مرثية الفتى السماوي هي كتاب الأحزان لأسرة الشاعر السوري حيدر حيدر
التي فجعت بابنها وهو في ربيع عمره. كانت الفاجعة صدمة روحية قاسية
بالنسبة لهم. وفي الوقت نفسه كانت امتحانا في مواجهة الموت الذاتي. لذا كتب الشاعر حيدر هذا النص
وقال كتبت هذا النص وأنا أقطر دما. كان علي أن أتطهر من الصدمة بالكتابة كيلا أفقد التوازن وأسقط جراء الفاجعة.
إذا رأيت الفتى السماوي مسجى فوق سرير الغمام فلا توقظه.
اسأل الصاعقة التي شقت الصخرة الى نصفين لا يلتحمان.
إذا رأيت الفتى السماوي نائما في الصمت الأبدي فلا تعكر سكينته بالكلمات.
اسكب على جبينه الوضاء دمعة في لون اللؤلؤ، واكتم الصرخة المدوية كالرعد في كهوف الروح.
وأنت تقبل الجبين البارد للفتى السماوي الممد د فوق حديد المشرحة قل له همسا:
انهض يا حبيبي فالبحر في انتظارك.
الفتى السماوي الطالع كمنشور من الضوء والأرج في عتمة العالم لماذا هوى كنيزك؟
تسألني من أنا يا حبيبي فأقول: حصاة على شط بحر. تقول بغزارة الندى والعشب: وأنا الموجة التي تغسلك لتبقى لامعا كالضوء.
يا حبيبي العابر سهوا كرشا صادك الموت بسهم فانتشى
إذا رأيت المغني الجو ال حاملا قيثارته، أفسح له مجالا في الدروب لينشد أغنية الوداع للزمن الآفل.
المغني الجوال في عجلة من أمره. لأن الوقت ضيق لا يتسع له.
تقول الأغنية بأن الرجال الأنقياء يولدون مصادفة في الزمان الخطأ، ويرحلون كومضة في الفجر، كنقطة دم، ثم يومضون في الليل كشهاب على عتبات البحر.
موسيقى هادئة ومأتمية الآن في هذا الفضاء الليلي، في هذا الوقت الخريفي الموشح بالوداع والفقدان. في هذا الفضاء المأتمي أكتب افتتاحية النص الوداعي لرحيلك بعد مائتين وعشرين يوما.
لقد رحلت إذن من عالمنا ولن تعود أبدا ! لن تعود وأنا لا أصد ق ذلك. وحين أتساءل كيف حدث الأمر على ذلك النحو الغادر والمفاجئ أسقط في هاوية التيه واللامعقول.
منذ رحيلك وأنا أحاول مجاهدا تطويع اللغة. وضعها في سياقها الموازي للصدمة.
إنني مواجه بهذا الاستعصاء، بهذا الشلل الداخلي لقول الكلمات الموازية، أو المقاربة لرحيل القمر والدخول في المحاق.
ماذا تعني كلمات أو مفردات: منكوب أو مفجوع او مدم ى أو منكسر. لا شيء. مفردات مستهلكة تقال في أي مناسبة. الآخرون يعبرون امامها بقليل أو كثير من المشاركة المأساوية، ثم يمضون الى حياتهم وأيامهم التعيسة والمنسية. في هذا الصمت الجنائزي وداخل فضاءات البحر لا شيء سوى الفراغ الذي كنت تملأه فيما مضى. يتسع بك ويضاء بالصخب والبهاء الجسدي والسخرية والغنى الروحي الحزين جراء فساد العالم وخرابه.
الطفولة الواعية قبل أوانها، والصرخة الاحتجاجية أبدا في مواجهة الانحدار الرعوي ووحشية القبيلة الغريزية.
الآن بعد رحيلك أعيد النظر في مفاهيم كثيرة، ربما كانت فيما مضى شبه بديهيات او قناعات راسخة، الآن تبدو الحياة الانسانية كأنها مهزلة وجودية خالية من أي معنى سوى الصور والكلمات.
حين تمحى حياة إنسان من الوجود ما الذي يبقى؟ الذكرى. الحنين. الكلمات. الصور المعلقة على الجدران. الأحلام، المرارات الداخلية التي تفتك بغلاف الروح. الآهات، الاسترجاع الماضوي. حبوب أو حقنات للتهدئة في أوقات الشقاء النفسي والروحي، بعد تشظي الأعماق وتناثرها.
ما عاد هناك من سلام روحي ولا توازن.. هو الموت. المستبد. الفيروس الوجودي الساكن في الخلايا، واللامرئي، المتربص هناك في الزاوية المنسية والمظلمة من العالم.