فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الإثنين 6 يونيو - 23:28 | |
| تابع سورة الأنعام ...
الآية : 109 {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} فيه مسألتان : - الأولى : قوله تعالى : {وَأَقْسَمُوا} أي حلفوا. وجهد اليمين أشدها ، وهو بالله. فقوله : {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي غاية أيمانهم التي بلغها علمهم ، وانتهت إليها قدرتهم. وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن الله هو الإله الأعظم ، وأن هذه الآلهة إنما يعبدونها ظنا منهم أنها تقربهم إلى الله زلفى ؛ كما أخبر عنهم بقوله تعالى : {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر : 3]. وكانوا يحلفون بآبائهم وبالأصنام وبغير ذلك ، وكانوا يحلفون بالله تعالى وكانوا يسمونه جهد اليمين إذا كانت اليمين بالله. "جهد" منصوب على المصدر والعامل فيه {أقسموا} على مذهب سيبويه ؛ لأنه في معناه. والجهد "بفتح الجيم" : المشقة يقال : فعلت ذلك بجهد. والجهد "بضمها" : الطاقة يقال : هذا جهدي ، أي طاقتي. ومنهم من يجعلهما واحدا ، ويحتج بقول {وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة : 79]. وقرئ {جَهْدهم} بالفتح ؛ عن ابن قتيبة. وسبب الآية فيما ذكر المفسرون : القرظي والكلبي وغيرهما ، أن قريشا قالت : يا محمد ، تخبرنا بأن موسى ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، وأن عيسى كان يحيي الموتى ، وأن ثمود كانت لهم ناقة ؛ فائتنا ببعض هذه الآيات حتى نصدقك. فقال : "أي شيء تحبون" ؟ قالوا : أجعل لنا الصفا ذهبا ؛ فوالله إن فعلته لنتبعنك أجمعون. فقام رسول الله صلى الله عليه سلم يدعو ؛ فجاءه جبريل عليه السلام فقال : "إن شئت أصبح الصفا ذهبا ، ولئن أرسل الله آية ولم يصدقوا عندها ليعذبنهم فأتركهم حتى يتوب تائبهم" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (7/62) "بل يتوب تائبهم" فنزلت هذه الآية. وبين الرب بأن من سبق العلم الأزلي بأنه لا يؤمن فإنه لا يومن وإن أقسم ليؤمنن. الثانية : قوله تعالى : {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} قيل : معناه بأغلظ الأيمان عندهم. وتعرض هنا مسألة من الأحكام عظمى ، وهي قول الرجل : الأيمان تلزمه إن كان كذا وكذا. قال ابن العربي : وقد كانت هذه اليمين في صدر الإسلام معروفة بغير هذه الصورة ، كانوا يقولون : على أشد ما أخذه أحد على أحد ؛ فقال مالك : تطلق نساؤه. ثم تكاثرت الصورة حتى آلت بين الناس إلى صورة هذه أمها. وكان شيخنا الفهري الطرسوسي يقول : يلزمه إطعام ثلاثين مسكينا إذا حنث فيها ؛ لأن قوله "الإيمان" جمع يمين ، وهو لو قال علي يمين وحنث ألزمناه كفارة. ولو قال : علي يمينان للزمته كفارتان إذا حنث. والإيمان جمع يمين فيلزمه فيها ثلاث كفارات. قلت : وذكر أحمد بن محمد بن مغيث في وثائقه : اختلف شيوخ القيروان فيها ؛ فقال أبو محمد بن أبي زيد ؛ يلزمه في زوجته ثلاث تطليقات ، والمشي إلى مكة ، وتفريق ثلث ماله ، وكفارة يمين ، وعتق رقبة. قال ابن مغيث : وبه قال ابن أرفع رأسه وابن بدر من فقهاء طليطلة. وقال الشيخ أبو عمران الفاسي وأبو الحسن القابسي وأبو بكر بن عبدالرحمن القروي : تلزمه طلقة واحدة إذا لم تكن له نية. ومن حجتهم في ذلك رواية ابن الحسن في سماعه من ابن وهب في قوله : "وأشد ما أخذه أحد على أحد أن عليه ذلك كفارة يمين". قال ابن مغيث : فجعل من سميناه على القائل : "الإيمان تلزمه" طلقة واحدة ؛ لأنه لا يكون أسوأ حالا من قوله : أشد ما أخذه أحد على أحد أن عليه كفارة يمين ، قال وبه نقول. قال : واحتج الأولون بقول ابن القاسم من قال : علي عهد الله وغليظ ميثاقه وكفالته وأشد ما أخذه أحد على أحد على أمر ألا يفعله ثم فعله ؛ فقال : إن لم يرد الطلاق ولا العتاق وعزلهما عن ذلك فلتكن ثلاث كفارات. فان لم تكن له نية حين حلف فليكفر كفارتين في قوله : علي عهد الله وغليظ ميثاقه. ويعتق رقبة وتطلق نساؤه ، ويمشي إلى مكة (7/63) ويتصدق بثلث ما له في قوله : وأشد ما أخذه على أحد. قال ابن العربي : أما طريق الأدلة فإن الألف واللام في الإيمان لا تخلو أن يراد بها الجنس أو العهد ؛ فإن دخلت للعهد فالمعهود قولك {بِاللَّهِ} فيكون ما قاله الفهري. فإن دخلت للجنس فالطلاق جنس فيدخل فيها ولا يستوفى عدده ، فإن الذي يكفي أن يدخل في كل جنس معنى واحد ؛ فإنه لو دخل في الجنس المعنى كله للزمه أن يتصدق بجميع ما له ؛ إذ قد تكون الصدقة بالمال يمينا. والله أعلم. قوله تعالى : {قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} أي قل يا محمد : الله القادر على الآتيان بها ، وإنما يأتي بها إذا شاء. {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} أي وما يدويكم أيمانكم ؛ فحذف المفعول. ثم استأنف فقال : {أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} بكسر إن ، وهي قراءة مجاهد وأبي عمرو وابن كثير. ويشهد لهذا قراءة ابن مسعود {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} . وقال مجاهد وابن زيد : المخاطب بهذا المشركون ، وتم الكلام. حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون ، وقد أعلمنا في الآية بعد هذه أنهم لا يؤمنون. وهذا التأويل يشبه قراءة من قرأ {تؤْمِنُونَ} بالتاء. وقال الفراء وغيره ؛ الخطاب للمؤمنين ؛ لأن المؤمنين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، لو نزلت الآية لعلهم يؤمنون ؛ فقال الله تعالى : {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} أي يعلمكم ويدريكم أيها المؤمنون. {أَنَّهَا} بالفتح ، وهي قراءة أهل المدينة والأعمش وحمزة ، أي لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. قال الخليل : {أَنَّهَا} بمعنى لعلها ؛ وحكاه عنه سيبويه. وفي التنزيل : {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس : 3] أي أنه يزكى. وحكي عن العرب : ايت السوق أنك تشتري لنا شيئا ، أي لعلك. وقال أبو النجم : قلت لشيبان ادن من لقائه ... أنّ تغدي القوم من شوائه وقال عدي بن زيد : أعاذل ما يدريك أنّ منيتي ... إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد أي لعل. وقال دريد بن الصمة : أريني جوادا مات هزلا لأنني ... أري ما ترين أو بخيلا مخلدا (7/64) أي لعلني. وهو في كلام العرب كثير "أن" بمعنى لعل. وحكى الكسائي أنه كذلك في مصحف أبي بن كعب {وما أدراكم لعلها} . وقال الكسائي والفراء : أن {لا} زائدة ، والمعنى : وما يشعركم أنها - أي الآيات - إذا جاءت المشركين يؤمنون ، فزيدت {لا} ؛ كما زيدت {لا} في قوله تعالى : {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء : 95]. لأن المعنى : وحرام على قرية مهلكة رجوعهم. وفي قوله : {مَا مَنَعَكَ أَلّا تَسْجُدَ} [الأعراف : 12]. والمعنى : ما منعك أن تسجد. وضعف الزجاج والنحاس وغيرهما زيادة {لا} وقالوا : هو غلط وخطأ ؛ لأنها إنما تزاد فيما لا يشكل. وقيل : في الكلام حذف ، والمعنى : وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون ، ثم حذف هذا لعلم السامع ؛ ذكره النحاس وغيره. الآية : 110 {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} قوله تعالى : {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} هذه آية مشكلة ، ولا سيما وفيها {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} . قيل : المعنى ونقلب أفئدتهم وأنظارهم يوم القيامة على لهب النار وحر الجمر ؛ كما لم يؤمنوا في الدنيا. {وَنَذَرُهُمْ} في الدنيا ، أي نمهلهم ولا نعاقبهم ؛ فبعض الآية في الآخرة ، وبعضها في الدنيا. ونظيرها {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [الغاشية : 2] فهذا في الآخرة. {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} في الدنيا. وقيل : ونقلب في الدنيا ؛ أي نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية ، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة ؛ لما دعوتهم وأظهرت المعجزة. وفي التنزيل : {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال : 24]. والمعنى : كان ينبغي أن يؤمنوا إذا جاءتهم الآية فرأوها بأبصارهم وعرفوها بقلوبهم ؛ فإذا لم يؤمنوا كان ذلك بتقليب الله قلوبهم وأبصارهم. {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} ودخلت الكاف على محذوف ، أي فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أول مرة ؛ أي أول مرة أتتهم الآيات التي عجزوا عن معارضتها مثل القرآن وغيره. وقيل : ونقلب أفئدة هؤلاء كيلا (7/65) يؤمنوا ؛ كما لم تؤمن كفار الأمم السالفة لما رأوا ما اقترحوا من الآيات. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ؛ أي أنها إذا جاءت لا يؤمنون كما لم يؤمنوا أول مرة ونقلب أفئدتهم وأبصارهم. {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} يتحيرون. وقد مضى في "البقرة". الآية : 111 {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} قوله تعالى : {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ} فرأوهم عيانا. {وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} بإحيائنا إياهم. {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ} سألوه من الآيات. {قُبُلاً} مقابلة ؛ عن ابن عباس وقتادة وابن زيد. وهي قراءة نافع وابن عامر. وقيل : معاينة ، لما آمنوا. وقال محمد بن يزيد : يكون {قِبلا} بمعنى ناحية ؛ كما نقول : لي قبل فلان مال ؛ فقبلا نصب على الظرف. وقرأ الباقون {قُبُلاً} بضم القاف والباء ، ومعناه ضمناء ؛ فيكون جمع قبيل بمعنى كفيل ، نحو رغيف ورغف ؛ كما قال : {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} [الإسراء : 92] ؛ أي يضمنون ذلك ؛ عن الفراء. وقال الأخفش : هو بمعنى قبيل قبيل ؛ أي جماعة جماعة ، وقال مجاهد ، وهو نصب على الحال على القولين. وقال محمد بن يزيد "{قُبُلا} أي مقابلة ؛ ومنه {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف : 26]. ومنه قبل الرجل ودبره لما كان من بين يديه ومن ورائه. ومنه قبل الحيض. حكى أبو زيد : لقيت فلانا قيلا ومقابلة وقبلا وقبلا ، كله بمعنى المواجهة ؛ فيكون الضم كالكسر في المعنى وتستوي القراءتان ؛ قاله مكي. وقرأ الحسن {قُبْلاً} حذف الضمة من الباء لثقلها. وعلى قول الفراء يكون فيه نطق ما لا ينطق ، وفي كفالة ما لا يعقل آية عظيمة لهم. وعلى قول الأخفش يكون فيه اجتماع الأجناس الذي ليس بمعهود. والحشر الجمع. {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} {أَنْ}في موضع استثناء ليس من الأول ؛ أي لكن إن شاء ذلك لهم. وقيل : (7/66) الاستثناء لأهل السعادة الذين سبق لهم في علم الله الإيمان. وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} أي يجهلون الحق. وقيل : يجهلون أنه لا يجوز اقتراح الآيات بعد أن رأوا آية واحدة. الآية : 112 {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} قوله تعالى : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ} يعزي نبيه ويسليه ، أي كما ابتليناك بهؤلاء القوم فكذلك جعلنا لكل نبي قبلك. {عَدُوّاً} أي أعداء. ثم نعتهم فقال "شياطين الإنس والجن" حكى سيبويه جعل بمعنى وصف. {عَدُوّاً} مفعول أول .{لِكُلِّ نَبِيٍّ} في موضع المفعول الثاني. {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} بدل من عدو. ويجوز أن يكون {شَيَاطِينَ} مفعولا أول ، {عَدُوّاً} مفعولا ثانيا ؛ كأنه قيل : جعلنا شياطين الإنس والجن عدوا. وقرأ الأعمش : {شَيَاطِينَ َالْجِنِّ وَ الْأِنْسِ} بتقديم الجن. والمعنى واحد. {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} عبارة عما يوسوس به شياطين الجن إلى شياطين الإنس. وسمي وحيا لأنه إنما يكون خفية ، وجعل تمويههم زخرفا لتزيينهم إياه ؛ ومنه سمي الذهب زخرفا. وكل شيء حسن مموه فهو زخرف. والمزخرف المزين. وزخارف الماء طرائقه. و{غُرُوراً} نصب على المصدر ، لأن معنى {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} يغرونهم بذلك غرورا. ويجوز أن يكون في موضع الحال. والغرور الباطل. قال النحاس : وروي عن ابن عباس بإسناد ضعيف أنه قال في قول الله عز وجل {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} قال : مع كل جني شيطان ، ومع كل إنسي شيطان ، فيلقى أحدهما الآخر فيقول : إني قد أضللت صاحبي بكذا فأضل صاحبك بمثله. ويقول الآخر مثل ذلك ؛ فهذا وحي بعضهم إلى بعض. وقاله عكرمة والضحاك (7/67) والسدي والكلبي. قال النحاس : والقول الأول يدل عليه {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام : 121] ؛ فهذا يبين معنى ذلك. قلت : ويدل عليه من صحيح السنة قوله عليه السلام : "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن" قيل : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : "ولا أنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير" . روي "فأسلم" برفع الميم ونصبها. فالرفع على معنى فأسلم من شره. والنصب على معنى فأسلم هو. فقال : "ما منكم من أحد" ولم يقل ولا من الشياطين ؛ إلا أنه يحتمل أن يكون نبه على أحد الجنسين بالآخر ؛ فيكون من باب {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل : 81] وفيه بعد ، والله أعلم. وروى عوف بن مالك عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن" ؟ قال قلت : يا رسول الله ، وهل للإنس من شياطين ؟ قال : "نعم هم شر من شياطين الجن" . وقال مالك بن دينار : إن شيطان الإنس أشد علي من شيطان الجن ، وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن ، وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عيانا. وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأة تنشد : إن النساء رياحين خلقن لكم ... وكلكم يشتهي شم الرياحين فأجابها عمر رضي الله عنه : إن النساء شياطين خلقن لنا ... نعوذ بالله من شر الشياطين قوله تعالى : {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} أي ما فعلوا إيحاء القول بالغرور. {فَذَرْهُمْ} أمر فيه معنى التهديد. قال سيبويه : ولا يقال وذر ولا ودع ، استغنوا عنهما بترك. قلت : هذا إنما خرج على الأكثر. وفي التنزيل : {وَذَرِ الَّذِينَ} و {ذَرْهُمْ} و {مَا وَدَّعَكَ} [الضحى : 3]. وفي السنة "لينتهن أقوام عن ودعهم الجمعات" . وقول : "إذا فعلوا - يريد المعاصي – (7/68) فقد تودع منهم". قال الزجاج : الواو ثقيلة ؛ فلما كان {ترك} ليس فيه واو بمعنى ما فيه الواو ترك ما فيه الواو. وهذا معنى قول وليس بنصه. الآية : 113 {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} قوله تعالى : {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ} تصغى تميل ؛ يقال : صغوت أصغو صغوا وصغوا ، وصغيت أصغي ، وصغيت بالكسر أيضا. يقال منه : صغي يصغى صغى وصغيا ، وأصغيت إليه إصغاء بمعنىً. قال الشاعر : ترى السفيه به عن كل محكمة ... زيغ وفيه إلى التشبيه إصغاء ويقال : أصغيت الإناء إذا أملته ليجتمع ما فيه. وأصله الميل إلى الشيء لغرض من الأغراض. ومنه صغت النجوم : مالت للغروب. وفي التنزيل : {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم : 4]. قال أبو زيد : يقال صغوه معك وصغوه ، وصغاه معك ، أي ميله. وفي الحديث : "فأصغى لها الإناء" يعني للهرة. وأكرموا فلانا في صاغيته ، أي في قرابته الذين يميلون إليه ويطلبون ما عنده. وأصغت الناقة إذا أمالت رأسها إلى الرجل كأنها تستمع شيئا حين يشد عليها الرحل. قال ذو الرمة : تصغي إذا شدها بالكور جانحة ... حتى إذا ما استوى في غرزها تثب واللام في {وَلِتَصْغَى} لام كي ، والعامل فيها {يُوحِي} تقديره : يوحي بعضهم إلى بعض ليغروهم ولتصغى. وزعم بعضهم أنها لام الأمر ، وهو غلط ؛ لأنه كان يجب {ولْتصغ إليه} بحذف الألف ، وإنما هي لام كي. وكذلك {وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا} إلا أن الحسن قرأ {ولْيرضوه (7/69) وليقترفوا} بإسكان اللام ، جعلها لام أمر فيه معنى التهديد ؛ كما يقال : افعل ما شئت. ومعنى {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} أي وليكتسبوا ؛ عن ابن عباس والسدي وابن زيد. يقال : خرج يقترف أهله أي يكتسب لهم. وقارف فلان هذا الأمر إذا واقعه وعمله. وقرفتني بما ادعيت علي ، أي رميتني بالريبة. وقرف القرحة إذا قشر منها. واقترف كذبا. قال رؤبة : أعيا اقتراف الكذب المقروف ... تقوى التقي وعفة العفيف وأصله اقتطاع قطعة من الشيء. الآية : 114 {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} قوله تعالى : {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} {غَيْرَ} نصب بـ {أَبْتَغِي}. {حَكَماً} نصب على البيان ، وإن شئت على الحال. والمعنى : أفغير الله أطلب لكم حاكما وهو كفاكم مؤونة المسألة في الآيات بما أنزله إليكم من الكتاب المفصل ، أي المبين. ثم قيل : الحكم أبلغ من الحاكم ؛ إذ لا يستحق التسمية بحكم إلا من يحكم بالحق ، لأنها صفة تعظيم في مدح. والحاكم صفة جارية على الفعل ، فقد يسمى بها من يحكم بغير الحق. {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} يريد اليهود والنصارى. وقيل : من أسلم منهم كسلمان وصهيب وعبدالله بن سلام. {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ} أي القرآن. {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} أي أن كل ما فيه من الوعد والوعيد لحق {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي من الشاكين في أنهم يعلمون أنه منزل من عند الله. وقال عطاء : الذين آتيناهم الكتاب وهم رؤساء أصحاب محمد عليه السلام : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. الآية : 115 {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (7/70) قوله تعالى : {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} قراءة أهل الكوفة بالتوحيد ، والباقون بالجمع. قال ابن عباس : مواعيد ربك ، فلا مغير لها. والكلمات ترجع إلى العبارات أو إلى المتعلقات من الوعد والوعيد وغيرهما. قال قتادة : الكلمات هي القرآن لا مبدل له ، لا يزيد فيه المفترون ولا ينقصون. {صِدْقاً وَعَدْلاً} أي فيما وعد وحكم ، لا راد لقضائه ولا خلف في وعده. وحكى الرماني ، عن قتادة. لا مبدل لها فيما حكم به ، أي إنه وإن أمكنه التغيير والتبديل في الألفاظ كما غير أهل الكتاب التوراة والإنجيل فإنه لا يعتد بذلك. ودلت الآية على وجوب اتباع دلالات القرآن ؛ لأنه حق لا يمكن تبديله بما يناقضه ، لأنه من عند حكيم لا يخفى عليه شيء من الأمور كلها. الآية : 116 {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} قوله تعالى : {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} أي الكفار. {يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي عن الطريق التي تؤدي إلى ثواب الله. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} {إِنْ}بمعنى ما ، وكذلك {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} أي يحدسون ويقدرون ؛ ومنه الخرص ، وأصله القطع. قال الشاعر : ترى قصد المران فينا كأنه ... تذرع خرصان بأيدي الشواطب يعني جريدا يقطع طولا ويتخذ منه الخرص. وهو جمع الخرص ؛ ومنه خرص يخرص النخل خرصا إذا حزره ليأخذ الخراج منه. فالخارص يقطع بما لا يجوز القطع به ؛ إذ لا يقين معه. (7/71) وسيأتي لهذا مزيد بيان في "الذاريات" إن شاء الله تعالى. الآية : 117 {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} قوله تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ} قال بعض الناس : إن {أَعْلَمُ} هنا بمعنى يعلم ؛ وأنشد قول حاتم الطائي : تحالفت طيء من دوننا حلفا ... والله أعلم ما كنا لهم خذلا وقول الخنساء : الله أعلم أن جفنته ... تغدو غداة الريح أو تسري وهذا لا حجة فيه ؛ لأنه لا يطابق {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} .ولأنه يحتمل أن يكون على أصله. {مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} {مَنْ} بمعنى أي ؛ فهو في محل رفع والرافع له {يضل}. وقيل : في محل نصب بأعلم ، أي إن ربك أعلم أي الناس يضل عن سبيله. وقيل : في محل نصب بنزع الخافض ؛ أي بمن يضل. قال بعض البصريين ، وهو حسن ؛ لقوله : {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} وقوله في آخر النحل : {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل : 125]. وقرئ {يُضِلّ} وهذا على حذف المفعول ، والأول أحسن ؛ لأنه قال : {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} .فلو كان من الإضلال لقال وهو أعلم بالهادين. الآية : 118 {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ} قوله تعالى : {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} نزلت بسبب أناس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، إنا نأكل ما نقتل ولا نأكل ما قتل الله ؟ فنزلت {فَكُلُوا} إلى قوله {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام : 121] خرجه الترمذي وغيره. قال عطاء : هذه الآية أمر بذكر اسم الله على الشراب والذبح وكل مطعوم. وقوله : {إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ} أي بأحكامه وأوامره آخذين ؛ فإن الإيمان بها يتضمن ويقتضي الأخذ بها والانقياد لها. (7/72) الآية : 119 {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} قوله تعالى : {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} المعنى ما المانع لكم من أكل ما سميتم عليه ربكم وإن قتلتموه بأيديكم. {وَقَدْ فَصَّلَ} أي بين لكم الحلال من الحرام ، وأزيل عنكم اللبس والشك. فـ {ما} استفهام يتضمن التقرير. وتقدير الكلام : وأي شيء لكم في ألا تأكلوا. {فأنْ} في موضع خفض بتقدير حرف الجر. ويصح أن تكون في موضع نصب على ألا يقدر حرف جر ، ويكون الناصب معنى الفعل الذي في قوله {مَا لَكُمْ} تقديره أي ما يمنعكم. ثم استثنى فقال {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} يريد من جميع ما حرم كالميتة وغيرها وهو استثناء منقطع. وقرأ نافع ويعقوب {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ} بفتح الفعلين. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالضم فيهما ، والكوفيون {فَصَّل} بالفتح {حُرِّم} بالضم. وقرأ عطية العوفي {فَصَل} بالتخفيف. ومعناه أبان وظهر ؛ كما قرئ {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ}[هود : 1] أي استبانت. واختار أبو عبيدة قراءة أهل المدينة. وقيل : {فصل} أي بين ، وهو ما ذكره في سورة "المائدة" من قوله : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة : 3] الآية. قلت : هذا فيه نظر ؛ فإن "الأنعام" مكية والمائدة مدنية فكيف يحيل بالبيان على ما لم ينزل بعد ، إلا أن يكون فصل بمعنى يفصل. والله أعلم. قوله تعالى : {وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ} وقرأ الكوفيون {يُضِلّون} من أضل. {بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} يعني المشركين حيث قالوا : ما ذبح الله بسكينه خير مما ذبحتم بسكاكينكم {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي بغير علم يعلمونه في أمر الذبح ؛ إذ الحكمة فيه إخراج ما حرمه الله علينا من الدم بخلاف ما مات حتف أنفه ؛ ولذلك شرع الذكاة في محل مخصوص ليكون الذبح فيه سببا لجذب كل دم في الحيوان بخلاف غيره من الأعضاء والله أعلم. (7/73) | |
|
أبوآيه دويمابي برتبة مقدم
عدد الرسائل : 1150
| موضوع: رد: كتاب الجامع لأحكام القرآن الخميس 9 يونيو - 2:19 | |
| اللهم أجعلها في ميزان حسناته يارب | |
|
فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: رد: كتاب الجامع لأحكام القرآن الخميس 9 يونيو - 15:09 | |
| جزاك الله خيراً أخي المكرمة إبراهيم... | |
|