلفا". فخلف في الذم بالإسكان ، وخلف بالفتح في المدح. هذا هو المستعمل المشهور. قال صلى الله عليه وسلم : "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله". وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر. قال حسان بن ثابت : لنا القدم الأولى إليك وخلقنا ... لأولنا في طاعة الله تابع وقال آخر. إنا وجدنا خلفا بئس الخلف ... أغلق عنا بابه ثم حلف لا يدخل البواب إلا من عرف ... عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف ويروى : خضف ؛ أي ردم. والمقصود من الآية الذم . {وَرِثُوا الْكِتَابَ} قال المفسرون : هم اليهود ، ورثوا كتاب الله فقرؤوه وعلموه ، وخالفوا حكمه وأتوا محارمه مع دراستهم له. فكان هذا توبيخا لهم وتقريعا. {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} ثم أخبر عنهم أنهم يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا لشدة حرصهم ونهمهم. {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} وهم لا يتوبون. ودل على أنهم لا يتوبون. قوله تعالى : {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} والعرض : متاع الدنيا ؛ بفتح الراء. وبإسكانها ما كان من المال سوى الدراهم والدنانير. والإشارة في هذه الآية إلى الرشا والمكاسب الخبيثة. ثم ذمهم باغترارهم في قولهم {سَيُغْفَرُ لَنَا} وأنهم بحال إذا أمكنتهم ثانية ارتكبوها ، فقطعوا باغترارهم بالمغفرة وهم مصرون ، وإنما يقول سيغفر لنا من أقلع وندم. قلت : وهذا الوصف الذي ذم الله تعالى به هؤلاء موجود فينا. أسند الدارمي أبو محمد : حدثنا محمد بن المبارك حدثنا صدقة بن خالد عن ابن جابر عن شيخ يكنى أبا عمرو عن معاذ (7/311) ابن جبل رضي الله عنه قال : سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت ، يقرؤونه لا يجدون له شهوة ولا لذة ، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب ، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف ، إن قصروا قالوا سنبلغ ، وإن أساؤوا قالوا سيغفر لنا ، إنا لا نشرك بالله شيئا. وقيل : إن الضمير في {يَأْتِهِمْ} ليهود المدينة ؛ أي وإن يأت يهود يثرب الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عرض مثله يأخذوه كما أخذه أسلافهم. قوله تعالى {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} الأولى : قوله تعالى : {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ} يريد التوراة. وهذا تشديد في لزوم قول الحق في الشرع والأحكام ، وألا يميل الحكام بالرشا إلى الباطل. قلت : وهذا الذي لزم هؤلاء وأخذ عليهم به الميثاق في قول الحق ، لازم لنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم وكتاب ربنا ، ولا خلاف فيه في جميع الشرائع ، والحمد لله. الثانية : قوله تعالى : {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} أي قرؤوه ، وهم قريبو عهد به. وقرأ أبو عبدالرحمن {وادّارسوا ما فيه} فأدغم التاء في الدال. قال ابن زيد : كان يأتيهم المحق برشوة فيخرجون له كتاب الله فيحكمون له به ، فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا له كتابهم الذي كتبوه بأيديهم وحكموا له. وقال ابن عباس : {أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} وقد قالوا الباطل في غفران ذنوبهم الذي يوجبونه ويقطعون به. وقال ابن زيد : يعني في الأحكام التي يحكمون بها ؛ كما ذكرنا. وقال بعض العلماء : إن معنى {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} أي محوه بترك العمل به والفهم له ؛ من قولك : درست الريح الآثار ، إذا محتها. وخط دارس وربع دارس ، إذا امحى وعفا أثره. وهذا المعنى مواطئ - أي موافق - لقوله (7/312) تعالى : {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [البقرة : 101] الآية. وقوله : {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران : 187]. حسب ما تقدم بيانه. الآية : 170 {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} أي بالتوراة ، أي بالعمل بها ؛ يقال : مسك به وتمسك به أي استمسك به. وقرأ أبو العالية وعاصم في رواية أبي بكر "يمسكون" بالتخفيف من أمسك يمسك. والقراءة الأولى أولى ؛ لأن فيها معنى التكرير والتكثير للتمسك بكتاب الله تعالى وبدينه فبذلك يمدحون. فالتمسك بكتاب الله والدين يحتاج إلى الملازمة والتكرير لفعل ذلك. وقال كعب بن زهير : فما تمسك بالعهد الذي زعمت ... إلا كما تمسك الماء الغرابيل فجاء به على طبعه يذم بكثرة نقض العهد. الآية : 171 {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} قوله تعالى : {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ} {نَتَقْنَا} معناه رفعنا. {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} أي كأنه لارتفاعه سحابة تظل. {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} أي بجد. وقد تقدم.
(7/313) | |
|
سميه قطبي سالم محمد دويمابي برتبة نقيب
عدد الرسائل : 508
| موضوع: رد الأحد 26 يونيو - 14:13 | |
| شكرا استاذ فوزى لفيض المعلومات الدينية الثرة | |
|
فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: رد: كتاب الجامع لأحكام القرآن الأحد 26 يونيو - 22:25 | |
| جزاك الله خيراً أختي د. سمية.. ونفعنا الله وإياكم بكل ما نتعلّم... | |
|