وقال الأخفش : أي ولا يحقنكم. وقال أبو عبيدة والفراء : معنى { لا يَجْرِمَنَّكُمْ } أي لا يكسبنكم بغض قوم أن تعتدوا الحق إلى الباطل ، والعدل إلى الظلم ، قال عليه السلام : "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" وقد مضى القول في هذا. ونظير هذه الآية { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وقد تقدم مستوفى. ويقال : فلان جريمة أهله أي كاسبهم ، فالجريمة والجارم بمعنى الكاسب وأجرم فلان أي أكتسب الإثم. ومنه قول الشاعر :
جريمة ناهض في رأس نيق ... ترى لعظام ما جمعت صليبا
معناه كاسب قوت ، والصليب الودك ، وهذا هو الأصل في بناء ج ر م. قال ابن فارس : يقال جرم وأجرم ، ولا جرم بمنزلة قولك : لا بد ولا محالة ؛ وأصلها من جرم أي أكتسب ، قال :
جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
وقال آخر :
يا أيها المشتكي عكلا وما جرمت ... إلى القبائل من قتل وإباس
ويقال : جرم يجرم جرما إذا قطع ؛ قال الرماني علي بن عيسى : وهو الأصل ؛ فجرم بمعنى حمل على الشيء لقطعه من غيره ، وجرم بمعنى كسب لانقطاعه إلى الكسب ، وجرم بمعنى حق لأن الحق يقطع عليه. وقال الخليل : { لاَجَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ } لقد حق أن لهم العذاب. وقال الكسائي : جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد ، أي أكتسب. وقرأ ابن مسعود { يُجْرِمَنَّكُمْ } بضم الياء ، والمعنى أيضا لا يكسبنكم ؛ ولا يعرف البصريون الضم ، وإنما يقولون : جرم لا غير. والشنآن البغض. وقرئ بفتح النون وإسكانها ؛ يقال : شنئت الرجل أشنؤه شنأ وشنأة وشنانا
(6/45)
وشنآنا بجزم النون ، كل ذلك إذا أبغضته ؛ أي لا يكسبنكم بغض قوم بصدهم إياكم أن تعتدوا ؛ والمراد بغضكم قوما ، فأضاف المصدر إلى المفعول. قال ابن زيد : لما صد المسلمون عن البيت عام الحديبية مر بهم ناس من المشركين يريدون العمرة ؛ فقال المسلمون : نصدهم كما صدنا أصحابهم ، فنزلت هذه الآية ؛ أي لا تعتدوا على هؤلاء ، ولا تصدوهم { أَنْ صَدُّوكُمْ } أصحابهم ، بفتح الهمزة مفعول من أجله ؛ أي لأن صدوكم. وقرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر الهمزة { إنْ صَدُّوكُمْ } وهو اختيار أبي عبيد. وروي عن الأعمش { إنْ يصَدُّوكُمْ } . قال ابن عطية : فإن للجزاء ؛ أي إن وقع مثل هذا الفعل في المستقبل. والقراءة الأولى أمكن في المعنى. وقال النحاس : وأما { إنْ صَدُّوكُمْ } بكسر { إِنَّ } فالعلماء الجلة بالنحو والحديث والنظر يمنعون القراءة بها لأشياء : منها أن الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان ، وكان المشركون صدوا المسلمين عام الحديبية سنة ست ، فالصد كان قبل الآية ؛ وإذا قرئ بالكسر لم يجز أن يكون إلا بعده ؛ كما تقول : لا تعط فلانا شيئا إن قاتلك ؛ فهذا لا يكون إلا للمستقبل ، وإن فتحت كان للماضي ، فوجب على هذا ألا يجوز إلا { أَنْ صَدُّوكُمْ } . وأيضا فلو لم يصح هذا الحديث لكان الفتح واجبا ؛ لأن قوله : { لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ } إلى آخر الآية يدل على أن مكة كانت في أيديهم ، وأنهم لا ينهون عن هذا إلا وهم قادرون على الصد عن البيت الحرام ، فوجب من هذا فتح { إِنَّ } لأنه لما مضى { أَنْ تَعْتَدُوا } في موضع نصب ؛ لأنه مفعول به ، أي لا يجرمنكم شنآن قوم الاعتداء وأنكر أبو حاتم وأبو عبيد { شَنْآنُ } بإسكان النون ؛ لأن المصادر إنما تأتي في مثل هذا متحركة ؛ وخالفهما غيرهما وقال : ليس هذا مصدرا ولكنه اسم الفاعل على وزن كسلان وغضبان
الثالثة عشرة- قوله تعالى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } قال الأخفش : هو مقطوع من أول الكلام ، وهو أمر لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى ؛ أي ليعن بعضكم بعضا ، وتحاثوا على ما أمر الله تعالى وأعملوا به ، وانتهوا عما نهى الله عنه وامتنعوا منه ؛ وهذا موافق لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "الدال على الخير كفاعله" . وقد قيل :
(6/46)
الدال على الشر كصانعه. ثم قيل : البر والتقوى لفظان بمعنى واحد ، وكرر باختلاف اللفظ تأكيدا ومبالغة ، إذ كل بر تقوى وكل تقوى بر. قال ابن عطية : وفي هذا تسامح ما ، والعرف في دلالة هذين اللفظين أن البر يتناول الواجب والمندوب إليه ، والتقوى رعاية الواجب ، فإن جعل أحدهما بدل الآخر فبتجوز. وقال الماوردي : ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبر وقرنه بالتقوى له ؛ لأن في التقوى رضا الله تعالى ، وفي البر رضا الناس ، ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته. وقال ابن خويز منداد في أحكامه : والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه ؛ فواجب على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم ، ويعينهم الغني بماله ، والشجاع بشجاعته في سبيل الله ، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة "المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم". ويجب الإعراض عن المتعدي وترك النصرة له ورده عما هو عليه. ثم نهى فقال : { وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ } وهو الحكم اللاحق عن الجرائم ، وعن { َالْعُدْوَانِ } وهو ظلم الناس. ثم أمر بالتقوى وتوعد توعدا مجملا فقال : { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } .
3- {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
(6/47)
فيه ست وعشرون مسألة :
الأولى : قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } تقدم القول فيه كاملا في البقرة.
الثانية : قوله تعالى : { وَالْمُنْخَنِقَةُ } هي التي تموت خنقا ، وهو حبس النفس سواء فعل بها ذلك آدمي أو أتفق لها ذلك في حبل أو بين عودين أو نحوه. وذكر قتادة : أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها ؛ وذكر نحوه ابن عباس.
الثالثة : قوله تعالى : { وَالْمَوْقُوذَةُ } الموقوذة هي التي ترمى أو تضرب بحجر أو عصا حتى تموت من غير تذكية ؛ عن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدي ؛ يقال منه : وقذه يقذه وقذا وهو وقيذ. والوقذ شدة الضرب ، وفلان وقيذ أي مثخن ضربا. قال قتادة : كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ويأكلونه. وقال الضحاك : كانوا يضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلوها ، ومنه المقتولة بقوس البندق. وقال الفرزدق :
شغارة تقذ الفصيل برجلها ... فطارة لقوادم الأبكار
وفي صحيح مسلم عن عدي بن حاتم قال : قلت يا رسول الله فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب ؛ فقال : "إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصابه بعرضه فلا تأكله" وفي رواية "فإنه وقيذ" . قال أبو عمر : اختلف العلماء قديما وحديثا في الصيد بالبندق والحجر والمعراض ؛ فمن ذهب إلى أنه وقيذ لم يجزه إلا ما أدرك ذكاته ؛ على ما روي عن ابن عمر ، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي. وخالفهم الشاميون في ذلك ؛ قال الأوزاعي في المعراض ؛ كله خزق أو لم يخزق ؛ فقد كان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبدالله بن عمر
(6/48)
ومكحول لا يرون به بأساً ؛ قال أبو عمر : هكذا ذكر الأوزاعي عن عبدالله بن عمر ، والمعروف عن ابن عمر ما ذكره مالك عن نافع عنه. والأصل في هذا الباب والذي عليه العمل وفيه الحجة لمن لجأ إليه حديث عدي بن حاتم وفيه "وما أصاب بعرضه فلا تأكله فإنما هو وقيذ" .
الرابعة : قوله تعالى : { وَالْمُتَرَدِّيَةُ } المتردية هي التي تتردى من العلو إلى السفل فتموت ؛ كان ذلك من جبل أو في بئر ونحوه ؛ وهي متفعلة من الردى وهو الهلاك ؛ وسواء تردت بنفسها أو رداها غيرها. وإذا أصاب السهم الصيد فتردى من جبل إلى الأرض حرم أيضا ؛ لأنه ربما مات بالصدمة والتردي لا بالسهم ؛ ومنه الحديث "وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكله فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك" أخرجه مسلم. وكانت الجاهلية تأكل المتردي ولم تكن تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحوه دون سبب يعرف ؛ فأما هذه الأسباب فكانت عندها كالذكاة ؛ فحصر الشرع الذكاة في صفة مخصوصة على ما يأتي بيانها ، وبقيت هذه كلها ميتة ، وهذا كله من المحكم المتفق عليه. وكذلك النطيحة وأكيلة السبع التي فات نفسها بالنطح والأكل.
الخامسة : قوله تعالى : { وَالنَّطِيحَةُ } النطيحة فعيلة بمعنى مفعولة ، وهي الشاة تنطحها أخرى أو غير ذلك فتموت قبل أن تذكى. وتأول قوم النطيحة بمعنى الناطحة ؛ لأن الشاتين قد تتناطحان فتموتان. وقيل : نطيحة ولم يقل نطيح ، وحق فعيل لا يذكر فيه الهاء كما يقال : كف خضيب ولحية دهين ؛ لكن ذكر الهاء ههنا لأن الهاء إنما تحذف من الفعيلة إذا كانت صفة لموصوف منطوق به ؛ يقال : شاة نطيح وامرأة قتيل ، فإن لم تذكر الموصوف أثبت الهاء فتقول : رأيت قتيلة بني فلان وهذه نطيحة الغنم ؛ لأنك لو لم تذكر الهاء فقلت : رأيت قتيل بني فلان لم يعرف أرجل هو أم امرأة. وقرأ أبو ميسرة { وَالمنَّطِوحَةُ } .
السادسة : قوله تعالى : { وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ } يرد كل ما أفترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان ، كالأسد والنمر والثعلب والذئب والضبع ونحوها ، هذه كلها سباع. يقال : سبع فلان فلانا أي عضه بسنه ، وسبعه أي عابه ووقع فيه. وفي الكلام إضمار ، أي وما أكل منه
(6/49)
السبع ؛ لأن ما أكله السبع فقد فني. ومن العرب من يوقف اسم السبع على الأسد ، وكانت العرب إذا أخذ السبع شاة ثم خلصت منه أكلوها ، وكذلك إن أكل بعضها ؛ قاله قتادة وغيره وقرأ الحسن وأبو حيوة { السَّبْعُ } بسكون الباء ، وهي لغة لأهل نجد. وقال حسان في عتبة بن أبي لهب :
من يرجع العام إلى أهله ... فما أكيل السبع بالراجع
وقرأ ابن مسعود : "وأكيلة السَّبُع" وقرأ عبدالله بن عباس : { وأَكَيلَ السَّبُعُ } .
السابعة : قوله تعالى : { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } نصب على الاستثناء المتصل ، عند الجمهور من العلماء والفقهاء. وهو راجع على كل ما أدرك ذكاته من المذكورات وفيه حياة ؛ فإن الذكاة عاملة فيه ؛ لأن حق الاستثناء أن يكون مصروفا إلى ما تقدم من الكلام ، ولا يجعل منقطعا إلا بدليل يجب التسليم له. روى ابن عيينة وشريك وجرير عن الركين بن الربيع عن أبي طلحة الأسدي قال : سألت ابن عباس عن ذئب عدا على شاة فشق بطنها حتى انتثر قصبها فأدركت ذكاتها فذكيتها فقال : كل وما انتثر من قصبها فلا تأكل. قال إسحاق بن راهويه : السنة في الشاة على ما وصف ابن عباس ؛ فإنها وإن خرجت مصارينها فإنها حية بعد ، وموضع الذكاة منها سالم ؛ وإنما ينظر عند الذبح أحية هي أم ميتة ، ولا ينظر إلى فعل هل يعيش مثلها ؟ فكذلك المريضة ؛ قال إسحاق : ومن خالف هذا فقد خالف السنة من جمهور الصحابة وعامة العلماء.
قلت : وإليه ذهب ابن حبيب وذكر عن أصحاب مالك ؛ وهو قول ابن وهب والأشهر من مذهب الشافعي. قال المزني : وأحفظ للشافعي قولا آخر أنها لا تؤكل إذا بلغ منها السبع أو التردي إلى ما لا حياة معه ؛ وهو قول المدنيين ، والمشهور من قول مالك ، وهو الذي ذكره عبدالوهاب في تلقينه ، وروي عن زيد بن ثابت ؛ ذكره مالك في موطئه ، وإليه ذهب إسماعيل القاضي وجماعة المالكيين البغداديين. والاستثناء على هذا القول منقطع ؛ أي حرمت عليكم هذه الأشياء لكن ما ذكيتم فهو الذي لم يحرم. قال ابن العربي : اختلف قول مالك
(6/50)
في هذه الأشياء ؛ فروي عنه أنه لا يؤكل إلا ما ذكي بذكاة صحيحة ؛ والذي في الموطأ أنه إن كان ذبحها ونفسها يجري ، وهي تضطرب فليأكل ؛ وهو الصحيح من قوله الذي كتبه بيده وقرأه على الناس من كل بلد طول عمره ؛ فهو أولى من الروايات النادرة. وقد أطلق علماؤنا على المريضة أن المذهب جواز تذكيتها ولو أشرفت على الموت إذا كانت فيها بقية حياة ؛ وليت شعري أي فرق بين بقية حياة من مرض ، وبقية حياة من سبع لو أتسق النظر ، وسلمت من الشبهة الفكر !. وقال أبو عمرو : قد أجمعوا في المريضة التي لا ترجى حياتها أن ذبحها ذكاة لها إذا كانت فيها الحياة في حين ذبحها ، وعلم ذلك منها بما ذكروا من حركة يدها أو رجلها أو ذنبها أو نحو ذلك ؛ وأجمعوا أنها إذا صارت في حال النزع ولم تحرك يدا ولا رجلا أنه لا ذكاة فيها ؛ وكذلك ينبغي في القياس أن يكون حكم المتردية وما ذكر معها في الآية. والله أعلم.
الثامنة : قوله تعالى : { ذَكَّيْتُمْ } الذكاة في كلام العرب الذبح ؛ قاله قطرب. وقال ابن سيده في "المحكم" والعرب تقول "ذكاة الجنين ذكاة أمه" ؛ قال ابن عطية : وهذا إنما هو حديث. وذكى الحيوان ذبحه ؛ ومنه قول الشاعر :
يذكيها الأسل
قلت : الحديث الذي أشار إليه أخرجه الدارقطني من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وعلي وعبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ذكاة الجنين ذكاة أمه " وبه يقول جماعة أهل العلم ، إلا ما روي عن أبي حنيفة أنه قال : إذا خرج الجنين من بطن أمه ميتا لم يحل أكله ؛ لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة نفسين. قال ابن المنذر : وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم : "ذكاة الجنين ذكاة أمه" دليل على أن الجنين غير الأم ، وهو يقول : لو أعتقت أمة حامل أن عتقه عتق أمه ؛ وهذا يلزمه أن ذكاته ذكاة أمه ؛ لأنه إذا أجاز أن يكون عتق واحد عتق اثنين جاز أن يكون ذكاة واحد ذكاة اثنين ؛ على أن الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وما جاء عن أصحابه ، وما عليه جل الناس مستغنى به عن قول كل قائل. وأجمع أهل العلم على
(6/51)
أن الجنين إذا خرج حيا أن ذكاة أمه ليست بذكاة له ، واختلفوا إذا ذكيت الأم وفي بطنها جنين ؛ فقال مالك وجميع أصحابه : ذكاته ذكاة أمه إذا كان قد تم خلقه ونبت شعره ، وذلك إذا خرج ميتا أو خرج به رمق من الحياة ، غير أنه يستحب أن يذبح إن خرج يتحرك ، فإن سبقهم بنفسه أكل. وقال ابن القاسم : ضحيت بنعجة فلما ذبحتها جعل يركض ولدها في بطنها فأمرتهم أن يتركوها حتى يموت في بطنها ، ثم أمرتهم فشقوا جوفها فأخرج منه فذبحته فسال منه دم ؛ فأمرت أهلي أن يشووه. وقال عبدالله بن كعب بن مالك. كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه. قال ابن المنذر : وممن قال ذكاته ذكاة أمه ولم يذكر أشعر أو لم يشعر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسعيد بن المسيب والشافعي وأحمد وإسحاق. قال القاضي أبو الوليد الباجي : وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ذكاة الجنين ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر" إلا أنه حديث ضعيف ؛ فمذهب مالك هو الصحيح من الأقوال الذي عليه عامة فقهاء الأمصار. وبالله التوفيق
التاسعة : قوله تعالى : { ذَكَّيْتُمْ } الذكاة في اللغة أصلها التمام ، ومنه تمام السن. والفرس المذكى الذي يأتي بعد تمام القروح بسنة ، وذلك تمام استكمال القوة. ويقال : ذكى يذكي ، والعرب تقول : جري المذكيات غلاب. والذكاء حدة القلب ؛ وقال الشاعر :
يفضله إذا اجتهدوا عليه ... تمام السن منه والذكاء
والذكاء سرعة الفطنة ، والفعل منه ذكي يذكى ذكا ، والذكوة ما تذكو به النار ، وأذكيت الحرب والنار أو قدتهما. وذكاء اسم الشمس ؛ وذلك أنها تذكو كالنار ، والصحيح ابن ذكاء لأنه من ضوئها. فمعنى { ذَكَّيْتُمْ } أدركتم ذكاته على التمام. ذكيت الذبيحة أذكيها مشتقة من التطيب ؛ يقال : رائحة ذكية ؛ فالحيوان إذا أسيل دمه فقد طيب ، لأنه يتسارع إليه التجفيف ؛ وفي حديث محمد بن علي رضي الله عنهما "ذكاة الأرض يبسها" يريد
(6/52)
طهارتها من النجاسة ؛ فالذكاة في الذبيحة لها ، وإباحة لأكلها فجعل يبس الأرض بعد النجاسة تطهيرا لها وإباحة الصلاة فيها بمنزلة الذكاة للذبيحة ؛ وهو قول أهل العراق. وإذا تقرر هذا فأعلم أنها في الشرع عبارة عن إنهار الدم وفري الأوداج في المذبوح ، والنحر في المنحور والعقر في غير المقدور ، مقرونا بنية القصد لله وذكره عليه ؛ على ما يأتي بيانه
العاشرة- واختلف العلماء فيما يقع به الذكاة ؛ فالذي عليه الجمهور من العلماء أن كل ما أفرى الأوداج وأنهر الدم فهو من آلات الذكاة ما خلا السن والعظم ؛ على هذا تواترت الآثار ، وقال به فقهاء الأمصار. والسن والظفر المنهي عنهما في التذكية هما غير المنزوعين ؛ لأن ذلك يصير خنقا ؛ وكذلك قال ابن عباس : ذلك الخنق ؛ فأما المنزوعان فإذا فريا الأوداج فجائز الذكاة بهما عندهم. وقد كره قوم السن والظفر والعظم على كل حال ؛ منزوعة أو غير منزوعة ؛ منهم إبراهيم والحسن والليث بن سعد ، وروي عن الشافعي ؛ وحجتهم ظاهر حديث رافع بن خديج قال : قلت يا رسول الله إنا لاقو العدو غدا وليست معنا مدى - في رواية - فنذكي بالليط ؟ . وفي موطأ مالك عن نافع عن رجل من الأنصار عن معاذ بن سعد أو سعد بن معاذ : أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنما له بسلع فأصيبت شاة منها فأدركتها فذكتها بحجر ، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : "لا بأس بها وكلوها" . وفي مصنف أبي داود : أنذبح بالمروة وشقة العصا ؟ قال : "أعجل وأرن ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر وسأحدثك أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة" الحديث أخرجه مسلم. وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال : ما ذبح بالليطة والشطير والظرر فحل ذكي. الليطة فلقة القصبة ويمكن بها الذبح والنحر. والشطير
(6/53)
فلقة العود ، وقد يمكن بها الذبح لأن لها جانبا دقيقا. والظرر فلقة الحجر يمكن الذكاة بها ولا يمكن النحر ؛ وعكسه الشظاظ ينحر به ، لأنه كطرف السنان ولا يمكن به الذبح
الحادية عشرة : قال مالك وجماعة : لا تصح الذكاة إلا بقطع الحلقوم والودجين. وقال الشافعي : يصح بقطع الحلقوم والمريء ولا يحتاج إلى الودجين ؛ لأنهما مجرى الطعام والشراب الذي لا يكون معهما حياة ، وهو الغرض من الموت. ومالك وغيره اعتبروا الموت على وجه يطيب معه اللحم ، ويفترق فيه الحلال - وهو اللحم - من الحرام الذي يخرج بقطع الأوداج وهو مذهب أبي حنيفة ؛ وعليه يدل حديث رافع بن خديج في قوله : "ما أنهر الدم" . وحكى البغداديون عن مالك أنه يشترط قطع أربع : الحلقوم والودجين والمريء ؛ وهو قول أبي ثور ، والمشهور ما تقدم وهو قول الليث. ثم اختلف أصحابنا في قطع أحد الودجين والحلقوم هل هو ذكاة أم لا ؟ على قولين
الثانية عشرة : وأجمع العلماء على أن الذبح مهما كان في الحلق تحت الغلصمة فقد تمت الذكاة ؛ واختلف فيما إذا ذبح فوقها وجازها إلى البدن هل ذلك ذكاة أم لا ، على قولين : وقد روي عن مالك أنها لا تؤكل ؛ وكذلك لو ذبحها من القفا واستوفى القطع وأنهر الدم وقطع الحلقوم والودجين لم تؤكل. وقال الشافعي : تؤكل ؛ لأن المقصود قد حصل. وهذا ينبني على أصل ، وهو أن الذكاة وإن كان المقصود منها إنهار الدم ففيها ضرب من التعبد ؛ وقد ذبح صلى الله عليه وسلم في الحلق ونحر في اللبة وقال : "إنما الذكاة في الحلق واللبة" فبين محلها وعين موضعها ، وقال مبينا لفائدتها : "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل" . فإذا أهمل ذلك ولم تقع بنية ولا بشرط ولا بصفة مخصوصة زال منها حظ التعبد ، فلم تؤكل لذلك. والله أعلم.
الثالثة عشرة : واختلفوا فيمن رفع يده قبل تمام الذكاة ثم رجع في الفور وأكمل الذكاة ؛ فقيل : يجزئه. وقيل : لا يجزئه ؛ والأول أصح لأنه جرحها ثم ذكاها بعد وحياتها مستجمعة فيها
(6/54)
الرابعة : ويستحب إلا يذبح إلا من ترضى حاله ، وكل من أطاقه وجاء به على سنته من ذكر أو أنثى بالغ أو غير بالغ جاز ذبحه إذا كان مسلما أو كتابيا ، وذبح المسلم أفضل من ذبح الكتابي ، ولا يذبح نسكا إلا مسلم ؛ فإن ذبح النسك كتابي فقد اختلف فيه ؛ ولا يجوز في تحصيل المذهب ، وقد أجازه أشهب
الخامسة عشرة : وما استوحش من الإنسي لم يجز في ذكاته إلا ما يجوز في ذكاة الإنسي ، في قول مالك وأصحابه وربيعة والليث بن سعد ؛ وكذلك المتردي في البئر لا تكون الذكاة فيه إلا فيما بين الحلق واللبة على سنة الذكاة. وقد خالف في هاتين المسألتين بعض أهل المدينة وغيرهم ؛ وفي الباب حديث رافع بن خديج وقد تقدم ، وتمامه بعد قوله : "فمدى الحبشة" قال : وأصبنا نهب إبل وغنم فند منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا - وفي رواية - فكلوه" . وبه قال أبو حنيفة والشافعي ؛ قال الشافعي : تسليط النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل دليل على أنه ذكاة ؛ واحتج بما رواه أبو داود والترمذي عن أبي الشعراء عن أبيه قال : قلت يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة ؟ قال : "لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك" قال يزيد بن هارون : وهو حديث صحيح أعجب أحمد بن حنبل ورواه عن أبي داود ، وأشار على من دخل عليه من الحفاظ أن يكتبه. قال أبو داود : لا يصلح هذا إلا في المتردية والمستوحش. وقد حمل ابن حبيب هذا الحديث على ما سقط في مهواة فلا يوصل إلى ذكاته إلا بالطعن في غير موضع الذكاة ؛ وهو قول أنفرد به عن مالك وأصحابه. قال أبو عمر : قول الشافعي أظهر في أهل العلم ، وأنه يؤكل بما يؤكل به الوحشي ؛ لحديث رافع بن خديج ؛ وهو قول ابن عباس وابن مسعود ؛ ومن جهة القياس لما كان الوحشي إذا قدر عليه لم يحل إلا بما يحل به الإنسي ؛ لأنه صار مقدورا عليه ؛ فكذلك ينبغي في القياس إذا توحش أو صار في معنى الوحشي من الامتناع أن يحل بما يحل به الوحشي.
(6/55)
قلت : أجاب علماؤنا عن حديث رافع بن خديج بأن قالوا : تسليط النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو على حبسه لا على ذكاته ، وهو مقتضى الحديث وظاهره ؛ لقوله : "فحبسه" ولم يقل إن السهم قتله ؛ وأيضا فإنه مقدور عليه في غالب الأحوال فلا يراعى النادر منه ، وإنما يكون ذلك في الصيد. وقد صرح الحديث بأن السهم حبسه وبعد أن صار محبوسا صار مقدورا عليه ؛ فلا يؤكل إلا بالذبح والنحر. والله أعلم. وأما حديث أبي العشراء فقد قال فيه الترمذي : "حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة ، ولا نعرف لأبي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث. واختلفوا في اسم أبي الشعراء ؛ فقال بعضهم : اسمه أسامة بن قهطم ، ويقال : اسمه يسار بن برز - ويقال : بلز - ويقال : اسمه عطارد نسب إلى جده" فهذا سند مجهول لا حجة فيه ؛ ولو سلمت صحته كما قال يزيد بن هارون لما كان فيه حجة ؛ إذ مقتضاه جواز الذكاة في أي عضو كان مطلقا في المقدور وغيره ، ولا قائل به في المقدور ؛ فظاهره ليس بمراد قطعا. وتأويل أبي داود وابن حجيب له غير متفق عليه ؛ فلا يكون فيه حجة ، والله أعلم. قال أبو عمر : وحجة مالك أنهم قد أجمعوا أنه لو لم يند الإنسي أنه لا يذكى إلا بما يذكى به المقدور عليه ، ثم اختلفوا فهو على أصله حتى يتفقوا. وهذا لا حجة فيه ؛ لأن إجماعهم إنما انعقد على مقدور عليه ، وهذا غير مقدور عليه.
السادسة عشرة : ومن تمام هذا الباب قوله عليه السلام : "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" رواه مسلم عن شداد بن أوس قال : اثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله كتب" فذكره. قال علماؤنا : إحسان الذبح في البهائم الرفق بها ؛ فلا يصرعها بعنف ولا يجرها من موضع إلى آخر ، وإحداد الآلة ، وإحضار نية الإباحة والقربة وتوجيهها إلى القبلة ، والإجهاز ، وقطع الودجين والحلقوم ، وإراحتها وتركها إلى أن تبرد ، والاعتراف لله بالمنة ، والشكر له بالنعمة ؛ بأنه سخر لنا ما لو شاء لسلطه علينا ، وأباح لنا ما لو شاء
(6/56)
لحرمه علينا. وقال ربيعة : من إحسان الذبح ألا يذبح بهيمة وأخرى تنظر إليها ؛ وحكي جوازه عن مالك ؛ والأول أحسن. وأما حسن القتلة فعام في كل شيء من التذكية والقصاص والحدود وغيرها. وقد روى أبو داود عن ابن عباس وأبي هريرة قالا : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان ، زاد ابن عيسى في حديثه "وهي التي تذبح فتقطع ولا تفرى الأوداج ثم تترك فتموت"
السابعة عشرة : قوله تعالى : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } قال ابن فارس : "النصب" حجر كان ينصب فيعبد وتصب عليه دماء الذبائح ، وهو النصب أيضا. والنصائب حجارة تنصب حوالي شفير البئر فتجعل عضائد ، وغبار منتصب مرتفع. وقيل : { النُّصُبِ } جمع ، واحده نصاب كحمار وحمر. وقيل : هو اسم مفرد والجمع أنصاب ؛ وكانت ثلاثمائة وستين حجرا. وقرأ طلحة { النُّصْبِ } بجزم الصاد. وروي عن ابن عمر { النَصْبِ } بفتح النون وجزم الصاد. الجحدري : بفتح النون والصاد جعله اسما موحدا كالجبل والجمل ، والجمع أنصاب ؛ كالأجمال والأجبال. قال مجاهد : هي حجارة كانت حوالي مكة يذبحون عليها. قال ابن جريج : كانت العرب تذبح بمكة وتنضح بالدم ما أقبل من البيت ، ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة ؛ فلما جاء الإسلام قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم : نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال ، فكأنه عليه الصلاة والسلام لم يكره ذلك ؛ فأنزل الله تعالى : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا } ونزلت { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } المعنى : والنية فيها تعظيم النصب لا أن الذبح عليها غير جائز ، وقال الأعشى :
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه ... لعافية والله ربك فاعبدا
وقيل : {على} بمعنى اللام ؛ أي لأجلها ؛ قال قطرب قال ابن زيد : ما ذبح على النصب وما أهل به لغير الله شيء واحد. قال ابن عطية : ما ذبح على النصب جزء مما أهل به لغير الله ، ولكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وتشرف الموضع وتعظيم النفوس له
(6/57)