كيف تتوضأ
سألني صاحبي وهو يحاورني : كيف تتوضأ ؟
قلتُ : كيف يتوضأ الناس ؟!
فأخذتْه موجةٌ من الضحِك حتى اغرورقت عيناه بالدموع ، ثمّ قال مبتسماً : وكيف يتوضأ الناس ؟
ابتسمْتُ ابتسامةً باهتة وقلت : كما تتوضأ أنت .
قال في نبرة جادة : أما هذه فلا ، لأني أحسب أنّ وضوئي على شاكلةٍ أخرى غير شاكلة أكثر الناس .
قلتُ على الفور : فصلاتُك باطلة يا حبيبي .
فعاد إلى ضحكه ، و لم أشاركه هذه المرة حتى الابتسام ، ثمّ سكت وقال : يبدو أنك ذهبت بعيداً بعيداً ، أنا أعني أنّني أتوضأ وأنا في حالة روحية شفافة علمني إياها شيخي فأجد للوضوء متعة ، ومع المتعة حلاوة ، وفي الحلاوة جمال ، وخلال الجمال سمو و رفعة ومعانٍ كثيرة لا استطيع التعبيرَ عنها .
و ارتسمت علامات استفهام كثيرة على وجهي ، فلم يمهلني حتى أسأل وواصل قائلاً : أسوق بين يديك حديثاً شريفاً فتأمل كلمات النبوة الراقية الساميةجيداً : يقول صلى الله عليه وسلم : ( إذا توضأ المسلم فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع آخر قطر الماء ، فإذا غشل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه ، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه ، حتى يخرج نقيّاً من الذنوب ) . وفي حديث آخر : ( فإن قام وصلّى وحمد الله وأثنى عليه وفرغ قلبه لله تعالى ، انصرف من خطيئته كيوم ولدته أمه ) .
وسكت صاحبي لحظات وأخذ يسحب نفساً من الهواء العليل منتشياً بما كان يذكره من كلمات النبوة ، ثمّ حدّق في وجهي وقال : لو أنك تأملتَ هذا الحديث جيداً ، فإنك ستجد للوضوء حلاوة ومتعة وأنت تستشعر أن هذا الماء الذي تغسل به أعضاءك ليس سوى نور تغسل به قلبَك في الحقيقة .
قلتُ كيف فاتني هذا المعنى !؟ والله إنني أتوضأ منذ سنوات طويلة غير أني لم استشعر هذا المعنى ، إنما هي أعضاء اغسلها بالماء ثم انصرف ، ولم أخرج من لحظات الوضوء بشئ من هذه المعاني الراقية !
قال صاحبي وقد تهلل وجهه بالنور : وعلى هذا حين تجمع قلبَك و انت في لحظات الوضوء ، تجد أنك تشحن القلب بمعانٍ سماوية كثيرة ، تصقل بها قلبَك ، وكل ذلك ليس سوى تهيئة للصلاة ! المهم أنَّ عليك أن تجمع قلبَك أثناء عملية الوضوء و أنت تغسل أعضاءك .
قلتُ هذا مدعاة لي للوضوء مع كل صلاة ، أجدد الوضوء حتى لو كنت على وضوء ، فالوضوء على الوضوء نورٌ على نور ، ومعانٍ تتولد من معان،
قال وهو يبتسم : بل هذا مدعاة لك أن تتوضأ كلما خرجتَ من بيتك لتواجه الحياة و أحداثِها بقلبٍ مملوءٍ بهذه المعاني السماوية . قلت و أنا اشعر أنّ قلبي أصبح يرف ويشف ويسمو : أتعرف يا صاحبي أنك بهذه الكلمات ، قد رسمتَ لي طريقاً جديداً في الحياة ، ما يخطر لي على بال ، وفتحتَ أمام عينيَّ آفاقاً رائعة كانت محجوبة أمام بصري .. فجزاك الله عنِّي خير الجزاء .
منذ ذلك اليوم ، كلما هممتُ أن أتوضأ سرعان ما استحضر كلمات صاحبي ، فأجدني في حالة روحية رائعة وأنا أغسل أعضائي بالنور لا بالماء . يا الله .. كم من سنواتٍ ضاعت من حياتي ، وأنا بعيدٌ عن هذه المعاني السماوية الخالصة ، يا حسرةً على العباد !! لو وجد الناس دفقةً من هذه المعاني السماوية تنصب في قلوبهم ، لوجدوا أُنساً ومتعةً وجمالاً وصقلاً واضحاً لقلوبهم أثناء عملية غسل أعضائهم بهذا النور الخالص .
اللهم جازِ عني صاحبي خير ما جازيتَ داعيةً عن جموع من دعاهم إليك .
عدْتُ أقرأ الحديث من جديد فإذا بي أقول : ما أعظمَ ربّنا و أحلمَه و أكرمَه ، جلّ شأنه وتبارك اسمه ، أجرٌ عظيمٌ لا يُتَصَوَّر بعملٍ قليلٍ لا يُذْكَر .
لو قِيل للناسِ : من توضأ في المكانِ الفلاني وأحسن الوضوء ، فله ألفُ درهم مع كل عملية وضوء جديدة ، لرأيْتَ الناس يتدافعون ويتزاحمون على ذلك المكان وقد يقتتلون ، ليبادروا إلى الوضوء بين الساعةِ والساعة ! بل بعد كل خمس دقائقَ وضوءٌ جديد ! .
عجيب أمرُ هولاءِ الناس !! انظر بما وعدهم الله جلّ جلاله ، ومع هذا تكاسلوا عن الوضوء ، و انظر بماذا وعدهم الناس وكيف تزاحموا وتقاتلوا ! لا إله إلا الله ، اللهم خذ بنواصينا إليك أخذ الكرام عليك ، و اكرمنا و لا تُهنا وزدنا و لا تنقصنا وعلمنا إنك على كل شيئٍ قدير .
المصدر : قصص أعجبتني
المؤلف : محمد بن عمر صالح باعثمان