البحر لاينام
عندما جن الليل وألقى الكرى رداءه على وجه الأرض تركت مضجعي وسرت نحو البحر قائلا في نفسي : البحر لاينام وفي يقظة البحر تعزية لروح لاتنام
بلغت الشاطئ وكان الضباب قد انحدر من أعالي الجبال وغمر تلك النواحي مثلما يوشي النقاب الرمادي وجه الصبية الحسناء , فوقفت محدقا إلى جيوش الأمواج مضغيا إلى تهاليلها , مفكرا بالقوى السرمدية الكامنة وراءها ..........
وبعد هنيهة التفت فإذا بثلاث أشباح جالسين على صخر قريب وأغشية الضباب تسترهم ولاتسترهم فمشيت نحوهم ببطء كأن في كيانهم جاذبا يستميلني قسر إرادتيولما صرت على بضع خطوات منهم وقفت شاخصا بهم كأن في المكان سحرا أجمد مابي من العزم وأيقظ مافي روحي من الخيال
في تلك الدقيقة وقف أحد الأشباح الثلاثة وبصوت خلته آتيا من أعماق البحر قال :
الحياة بغير الحب كشجرة بغير أزهار ولا أثمار والحب بغير الجمال كأزهار بغير عطر وأثمار بغير بذور ... الحياة والحب والجمال – ثلاثة أقانيم في ذات واحدة مستقلة مطلقة لا تقبل التغيير ولا الانفصال قال هذا وجلس في مكانه
ثم انتصب الشيخ الثاني وبصوت يماثل هدير مياه غزيرة قال:
الحياة بغير تمرد كالفصول بغير ربيع والتمرد بغير حق كالربيع في الصحراء القاحلة الجرداء .. الحياة والتمرد والحق – ثلاثة أقانيم في ذات واحدة لا تقبل الانفصام ولا التغيير
ثم انتصب الشيخ الثالث وبصوت كقصف الرعد قال :
الحياة بغير الحرية كجسم بغير روح والحرية بغير الفكر كالروح المشوشة .. الحياة والفكر .. ثلاثة أقانيم في ذات واحدة أزلية لا تزول ولا تضمحل
ثم وقف الأشباح الثلاثة وبأصوات هائلة قالوا معاً:
الحب وما يولده والتمرد وما يوجده والحرية وما تنميه ... ثلاثة من مظاهر لله والله ضمير العالم العاقل ..
وحدث إذ ذاك سكوت مفعم بحفيف أجنحة غير منظورة وارتعاش أجسام أثيرية فأغمضت عيني مصغيا إلى صدى الأقوال التي سمعتها ولما فتحتهما لم أر غير البحــــــــــــــــــــــــــر متشحا بدثار الضباب ........
لجبـــــــــران خليــــــــــل جبــــــــران