فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الأحد 27 مارس - 17:14 | |
| الثالثة - قوله تعالى : {ذَلِكَ خَيْرٌ} أي ردكم ما اختلفتم فيه إلى الكتاب والسنة خير من التنازع. {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي مرجعا ؛ من آل يؤول إلى كذا أي صار. وقيل : من ألت الشيء إذا جمعته وأصلحته. فالتأويل جمع معاني ألفاظ أشكلت بلفظ لا إشكال فيه ؛ يقال : أول الله عليك أمرك أي جمعه. ويجوز أن يكون المعنى وأحسن من تأويلكم. 60- {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} 61- {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} روى يزيد بن زريع عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال : كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة ، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة. ودعا المنافق اليهودي إلى حكامهم ؛ لأنه علم أنهم يأخذون الرشوة في أحكامهم ؛ فلما اجتمعا على أن يحكما كاهنا في جهينة ؛ فأنزل الله تعالى في ذلك : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} يعني المنافق. {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} يعني اليهودي. {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} إلى قوله : {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وقال الضحاك : دعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف وهو "الطاغوت" ورواه أبو صالح عن ابن عباس قال : كان بين رجل من المنافقين يقال له بشر وبين يهودي خصومة ؛ فقال اليهودي : انطلق بنا إلى محمد ، وقال المنافق : بل إلى كعب بن الأشرف وهو الذي سماه الله "الطاغوت" أي ذو الطغيان فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلما رأى ذلك المنافق أتى معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي. (5/263) فلما خرجا قال المنافق : لا أرضى ، انطلق بنا إلى أبي بكر ؛ فحكم لليهودي فلم يرض ذكره الزجاج وقال : انطلق بنا إلى عمر فأقبلا على عمر فقال اليهودي : إنا صرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إلى أبي بكر فلم يرض ؛ فقال عمر للمنافق : أكذلك هو ؟ قال : نعم. قال : رويدكما حتى أخرج إليكما. فدخل وأخذ السيف ثم ضرب به المنافق حتى برد ، وقال : هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله ؛ وهرب اليهودي ، ونزلت الآية ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنت الفاروق " . ونزل جبريل وقال : إن عمر فرق بين الحق والباطل ؛ فسمي الفاروق. وفي ذلك نزلت الآيات كلها إلى قوله : {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وانتصب : {ضَلالاً} على المعنى ، أي فيضلون ضلالا ؛ ومثله قوله تعالى : {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً} . وقد تقدم هذا المعنى مستوفى. و {صُدُوداً} اسم للمصدر عند الخليل ، والمصدر الصد. والكوفيون يقولون : هما مصدران. 62- { فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} 63- {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} أي {فَكَيْفَ} يكون حالهم ، أو "فكيف" يصنعون {إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} أي ترك الاستعانة بهم ، وما يلحقهم من الذل في قوله : {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً} . وقيل : يريد قتل صاحبهم {مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} وتم الكلام. ثم ابتدأ يخبر عن فعلهم ؛ وذلك أن عمر لما قتل صاحبهم جاء قومه يطلبون ديته ويحلفون ما نريد بطلب ديته إلا الإحسان وموافقة الحق. وقيل : المعنى ما أردنا بالعدول عنك في المحاكمة إلا التوفيق بين الخصوم ، والإحسان بالتقريب في الحكم. ابن كيسان : عدلا (5/264) وحقا ؛ نظيرها {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى} . فقال الله تعالى مكذبا لهم : {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} قال الزجاج : معناه قد علم الله أنهم منافقون. والفائدة لنا : اعلموا أنهم منافقون. {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} قيل : عن عقابهم. وقيل : عن قبول اعتذارهم {وَعِظْهُمْ} أي خوفهم. قيل في الملأ. {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} أي ازجرهم بأبلغ الزجر في السر والخلاء. الحسن : قل لهم إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلتكم. وقد بلغ القول بلاغة ؛ ورجل بليغ يبلغ بلسانه كنه ما في قلبه. والعرب تقول : أحمق بلغ وبلغ ، أي نهاية في الحماقة. وقيل : معناه يبلغ ما يريد وإن كان أحمق. ويقال : إن قوله تعالى : {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} نزل في شأن الذين بنوا مسجد الضرار ؛ فلما أظهر الله نفاقهم ، وأمرهم بهدم المسجد حلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعا عن أنفسهم : ما أردنا ببناء المسجد إلا طاعة الله وموافقة الكتاب. 64- {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} قوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ} "من "زائدة للتوكيد. {إِلَّا لِيُطَاعَ} فيما أمر به ونهى عنه. {بِإِذْنِ اللَّهِ} بعلم الله. وقيل : بتوفيق الله. {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} روى أبو صادق عن علي قال : قدم علينا أعرابي بعد ما دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام ، فرمى بنفسه على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحثا على رأسه من ترابه ؛ فقال : قلت يا رسول الله فسمعنا قولك ، ووعيت عن الله فوعينا عنك ، وكان فيما أنزل الله عليك {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} الآية ، وقد ظلمت نفسي وجئتك (5/265) تستغفر لي. فنودي من القبر أنه قد غفر لك. ومعنى {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} أي قابلا لتوبتهم ، وهما مفعولان لا غير. 65- {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فيه خمس مسائل : الأولى : قال مجاهد وغيره : المراد بهذه الآية من تقدم ذكره ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت وفيهم نزلت. وقال الطبري : قوله "فلا "رد على ما تقدم ذكره ؛ تقديره فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ، ثم استأنف القسم بقوله : {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} . وقال غيره : إنما قدم "لا "على القسم اهتماما بالنفي وإظهارا لقوته ، ثم كرره بعد القسم تأكيدا للتهمم بالنفي ، وكان يصح إسقاط "لا "الثانية ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى ، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي ويذهب معنى الاهتمام. و"شجر "معناه اختلف واختلط ؛ ومنه الشجر لاختلاف أغصانه. ويقال لعصي الهودج : شجار ؛ لتداخل بعضها في بعض. قال الشاعر : نفسي فداؤك والرماح شواجر ... والقوم ضنك للقاء قيام وقال طرفة : وهم الحكام أرباب الهدى ... وسعاة الناس في الأمر الشجر وقالت طائفة : نزلت في الزبير مع الأنصاري ، وكانت الخصومة في سقي بستان ؛ فقال عليه السلام للزبير : "اسق أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك " . فقال الخصم : أراك تحابي ابن عمتك ؛ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للزبير : "اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر " ونزل : {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} . الحديث ثابت صحيح رواه البخاري (5/266) عن علي بن عبدالله عن محمد بن جعفر عن معمر ، ورواه مسلم عن قتيبة كلاهما عن الزهري. واختلف أهل هذا القول في الرجل الأنصاري ؛ فقال بعضهم : هو رجل من الأنصار من أهل بدر. وقال مكي والنحاس : هو حاطب بن أبي بلتعة. وقال الثعلبي والواحدي والمهدوي : هو حاطب. وقيل : ثعلبة بن حاطب. وقيل غيره : والصحيح القول الأول ؛ لأنه غير معين ولا مسمى ؛ وكذا في البخاري ومسلم أنه رجل من الأنصار. واختار الطبري أن يكون نزول الآية في المنافق واليهودي. كما قال مجاهد ؛ ثم تتناول بعمومها قصة الزبير. قال ابن العربي : وهو الصحيح ؛ فكل من اتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحكم فهو كافر ، لكن الأنصاري زل زله فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأقال عثرته لعلمه بصحة يقينه ، وأنها كانت فلتة وليست لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وكل من لم يرض بحكم الحاكم وطعن فيه ورده فهي ردة يستتاب. "أما إن طعن في الحاكم نفسه لا في الحكم فله تعزيره وله أن يصفح عنه وسيأتي بيان هذا في آخر سورة "الأعراف" إن شاء الله تعالى. الثانية : وإذا كان سبب نزول هذه الآية ما ذكرناه من الحديث ففقهها أنه عليه السلام سلك مع الزبير وخصمه مسلك الصلح فقال : "اسق يا زبير " لقربه من الماء "ثم أرسل الماء إلى جارك " . أي تساهل في حقك ولا تستوفه وعجل في إرسال الماء إلى جارك. فحضه على المسامحة والتيسير ، فلما سمع الأنصاري هذا لم يرض بذلك وغضب ؛ لأنه كان يربد ألا يمسك الماء أصلا ، وعند ذلك نطق بالكلمة الجائرة المهلكة الفاقرة فقال : أن كان ابن عمتك ؟ بمد همزة "أن "المفتوحة على جهة الإنكار ؛ أي أتحكم له علي لأجل أنه قرابتك ؟ . فعند ذلك تلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم غضبا عليه ، وحكم للزبير باستيفاء حقه من غير مسامحة له. وعليه لا يقال : كيف حكم في حال غضبه وقد قال : "لا يقضى القاضي وهو غضبان " ؟ فإنا نقول : لأنه معصوم من الخطأ في التبليغ والأحكام ، بدليل العقل الدال على صدقه فيما يبلغه عن الله تعالى فليس مثل غيره من الحكام. وفي هذا الحديث (5/267) إرشاد الحاكم إلى الإصلاح بين الخصوم وإن ظهر الحق. ومنعه مالك ، واختلف فيه قول الشافعي. وهذا الحديث حجة واضحة على الجواز ؛ فإن اصطلحوا وإلا استوفى لذي الحق حقه وثبت الحكم. الثالثة : واختلف أصحاب مالك في صفة إرسال الماء الأعلى إلى الأسفل ؛ فقال ابن حبيب : يدخل صاحب الأعلى جميع الماء في حائطه ويسقي به ، حتى إذا بلغ الماء من قاعة الحائط إلى الكعبين من القائم فيه أغلق مدخل الماء ، وصرف ما زاد من الماء على مقدار الكعبين إلى من يليه ، فيصنع به مثل ذلك حتى يبلغ السيل إلى أقصى الحوائط. وهكذا فسره لي مطرف وابن الماجشون. وقاله ابن وهب. وقال ابن القاسم : إذا انتهى الماء في الحائط إلى مقدار الكعبين أرسله كله إلى من تحته ولا يحبس منه شيئا في حائطه. قال ابن حبيب : وقول مطرف وابن الماجشون أحب إلي وهم أعلم بذلك ؛ لأن المدينة دارهما وبها كانت القضية وفيها جرى العمل. الرابعة : روى مالك عن عبدالله بن أبي بكر أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سيل مهزور ومذينب : "يمسك حتى الكعبين ثم يرسل الأعلى على الأسفل " . قال أبو عمر : "لا أعلم هذا الحديث يتصل عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه من الوجوه ، وأرفع أسانيده ما ذكره محمد بن إسحاق عن أبي مالك بن ثعلبة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه أهل مهزور فقضى أن الماء إذا بلغ الكعبين لم يحبس الأعلى. وذكر عبدالرزاق عن أبي حازم القرطبي عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في سيل مهزور أن يحبس على كل حائط حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل. وغيره من السيول كذلك. وسئل أبو بكر البزار عن حديث هذا الباب فقال : لست أحفظ فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا يثبت. قال أبو عمر : في هذا المعنى - وإن لم يكن بهذا اللفظ حديث ثابت مجتمع على صحته. رواه ابن وهب عن الليث بن سعد ويونس بن يزيد جميعا عن ابن شهاب (5/268) أن عروة بن الزبير حدثه أن عبدالله بن الزبير حدثه عن الزبير أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة كانا يسقيان بها كلاهما النخل ؛ فقال الأنصاري : سرح الماء ؛ فأبى عليه ، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم" وذكر الحديث. قال أبو عمر : وقوله في الحديث : "يرسل " وفي الحديث الآخر "إذا بلغ الماء الكعبين لم يحبس الأعلى " يشهد لقول ابن القاسم. ومن جهة النظر أن الأعلى لو لم يرسل إلا ما زاد على الكعبين لا يقطع ذلك الماء في أقل مدة ، ولم ينته حيث ينتهي إذا أرسل الجميع ، وفي إرسال الجميع بعد أخذ الأعلى منه ما بلغ الكعبين أعم فائدة وأكثر نفعا فيما قد جعل الناس فيه شركاء ؛ فقول ابن القاسم أولى على كل حال. هذا إذا لم يكن أصله ملكا للأسفل مختصا به ، فإن ما استحق بعمل أو بملك صحيح أو استحقاق قديم وثبوت ملك فكل على حقه على حسب ما كان من ذلك بيده وعلى أصل مسألته. وبالله التوفيق. الخامسة : قوله تعالى : {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} أي ضيقا وشكا ؛ ومنه قيل للشجر الملتف : حرج وحرجة ، وجمعها حراج. وقال الضحاك : أي إثما بإنكارهم ما قضيت. {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} أي ينقادوا لأمرك في القضاء. وقال الزجاج : "تسليما "مصدر مؤكد ؛ فإذا قلت : ضربت ضربا فكأنك قلت لا أشك فيه ؛ وكذلك "ويسلموا تسليما "أي ويسلموا لحكمك تسليما لا يدخلون على أنفسهم شكا. 66- {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} 67- {وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً} 68- {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} (5/269) سبب نزولها ما روى أن ثابت بن قيس بن شماس تفاخر هو ويهودي ؛ فقال اليهودي : والله لقد كتب علينا أن نقتل أنفسنا فقتلنا ، وبلغت القتلى سبعين ألفا ؛ فقال ثابت : والله لو كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم لفعلنا. وقال أبو إسحاق السبيعي : لما نزلت {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} الآية ، قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "إن من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي " . قال ابن وهب قال مالك : القائل ذلك هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ؛ وهكذا ذكر مكي أنه أبو بكر. وذكر النقاش أنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وذكر عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال : لو كتب علينا ذلك لبدأت بنفسي وأهل بيتي. وذكر أبو الليث السمرقندي : أن القائل منهم عمار بن ياسر وابن مسعود وثابت بن قيس ، قالوا : لو أن الله أمرنا أن نقتل أنفسنا أو نخرج من ديارنا لفعلنا ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "الإيمان أثبت في قلوب الرجال من الجبال الرواسي " . و"لو "حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره ؛ فأخبر الله سبحانه أنه لم يكتب ذلك علينا رفقا بنا لئلا تظهر معصيتنا. فكم من أمر قصرنا عنه مع خفته فكيف بهذا الأمر مع ثقله ! لكن أما والله لقد ترك المهاجرون مساكنهم خاوية وخرجوا يطلبون بها عيشة راضية. {مَا فَعَلُوهُ} أي القتل والخروج {إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} "قليل "بدل من الواو ، والتقدير ما فعله أحد إلا قليل. وأهل الكوفة يقولون : هو على التكرير ما فعلوه ما فعله إلا قليل منهم. وقرأ عبدالله بن عامر وعيسى بن عمر "إلا قليلا "على الاستثناء. وكذلك هو في مصاحف أهل الشام. الباقون بالرفع ، والرفع أجود عند جميع النحويين. وقيل : انتصب على إضمار فعل ، تقديره إلا أن يكون قليلا منهم. وإنما صار الرفع أجود لأن اللفظ أولى من المعنى ، وهو أيضا يشتمل على المعنى. وكان من القليل أبو بكر وعمر وثابت بن قيس كما ذكرنا. وزاد الحسن ومقاتل وعمار وابن مسعود وقد ذكرناهما. {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} أي في الدنيا والآخرة. {وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} أي على الحق. {وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً} أي ثوابا في الآخرة. وقيل : اللام لام الجواب ، و"إذا "دالة على الجزاء ، والمعنى لو فعلوا ما يوعظون به لآتيناهم. (5/270) 69- {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} 70- {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} فيه ثلاث مسائل : قوله تعالى : {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} لما ذكر تعالى الأمر الذي لو فعله المنافقون حين وعظوا به وأنابوا إليه لأنعم عليهم ، ذكر بعد ذلك ثواب من يفعله. وهذه الآية تفسير قوله تعالى : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وهي المراد في قوله عليه السلام عند موته "اللهم الرفيق الأعلى " . وفي البخاري عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة " كان في شكواه الذي مرض فيه أخذته بحة شديدة فسمعته يقول : "مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين " فعلمت أنه خير. وقالت طائفة : إنما نزلت هذه الآية لما قال عبدالله بن زيد بن عبدربه الأنصاري - الذي أري الأذان - : يا رسول الله ، إذا مت ومتنا كنت في عليين لا نراك ولا نجتمع بك ؛ وذكر حزنه على ذلك فنزلت هذه الآية. وذكر مكي عن عبدالله هذا وأنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قال : اللهم أعمني حتى لا أري شيئا بعده ؛ فعمي مكانه. وحكاه القشري فقال : اللهم أعمني فلا أرى شيئا بعد حبيبي حتى ألقى حبيبي ؛ فعمي مكانه. وحكى الثعلبي : أنها نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان شديد الحب له قليل الصبر عنه ، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه ، يعرف في وجهه الحزن ؛ فقال له : "يا ثوبان ما غير لونك " فقال : يا رسول الله ما بي ضر ولا وجع ، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ، ثم ذكرت الآخرة وأخاف ألا أراك هناك ؛ لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين وأني إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك ، وإن لم أدخل فذلك حين لا أراك أبدا ؛ فأنزل الله (5/271) تعالى هذه الآية. ذكره الواحدي عن الكلبي. وأسند عن مسروق قال : قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا ، فإنك إذا فارقتنا رفعت فوقنا ؛ فأنزل الله تعالى : {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} . وفي طاعة الله طاعة رسوله ولكنه ذكره تشريفا لقدره وتنويها باسمه صلى الله عليه وسلم وعلى آله. {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي هم معهم في دار واحدة ونعيم واحد يستمتعون برؤيتهم والحضور معهم ، لا أنهم يساوونهم في الدرجة ؛ فإنهم يتفاوتون لكنهم يتزاورون للاتباع في الدنيا والاقتداء. وكل من فيها قد رزق الرضا بحاله ، وقد ذهب عنه اعتقاد أنه مفضول. قال الله تعالى : {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ}. والصديق فعيل ، المبالغ في الصدق أو في التصديق ، والصديق هو الذي يحقق بفعله ما يقول بلسانه. وقيل : هم فضلاء أتباع الأنبياء الذين يسبقونهم إلى التصديق كأبي بكر الصديق. وقد تقدم في البقرة اشتقاق الصديق ومعنى الشهيد. والمراد هنا بالشهداء عمر وعثمان وعلي ، والصالحين سائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. وقيل {الشُّهَدَاءِ} القتلى في سبيل الله. {وَالصَّالِحِينَ} صالحي أمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. الشُّهَدَاءِ قلت : واللفظ يعم كل صالح وشهيد ، والله أعلم. والرفق لين الجانب. وسمي الصاحب رفيقا لارتفاقك بصحبته ؛ ومنه الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض. ويجوز "وحسن أولئك رفقاء". قال الأخفش : "رفيقا "منصوب على الحال وهو بمعنى رفقاء ؛ وقال : انتصب على التمييز فوحد لذلك ؛ فكأن المعنى وحسن كل واحد منهم رفيقا. كما قال تعالى : {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أي نخرج كل واحد منكم طفلا. وقال تعالى : {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} وينظر معنى هذه الآية قوله صلى الله عليه وسلم : "خير الرفقاء أربعة" ولم يذكر الله تعالى هنا إلا أربعة فتأمله. (5/272) الثانية : في هذه الآية دليل على خلافة أبي بكر رضي الله عنه ؛ وذلك أن الله تعالى لما ذكر مراتب أوليائه في كتابه بدأ بالأعلى منهم وهم النبيون ، ثم ثنى بالصديقين ولم يجعل بينهما واسطة. وأجمع المسلمون على تسمية أبى بكر الصديق رضي الله عنه صديقا ، كما أجمعوا على تسمية محمد عليه السلام رسولا ، وإذا ثبت هذا وصح أنه الصديق وأنه ثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجز أن يتقدم بعده أحد. والله أعلم. الثالثة : قوله تعالى : {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} أخبر تعالى أنهم لم ينالوا الدرجة. بطاعتهم بل نالوها بفضل الله تعالى وكرمه. خلافا لما قالت المعتزلة : إنما ينال العبد ذلك بفعله. فلما امتن الله سبحانه على أوليائه بما آتاهم من فضله ، وكان لا يجوز لأحد أن يثني على نفسه بما لم يفعله دل ذلك على بطلان قولهم. والله أعلم. 71- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} فيه خمس مسائل : الأولى : قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} هذا خطاب للمؤمنين المخلصين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمر لهم بجهاد الكفار والخروج في سبيل الله وحماية الشرع. ووجه النظم والاتصال بما قبل أنه لما ذكر طاعة الله وطاعة رسوله ، أمر أهل الطاعة بالقيام بإحياء دينه وإعلاء دعوته ، وأمرهم ألا يقتحموا على عدوهم على جهالة حتى يتحسسوا إلى ما عندهم ، ويعلموا كيف يردون عليهم ، فذلك أثبت لهم فقال : "خذوا حذركم "فعلمهم مباشرة الحروب. ولا ينافي هذا التوكل بل هو مقام عين التوكل كما تقدم في "آل عمران "ويأتي. والحذر والحذر لغتان كالمثل والمثل. قال القراء : أكثر الكلام الحذر ، والحذر مسموع أيضا ؛ يقال : خذ حذرك ، أي أحذر. وقيل : خذوا السلاح حذرا ؛ لأنه به الحذر والحذر لا يدفع القدر. وهي : (5/273) الثانية : خلافا للقدرية في قولهم : إن الحذر يدفع ويمنع من مكائد الأعداء ، ولو لم يكن كذلك ما كان لأمرهم بالحذر معنى. فيقال لهم : ليس في الآية دليل على أن الحذر ينفع من القدر شيئا ؛ ولكنا تعبدنا بألا نلقي بأيدينا إلى التهلكة ؛ ومنه الحديث "اعقلها وتوكل " . وإن كان القدر جاريا على ما قضى ، ويفعل الله ما يشاء ، فالمراد منه طمأنينة النفس ، لا أن ذلك ينفع من القدر وكذلك أخذ الحذر. الدليل على ذلك أن الله تعالى أثنى على أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} فلو كان يصيبهم غير ما قضى عليهم لم يكن لهذا الكلام معنى. الثالثة : قوله تعالى : {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ} يقال : نفر ينفر "بكسر الفاء " نفيرا. ونفرت الدابة تنفر "بضم الفاء" نفورا ؛ المعنى : انهضوا لقتال العدو. واستنفر الإمام الناس دعاهم إلى النفر ، أي للخروج إلى قتال العدو. والنفير اسم للقوم الذين ينفرون ، وأصله من النفار والنفور وهو الفزع ؛ ومنه قوله تعالى : {وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} أي نافرين. ومنه نفر الجلد أي ورم. وتخلل رجل بالقصب فنفر فمه أي ورم. قال أبو عبيد : إنما هو من نفار الشيء من الشيء وهو تجافيه عنه وتباعده منه. قال ابن فارس : النفر عدة رجال من ثلاثة إلى عشرة. والنفير النفر أيضا ، وكذلك النفر والنفرة ، حكاها الفراء بالهاء. ويوم النفر : يوم ينفر الناس عن منى. "ثبات "معناه جماعات متفرقات. ويقال : ثبين يجمع جمع السلامة في التأنيث والتذكير. قال عمرو بن كلثوم : فأما يوم خشيتنا عليهم ... فتصبح خيلنا عصبا ثبينا فقوله تعالى : {ثُبَاتٍ} كناية عن السرايا ، الواحدة ثبة وهي العصابة من الناس. وكانت في الأصل الثبية. وقد ثبيت الجيش جعلتهم ثبة ثبة. والثبة : وسط الحوض الذي يثوب إليه الماء أي يرجع قال النحاس : وربما توهم الضعيف في العربية أنهما واحد ، وأن أحدهما من الآخر ؛ وبينهما فرق ، فثبة الحوض يقال في تصغيرها : ثويبة ؛ لأنها من ثاب يثوب. ويقال في ثبة الجماعة : ثيبة. قال غير : فثبة الحوض محذوفة الواو وهو عين الفعل ، وثبة الجماعة (5/274) معتل اللام من ثبا يثبو مثل خلا يخلو. ويجوز أن يكون الثبة بمعنى الجماعة من ثبة الحوض ؛ لأن الماء إذا ثاب اجتمع ؛ فعلى هذا تصغر به الجماعة ثوبية فتدخل إحدى الياءين في الأخرى. وقد قيل : إن ثبة الجماعة إنما اشتقت من ثبيت على الرجل إذا أثنيت عليه في حياته وجمعت محاسن ذكره فيعود إلى الاجتماع. الرابعة : قوله تعالى : {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} معناه الجيش الكثيف مع الرسول عليه السلام ؛ قاله ابن عباس وغيره. ولا تخرج السرايا إلا بإذن الإمام ليكون متجسسا لهم ، عضدا من ورائهم ، وربما احتاجوا إلى درئه. وسيأتي حكم السرايا وغنائمهم وأحكام الجيوش ووجوب النفير في "الأنفال "و "براءة "[التوبة] إن شاء الله تعالى. الخامسة : ذكر ابن خويز منداد : وقيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} وبقوله : {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ} ؛ ولأن يكون {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} منسوخا بقوله : {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} و بقوله : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} أولى ؛ لأن فرض الجهاد تقرر على الكفاية ، فمتى سد الثغور بعض المسلمين أسقط الفرض عن الباقين. والصحيح أن الآيتين جميعا محكمتان ، إحداهما في الوقت الذي يحتاج فيه إلى تعين الجميع ، والأخرى عند الاكتفاء بطائفة دون غيرها. 72- {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً} 73- {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} قوله تعالى : {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} يعني المنافقين. والتبطئة والإبطاء التأخر ، تقول : ما أبطأك عنا ؛ فهو لازم. ويجوز بطأت فلانا عن كذا أي أخرته ؛ فهو متعد. (5/275) والمعنيان مراد في الآية ؛ فكانوا يقعدون عن الخروج ويقعدون غيرهم. والمعنى إن من دخلائكم وجنسكم وممن أظهر إيمانه لكم. فالمنافقون في ظاهر الحال من أعداد المسلمين بإجراء أحكام المسلمين عليهم. واللام في قوله "لمن "لام توكيد ، والثانية لام قسم ، و"من "في موضع نصب ، وصلتها "ليبطئن "لأن فيه معنى اليمين ، والخبر "منكم". وقرأ مجاهد والنخعي والكلبي {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَن} بالتخفيف ، والمعنى واحد. وقيل : المراد بقوله {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} بعض المؤمنين ؛ لأن الله خاطبهم بقوله : "وإن منكم "وقد فرق الله تعالى بين المؤمنين والمنافقين بقوله : {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} وهذا يأباه مساق الكلام وظاهره. وإنما جمع بينهم في الخطاب من جهة الجنس والنسب كما بينا لا من جهة الإيمان. هذا قول الجمهور وهو الصحيح إن شاء الله تعالى ، والله أعلم. يدل عليه قوله {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} أي قتل وهزيمة {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ} يعني بالقعود ، وهذا لا يصدر إلا من منافق ؛ لا سيما في ذلك الزمان الكريم ، بعيد أن يقول مؤمن. وينظر إلى هذه الآية ما رواه الأئمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إخبارا عن المنافقين "إن أثقل صلاة عليهم صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا " الحديث. في رواية "ولو علم أحدهم أنه يجد عظما سمينا لشهدها " يعني صلاة العشاء. يقول : لو لاح شيء من الدنيا يأخذونه وكانوا على يقين منه لبادروا إليه. وهو معنى قوله : {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ} أي غنيمة وفتح {لَيَقُولَنَّ} هذا المنافق قول نادم حاسد {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} فالكلام فيه تقديم وتأخير. وقيل : المعنى {لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} أي كأن لم يعاقدكم على الجهاد. وقيل : هو في موضع نصب على الحال. وقرأ الحسن "ليقولن" بضم اللام على معنى "من" ؛ لأن معنى قوله "لمن ليبطئن" ليس يعني رجلا بعينه. ومن فتح اللام أعاد فوحد الضمير على لفظ "من". وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم "كأن لم تكن "بالتاء على لفظ المودة. ومن قرأ بالياء جعل مودة بمعنى الود. وقول المنافق {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ} على وجه الحسد أو الأسف (5/276) على فوت الغنيمة مع الشك في الجزاء من الله. {فَأَفُوزَ} جواب التمني ولذلك نصب. وقرأ الحسن "فأفوز" بالرفع على أنه تمنى الفوز ، فكأنه قال : يا ليتني أفوز فوزا عظيما. والنصب على الجواب ؛ والمعنى إن أكن معهم أفز. والنصب فيه بإضمار "أن" لأنه محمول على تأويل المصدر ؛ التقدير يا ليتني كان لي حضور ففوز. 74- {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الخطاب للمؤمنين ؛ أي فليقاتل في سبيل الله الكفار {الَّذِينَ يَشْرُونَ} أي يبيعون ، أي يبذلون أنفسهم وأموالهم لله عر وجل {بِالْآخِرَةِ} أي بثواب الآخرة. الثانية : قوله تعالى : {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} شرط. {فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ} عطف عليه ، والمجازاة {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} . ومعنى "فيقتل "فيستشهد. {أَوْ يَغْلِبْ} يظفر فيغنم. وقرأت طائفة "ومن يقاتل ""فليقاتل "بسكون لام الأمر. وقرأت فرقة "فليقاتل "بكسر لام الأمر. فذكر تعالى غايتي حالة المقاتل واكتفى بالغايتين عما بينهما ؛ ذكره ابن عطية. الثالثة : ظاهر الآية يقتضي التسوية بين من قتل شهيدا أو انقلب غانما. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة " وذكر الحديث. وفيه عن عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما من غازية تغزو في سبيل (5/277) الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم" . فقوله : "نائلا ما نال من أجر أو غنيمة" يقتضي أن لمن يستشهد من المجاهدين أحد الأمرين ؛ إما الأجر إن لم يغنم ، وإما الغنيمة ولا أجر ، بخلاف حديث عبدالله بن عمرو ، ولما كان هذا قال قوم : حديث عبدالله بن عمرو ليس بشيء ؛ لأن في إسناده حميد بن هانئ وليس بمشهور ، ورجحوا الحديث الأول عليه لشهرته. وقال آخرون : ليس بينهما تعارض ولا اختلاف. و"أو "في حديث أبي هريرة بمعنى الواو ، كما يقول الكوفيون وقد دلت عليه رواية أبي داود فإنه قال فيه : "من أجر وغنيمة " بالواو الجامعة. وقد رواه بعض رواة مسلم بالواو الجامعة أيضا. وحميد بن هانئ مصري سمع أبا عبدالرحمن الحبلى وعمرو بن مالك ، وروى عنه حيوة بن شريح وابن وهب ؛ فالحديث الأول محمول على مجرد النية والإخلاص في الجهاد ؛ فذلك الذي ضمن الله له إما الشهادة ، وإما رده إلى أهله مأجورا غانما ، ويحمل الثاني على ما إذا نوى الجهاد ولكن مع نيل المغنم ، فلما انقسمت نيته انحط أجره ؛ فقد دلت السنة على أن للغانم أجرا كما دل عليه الكتاب فلا تعارض. ثم قيل : إن نقص أجر الغانم على من يغنم إنما هو بما فتح الله عليه من الدنيا فتمتع به وأزال عن نفسه شظف عيشه ؛ ومن أخفق فلم يصب شيئا بقي على شظف عيشه والصبر على حالته ، فبقي أجره موفرا بخلاف الأول. ومثله قوله في الحديث الآخر : "فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئا - منهم مصعب بن عمير - ومنا من أينعت له تمرته فهو يهدبها " . 75- {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} (5/278) | |
|